Translate

Translate ترجم الصفحة لاي لغة تريد

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 27 فبراير 2024

تابع كتاب تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء* شرح قصَّة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام/ و شرح قصَّة يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام/ و شرح قصَّة أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام/ ومَجْمُوع نكت من بعض مَا خص بِهِ نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم



 تابع كتاب تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء شرح قصَّة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام/ و  شرح قصَّة يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام/ و   شرح قصَّة أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام/ ومَجْمُوع نكت من بعض مَا خص بِهِ نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم


تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء[شرح قصَّة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام

فِي الْآيَة المتضمنة قتل الْكَافِر قَالَ تَعَالَى {وَدخل الْمَدِينَة على حِين غَفلَة من أَهلهَا فَوجدَ فِيهَا رجلَيْنِ يقتتلان هَذَا من شيعته وَهَذَا من عدوه}

إِلَى قَوْله {فَقضى عَلَيْهِ}  فَمن أَقْوَال المخلطة فِي هَذِه الْقِصَّة أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قتل القبطي من أجل العبراني لِأَن كَانَ العبراني من قبيله والقبطي من غير قبيله فصيروا الكليم عَلَيْهِ السَّلَام متعصبا لأجل قبيله وعشيرته وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك وحاشاه من ذَلِك

فَإِن هَذِه هِيَ حمية الْجَاهِلِيَّة وَإِنَّمَا مر مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام برجلَيْن يقتتلان أَحدهمَا يعرفهُ مُؤمنا وَالْآخر يعرفهُ كَافِرًا فاستغاثه الْمُؤمن على الْكَافِر فَوَكَزَ الْكَافِر ليحمي الْمُؤمن فصادف مقتلا من مقاتله بِتِلْكَ الوكزة فَمَاتَ

فصل

فَإِن قيل من أَيْن لكم أَن تحكموا بِإِيمَان أَحدهمَا وَكفر الآخر وَإِنَّمَا نطق الْكتاب ب رجلَيْنِ أَحدهمَا من شيعته أَي من بني إِسْرَائِيل وَالْآخر من عدوه لكَونه من القبط  فَنَقُول وَمن أَيْن علمْتُم أَيْضا أَن أَحدهمَا كَانَ قبطيا وَالْآخر كَانَ سبطيا وَالْكتاب إِنَّمَا نطق برجلَيْن

فَإِن قَالُوا لقَوْله تَعَالَى {هَذَا من شيعته وَهَذَا من عدوه} والشيعة الْقَبِيل والرهط فَمن أَيْن نقلتم الْحَقِيقَة إِلَى الْمجَاز وَمن أَيْن صَحَّ لكم الْعلم بِكفْر أَحدهمَا وإيمان الثَّانِي

فَنَقُول علمنَا ذَلِك من ثَلَاثَة أوجه

أَحدهَا أَن شيعَة الْكَافِر قبيله ونسيبه وصنفه وشيعة الْمُؤمن إِنَّمَا هُوَ شَرِيكه فِي الْإِيمَان كَانَ من قبيله أَو من غير قبيله قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة}  وَقَالَ فِي قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ أَبِيه {فَلَمَّا تبين لَهُ أَنه عَدو لله تَبرأ مِنْهُ}

وَقَالَ فِي الْكَفَرَة {فَإِذا نفخ فِي الصُّور فَلَا أَنْسَاب بَينهم يَوْمئِذٍ وَلَا يتساءلون}

وَقَالَ تَعَالَى {يَوْم يفر الْمَرْء من أَخِيه وَأمه وَأَبِيهِ وصاحبته وبنيه}

والمرء هَذَا الْكَافِر بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى {الأخلاء يَوْمئِذٍ بَعضهم لبَعض عَدو إِلَّا الْمُتَّقِينَ}

والأخلاء هُنَا الْمُؤْمِنُونَ  وَقَالَ تَعَالَى {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ من غل إخْوَانًا على سرر مُتَقَابلين}

وَقَالَ تَعَالَى فِي الْكَافِر {وَيَوْم يعَض الظَّالِم على يَدَيْهِ}

إِلَى قَوْله يَا لَيْتَني لم أَتَّخِذ فلَانا خَلِيلًا

إِلَى غير ذَلِك مِمَّا جَاءَ فِي الْكتاب وَالسّنة من تبرئ الْمُؤمن من الْكَافِر ومجموع هَذَا يدل على أَن الَّذِي اسْتَغَاثَ بمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ مُؤمنا على بقايا من دين يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام

قَالَ تَعَالَى {وَقَالَ رجل مُؤمن من آل فِرْعَوْن يكتم إيمَانه}

فَكَانَ فِي بني إِسْرَائِيل وَفِي القبط مُؤمنُونَ يكتمون إِيمَانهم فَكَانَ هَذَا الرجل المستغيث بمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مِنْهُم

الثَّانِي قَول الله تَعَالَى لأم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {يَأْخُذهُ عَدو لي وعدو لَهُ}

وَمَعْلُوم قطعا أَن الله تَعَالَى مَا سمى فِرْعَوْن عدوا لَهُ ولنبيه إِلَّا لأجل كفره فَخرج من هَذَا أَن هَذَا الْقَبِيل إِنَّمَا كَانَ عدوا لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام من اجل كفره وَلَو اجتزأنا بِهَذَا الدَّلِيل لاكتفينا بِهِ عَمَّا سواهُ

الثَّالِث أَن الله تَعَالَى قَالَ {هَذَا من شيعته وَهَذَا من عدوه} فَلَو كَانَ الْمَقْصُود بالشيعة الْقَبِيل لقوبل فِي النقيض بقبيل آخر لَا بالعدو فَإِنَّهُ لَيْسَ من وصف من لم يكن من الْقَبِيل أَن يكون عدوا ثمَّ قد يكون  الْعَدو من الْقَبِيل بل من الْأَخ وَالْولد قَالَ الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن من أزواجكم وَأَوْلَادكُمْ عدوا لكم فاحذروهم} فَصحت عَدَاوَة الدّين مَعَ ثُبُوت النّسَب

فَيخرج الْعَدو هُنَا مخرج قَوْله تَعَالَى {يَأْخُذهُ عَدو لي وعدو لَهُ} حرفا بِحرف وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فاستغاثه الَّذِي من شيعته على الَّذِي من عدوه} فَخرج من مَضْمُون هَذَا أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وكز الْكَافِر الْعَدو لأجل كفره لَا لغير ذَلِك إِذْ لَيْسَ لله تَعَالَى شيعَة وَلَا قرَابَة سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَقد أثبت لنَفسِهِ عدوا

فَإِن قيل فَإِذا كَانَ هَذَا هَذَا فَلم نَدم على قَتله وتحسر واستغفر ربه وَغفر لَهُ وَمَعَ هَذَا يمْتَنع يَوْم الْقِيَامَة من الشَّفَاعَة لأجل هَذَا الْمَقْتُول وَيَقُول معتذرا ومعترفا قتلت نفسا لم يَأْمُرنِي الله بقتلها وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى عاتبه فِي الدُّنْيَا عِنْد الْمُنَاجَاة فَقَالَ لَهُ {وَقتلت نفسا فنجيناك من الْغم}

فَكيف يُعَاتب كليمه على قتل كَافِر

وَأَيْضًا فقد قَالَ هُوَ لفرعون حِين عرض لَهُ بقتل القبطي فَقَالَ {وَفعلت فعلتك الَّتِي فعلت وَأَنت من الْكَافرين قَالَ فعلتها إِذا وَأَنا من الضَّالّين}

فَنَقُول أما قَوْلكُم لم نَدم وتحسر وَاعْتذر واستغفر وَغفر لَهُ فَهَذَا من النمط الَّذِي قدمْنَاهُ فِي حق غَيره من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أَنهم يتحسرون ويندمون وَيَسْتَغْفِرُونَ على ترك الأولى من الْمُبَاحَات فَلَا فَائِدَة فِي إِعَادَة تَفْصِيل مَا فَرغْنَا من جملَته وتفصيله

(1/111)

على أَن نَدم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لم يكن على مُبَاح وَإِنَّمَا كَانَ ندمه على فعل لم يُؤمر بِهِ وَالْأَفْعَال قبل الشَّرْع انما هِيَ مُطلقَة لَا غير فَإِن الْمُبَاح يَقْتَضِي مبيحا فَإِذا لم يثبت شرع فَلَا مُبَاح وَلَا مُبِيح

وَهَذَا أوسع فِي عذر مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِذْ لم يكن مَشْرُوعا لَهُ عِنْدَمَا قَتله وَإِن كَانَ قد الْتزم شَرِيعَة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام على وَجه من الْوُجُوه فَتخرج لَهُ على الْوَجْه الْمُتَقَدّم

وَأما قَوْلكُم إِن الله تَعَالَى عاتبه عِنْد الْمُنَاجَاة على قتل القبطي فَبَاطِل وَإِنَّمَا عدد ربه تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ذَلِك الْمقَام الْكَرِيم نعمه السالفة عَلَيْهِ وآلاءه العميمة فِي قَوْله تَعَالَى {إِذْ أَوْحَينَا إِلَى أمك مَا يُوحى أَن اقذفيه فِي التابوت} إِلَى قَوْله تَعَالَى {واصطنعتك لنَفْسي} ثمَّ ذكر لَهُ من جُمْلَتهَا كَيفَ نجاه من كيد فِرْعَوْن وغم كَانَ فِي قلبه من أجل طلبه إِيَّاه حِين فر بِنَفسِهِ مِنْهُ

وَلَو عاتبه ربه على ذَلِك لخرج لَهُ مخرج مَا قدمْنَاهُ من عتاب الله تَعَالَى لأنبيائه على بعض الْمُبَاحَات من غير أَن يلْحق بهم ذَنْب وَلَا عتب

وَأما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لفرعون {فعلتها إِذا وَأَنا من الضَّالّين} فيعني بِهِ أَنه كَانَ عِنْدَمَا قَتله من الغافلين الْغَيْر مكلفين فَكَأَنَّهُ يَقُول لَهُ فعلتها قبل إِلْزَام التَّكْلِيف وَإِذ كنت غير مُكَلّف فَلَا تَثْرِيب عَليّ فَإِنَّهُ لَا يَقع الذَّنب وَالطَّاعَة إِلَّا بعد ثُبُوت الْأَمر وَالنَّهْي وَالدَّلِيل على أَن ضلال الْأَنْبِيَاء غَفلَة لَا جهل قَوْله تَعَالَى لنبينا عَلَيْهِ السَّلَام ووجدك ضَالًّا

(1/112)

فهدى) يَعْنِي غافلا عَن الشَّرِيعَة لَا تَدْرِي كَيْفيَّة الْعِبَادَة فهداك لَهَا بِالْأَمر وَالنَّهْي ثمَّ قَالَ لَهُ {بِمَا أَوْحَينَا إِلَيْك هَذَا الْقُرْآن وَإِن كنت من قبله لمن الغافلين}

وَالْجَاهِل لَا يُسمى غافلا حَقِيقَة لقِيَام الْجَهْل بِهِ فصح أَن ضلال الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام غَفلَة لَا جهل

وَقَالَ بعض مَشَايِخ الصُّوفِيَّة {وَجدك ضَالًّا} أَي محبا لَهُ {فهدى} أَي اختصك لنَفسِهِ خُصُوص الْهِدَايَة والصحبة

يعضد ذَلِك مَا أخبر تَعَالَى عَن إخْوَة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام {إِن أَبَانَا لفي ضلال مُبين} أَي فِي حب مُبين ليوسف وَكَذَلِكَ قَوْلهم لَهُ بعد ذَلِك {تالله إِنَّك لفي ضلالك الْقَدِيم} أَي فِي حبك الْقَدِيم لَهُ وَمن أَسمَاء الْمحبَّة عِنْد الْعَرَب الضلال

وَمَعَ مَا ذَكرْنَاهُ فِي هَذِه الْقِصَّة من تبرئة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام من الذَّنب فِي قتل الْكَافِر أَن قَتله كَانَ خطأ فَإِنَّهُ مَا طعنه بحديدة وَلَا رَمَاه بِسَهْم

(1/113)

وَلَا ضربه بفهر وَلَا بِغَيْرِهِ وَإِنَّمَا وكزه وَمَا جرت الْعَادة بِالْمَوْتِ من الوكزة وَإِن مَاتَ مِنْهَا أحد فنادر والنادر لَا يحكم بِهِ فقد تَبرأ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام من الذَّنب فِي قتل الْكَافِر بَرَاءَة الذِّئْب من دم ابْن يَعْقُوب عَلَيْهِمَا السَّلَام

(1/114)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء

شرح قصَّة يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام

فِي قَوْله تَعَالَى {وَذَا النُّون إِذْ ذهب مغاضبا فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ} الْآيَة

فمما اختلقوه عَلَيْهِ السَّلَام فِي شرح هَذِه الْآيَة أَن قَالُوا أَنه جَاءَهُ الْملك بِالْوَحْي وَهُوَ يتعبد فِي الْجَبَل فَقَالَ لَهُ إِن الله تَعَالَى أَمرنِي أَن أعلمك بِأَنَّهُ أرسلك إِلَى أهل نِينَوَى لتحذرهم وتنذرهم فَقَالَ لَهُ يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام الله أرْفق بِي وَأعلم بضعفي ومسكنتي من أَن يُرْسِلنِي الى قوم جبارين متكبرين يؤذوننى ويقتلونني فراجع رَبك أَيهَا الْملك فِي أَمْرِي فَلَعَلَّهُ يعفيني من ذَلِك ويلطف بِي فَقَالَ لَهُ الْملك الله تَعَالَى أعظم من أَن أراجعه فِيمَا أَمرنِي بِهِ وَقد أَمرتك فسل أَنْت رَبك ذَلِك إِن شِئْت فقد بلغتك وَالسَّلَام ثمَّ صَار الْملك إِلَى مقَامه ففر إِذْ ذَاك يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام على وَجهه إِلَى جِهَة الْبَحْر مغاضبا لرَبه وَركب السَّفِينَة فالتقمه الْحُوت

وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّه بلغ قومه الرسَالَة فسبوه وضربوه وأغلوا فِي أذيته فَدَعَا عَلَيْهِم فَأخْبرهُ ربه أَنه ينزل الْبلَاء عَلَيْهِم فِي يَوْم كَذَا فَأخْبرهُم بذلك فَلَمَّا كَانَ فِي ذَلِك الْيَوْم خرج إِلَى أَعلَى الْجَبَل وَقعد ينْتَظر الْوَعْد فَإِذا سَحَابَة عَظِيمَة سَوْدَاء قد جَاءَت من نَاحيَة الْبَحْر حَتَّى

(1/115)

قربت من الْبَلَد ثمَّ جَاءَت ريح فَهبت فِي وَجههَا فَردَّتهَا عَنْهُم فَخرج فَارًّا مغاضبا لرَبه حَيْثُ رد عَنْهُم الْبلَاء

فَهَذَا من بعض أَقْوَالهم الخبيثة فِي قصَّة يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام

وَمُقْتَضى هَاتين الكذبتين عَلَيْهِ أَنه سخط أَحْكَام ربه وَلم يرض بِقَضَائِهِ وَلَا أذعن لحكمه

وحاشى وكلا أَن يفعل ذَلِك أَنْبيَاء الله تَعَالَى مَعَ الْعِصْمَة والنزاهة فِيمَا دون ذَلِك كَمَا قدمْنَاهُ

فَإِن غضب العَبْد على ربه إِنَّمَا هُوَ أَلا يرضى بِحكمِهِ وَلَا بإرادته وَهَذِه هِيَ المناقضة وَالْكفْر الصراح

قَالَ تَعَالَى لنبينا عَلَيْهِ السَّلَام {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا}

فنفى الله الْإِيمَان عَمَّن لم يرض بِحكم الله تَعَالَى وَحكم نبيه عَلَيْهِ السَّلَام وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي دُعَائِهِ (لَك العتبى حَتَّى ترْضى) وَالْأَمر أظهر من الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ

فصل

فَإِن قيل إِذا لم تصح هَذِه المغاضبة لرَبه على هَذَا الْوَجْه فَمَا الصَّحِيح الَّذِي يعول عَلَيْهِ فِيهَا وَكَذَلِكَ الْمُطَالبَة فِي لوم الله

(1/116)

تَعَالَى لَهُ حَيْثُ قَالَ {فالتقمه الْحُوت وَهُوَ مليم} وَكَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى لنَبيه عَلَيْهِ السَّلَام {فاصبر لحكم رَبك وَلَا تكن كصاحب الْحُوت}

وَكَذَلِكَ فِي قولة نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام حمل أخي يُونُس أعباء الرسَالَة فانفسخ تحتهَا كَمَا يَنْفَسِخ الرّبع

قُلْنَا أما مغاضبته عَلَيْهِ السَّلَام فَكَانَت لِقَوْمِهِ لَا لرَبه وَلَا يجوز ذَلِك عَلَيْهِ وأنى وَقد جَاءَ فِي الْخَبَر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو لم يبلغ نَبِي الرسَالَة إِلَى قومه لعذب بِعَذَاب قومه أَجْمَعِينَ) نقل على الْمَعْنى وَإِنَّمَا كَانَت لِقَوْمِهِ لما نَالَ مِنْهُم من الأذية فَاحْتمل أذاهم حَتَّى ضَاقَ صَدره ويئس من فلاحهم ففر بِنَفسِهِ بَعْدَمَا بلغ غَايَة التَّبْلِيغ كَمَا أمره الله تَعَالَى

ثمَّ غلب ظَنّه لسعة حلم الله تَعَالَى أَلا يَطْلُبهُ بذلك الْفِرَار لكَونه قد أدّى مَا عَلَيْهِ وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى {فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ} أَي ان لن نضيق عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى {وَمن قدر عَلَيْهِ رزقه} أَي ضيق وَقَالَ تَعَالَى {أولم يعلمُوا أَن الله يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر} أَي يضيق

(1/117)

وَيحْتَمل أَنه ظن أَن قدرَة الله تَعَالَى لم تتَعَلَّق بإيلامه وسجنه تفضلا مِنْهُ وَأَنه تَعَالَى يعْفُو عَنهُ فِي ذَلِك الْفِرَار فَوَقع خلاف ظَنّه

وَهَذَا هُوَ الَّذِي يجوز أَن يَعْتَقِدهُ الْأَنْبِيَاء وَأَن يعْتَقد فيهم

وَقَالَ الفجرة إِنَّه ظن أَن لَا يقدر الله عَلَيْهِ أَي لَا يُمكنهُ أَن يفعل فِيهِ وَهَذَا كفر صراح لَا يُمكن أَن يَعْتَقِدهُ مقلد فِي الْإِيمَان فَكيف نَبِي

وَقد تذاكرت مَعَ طَالب من طلبة الأندلس ملحوظ بِالطَّلَبِ فَقَالَ لي ذَلِك وبالاجماع أَنه من ظن أَن لَا يقدر الله عز وَجل عَلَيْهِ على وَجه الْعَجز عَنهُ أَو الْفَوْت من قَضَائِهِ وَقدره فَهُوَ كَافِر

وَأما قَوْله تَعَالَى {فالتقمه الْحُوت وَهُوَ مليم} أَي أَتَى مَا يلام عَلَيْهِ وَلَيْسَ كل من أَتَى مَا يلام عَلَيْهِ يَقع لومه فَإِن كَانَ تَعَالَى لم يلمه فقد انْدفع الِاعْتِرَاض لعدم اللوم وَالْأَظْهَر أَنه لم يلمه إِذْ لَو وَقع اللوم لقَالَ وَهُوَ ملوم وان كَانَ لامه فاللوم قد يكون عتابا وَقد يكون ذما فَإِن صَحَّ وُقُوع لومه فَكَانَ من الله عتابا لَهُ على فراره لَا ذما إِذْ المعاتب محبور والمذموم مدحور

فَاعْلَم رَحِمك الله صِحَة التَّفْرِقَة بَين اللوم والذم قَالَ الشَّاعِر

(لَعَلَّ عتبك مَحْمُود عواقبه ... فَرُبمَا صحت الْأَجْسَام بالعلل)

وَقَالَ آخر

(إِذا ذهب العتاب فَلَيْسَ ود ... وَيبقى الود مَا بَقِي العتاب)

(1/118)

وَقَالَ آخر

(لَو كنت عاتبتي لسكن لوعتي ... أملي رضاك وزرت غير مراقب)

(لَكِن صددت فَمَا لصدك حِيلَة ... صد الملول خلاف صد العاتب)

أَلا ترى كَيفَ قَالَ الله تَعَالَى {لَوْلَا أَن تَدَارُكه نعْمَة من ربه لنبذ بالعراء وَهُوَ مَذْمُوم} مَعْنَاهُ لَوْلَا مَا عصمناه ورحمناه لأتى مَا يذم عَلَيْهِ على أصل الْجَوَاز لَا على فرع الْوُقُوع

وَهَذَا من النمط الَّذِي قدمْنَاهُ فِي قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام حَيْثُ قَالَ {واجنبني} وَهِي أَن يعبد الْأَصْنَام وَهُوَ قد أَمن من ذَلِك بالْخبر وَقَوله تَعَالَى فِي قصَّة شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلَام {وَمَا يكون لنا أَن نعود فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاء الله رَبنَا} الْآيَة وَقَوله تَعَالَى لنبينا عَلَيْهِ السَّلَام {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك} وَهُوَ تَعَالَى لم يَشَأْ ذَلِك بالْخبر

وَأما قَوْله تَعَالَى لنبينا عَلَيْهِ السَّلَام {فاصبر لحكم رَبك وَلَا تكن كصاحب الْحُوت} يَعْنِي كيونس عَلَيْهِ السَّلَام فِي فراره حِين ضَاقَ صَدره كَمَا قدمْنَاهُ وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَد نعلم أَنَّك يضيق صدرك بِمَا يَقُولُونَ} كَمَا ضَاقَ صدر يُونُس فَلَا تَفِر كفراره

وَلذَا جَاءَ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام (لَا تفضلُونِي على يُونُس بن مَتى)

(1/119)

لما قيل لَهُ {وَلَا تكن كصاحب الْحُوت} فَنَهَاهُ أَن يفعل فعله فِي قصَّة مَخْصُوصَة خَافَ على قُلُوب عوام أمته من اعْتِقَاد هَذِه القولة على خلاف مَا هِيَ بِهِ فيعتقدون أَنَّهَا نهي لَهُ على الْعُمُوم وحاشى وكلا وَكَيف يَصح فِيهَا الْعُمُوم وَقد أمره تَعَالَى أَن يتخلق ويقتدي ويهتدي بأخلاقه وأخلاق نظرائه عَلَيْهِم السَّلَام حَيْثُ قَالَ لَهُ {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده} فَقَالَ ذَلِك وَالله اعْلَم

وَأما قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام (حمل أخي يُونُس أعباء الرسَالَة فانفسخ تحتهَا كَمَا يَنْفَسِخ الرّبع) الحَدِيث فَهُوَ فِي هَذَا الْمَعْنى انه كلف مقاساة الجهلة وَالصَّبْر على الأذية فَضَاقَ صَدره بذلك وَلم يحْتَملهُ ففر

وعَلى هَذَا يَنْبَغِي أَن تحمل هَذِه الْأَقْوَال وعَلى مَا هُوَ أغمض وَأَعْلَى فِي التبرئة من هَذَا وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه

(1/120)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء

شرح قصَّة أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام

فِي قَوْله تَعَالَى {وَاذْكُر عَبدنَا أَيُّوب إِذْ نَادَى ربه أَنِّي مسني الشَّيْطَان بِنصب وَعَذَاب اركض برجلك هَذَا مغتسل بَارِد وشراب}

فمما قَالُوهُ فِي سَبَب محنته عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ أسلم مَا نسبوه إِلَيْهِ من الْأَقَاوِيل أَنه شوى حملا فِي منزله وَكَانَ بإزائه جَار فَقير فتأذى برائحة طَعَامه وَلم ينله مِنْهُ شَيْئا فامتحنه الله تَعَالَى بِأَن سلط عَلَيْهِ الشَّيْطَان

وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّه دخل يَوْمًا على ملك جَبَّار فَرَأى فِي منزله مُنْكرا فَلم يُغَيِّرهُ فَلِذَا امتحن

وَهَاتَانِ القولتان من أشبه مَا قَالُوهُ فِي محنته عَلَيْهِ السَّلَام فَأول مَا يطْلبُونَ بِهِ إِثْبَات دَعوَاهُم وهم لَا يثبتونها فِي كتاب وَلَا سنة سوى ملفقات من قصصيات هِيَ أَوْهَى فِي الثُّبُوت من خيط العنكبوت

فاخترنا الْكَلَام فِي هَاتين الْقصَّتَيْنِ لِكَوْنِهِمَا مِمَّا يَصح مَعْنَاهُمَا لَو صَحَّ أثرهما فَلَو صَحَّ مَا قَالُوهُ من القولتين أَو إِحْدَاهمَا لتصور الْخُرُوج عَنْهُمَا بِأَحْسَن مخرج

فَأَما قصَّة الْحمل فقد يكون يغلب الظَّن أَن جَاره لَيْسَ يحْتَاج اليه فِي ذَلِك الْوَقْت وَقد نعلم أَنه يُمكنهُ أَن يصنع مثل ذَلِك فَإِن ثمن الْحمل

(1/121)

يسير وَلَيْسَ كل فَقير مملقا وَقد يحْتَمل أَنه نسي أَن يواسيه مِنْهُ وَلَيْسَ يلْحقهُ فِي ذَلِك عتب وَلَا ذَنْب على أَنه لَو ترك إعطاءه قَاصِدا لم يكن مذنبا فَإِن مؤاساة الْجَار مَنْدُوب إِلَيْهَا وَمن ترك الْمَنْدُوب فَلَا ذَنْب عَلَيْهِ

وَأما قَوْلهم إِنَّه لم يُغير الْمُنكر على الْملك الْجَبَّار فعين هَذَا القَوْل عذر عَنهُ فَإِن لُزُوم تَغْيِير الْمُنكر إِنَّمَا هُوَ مَعَ الْإِمْكَان قَالَ تَعَالَى {الَّذين إِن مكناهم فِي الأَرْض أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأمرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونهوا عَن الْمُنكر} فَلَمَّا علم جبروت الْملك خَافَ على نَفسه وَلم يُمكنهُ تَغْيِيره بِظَاهِرِهِ لِئَلَّا يَقع من الْجَبَّار مُنكر أكبر مِمَّا رَآهُ فِي منزله فَغير بِقَلْبِه

وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك الْملك لم يكن من أمته وَلَا أرسل إِلَيْهِ فَلم يُغير عَلَيْهِ إِذْ لَا يلْزمه ذَلِك

كَمَا مر مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام على قوم يعكفون على أصنام لَهُم فَغير على قومه وَلم يُغير عَلَيْهِم لكَونه لم يُرْسل إِلَيْهِم فَإِن النَّبِي لَا يلْزمه التَّغْيِير إِلَّا على من أرسل إِلَيْهِ

فقد خرجت القولتان بِحَمْد الله على أحسن مخرج إِذا صحتا

وَأما قَوْله {مسني الشَّيْطَان بِنصب وَعَذَاب} أَي ببلاء وَشر جَاءَ فِي خبر يطول ذكره فلنذكر مِنْهُ مَا لَا بُد من ذكره

وَجَاء فِي الْأَثر أَن الشَّيْطَان تحداه بِأَنَّهُ لَو سلط عَلَيْهِ لضجر وَسخط حكم الله تَعَالَى فَسلط على مَاله وَولده وَجَسَده إِلَّا قلبه وَلسَانه فَصَبر صبرا أثنى الله بِهِ عَلَيْهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فِي قُرْآن يُتْلَى فَقَالَ تَعَالَى إِنَّا

(1/122)

وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نعم العَبْد إِنَّه أواب) وَبَقِي الشَّيْطَان خائب الصَّفْقَة خزيان فَلَمَّا نَادَى ربه شاكيا بالشيطان وَبِمَا ناله مِنْهُ أَجَابَهُ بالإقالة من شكيته وَأمره أَن يرْكض الأَرْض بِرجلِهِ حَتَّى يرِيه بركَة صبره فَقَالَ {اركض برجلك هَذَا مغتسل بَارِد وشراب} فَعجل لَهُ فِي الدُّنْيَا مثلا لعين الْحَيَاة الَّتِي بَين الْجنَّة وَالنَّار يغْتَسل فِيهَا المعذبون وَيَشْرَبُونَ مِنْهَا فَيخْرجُونَ مطهرين من كل بؤس ظَاهرا وَبَاطنا كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَر

فمس أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام الأَرْض بِرجلِهِ فنبع مِنْهَا المَاء فَشرب مِنْهُ فبرئ مَا كَانَ فِي بَاطِنه من دَقِيق السقم وجليله واغتسل فبرئ من ظَاهره أتم بَرَاءَة فَمَا كَانَ يُرْسل المَاء على عُضْو إِلَّا وَيعود فِي الْحِين أحسن مَا كَانَ قبل بِإِذن الله تَعَالَى

ورد الله عَلَيْهِ مَاله وَولده وَولد لَهُ مثل عَددهمْ

قَالَ الله تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ أَهله وَمثلهمْ مَعَهم}

وَهَذِه الْقِصَّة على رونق فِيهَا لكَونهَا مُتَعَلقَة بِالْكتاب جَائِزَة فِي الْعقل لَكِنَّهَا غير لائقة بِمنْصب النُّبُوَّة وحاشى لله أَن يُسَلط عدوه على حَبِيبه بِمثل هَذِه السلطة حَتَّى يتحكم فِي مَاله وَولده وَجَسَده بالبلاء والتنكيل

وَأما تعلقهم فِيهَا من الْكتاب الْعَزِيز فبقوله تَعَالَى أَنه قَالَ {مسني الشَّيْطَان بِنصب وَعَذَاب}

(1/123)

وَلَيْسَ لَهُم حجَّة فِي هَذَا القَوْل فَإِن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام إِذا مسهم ضرّ نسبوه إِلَى الشَّيْطَان على جِهَة الْأَدَب مَعَ الْحق سُبْحَانَهُ لِئَلَّا ينسبوا لَهُ فعلا يكره مَعَ علمهمْ أَن كلا من عِنْد الله

قَالَ الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام {وَإِذا مَرضت فَهُوَ يشفين}

وَقَالَ الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام {فَأَرَدْت أَن أعيبها}

وَقَالَ الكليم عَلَيْهِ السَّلَام {هَذَا من عمل الشَّيْطَان}

وَقَالَ فتاه عَلَيْهِ السَّلَام {وَمَا أنسانيه إِلَّا الشَّيْطَان}

وَقَالَ نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَالْخَيْر كُله فِي يَديك وَالشَّر لَيْسَ إِلَيْك)

يَعْنِي لَيْسَ إِلَيْك يُضَاف وَصفا لَا فعلا وَإِن كَانَ الْفِعْل كُله من عِنْد الله

وَقَالَ تَعَالَى بِيَدِك الْخَيْر إِنَّك على كل شَيْء قدير

فَخرج من مَجْمُوع مَا ذَكرْنَاهُ أَن تعلقهم بِالْآيَةِ فِي كل مَا زوروه من الأقاصيص غير صَحِيح

فصل

استطراد إِلَى قصَّة مَرْيَم وتبيين أَن مقَامهَا عِنْد هز الْجذع لَيْسَ أقل من مقَامهَا فِي الغرفة

(1/124)

وَهنا نُكْتَة شريفة يجب الِاعْتِبَار بهَا فِي قصَّة مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام عِنْد هز الْجذع وَهِي معضودة بِقصَّة أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام فِي بركَة ركضه وبركات بعض الْأَنْبِيَاء فِيمَا لمسوه وركضوه وضربوه وَذَلِكَ أَن مُعظم أهل الْإِشَارَة رَحِمهم الله أصفقوا على أَن مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام كَانَ مقَامهَا فِي الغرفة أَعلَى مِمَّا كَانَ عِنْد النَّخْلَة

وَاسْتَدَلُّوا على ذَلِك بِمَا جَاءَ فِي الْخَبَر عَن الرزق الَّذِي كَانَ يجد عِنْدهَا زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام إِذا كَانَ يجد عِنْدهَا فَاكِهَة الشتَاء فِي الصَّيف وَفَاكِهَة الصَّيف فِي الشتَاء فَكَانَ يَأْتِيهَا بِلَا سَبَب فَلَمَّا نظرت إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام حِين وَلدته أحبته فَأمرت بِالْكَسْبِ فِي هز النَّخْلَة لكَونهَا رجعت من جمع إِلَى تَفْرِيق

وَقَالُوا فِي هَذَا وأطنبوا وأنشدوا الأبيات الْمَشْهُورَة على قافية الْبَاء إِلَى غير ذَلِك وَهَذِه رَحِمهم الله وهلة مِنْهُم وغفلة عَن الأولى والأحرى فِي حق تِلْكَ الصديقة

وَأول مَا يعْتَرض بِهِ عَلَيْهِم أَن يُقَال لَهُم من أَيْن يحكمون عَلَيْهَا أَنَّهَا لما رَأَتْ الْوَلَد تَفَرَّقت بميل قَلبهَا إِلَيْهِ

وَهَذَا لَا يَصح إِلَّا بتوقيف والتوقيف فِي ذَلِك مَعْدُوم وَبِمَ تردون على من يَدعِي نقيض دعواكم ويبرهن عَن ذَلِك أَن مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام مَا كَانَت قطّ فِي مقَام هُوَ أَعلَى من مقَامهَا فِي تِلْكَ الأزمة على تِلْكَ الْحَالة

(1/125)

وعَلى قدر الأزمات يَأْتِي الْفرج وَذَلِكَ أَنَّهَا قبضت فِي ذَلِك الْمقَام من سَبْعَة أوجه

أَحدهَا أَن خاطبها الْملك على ضعفها وَصغر سنّهَا ووحدتها فِي الفلاة وَهَذَا أَمر لَا يتخيل مَا يكون فِيهِ إِلَّا من دهمه

الثَّانِي أَنه كَانَ أول خطاب خوطبت بِهِ وَقد جَاءَ فِي الصَّحِيح أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما خاطبه الْملك فِي أول مرّة كَاد أَن يتردى من حالق الْجَبَل خيفة من فَجْأَة الْملك وفجأة الْخطاب وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي ثَانِي حَال يَأْتِيهِ الْوَحْي فِي الْيَوْم الشَّديد الْبرد فيتفصد عرقا هَيْبَة من فَجْأَة الْوَحْي وإعظاما للْملك

الثَّالِث أَن أخْبرهَا بِأَنَّهَا تَلد من غير فَحل وَهَذَا مِمَّا يعظم سَمَاعه لكَونه غير مُعْتَاد لَا سِيمَا لمثلهَا

الرَّابِع طريان الْمَخَاض عَلَيْهَا وآلامه الَّتِي توازي آلام الْمَوْت لَا سِيمَا أول مَخَاض

الْخَامِس وَهُوَ أَشد عَلَيْهَا من كل مَا وَقع وَهُوَ مَا يصمها النَّاس بِهِ من الْمَلَامَة والأذية وَإِقَامَة الْحَد عَلَيْهَا وَهِي بريئة

السَّادِس وَهُوَ أَشد عَلَيْهَا من أذيتها وَهُوَ مَا يلْحق قَومهَا من

(1/126)

النَّاس إِذا قذفوها فَإِنَّهَا صديقَة بِشَاهِد الْقُرْآن وَالصديق أشْفق على خلق الله مِمَّا هُوَ على نَفسه

السَّابِع فِيمَا يكون عذرها إِذا اعترضت وَأنكر عَلَيْهَا مَا جَاءَت بِهِ

فَهَذِهِ سبع قوابض لَو سلط أَحدهَا على جبل لتصدع وَيَكْفِيك قَوْلهَا عِنْد ذَلِك {يَا لَيْتَني مت قبل هَذَا وَكنت نسيا منسيا} فَأَي مقَام فَوق مقَام من ابْتُلِيَ بِمثل هَذِه المعضلات دفْعَة وَاحِدَة فَصَبر وشكر

ويعضد مَا قُلْنَاهُ فِي علو مقَامهَا فِي ذَلِك الْحَال قَوْله تَعَالَى {كلما دخل عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَاب} الْآيَة إِلَى قَوْله {بِغَيْر حِسَاب}

وَذَلِكَ أَن زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يجد عِنْدهَا تِلْكَ الْفَوَاكِه الْمَذْكُورَة فِي غير أوانها فَيَقُول {أَنى لَك هَذَا} يَعْنِي بِأَيّ عمل بلغت هَذَا الْمقَام كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يستعظم ذَلِك الْمقَام فِي حَقّهَا لغرارتها وضعفها فَتَقول هِيَ {هُوَ من عِنْد الله}

أَي لَيْسَ ذَلِك مقَاما بلغته بكبير عمل وَإِنَّمَا هُوَ من فضل الله تَعَالَى فَكَأَن مَا تُشِير إِلَيْهِ أَنْتُم عُظَمَاء لكم المقامات وَالْأَحْوَال وَأَنا ضئيلة ضَعِيفَة فَأنْتم ترزقون بِسَبَب وَأَنا بِغَيْر سَبَب

فَفِي قَول زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام {أَنى لَك هَذَا} دَلِيل على ضعف مقَامهَا فِي الغرفة فَإِن المقامات عِنْد الْقَوْم مرتبطة بعلوم مَخْصُوصَة وأعمال

(1/127)

مَخْصُوصَة وَكَذَلِكَ الْأَحْوَال والكرامات أَيْضا هبة من الله تَعَالَى لَهُم على قدر مقاماتهم

فَلَمَّا كَانَ ذَلِك غَايَة قبضهَا وعلاء مقَامهَا فِي الْقَبْض بسطت من سَبْعَة أوجه

أَحدهَا أَن كلمها الْوَلِيد قَالَ تَعَالَى {فناداها من تحتهَا أَلا تحزني} قرئَ بِفَتْح الْمِيم

فَقَالَ قوم ناداها الْملك من مَكَان منخفض عَنْهُمَا

وَقَالَ آخَرُونَ ناداها الْوَلِيد وَهُوَ الْأَظْهر لوَجْهَيْنِ

أَحدهمَا أَن تَحت فِي حق الْوَلِيد أمت وَالثَّانِي أَن تكليم الْوَلِيد آنس فِي الْخطاب من كَلَام الْملك على مَا تقدم

وَالثَّانِي من تقاسيم الْبسط أَن كلمها وليدها وَلم يكلمها وليد غَيرهَا لِأَن تكليم وَلَدهَا من بَرَكَات أحوالها

الثَّالِث أَن كلمها فِي الْحِين فَإِن فِيهِ تَنْفِيس خناق قبضهَا بِسُرْعَة الْبشَارَة

الرَّابِع أَن كلمها بالبشارة {أَلا تحزني}

الْخَامِس أَن أخْبرهَا أَنه سري أَي رفيع الْقدر عِنْد الله تَعَالَى وَمَا يحب أحد أَن يكون غَيره أحسن مِنْهُ إِلَّا وَلَده

(1/128)

السَّادِس أَنه لما كلمها الْوَلِيد استبشرت بِأَنَّهُ سيقيم حجتها عِنْد قَومهَا كَالَّذي فعل

السَّابِع وَهِي الْبشَارَة الْعُظْمَى الَّتِي تثبت أَن مقَامهَا عِنْد الْجذع كَانَ أَعلَى من مقَامهَا فِي الغرفة وَهُوَ قَوْله تَعَالَى لَهَا {وهزي إِلَيْك بجذع النَّخْلَة تساقط عَلَيْك رطبا جنيا}

وتتصور الْكَرَامَة فِي هزها من أحد عشر وَجها

أَحدهَا أَنه نبهها على بركَة يَدهَا بِأَن تمس الشَّيْء فَيظْهر عَلَيْهِ بركَة ذَلِك الْمس كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيح عَن عَائِشَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا اشْتَكَى يقْرَأ على نَفسه بالمعوذات وينفث فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعه كنت أَقرَأ عَلَيْهِ وامسح عَنهُ بِيَدِهِ رَجَاء بركتها

وكما قيل

لَو مس عودا سلوبا لاكتسى وَرقا ... وَلَو دَعَا مَيتا فِي الْقَبْر لباه)

الثَّانِي أَن الملموس كَانَ جذعا والجذع فِي اللِّسَان هُوَ سَاق النَّخْلَة إِذا جذ رَأسهَا يَقُول الْعَرَب على كم جذع بَيْتك مَبْنِيّ وَجَاء فِي الْخَبَر فحن الْجذع إِلَيْهِ وَكَانَت أسطوانة فِي الْمَسْجِد وَقَالَ تَعَالَى {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} وَلَا يكون الصلب إِلَّا فِي

(1/129)

الْخشب فصح أَن سَاق النَّخْلَة إِنَّمَا يُسمى جذعا إِذا جز رَأسه وَإِذا جز رَأس النَّخْلَة يَبِسَتْ فَلَا تلقح وَلَا تورق بعد فَلَمَّا لمسته أَخْضَر فِي الْحِين

الثَّالِث أَن نَبتَت فِيهَا أَغْصَان وورق ورؤوس النّخل إِذا قطعت لَا تخلف

الرَّابِع أَن أثمرت فِي الْحِين وَالنَّخْل لَا تثمر إِلَّا بعد ريح فِي أَيَّام كَثِيرَة

الْخَامِس أَن صَارَت رطبا فِي الْحِين

السَّادِس قَوْله {جنيا} أَي حَان قطافها فصلحت للجني فَإِنَّهَا قد تسمى رطبا فِي أول نضجها قبل أَن تصلح للجني على جِهَة الْمجَاز

وَهنا لَطِيفَة وَهِي أَن الله تَعَالَى آنسها بِأَن أَرَاهَا مثلا بالجذع الْيَابِس حِين اخضر من غير سقِِي وَبعد يبسه اخضر وأثمر فِي الْحِين كَمَا ولد عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام من غير فَحل وَتكلم فِي الْحِين وَتمّ خلقه دفْعَة وَولد فِي الْحِين فَتلك بِتِلْكَ

السَّابِع أَن هزتها فتساقطت وَمَعْلُوم أَن هز مثلهَا على مَا هِيَ عَلَيْهِ من ضعفها ونفاسها لسوق النّخل لَا يسْقط الرطب فَإِن كَانَ أَعْطَيْت فِي الْحِين قُوَّة تهز بهَا النّخل فَتسقط رطبها فخرق كَبِير وَإِن تساقطت الرطب للمسها إِيَّاهَا فخرق آخر أكبر مِنْهُ

قَوْله الثَّامِن لَهَا {فكلي واشربي} فَإِن فِيهِ بِشَارَة بِسُرْعَة الْخَلَاص من ألمها فَإِن النُّفَسَاء لَا تَأْكُل وَلَا تشرب إِلَّا بعد مُدَّة لشغلها بألمها

(1/130)

التَّاسِع أَنه بشرها بِحُصُول الطَّعَام وَالشرَاب عِنْدهَا لِأَن كَانَت بِأَرْض فلاة فَإِن النَّاس يخَافُونَ عدمهما فِي الفلوات

الْعَاشِر قَوْله لَهَا {وقري عينا} فَعلمت بِكَلَامِهِ الخارق أَنه لَا يكذبها فأنست

الْحَادِي عشر أَنه علمهَا كَيفَ تجيب إِذا سَأَلَهَا قَومهَا فِي قَوْله لَهَا {فَقولِي إِنِّي نذرت للرحمن صوما فَلَنْ أكلم الْيَوْم إنسيا}

أَلا ترى إِلَى طمأنينتها إِلَى مبارأة وَلَدهَا كَيفَ أَتَت بِهِ قَومهَا تحمله ظَاهرا لَهُم وَقد كَادَت تَفِر بِهِ إِلَى بلد آخر أَو تخفيه مَا استطاعت فَلَا يشْعر بِهِ قَومهَا فَلَمَّا طابت نَفسهَا بِهِ فِي إِقَامَة حجتها عِنْد قَومهَا أَتَتْهُم بِهِ تحمله ظَاهرا لَهُم

فَهَذِهِ رَحِمك الله سَبْعَة أَحْوَال ثوبها رَبهَا عَلَيْهَا بِثمَانِيَة عشر حَالا سَبْعَة مِنْهَا قبل الهز وَأحد عشر بعده كلهَا تَتَضَمَّن من الْبسط والأنس والكرامات مَا يدل على رفْعَة شَأْنهَا وَعزة مَكَانهَا عِنْد رَبهَا فَكيف تبخس هَذِه الصديقة فِي حَقّهَا وتحط عَن مقَامهَا فِي الهز

ويعضد مَا رمناه من علو الْمقَام لَهَا فِي ذَلِك الْوَقْت صِحَة الشّبَه فِي قَوْله تَعَالَى لأيوب عَلَيْهِ السَّلَام {اركض برجلك} أَرَادَ تَعَالَى أَن يرِيه عَاقِبَة صبره وبركة تصرفه وَفَائِدَة ركضه وَثَمَرَة لمسه الأَرْض بأخمصيه وَمَعْلُوم أَن الْمِيَاه لَا تنبع بِسَبَب الركض على مجْرى الْعَادة

وَأَن الركض يخرج مخرج الهز خرفا بِحرف

(1/131)

وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {اضْرِب بعصاك الْحجر} أَرَادَ تَعَالَى أَن يَنْبع لَهُ المَاء بِوَاسِطَة الضَّرْب حَتَّى تظهر كرامته عِنْد بني إِسْرَائِيل

وَكَذَلِكَ فِي الْبَحْر حِين ضربه فانفلق

وَكَذَلِكَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يرْكض الْقُبُور فيحيي الله بِهِ الْمَوْتَى ويلمس الطين فَيصير طائرا بِإِذن الله

وَكَذَلِكَ نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام لمس المَاء فنبع من بَين أَصَابِعه ولمس الطَّعَام فنما وَزيد فِيهِ وتفل فِي بِئْر فعذبت وَكثر مَاؤُهَا وتفل فِي عين عَليّ كرم الله وَجهه فبرأت من دَاء الرمد وشربت أم أَيمن بَوْله فبرأت من دَاء الْبَطن وتفل على رجل أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ فِي الْغَار حِين لسعته الْعَقْرَب فبرئ فِي الْحِين

فليت شعري مَا الَّذِي أغفل أُولَئِكَ الجلة عَن هَذِه الْأَدِلَّة حَتَّى يغضوا من مقَام مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام بالهز وَهُوَ الْأَعْلَى كَمَا ترى أَيهَا اللبيب الفطن المتناصف

(1/132)

فَإِن قيل إِنَّمَا كَانَت تِلْكَ الْأَفْعَال مِنْهُم على سَبِيل إِظْهَار المعجزة لكَوْنهم أَنْبيَاء وَمَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام لم تكن نبية

قُلْنَا لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك بِدَلِيل أَنهم لَو تحدوا بِتِلْكَ الخروق من غير تنَاول مِنْهُم لَهَا فَوَقَعت على وفْق تحديهم بهَا لصحت المعجزة وَإِذا صحت المعجزة دون التَّنَاوُل باللمس وَالضَّرْب علم أَن تِلْكَ الْأَفْعَال وَقعت إِكْرَاما لَهُم زَائِدا على ثُبُوت المعجزة وَأَيْضًا فَإِن اللَّمْس وَالضَّرْب والتفل لَيْسَ من قبيل المعجزات فَإِنَّهُ مُعْتَاد والمعتاد لَا يكون معْجزَة

فَهَذَا هَذَا وَمن اعْترض من المقلدة بالجزاف فَعَلَيهِ الدَّلِيل وَلَا دَلِيل فَإِن الْقَوْم الَّذين قَالُوا ذَلِك لم يَأْتُوا بِدَلِيل سوى مَا نقرره من أَن التَّوَكُّل فَوق الْكسْب

وَهَذِه مَسْأَلَة قد حفيت فِيهَا الْأَقْدَام واضطربت الأفهام وَالْأَظْهَر فِيهَا أَن الْكسْب مَعَ التَّوَكُّل إعلاء فَإِنَّهُ يَقع بِالظَّاهِرِ وَيبقى الْبَاطِن متوكلا فَإِذا تصور الْجمع بَين الظَّاهِر وَالْبَاطِن فالكسب الْحَلَال مِمَّن جمع بَينهمَا فَهُوَ إعلاء مقَام لِكَوْنِهِمَا مقامين وعملين فَلَا منافرة بَين التَّوَكُّل وَالْكَسْب لاخْتِلَاف المجال وَمَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام صديقَة وَمن بعض مقامات الصّديق الْجمع بَين الْكسْب والتوكل

وَفِي الْكسْب فَائِدَة كَثِيرَة فَإِنَّهُ مِمَّا ينفع النَّاس وَيصْلح شؤونهم وَيقوم بمنافعهم فِي لباسهم وأقواتهم

فَلَو ترك النَّاس الْكسْب بِالْجُمْلَةِ لهلكت الأَرْض وَمن عَلَيْهَا فقد تصورت فِيهِ الْمَنْفَعَة الْعُظْمَى

وَقد جَاءَ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ (سيد الْقَوْم خادمهم)

(1/133)

وَجَاء عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ (النَّاس عِيَال الله وأحبهم إِلَى الله أنفعهم لِعِيَالِهِ)

وَالْمَنْفَعَة على ضَرْبَيْنِ دنيوية وأخروية

فالأخروية إرشاد الْمُكَلف وتعليمه مَا يلْزمه من وظائف التَّكْلِيف

والدنيوية معالجة الْمَعيشَة بالأسباب العادية الَّتِي يقوم بهَا أود الْحَاجَات وإبقاء رَمق حَيَاة فقد انحصرت الْمَنْفَعَة الدُّنْيَوِيَّة فِي الْكسْب وَفِيه أَيْضا سَبَب للمنفعة الأخروية فَإِنَّهُ لَوْلَا سد الجوعة وَستر الْعَوْرَة على مُقْتَضى الشَّرْع ومجرى الْعَادة لم تكن الْحَيَاة وَلَا تصورت عبَادَة فأهلا بِالْكَسْبِ وَأَهله فَإِنَّهُم أحب النَّاس إِلَى الله تَعَالَى وَكَيف يعاب الْكسْب أَو يغض من قدره وَقد أثْبته سيد الرُّسُل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لنَفسِهِ حَيْثُ قَالَ (جعل رِزْقِي تَحت ظلّ رُمْحِي) يَعْنِي مَا يَأْكُل من الْغَنَائِم بِسَبَب الْكسْب بِالرُّمْحِ وَمَا فَوق مقَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مقَام

وَأمر الله تَعَالَى دَاوُود عَلَيْهِ السَّلَام بِالْكَسْبِ حَيْثُ قَالَ لَهُ {أَن اعْمَلْ سابغات وَقدر فِي السرد} يَعْنِي سابغات الدروع وَلذَلِك أخبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن دَاوُود عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُل من كَسبه فِي عمل الدروع

وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الْأَثر أَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُل من عمل الخوص

(1/134)

وَجَاء عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (اطْلُبُوا الرزق فِي خبايا الأَرْض) يَعْنِي فِيمَا يزرع وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لصَاحب النَّاقة (اعقلها وتوكل)

وَهَذِه الْأَخْبَار تدل على إِثْبَات الْكسْب شرعا وَأَنه لَا يقْدَح فِي التَّوَكُّل

فَخرج من هَذِه الْأَحَادِيث إِثْبَات الْكسْب شرعا وَأَن مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام كَانَ مقَامهَا فِي تِلْكَ الْحَالة إعلاء لكَونهَا جمعت بَين الْكسْب والتوكل

وَقد نظمت فِي ذَلِك على نقيض مَا نظموه فِي قَوْلهم إِذْ قَالُوا

(ألم تَرَ أَن الله أوحى لِمَرْيَم ... إِلَيْك فهزي الْجذع تساقط الرطب) فَقلت

(أما علمُوا أَن الْمقَام سما بهَا ... لِأَن جمعت بَين التَّوَكُّل وَالسَّبَب)

(بِأَن لمست جذعا فأينع رَأسه ... على الْحِين أفنانا وأثمر بالرطب)

(كَمَا مس أَيُّوب اليبيس بِرجلِهِ ... ففارت عُيُون طهرته من الصخب)

(وَمَسّ كليم الله بِالْعودِ صَخْرَة ... ففجر من أرجائها المَاء فانسكب)

(وَمَسّ الْمَسِيح الطين بالخلق فانتشا ... طيورا بِإِذن الله أَحيَاء تضطرب)

وَمَسّ يَمِين الْمُصْطَفى المَاء نُطْفَة ... فَفَاضَتْ عُيُون المَاء من خلل العصب)

فعض على هَذِه القولة يَا أَيهَا المتناصف الفطن بالنواجذ وَشد عَلَيْهَا كف الضنين فَإِنَّهَا قولة مَقْصُودَة بالبرهان ونادرة مَا أَرَانِي سبقت إِلَيْهَا واعرف

(1/135)

الرِّجَال بِالْعلمِ وَلَا يعرف الْعلم بِالرِّجَالِ فَمن كل كَلَام مَأْخُوذ ومتروك إِلَّا من كَلَام صَاحب الْقَبْر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

فَهَذَا مَا من الله تَعَالَى بِهِ فِي تَنْزِيه الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام على مَا تَقْتَضِيه الْآي وَمَا صَحَّ من الْأَخْبَار من غير أَن يلْحق بِوَاحِد مِنْهُم ذَنْب وَلَا ذمّ إِذْ لَو جَازَ ذَلِك على الْبَعْض لجَاز على الْكل وَمن قدح فِي عرض وَاحِد مِنْهُم ألزم الْقدح فِي الْكل

وَقد أَجمعُوا على أَن من قَالَ فِي زر نَبِي إِنَّه وسخ يُرِيد بذلك تنقيصه أَنه يقتل وَلَا يُسْتَتَاب احْتِيَاطًا على أعراضهم السّنيَّة أَن لَا يلْحقهَا نقص فَإِنَّهُم فِي النزاهة والعصمة كأسنان الْمشْط لَا يفرق بَين أحد من رسله

وَكَيف وَقد قَالَ تَعَالَى لسيدهم وَرَئِيسهمْ

{أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده} يَعْنِي بمكارم أَخْلَاقهم وَجَمِيل أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم

وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرُسُله وَلم يفرقُوا بَين أحد مِنْهُم أُولَئِكَ سَوف يُؤْتِيهم أُجُورهم}

وَهَذَا هُوَ الْحق الَّذِي يرغب فِيهِ وَلَا يرغب عَنهُ

فإياك أَيهَا الْمُقَلّد الغر أَن تسمع من كل ناعق غبي يدْخل الميدان حاسرا حَتَّى تَأتيه كل طعنة سلكى نجلاء فَهُوَ لَا يعرف مَا ألزمهُ تَعَالَى من دينه وَلَا مَا تخلصه فِي معتقده ومعاملته عِنْد الله تَعَالَى فيتكلم فِي تفاصيل أَحْوَال الْمُرْسلين ورؤساء المقربين وَهُوَ لَا يعرف النُّبُوَّة وَلَا شُرُوطهَا وَلَا مَا يجب لَهَا

(1/136)

ويستحيل عَلَيْهَا وَقد جَاءَ فِي الصَّحِيح عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (الرُّؤْيَا الصَّالِحَة من الرجل الصَّالح جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من النُّبُوَّة) وَجَاء فِي خبر آخر (من سبعين جُزْءا فليت شعري إِذا لم يكن للْعُلَمَاء الْقيام بِعلم سَبْعَة من هَذِه السّبْعين فَمَا ظَنك بالجاهل الغبي الَّذِي غَايَته تَقْلِيد أمه فِي الشَّهَادَتَيْنِ فَهُوَ من الضفادع والديدان فِي ضحضاح الْغِيطَان وَيُرِيد أَن ينْهض إِلَى مظان العقبان فِي شماريخ ثهلان

(1/137)

فصل

الْكَلَام فِي إخْوَة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام هَل كَانُوا أَنْبيَاء

فَإِن قَالَ قَائِل فَإِذا نزهتم الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام مثل هَذَا التَّنْزِيه فَمَا قَوْلكُم فِي إخْوَة يُوسُف عَلَيْهِم السَّلَام وَقد قَالَ بعض من يؤبه لَهُ من الْمُفَسّرين والمؤرخين الْقَائِلين بِغَيْر دَلِيل بِأَنَّهُم كَانُوا أَنْبيَاء

فَالْجَوَاب أَن إخْوَة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام عِنْدَمَا واقعوا مَا واقعوه مَعَ أخيهم وأبيهم لم يَكُونُوا أَنْبيَاء وأمناء الله وَرُسُله وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن الْكتاب الْعَزِيز جَاءَ بِأَنَّهُم واقعوا كَبَائِر وصغائر وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على أَن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام معصومون من الْكَبَائِر وَاخْتلفُوا فِي الصَّغَائِر وَقد أَقَمْنَا الدَّلِيل على عصمتهم من الصَّغَائِر بِمَا فِيهِ مقنع فِيمَا تقدم

فَأَما جملَة مَا ارتكبوه مِنْهَا فَفِي عشْرين آيَة من قَوْله تَعَالَى مخبرا عَن أَبِيهِم أَنه قَالَ ليوسف عَلَيْهِ السَّلَام {لَا تقصص رُؤْيَاك على إخْوَتك فيكيدوا لَك كيدا} إِلَى قَوْله تَعَالَى مخبرا عَن نَفسه {وَمَا كنت لديهم إِذْ أَجمعُوا أَمرهم وهم يمكرون} فتتبع الْآي تَجِد الْعدَد الْمَذْكُور فَمَا أحيلك على مُبْهَم وَلَا على خبر ضَعِيف الْإِسْنَاد وَمَعْلُوم أَن الله عز وَجل مَا أطلق هَذِه الْأَقْوَال وأمثالها على أنبيائه وأصفيائه فِي كتاب وَلَا سنة وَلَا أَمر بإطلاقها عَلَيْهِم وَلَا باعتقادها فيهم

(1/138)

فَأَما الْكَبَائِر الَّتِي فَعَلُوهَا وَهِي لَا تجوز على الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فخمسة

1 - ظلم الْأَخ الْمُسلم لَا سِيمَا أَخ مثل يُوسُف

2 - وعقوق الْأَب لَا سِيمَا أَب مثل يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام

3 - وَالْكذب فِي قصَّة الذِّئْب الْمُؤَدِّي إِلَى فِرَاق أخيهم من أَبِيهِم على حَدَاثَة سنه وَضعف منته وتفجع أَبِيهِم على فَقده حَتَّى ابْيَضَّتْ عَيناهُ من الْحزن

4 - وَبيعه من الْكَفَرَة بِثمن بخس على قَول وَهُوَ مُؤمن حر وأخوهم وَابْن نَبِي

5 - ووصمة أخيهم يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام بعد ثُبُوت نبوته حِين قَالُوا لَهُ {إِن يسرق فقد سرق أَخ لَهُ من قبل} فنبزوه بِالسَّرقَةِ حَتَّى ألجؤوه أَن يَقُول لَهُم {أَنْتُم شَرّ مَكَانا}

أَو هَذِه رَحِمك الله أَخْلَاق الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أَو يسوغ أَيْضا أَن يكذب النَّبِي عشرَة أَنْبيَاء حَتَّى يَقُول لَهُم أبوهم النَّبِي بَعْدَمَا جاؤوه عشَاء يَبْكُونَ وَقَالُوا إِن يُوسُف أكله الذِّئْب {بل سَوَّلت لكم أَنفسكُم أمرا فَصَبر جميل وَالله الْمُسْتَعَان على مَا تصفون} وَهَذَا هُوَ فحوى التَّكْذِيب

فَهَذِهِ خمس كَبَائِر أَرْبَعَة مِنْهَا فَعَلُوهَا على الْقطع وَالْخَامِسَة الَّتِي هِيَ بيع الْحر مُخْتَلف فِيهَا فَإِن الله تَعَالَى يَقُول {شروه} فَيحْتَمل أَن تعود

(1/139)

الْهَاء عَلَيْهِم أَو على السيارة وَهُوَ الْأَظْهر

وَأما الصَّغَائِر فَخمس عشرَة على أَن كل ذَنْب عصي الله تَعَالَى بِهِ فَهُوَ كَبِيرَة لَكِن يتَأَكَّد الْوَعيد على بَعْضهَا بِمَا ورد من الظَّوَاهِر فيتصور فِيهَا الصغر وَالْكبر كَمَا تقدم

فَمن قَالَ إِنَّهُم كَانُوا أَنْبيَاء عِنْدَمَا واقعوا هَذِه الْكَبَائِر فَيلْزم أَن يجوز وُقُوعهَا على من سواهُم من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لتساويهم فِيمَا يجب لَهُم من الْعِصْمَة كَمَا سبق والجائز كالواقع مَعَ خرق الْإِجْمَاع الْوَاجِب الِاتِّبَاع فِي عصمتهم من الْكَبَائِر وَالْعِيَاذ بِاللَّه من شُؤْم الْجَهْل وَأَهله

فَإِن قيل وَلَعَلَّ هَذِه الْأَفْعَال كَانَت فِي شريعتهم غير كَبَائِر قُلْنَا إِنَّمَا وَقع الْإِجْمَاع على أَن كَبَائِر شريعتنا لَا تجوز عَلَيْهِم

والخمسة الَّتِي أخبر تَعَالَى عَنْهُم بهَا كَبَائِر فِي شريعتنا وَأما شرائعهم فَمَا نعلم كبائرها من صغائرها وَلَا كلفنا ذَلِك

فصل

ثمَّ يطْلب هَذَا الْغمر البليد بِثُبُوت نبوتهم من أَيْن علمهَا إِن النُّبُوَّة لَا تثبت بالعقول وَلَا بِخَبَر الْوَاحِد الَّذِي لَا يحصل بِهِ الْعلم وَلَا يثبت أَيْضا بِقَرِينَة الْحَال وَلَا تحميل الْأَعْمَال كَمَا زعمت الْمُعْتَزلَة وغلاة الباطنية الْقَائِلين باكتساب النُّبُوَّة فَإِن غير النَّبِي من الْأَوْلِيَاء قد يَصح مِنْهُ ذَلِك وَقد يصدر من أهل الرِّيَاء من الْأَعْمَال والقرائن مثل ذَلِك

(1/140)

فَإِن قيل فَإِذا لم تصح النُّبُوَّة من هَذِه الْوُجُوه فَمن أَيْن تصح

قُلْنَا تصح من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يَأْتِي النَّبِي فِي زمَان تصح فِيهِ النُّبُوَّة فيدعي النُّبُوَّة ويتحدى النَّاس بالمعجزة فيفعلها الله لَهُ على وفْق دَعْوَاهُ

أَو ينص على نبوته نَبِي آخر نصا متواترا لَا يحْتَمل التَّأْوِيل كَمَا نَص الله تَعَالَى فِي مُحكم كِتَابه على السِّتَّة وَالْعِشْرين الَّذين أَوَّلهمْ آدم وَآخرهمْ مُحَمَّد عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فَهَؤُلَاءِ هم الْأَنْبِيَاء الَّذين من أنكر نبوة وَاحِد مِنْهُم أَو قدح فِيهَا قدحا يخل بِشَرْط من شُرُوط نبوتهم فَهُوَ كَافِر حَلَال الدَّم وَالْمَال مخلد فِي نَار جَهَنَّم بِالْإِجْمَاع الْمُتَوَاتر فَهَؤُلَاءِ هم الْأَنْبِيَاء حَقًا وَمن أثبت نبوة غَيرهم على التَّعْيِين فَعَلَيهِ الدَّلِيل مَعَ أَنا نعلم أَن ثمَّ أَنْبيَاء لله أخر جَاءَ بهم الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى {مِنْهُم من قَصَصنَا عَلَيْك وَمِنْهُم من لم نَقْصُصْ عَلَيْك} لَكِن لم يَقع التَّنْصِيص فِي الْكتاب إِلَّا على نبوة عدد من ذَكرْنَاهُ فَأَما من ذكر مِنْهُم فِي أَخْبَار الْآحَاد فمظنون

فصل

فَإِن قيل وَلَعَلَّ نبوتهم تثبت من الْكتاب فِي قَوْله تَعَالَى حِين عدد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام قَالَ {وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط}

والأسباط إخْوَة يُوسُف واحدهم سبط

قُلْنَا لَيْسَ كَمَا قلت فَإِن الأسباط فِي بني يَعْقُوب كالقبائل فِي بني

(1/141)

إِسْمَاعِيل واحدهم سبط وهم اثْنَا عشر سبطا لاثني عشر ولدا ليعقوب عَلَيْهِم السَّلَام وَإِنَّمَا سموا هَؤُلَاءِ أسباطا وَهَؤُلَاء قبائل ليفصل بَين ولد إِسْمَاعِيل وَولد يَعْقُوب تَسْمِيَة هَكَذَا نَص عَلَيْهِ أهل اللُّغَة

فَإِن قَالَ قَائِل فَمَا معنى دُخُولهمْ فِي الْعدَد مَعَ الْأَنْبِيَاء وَلَيْسوا بِأَنْبِيَاء

وَالْجَوَاب أَن الْقُرْآن مَقْصُود بالإيجاز الَّذِي هُوَ مخ البلاغة وَكَانَت النُّبُوَّة تترى فِي بني إِسْرَائِيل وَكَانَ أثلهم من أَوْلَاد يَعْقُوب وَهُوَ إِسْرَائِيل فَلَمَّا عدد الله تَعَالَى من كَانَ قبل من الْأَنْبِيَاء على التَّفْصِيل أوجز فَقَالَ والأسباط يَعْنِي أَنْبيَاء الأسباط على حذف الْمُضَاف وَإِقَامَة الْمُضَاف إِلَيْهِ مقَامه ثمَّ خصص بعد ذَلِك عظماءهم بِالذكر فَقَالَ {وَعِيسَى وَأَيوب وَيُونُس وَهَارُون وَسليمَان وآتينا دَاوُد زبورا} فَبَدَأَ بالتفصيل وَختم بالتفصيل فتضمن الطرفان الْوَاسِطَة وَصَحَّ التشريف لمن خصص بِالذكر فِي الْآحَاد

وَهَذَا التَّخْصِيص ينظر لقَوْله تَعَالَى {من كَانَ عدوا لله وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل وميكال} وهما من الْمَلَائِكَة وَقَالَ تَعَالَى {فيهمَا فَاكِهَة ونخل ورمان} وهما من الْفَاكِهَة

وَكَذَلِكَ ذكر مُعظم الْأَصْنَاف الَّتِي كَانَت النُّبُوَّة تترى فيهم ثمَّ خصص عظماءهم بِالذكر تَشْرِيفًا لَهُم صلوَات الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ ومصداق هَذَا التَّفْسِير أَن ذكر الأسباط انما وضع تَسْمِيَة عوضا من الْقَبَائِل كَمَا تقدم فَلَو كَانُوا كلهم أَنْبيَاء كَمَا زعم الجهلة لَكَانَ كل من انتسل من

(1/142)

بني يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام نَبيا وَقد قَالَ تَعَالَى (وقطعناهم فِي الأَرْض أمما مِنْهُم الصالحون وَمِنْهُم دون ذَلِك) وَقَالَ تَعَالَى {وَمن ذريتهما محسن وظالم لنَفسِهِ مُبين} وَقَالَ {وقطعناهم اثْنَتَيْ عشرَة أسباطا أمما} فسماهم أسباطا وأمما وَلم يسمهم أَوْلَادًا وَلَا أَبنَاء

فَإِن قيل فقد جَاءَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (الْحُسَيْن سبط من الأسباط) فَمَعْنَاه أَنه يقوم فِي الْعِبَادَة وَالْقِيَام بِحَق الله تَعَالَى مقَام سبط كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أمة قَانِتًا لله} وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قس (إِنِّي لأرجو أَن يحْشر أمة وَحده) هَكَذَا حَكَاهُ الْهَرَوِيّ فِي كتاب الغربيين

فَإِن قيل ولعلهم سموا أسباطا وهم أَوْلَاد تجوزا واتساعا كَمَا سمى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحُسَيْن سبطا حَيْثُ قَالَ (الْحُسَيْن سبط من الأسباط) وَهُوَ ولد

قُلْنَا هَذَا التَّجَوُّز إِنَّمَا صَحَّ فِي الْحُسَيْن رَضِي الله عَنهُ لسبق الْمعرفَة ببنوته من وَجه آخر فَلَو أخبر تَعَالَى أَن يهوذا سبط من الأسباط ثمَّ عدده فِي جملَة الْأَنْبِيَاء بِلَفْظ السبط لصحت نبوته وَهَذَا لم يَقع فَلَا حجَّة للخصم فِي هَذِه القولة وَلَو صَحَّ لما صحت نبوته إِلَّا بعد التَّوْبَة والإنابة وَاشْتِرَاط الْعِصْمَة فِي حَال الوهلات كَمَا زعم الْخصم

(1/143)

وَأما غير هَؤُلَاءِ من أهل النّظر فتوهموا نبوتهم من قَوْله تَعَالَى مخبرا عَن يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام حَيْثُ قَالَ {وَيتم نعْمَته عَلَيْك وعَلى آل يَعْقُوب كَمَا أتمهَا على أَبَوَيْك من قبل إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق}

وَهُوَ لم يمت إِلَى قريب فِي اللِّسَان لِأَن الْآل أقرب فِي اللِّسَان للبنوة من الأسباط لَكِن الْآل تحْتَمل الْبَنِينَ وتحتمل التبع قَالَ تَعَالَى {أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب} أَي تبعه وَفِي السّنة (اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى آله وأزواجه وَذريته) فَذكر الْآل ثمَّ ذكر الذُّرِّيَّة فَلَو كَانَ الْآل من الذُّرِّيَّة لم يَصح الْعَطف

فَإِن قيل وَلَعَلَّ ذكر الذُّرِّيَّة بعد ذكر الْآل تَخْصِيص التشريف كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل}

قُلْنَا إِذا بقيت لَعَلَّ فقد تطرق الِاحْتِمَال واطرد الْإِشْكَال والنبوة لَا تثبت بِالِاحْتِمَالِ وَيحْتَمل أَن يكون التَّمام على الْآل بِمَا دون النُّبُوَّة من الْولَايَة والصدقية وَإِذا دخلت هَذِه الِاحْتِمَالَات لم يَصح الْقطع على نبوتهم فِي هَذِه الْآيَة وَمَعَ تَسْلِيم هَذِه التقديرات جدلا فَلَا تصح نبوتهم عِنْد مواقعة الْأَفْعَال الَّتِي ذكر تَعَالَى عَنْهُم أصلا فَإِنَّهُ كَانَ يُؤَدِّي إِلَى أَن يجوز على أَنْبيَاء الله عز وَجل كل مَا فَعَلُوهُ لصِحَّة التَّسَاوِي الَّذِي قدمْنَاهُ فَهَذَا رحمكم الله هُوَ الْحق الَّذِي يرغب فِيهِ وَلَا يرغب عَنهُ

وَبعد هَذَا التتبع فَلَا يبْقى لقَائِل مستروح إِلَى ثُبُوت بنوتهم إِلَّا من

(1/144)

هَذِه الْوُجُوه الْمُتَقَدّمَة وَهِي مظنونة وَلَا سَبِيل إِلَى الْقطع فِي وَاحِد مِنْهَا فَالله الله أَيهَا المسترشد المحتاط على دينه إِن لم تكن من أهل النّظر القويم على الصِّرَاط الْمُسْتَقيم فَمَا كل سَوْدَاء تَمْرَة وَلَا كل بَيْضَاء شحمة

واجتهد فِيمَن تَأْخُذ عَنهُ دينك وجنب الْجُهَّال مرّة وجنب وعاظنا ومريدينا فِي هَذَا الزَّمَان المنكوب المنكوس ألف ألف مرّة فَإِنَّهُم أضرّ على دينك من الأفاعي الصفر لَا سِيمَا فِي هَذَا العويلم المتهافت الدعي فِي الْإِرَادَة بالنوافج ومغالطة البله الأغمار من النِّسَاء وفحول النِّسَاء فَإِنَّهُم انتهكوا حُرْمَة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام حَتَّى تشبهوا بهم وَرُبمَا أربوا عَلَيْهِم بادعاء الإلهية بالفيض وَالْإِشْرَاق الَّذِي ادَّعَتْهُ القرامطة حَتَّى يلقى أحدهم امْرَأَة أَو غُلَاما فَيَقُول لَهُ (رَأَيْت الله فِيك) إِلَى غير ذَلِك من أُمُور هِيَ أشنع وأبشع من أَن تذكر أَو تسخم بهَا الأوراق

وَالَّذِي ورط هَؤُلَاءِ الأرجاس فِي هَذِه الرذائل عدم الزاجر وَقلة الْغيرَة فِي الدّين فَانْظُر عَمَّن تَأْخُذ دينك وَكَيف تَأْخُذهُ وَقد نَصَحْتُك وَالسَّلَام

(1/145)

وَقد نجز التَّنْبِيه على التَّنْزِيه بمعونة الله تَعَالَى

ونسأل الله الَّذِي فلق الْحبَّة وبرأ النَّسمَة أَن يعْفُو عَنَّا فِيمَا وَقع فِيهِ من الْخَطَأ والخطل بمنه ولطفه والختم بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيم على الْأَنْبِيَاء عُمُوما وعَلى نَبينَا خُصُوصا وعَلى آله وآلهم وَسلم تَسْلِيمًا

(1/146)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء

مَجْمُوع نكت من بعض مَا خص بِهِ نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

من الكرامات لَيْلَة الْإِسْرَاء والمعراج عِنْد لِقَاء الكليم عَلَيْهِ السَّلَام وَمَا كَانَ بَينهمَا من الْمُرَاجَعَة والمحاورة فِي أَمر الصَّلَاة ثمَّ ننبه بعد ذَلِك على فضل هَذِه الطَّاعَة الْعَظِيمَة وتعدد أَعمالهَا على التَّفْصِيل فروضا وسننا وأجورا لتتأكد على الْمُصَلِّين الرَّغْبَة فِي أَدَائِهَا ويزدجر التاركون لَهَا لما فاتهم من خَيرهَا وَلما يتوقعون من الْوَعيد على تَركهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى

فَإِن قَالَ قَائِل لم اخْتصَّ نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام بِخَبَر

(1/149)

الصَّلَاة وتفاوض مَعَه فِيهَا وَهُوَ فِي السَّادِسَة وَقد مر بإبراهيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي السَّابِعَة وَلم يُخبرهُ بذلك مَعَ أَنه أَب وَمَعَ قَوْله تَعَالَى {مِلَّة أبيكم إِبْرَاهِيم} فقد شَاركهُ فِي الْملَّة والأبوة فَلم أَخذ فِي الْقِصَّة مَعَ أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَلم يَأْخُذ فِيهَا مَعَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ هَذِه المرات وتصور الْمَسْأَلَة مَبْنِيّ على مَا جَاءَ من مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي السَّادِسَة وَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي السَّابِعَة وَمن صَحَّ عِنْده أَن مُوسَى فِي السَّابِعَة وَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي السَّادِسَة فَلَا غرو أَن يتفاوض مَعَ أول من لَقِي من الْأَنْبِيَاء وَإِن صَحَّ أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي السَّادِسَة وَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي السَّابِعَة كَمَا تقدم فَلَا بُد من ذكر اخْتِصَاصه مَعَه فِي الْمُفَاوضَة وَذَلِكَ يحْتَمل خَمْسَة أوجه

الأول مِنْهَا أَن يكون مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام سَأَلَهُ إِذْ مر بِهِ وَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام لم يسْأَله فَلَمَّا لم يسْأَله لم يُخبرهُ

الثَّانِي أَنه اخْتصَّ مُوسَى بالمفاوضة لِأَنَّهُ قد حنكته معالجة بني إِسْرَائِيل قبله وجربهم فَلم يفوا بِمَا كلفوا وَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام بعث بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة فَلم يقبل فِي الْإِيمَان فَلم تقع طَاعَة فَلم تتَصَوَّر تجربة وَإِن كَانَ قبله أفذاذ من النَّاس فالنادر لَا يحكم بِهِ ويعضد هَذَا التَّفْسِير قَول مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَهُ (ارْجع إِلَى رَبك فَاسْأَلْهُ أَن يُخَفف عَن أمتك فَإِنِّي قد عَالَجت بني إِسْرَائِيل قبلك) الحَدِيث فقصد عَلَيْهِ السَّلَام مُوسَى لِأَنَّهُ كَانَ مجربا

الثَّالِث أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَب ومُوسَى أَخ وَكَانَ فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى أَن يسعف مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام من وَجه وَلَا يسعفه من وَجه حَيْثُ قَالَ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام بعد فرض الْخَمْسَة (ارْجع إِلَى رَبك فَقَالَ (إِنِّي أستحيي) فيسوغ هَذَا فِي مُرَاجعَة الْأَخ وَلَا يسوغ فِي مُرَاجعَة الْأَب

الرَّابِع ان مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ لَهُ حَظّ فِي أجور هَذِه الْأمة فِي

(1/150)

قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لما أخبر بِتَضْعِيف أجور أمة أَحْمد وفضلهم على جَمِيع الْأُمَم (قَالَ رَبِّي اجْعَلنِي من أمة أَحْمد)

قَالَه يفاوضه فِي ذَلِك ليحلب حَلبًا لَهُ شطره قَالَ تَعَالَى لنبينا عَلَيْهِ السَّلَام {وَمَا كنت بِجَانِب الغربي إِذْ قضينا إِلَى مُوسَى الْأَمر وَمَا كنت من الشَّاهِدين} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ يَعْنِي إِذْ قضينا فِي فضلك وَفضل أمتك حَتَّى قَالَ مُوسَى (رب اجْعَلنِي من أمة أَحْمد)

الْخَامِس أَن يكون قَصده لمُوسَى للشُّبْهَة الَّتِي كَانَت بَينه وَبَين نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْبَعْث بِالسَّيْفِ والتنجيم فِي الْعقُوبَة وَكَانَت خُصُوصا فِي بني إِسْرَائِيل بامتداد الْأَيَّام وَكَثْرَة السامعين المطيعين لَهُ وَكَثْرَة التبع فَإِنَّهُ مَا بعد تبع نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْآخِرَة من هُوَ أَكثر من تبع مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَر ومصحح الشبهية فِي هَذِه الْوُجُوه قَوْله تَعَالَى {إِنَّا أرسلنَا إِلَيْكُم رَسُولا شَاهدا عَلَيْكُم كَمَا أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا} فاختصه بالشبهية فِي الْإِرْسَال دون غَيره

فَهَذِهِ أوجه يتَصَوَّر فِيهَا التَّخْصِيص بالانحياش والمفاوضة إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام

(1/151)

وَأما فَوَائِد فرض الصَّلَاة فِي ذَلِك الْمقَام فلنذكر مِنْهَا مَا من الله تَعَالَى بِهِ على جِهَة الِاخْتِصَار وَهِي تَنْقَسِم أَرْبَعَة أَقسَام

قسم فِي فَضلهَا على سَائِر الْعِبَادَات

وَقسم فِي فضل نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام على سَائِر الْأَنْبِيَاء وَإِظْهَار إكرامه فِي ذَلِك الْمقَام عِنْد الْمَلأ الْأَعْلَى

وَقسم فِي اهتمامه بأمته واحتياطه عَلَيْهِم فِي طلب التَّخْفِيف عَنْهُم

وَقسم فِي لطف الله تَعَالَى بهم حَيْثُ حط عَنْهُم كلفة خمس وَأَرْبَعين وَأبقى لَهُم أجر الْخمسين

فَأَما فَضلهَا على سَائِر الْعِبَادَات

أَولا لكَونهَا فرضت فِي الْمقَام الْأَسْنَى على بِسَاط الْعِزَّة بِحَضْرَة الْمَلأ الْأَعْلَى وَفِي هَذَا تنويه بِهَذِهِ الطَّاعَة وتشريف لَهَا على سَائِر الْعِبَادَات حَتَّى إِن الله تَعَالَى يسْأَل الْحفظَة فِي كل يَوْم وَلَيْلَة كَيفَ تركْتُم عبَادي فَلَا يذكرُونَ لَهُ من أَعمال الْبر فِي التّرْك والإتيان سوى الصَّلَاة وَذَلِكَ لما سبق لَهَا من الْعلم بفضلها وتعظيمها حِين فرضت فِي ذَلِك الْمقَام

وَأما من جِهَة التَّعْلِيل فَإِنَّهَا عبَادَة تَشْمَل الْجَسَد ظَاهرا وَبَاطنا وَتجمع عبادات الْمَلَائِكَة كَمَا شهد الْخَبَر أَن مِنْهُم قواما وَمِنْهُم ركع وَمِنْهُم سجد وَمِنْهُم ذاكرون مسبحون حامدون فَهَذِهِ الْأَحْوَال كلهَا قد جمعتها الصَّلَاة

(1/152)

حَتَّى لَا يفوت ابْن آدم عمل من أَعمال الْمَلَائِكَة مَعَ مَا جَاءَ فِي الْأَخْبَار من الحض عَلَيْهَا وتعظيم الْوَعْد والوعيد على فعلهَا وَتركهَا فِي كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله

وَأَيْضًا فَإِن فروض الصَّلَاة أَكثر من سَائِر الْأَعْمَال كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى عِنْد تعداد فروضها وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام (إِن الله يَقُول مَا تقرب إِلَيّ عَبدِي بِمثل أَدَاء مَا افترضت عَلَيْهِ) فَمَا كَانَت الطَّاعَة أَكثر فروضا كَانَت أفضل

وَأما ظُهُور نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام وتقدمه فِي ذَلِك الْمحل فَلَا تحويه الرقوم وَلَا تحيط بِهِ ثاقبات الفهوم لَكنا نقتصر مِنْهُ على بعض مَا تضمنه إكرام الله تَعَالَى لَهُ فِي امْر الصَّلَاة وَالله الْمُسْتَعَان وَهُوَ يَنْقَسِم أَرْبَعَة عشر قسما

أَحدهَا أَنه كَانَ وافدا على الله تَعَالَى وضيف الْكَرِيم كريم فأتحفه بِهَذِهِ التُّحْفَة الَّتِي هِيَ أم الطَّاعَات وَرَأس الْمُعَامَلَات كَمَا تقدم

الثَّانِي أَن فَرضهَا خمسين وَفِي معلومه تَعَالَى نسخ تِسْعَة أعشارها ليظْهر جاهه عِنْد الْمَلأ الْأَعْلَى فِي السُّؤَال والإجابة فَلَو فرض الْخَمْسَة فِي أول وهلة لم يظْهر ذَلِك الجاه كَمَا لَو قدرت كَرِيمًا وَفد على ملك عَظِيم فَأحْسن لَهُ كَمَا يَنْبَغِي لسعة مَمْلَكَته ثمَّ أمره أَن يلْزم قومه خمسين وَظِيفَة ثمَّ قبل شَفَاعَته فِي أَكْثَرهَا أَتَرَى كَانَ يخفى على وزراء ذَلِك الْملك وحاشيته مَكَان هَذَا الْوَافِد عَلَيْهِ الثَّالِث أَنه لم يحطهَا عَنهُ جملَة بل نجمها عَلَيْهِ تسع مَرَّات وَذَلِكَ ليؤكد

(1/153)

إكرامه عِنْد الْمَلَائِكَة حَتَّى يعلمُوا بَسطه لَهُ وباينه فِي تكْرَار الْإِسْعَاف مَعَ تكْرَار السُّؤَال

الرَّابِع أَنه لم يحظه فِي هَذَا التّكْرَار إِلَّا بعد أَن فَارق الْبسَاط وَانْصَرف ثمَّ رَجَعَ وَذَلِكَ زِيَادَة فِي الْإِكْرَام وَذَلِكَ أَن الْوُفُود إِذا فَارَقت بِسَاط الْمُلُوك بعد قَضَاء الْحَوَائِج لَا يَنْبَغِي لَهَا أَن ترجع فِي طلب حوائج أخر فلئن رَجَعَ وَافد مِنْهُم فِي طلب حَاجَة أُخْرَى فَهُوَ أدل دَلِيل على تَأْكِيد كَرَامَة هَذَا الرَّاجِح فِي طلب الْحَاجة الْأُخْرَى فأعجب بهَا كَرَامَة إِذْ رَجَعَ تسع مَرَّات فأسعفه الْملك فِي كلهَا وأعجب من ذَلِك أَنه تَعَالَى لم يسعفه تسع مَرَّات إِلَّا فِي جنس وَاحِد وَأَنه قد تصلح الْمُرَاجَعَة فِي المختلفات فَأكْرم بهَا إِذْ كَانَت فِي الْجِنْس الْوَاحِد

الْخَامِس أَنه تَعَالَى لما علم أَنه لَا يسعفه فِي حط شَيْء من الْخَمْسَة ألْقى عَلَيْهِ الْحيَاء فَقَالَ لَهُ مُوسَى ارْجع إِلَى رَبك فَقَالَ إِنِّي أستحيي فَلَو رَجَعَ وَلم يسعفه لانخرم نظام الجاه فبمَا قدمْنَاهُ من الْكَرَامَة وَفِي ذكره الْحيَاء أَيْضا لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أدب مَعَه ليعلمه أَن الرَّأْي مَا رَآهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَوْلَا أَنه مَنعه الْحيَاء

نور الله صدورنا وعقولنا وأعاننا على تَعْظِيم الأكابر وإبراز بعض مناقبهم السّنيَّة

السَّادِس وَهُوَ أَن حط عَنهُ وَعَن أمته مُعظم الكلفة وَأبقى لَهُم أجر الْعدَد كَمَا سبق حِين قَالَ (هِيَ خمس وَهِي خَمْسُونَ مَا يُبدل القَوْل لدي) يَعْنِي خمْسا فِي الْعدَد وَخمسين فِي الأجور

السَّابِع أَنه بشره أَن سَائِر أَعمال الْبر الْمَفْرُوض والمنذور تجْرِي على حكم الصَّلَاة وتضعيف الأجور من قَوْله (وَمن هم بحسنة فعملها كتبت عشرا)

(1/154)

الثَّامِن بشره أَنه يُضَاعِفهَا إِلَى سبع مئة وَيزِيد

التَّاسِع أَنه بشره أَن من هم بحسنة وَلم يعملها كتبت حَسَنَة وَاحِدَة

الْعَاشِر أَنه بشره أَن من هم بسيئة وعملها كتبت سَيِّئَة وَاحِدَة

الحادى عشر أَنه بشره أَن من هم بسيئة وَلم يعملها لم تكْتب شَيْئا

الثَّانِي عشر وَهُوَ مَا اخْتصَّ بِهِ من السرعة فِي قطع الْمسَافَة فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَذَلِكَ أَنه أسرِي بِهِ من الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى ثمَّ صعد بِهِ إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهى ثمَّ رَجَعَ إِلَى السَّمَاء السَّادِسَة وَعَاد إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهى فِي مُنَاجَاة الكليم عَلَيْهِ السَّلَام تسع مَرَّات ثمَّ إِلَى منزله الَّذِي خرج مِنْهُ أول اللَّيْل قبل الْفجْر وَهَذِه المسافات كَيفَ مَا قدرت أبعادها فَهُوَ أَمر لَا يحد وَسُرْعَة حركات لَا تتخيل لَا سِيمَا مَعَ شَهَادَة الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة أَن الْجُزْء إِنَّمَا يقطع بالحركات جُزْءا بعد جُزْء بحركة بعد حَرَكَة وَأَن الطفرة محَال

وَأما مَا ظهر من فضل أمته فَمن أَجله وبسببه وَحسن وساطته فَلَا نحتاج أَن نرخي عنان القَوْل فِيهِ فَثَبت بِهَذَا أَن سرعَة الحركات وبطأها إِنَّمَا ترجع لِكَثْرَة اللّّبْث فِي الأحيان لَا لنَفس الحركات فَإِن الْحَرَكَة إِنَّمَا يقطع بهَا جُزْء بعد جُزْء بِشَهَادَة الْعقل

الثَّالِث عشر وَذَلِكَ أَنه احتاط على أمته وَسَأَلَ عِنْد الْمُنَاجَاة الرِّفْق بهم وَالتَّخْفِيف عَنْهُم وَاخْتَارَ قَضَاء حوائجهم وَلم يخْتَر لنَفسِهِ وَلَا سَأَلَ لَهَا وَهَذِه غَايَة الْفضل الَّذِي لَا يُبَارى فِيهِ فَإِن الْوَافِد على الْمُلُوك إِنَّمَا يقدم سُؤال حَاجته وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَام قدم سُؤال حَاجَة رَعيته وَلم يسْأَل لنَفسِهِ وَينظر لذَلِك مَا جَاءَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (لكل نَبِي دَعْوَة واختبأت دَعْوَتِي شَفَاعَة لأمتي يَوْم الْقِيَامَة)

(1/155)

ويروى (ادخرت دَعْوَتِي شَفَاعَتِي لأمتي يَوْم الْقِيَامَة)

فصح فضل أمته بِسَبَبِهِ فَإِنَّهُ ذكرهم ونوه بهم وَاخْتَارَ لَهُم وألح فِي السُّؤَال على الله تَعَالَى حَتَّى قضيت حوائجهم فَأَي منَّة لنَبِيّ كمنته علينا فَصَارَ فَضلهمْ تبعا لفضله وكرامتهم تبعا لكرامته فجزاه الله عَنَّا خير مَا جزى نَبيا عَن أمته

وَمَعَ مَا قدمنَا من الْفَوَائِد وَهِي الرَّابِعَة عشرَة ثَلَاث فَوَائِد عَظِيمَة الْموقع فِي مسَائِل الِاعْتِقَاد عقلا وَشرعا وَقد كثر فِيهَا مُكَابَرَة أهل الْبدع ومثابرتهم

الأولى إِثْبَات جَوَاز الْأَمر من الله تَعَالَى بِمَا لَا يُرِيد وُقُوعه فَإِنَّهُ تَعَالَى أَمر بالخمسين وَلم يرد وُقُوعهَا من الْمُكَلّفين

الثَّانِيَة وَهِي بطلَان ادعائهم اسْتِحَالَة الْأَمر من الْآمِر بِمَا لَا يُرِيد وُقُوعه وَفِي هَذِه الْقِصَّة إِثْبَات مَا أحالوه

الثَّالِثَة وَهِي جَوَاز نسخ الحكم قبل وُقُوع الْعَمَل بِهِ فَإِنَّهُم يأبون ذَلِك فصح أَنه أَمر بالخمسين وَنسخ مِنْهَا خَمْسَة وَأَرْبَعين فَإِن قَالُوا إِنَّه وَقع بعضه وَهُوَ اكْتِسَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعلم بهَا والإرادة لفعلها وَكِلَاهُمَا عبَادَة فَالْجَوَاب عَنهُ أَن الْمَأْمُور بهَا إِنَّمَا هِيَ الصَّلَوَات المنسوخة الَّتِي هِيَ حركات وأصوات ونيات وعزم يَتَجَدَّد عِنْد افتتاحها وَهَذِه هِيَ الصَّلَاة الْمَعْلُومَة فِي الشَّرْع وَلَا تسمى النِّيَّة وَالْعلم صَلَاة على الِانْفِرَاد

فَهَذَا رَحِمك الله بعض مَا تيَسّر من التفقه فِي بعض حَدِيث الْإِسْرَاء فَإِن من الله تَعَالَى وساعدت الْحَيَاة فَعَسَى نتدبر سَائِر الحَدِيث بِمَا يفتح الله وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل

(1/156)

فصل

وَهَا أَنا أنبه بعد هَذَا على مَا شرطناه فِي تَقْدِيم هَذِه الطَّاعَة الْعُظْمَى على سَائِر الْمُعَامَلَات وتعداد أَعمالهَا على التَّفْصِيل ظَاهرا وَبَاطنا فروضا وسننا وأجورا

فَأَما التَّنْبِيه على فَضلهَا وَالتَّرْغِيب فِيهَا لما جمعت من إعداد الطَّاعَات وتضعيف الأجور عَلَيْهَا وتحريض الْمُكَلف على آدابها فَاعْلَم رَحِمك الله أَن جَمِيع أَعمال الطَّاعَات سوى الْإِيمَان الْمُصَحح لَهَا على ضَرْبَيْنِ ظَاهر وباطن

فَالظَّاهِر على ضَرْبَيْنِ أصوات وأكوان

وَالْبَاطِن على ضَرْبَيْنِ عُلُوم ونيات

وَالْقُدْرَة الْحَادِثَة تتَعَلَّق بِجَمِيعِ هَذِه الكائنات ثمَّ جَمِيعهَا تَنْقَسِم فِي الشَّرْع قسمَيْنِ فروض ومندوبات وَكلهَا عبادات ومعاملات لَكِن الْمَفْرُوض مِنْهُمَا أرفع دَرَجَات وأمت للقربات كَمَا جَاءَ عَن سيد السادات صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل الصَّلَوَات حَيْثُ قَالَ (إِن الله تَعَالَى يَقُول مَا تقرب إِلَيّ عَبدِي بِمثل أَدَاء المفترضات)

فصل

لَكِن إِذا نظرت إِلَى هَذِه الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة وجدت أعداد فروضها وسننها يشف على سَائِر أعداد الْأَعْمَال الْمَشْرُوعَة فَإِذا عددت صَلَاة شهر وَجدتهَا زَادَت على طاعات الْعُمر فروضا وسننا فَأول الْفُرُوض ظَاهرا

(1/157)

من سواهَا كلمة الْإِخْلَاص وفرضها مرّة فِي الْعُمر وَمَا سوى ذَلِك فمندوب إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْحَج من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا

وَأما فرض الزَّكَاة فَمرَّة فِي السّنة لمن وَجَبت عَلَيْهِ

وَأما فرض الصَّوْم فشهر فِي كل سنة

وَأما فرض الْجِهَاد فَإِذا دهمك الْعَدو أَو أَمرك إِمَام الْوَقْت وَهَاتَانِ الحالتان قد تقع وَلَا تقع

وَأما التَّوْبَة فَتجب على من أذْنب وَهِي غير مُعينَة الْعدَد

فَصَارَ على هَذَا مُعظم الْعدَد فِي المفروضات دون عدد فروض الصَّلَوَات الْمَكْتُوبَة

وَأما الصَّوْم فَإِذا عددت عمر سبعين سنة الَّذِي هُوَ رَأس المعترك تَجِد صومك فِيهَا خَمْسَة وَخمسين شهرا بعد إِخْرَاج سني الطفولية الَّتِي هِيَ خمس عشرَة سنة

وَإِن قابلت عدد الصَّلَوَات بأعداد أَيَّام الصَّوْم فِي الْعُمر قوبلت بعده فرض صَلَاة يَوْم وَلَيْلَة وَكَذَلِكَ أعداد الزَّكَاة على مَا تقدم

فَصَارَت كلمة الْإِخْلَاص وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج مئة فرض واثني عشر فرضا فقد فضلت أعداد فروض الصَّلَوَات الْخمس فِي الشَّهْر سَائِر أعداد المفترضات فِي الْعُمر بِثمَانِيَة وَثَلَاثِينَ فرضا وَهِي ربع الْعدَد الْمُتَقَدّم جملَة بجملة

(1/158)

فصل

وَأما التَّفْصِيل فأضعاف لَا يكَاد يحصرها الْعدَد ظَاهرا وَبَاطنا على حسب مَا تقدّمت الْقِسْمَة فَأَما ظَاهر اللَّفْظ الْمَفْرُوض فَهُوَ ثَلَاث أم الْقُرْآن وَتَكْبِيرَة الْإِحْرَام وَالسَّلَام على مَا صَحَّ فِي الْمَذْهَب من غير خلاف من خَالف فِي بَعْضهَا على أَن من خَالف فِي بَعْضهَا لم يخْتَلف فِي كَونهَا طَاعَة وغرضنا إِنَّمَا هُوَ تَكْثِير الطَّاعَات وتضعيف الأجور عَلَيْهَا

فَأَما عدد حُرُوف أم الْقُرْآن بالمضاعفة الْمُشَدّدَة مِنْهَا وحروف الْمَدّ واللين فمئة حرف وَأحد وَعِشْرُونَ حرفا اضربها فِي سَبْعَة عشر الَّتِي هِيَ عدد رَكْعَات الْيَوْم وَاللَّيْلَة صَار مِنْهَا ألفا حرف وَسَبْعَة وَخَمْسُونَ حرفا فأضف لَهَا عدد حُرُوف تَكْبِيرَة الْإِحْرَام وَالسَّلَام الَّذين هما أحد وَعِشْرُونَ بحرفين مشددين وحرفين ممدودين صَار الْكل أَلفَيْنِ ومئة واثنين وَسِتِّينَ حرفا فأضف لَهَا الْأَفْعَال الْمَفْرُوضَة الَّتِي هِيَ مئة فعل وَتِسْعَة عشر فعلا صَار الْعدَد ألفي فرض ومئتي فرض وأحدا وَثَمَانِينَ فرضا ضف لَهَا

(1/159)

فرض التَّوَجُّه إِلَى الْقبْلَة قيَاما وقعودا سبعين مرّة صَارَت أَلفَيْنِ وَثَلَاث مئة وأحدا وَخمسين فرضا فَإِذا صَحَّ هَذَا الْعدَد ضف لَهُ ضعفيه من النيات عِنْد فعلهَا والعلوم بهَا إِذْ لَا يَصح عمل مِنْهَا إِلَّا بنية وَعلم صَار مِنْهَا سَبْعَة آلَاف فرض وَثَلَاث مئة وَخَمْسُونَ فرضا ضف لَهَا ضعفها فِي السنين أقوالا وأفعالا ونيات وعلوما صَارَت أَرْبَعَة عشر ألف طَاعَة وَسبع مئة طَاعَة تتضمنها الصَّلَوَات الْخمس فِي كل يَوْم وَلَيْلَة

على أَن السّنَن أَكثر عددا لَكِن قصدنا الِاخْتِصَار بالحذف وليتقابل التَّضْعِيف فيسهل الْعدَد ضاعفها بِعشْرَة أَمْثَالهَا من الأجور عَلَيْهَا إِذْ قد صَحَّ وَثَبت أَن الْحَسَنَة بِعشْرَة أَمْثَالهَا صَارَت مئة ألف حَسَنَة وَسبعا وَأَرْبَعين ألف حَسَنَة ثمَّ إِن هَذَا الْعدَد الَّذِي نبهك الله عَلَيْهِ فِي التَّضْعِيف إِنَّمَا هُوَ أس شَرْعِي فِي عدد الأجور بِمَثَابَة الْوَاحِد فِي الْعدَد فأخبرك الله تَعَالَى أَنه جعل اقل الأجور فِي التَّضْعِيف عشرَة ثمَّ زَاد إِلَى سبع مئة ثمَّ زَاد إِلَى أَن يُوفى الصَّابِرُونَ أُجُورهم بِغَيْر حِسَاب يَعْنِي عِنْدهم لكَوْنهم لَا يُطِيقُونَ حصره فَإِن كل مَا خلق الله تَعَالَى يجب أَن يكون عِنْده معددا محاطا بِهِ على التَّفْصِيل كَمَا قَالَ تَعَالَى وأحصى كل شَيْء عددا

فصل

وَلما استغرق الْعدَد فِي أَمر الصَّلَاة سَائِر الطَّاعَات لم نتعرض لعدد طاعات الطَّهَارَة لحُصُول الْمَقْصُود فِي الْكَثْرَة على أَن هَذَا الْعدَد على كثرته إِنَّمَا هُوَ فِيمَا هُوَ فِي وسع الْبشر وَأما مَا هُوَ فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى من

(1/160)

عدد الحركات والأصوات والعلوم والنيات وانتقال أَجزَاء جسم الْمُصَلِّي فِي الأحياز والجهات بجملة هَذِه الْأَعْرَاض الَّتِي لَا يَصح بَقَاؤُهَا فَهُوَ عدد ينْفَرد الْبَارِي تَعَالَى بِهِ دون الْخلق وكل وَاحِد مِنْهَا عمل فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى معدد خلقه فِي الْمُكَلف وأضافه إِلَيْهِ عملا وكسبا فَقَالَ تَعَالَى {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا يظْلمُونَ فتيلا} {وَلَا يظْلمُونَ نقيرا} أَي لَا ينقصُونَ وَلَا يبخسون وَقَالَ تَعَالَى وَمَا ألتناهم من عَمَلهم من شَيْء وَقَالَ {لَا يُغَادر صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة إِلَّا أحصاها} وَقَالَ تَعَالَى وكل شَيْء فَعَلُوهُ فِي الزبر وكل صَغِير وكبير مستطر ومجموع هَذِه الْآي تدل على ان كل عرض عمل بِرَأْسِهِ يَقع الْجَزَاء عَلَيْهِ تَفْصِيلًا فَلَا يظنّ أَن السَّجْدَة مثلا عمل وَاحِد لَهُ عشر من الأجور بل كل عرض فَرد فِي كل جُزْء فَرد من الْإِنْسَان عمل بِرَأْسِهِ لَهُ عشر حَسَنَات تفضل بهَا علينا أكْرم الأكرمين ثمَّ إِذا كَانَ هَذَا التَّضْعِيف يَصح للفذ فَمَا ظَنك بِهِ فِي حق الْمُصَلِّي فِي الْجَمَاعَة وَأما من صلى فِي الْحرم فقد غمض الْجَلِيّ وأتى الْوَادي فطم على القري فَهَذَا هَذَا وَلَا يهْلك على الله إِلَّا هَالك

فصل

فَإِذا كَانَ هَذَا التَّضْعِيف الْعَظِيم من أعداد الأجور يَصح للْمُصَلِّي فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة فَمَا ظَنك بِصَلَاة شهر وأينك من صَلَاة سنة وَمَا أَدْرَاك من

(1/161)

صَلَاة الْعُمر فنسأل الَّذِي فلق الْحبَّة وبرأ النَّسمَة وَمن على عباده المغرقين فِي الذُّنُوب بفرضها لتكفير سيئاتهم وعَلى الموفقين لرفع درجاتهم أَن يتم نعْمَته علينا بِصِحَّة أَدَائِهَا والاصطبار عَلَيْهَا بمنه وَطوله

فصل

فَتَأمل رَحِمك الله إِلَى هَذِه الْعِبَادَة وَمَا حوت من أَسبَاب السَّلامَة وَتَحْصِيل الدَّرَجَات والفوز بالمثوبات حَتَّى يتفطن لمؤكدات الْكتاب وَالسّنة فِي الحض عَلَيْهَا وَالِاعْتِبَار بهَا فِي غير مَا آيَة وَخبر

أما الْآيَات فكقوله تَعَالَى {إِن الصَّلَاة كَانَت على الْمُؤمنِينَ كتابا موقوتا}

وَقَوله تَعَالَى {حَافظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَقومُوا لله قَانِتِينَ}

وَقَوله تَعَالَى {وَأمر أهلك بِالصَّلَاةِ واصطبر عَلَيْهَا}

وَقَوله تَعَالَى {إِن الصَّلَاة تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر}

وَقَوله تَعَالَى وأقم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار وَزلفًا من اللَّيْل إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات فَذكر ذهَاب السَّيِّئَات بِإِزَاءِ ذكر الصَّلَاة لِأَنَّهُ من أجلهَا وسببها

وَانْظُر كَيفَ أكد تَعَالَى فِي أَدَائِهَا حِين خفف من غَيرهَا فَقَالَ

(1/162)

(فاقرؤوا مَا تيَسّر مِنْهُ وَأقِيمُوا الصَّلَاة) وَقَالَ تَعَالَى {فَإذْ لم تَفعلُوا وَتَابَ الله عَلَيْكُم فأقيموا الصَّلَاة}

وَلَو تتبعت الْقُرْآن كُله لوجدت هَذِه التشبيهات فِي آي لَا تحصى عدَّة وَيَكْفِيك أَن جعلهَا الله تلو الْإِيمَان قَالَ تَعَالَى {إِنَّنِي أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدني وأقم الصَّلَاة لذكري}

فَلم يعْطف على توحيده إِلَّا بِالصَّلَاةِ وَقَالَ {الَّذين يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ ويقيمون الصَّلَاة} وَقَالَ {من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَأقَام الصَّلَاة}

فَحَيْثُ مَا ذكر الْإِيمَان أردفه بهَا حَتَّى قَالُوا وَإِنَّمَا سميت صَلَاة لكَونهَا تلو الْإِيمَان مَأْخُوذَة من الْمُصَلِّي وَهُوَ الْفرس الَّذِي يَلِي السَّابِق من الحلبة لكَون أَنفه عِنْد صلوي السَّابِق وهما عرقان فِي الْفَخْذ

فصل

وَأما الْأَخْبَار فكقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أول مَا ينظر فِيهِ من عمل العَبْد الصَّلَاة فَإِن قبلت مِنْهُ نظر فِيمَا بَقِي من عمله وَإِن لم تقبل مِنْهُ لم ينظر فِي شَيْء من عمله) وَقَوله (إِنَّمَا مثل الصَّلَاة كَمثل

(1/163)

نهر غمر عذب بِبَاب أحدكُم) إِلَى قَوْله (فَإِنَّكُم لَا تَدْرُونَ مَا بلغت بِهِ صلَاته) وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (خمس صلوَات كتبهن الله تَعَالَى على الْعباد) إِلَى قَوْله (كَانَ لَهُ عِنْد الله عهد أَن يدْخلهُ الْجنَّة وَمن لم يَأْتِ بِهن فَلَيْسَ لَهُ عِنْد الله عهد) الحَدِيث وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سُؤال الله الْمَلَائِكَة على جِهَة المباهاة بالمصلين (كَيفَ تركْتُم عبَادي) الحَدِيث وَقَول عمر رَضِي الله عَنهُ لعماله إِن أهم أُمُوركُم عِنْدِي الصَّلَاة فَمن حفظهَا وحافظ عَلَيْهَا حفظه الله وَمن ضيعها فَهُوَ لما سواهَا أضيع

فَجَعلهَا أهم الطَّاعَات وآكد القربات

أَلا ترى حَيْثُ فرضت بالملأ الْأَعْلَى بِحَضْرَة الْمَلَائِكَة الْمُكرمين ومشهد الرُّسُل الْكِرَام والسادات الْأَعْلَام كَمَا تقدم ذكره

وَكَيف أيأسنا من نسخهَا وَنسخ بَعْضهَا فَقَالَ (هِيَ خمس وَهِي خَمْسُونَ لَا يُبدل القَوْل لدي) فَعرفت أَنَّهَا من الله صدق أَنِّي حتم وَمَا عَسى أَن أطيل فِي أَمر هُوَ أظهر من أَن يحْتَاج فِيهِ إِلَى تَطْوِيل ولنكتف

(1/164)

بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَرحْنَا بهَا يَا بِلَال) يعْنى الصَّلَاة وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَجعلت قُرَّة عَيْني فِي الصَّلَاة)

فصل

فَتَأمل أَيهَا الْعَاقِل الْمُوفق لهَذِهِ الْعلقَة الثمينة وَالْأَمَانَة المصونة والحظوة الضمينة لَك بالسلامة والعناية المكينة وَشد عَلَيْهَا كف الضنين واحفظها حفظ المؤتمن الْأمين ذخيرة ليَوْم الافتقار وجنة بَيْنك وَبَين النَّار

فصل

لَكِن إياك أَيهَا الْمُصَلِّي مَعَ مَا تقدم لَك أَن يبسطك الرَّجَاء بِكَثْرَة الأجور فَتَهْوِي بك فِي دركات الْغرُور وعالج هَوَاك بِأَن تعلم أَن حُصُول الْفضل لَا يَصح إِلَّا بأَرْبعَة شُرُوط وَهِي

الْعلم بتفاصيل أَحْكَامهَا

والأخلاص فِي كل ظَاهر مِنْهَا وباطن لله تَعَالَى

وَحُضُور الْقلب عِنْد أَدَائِهَا فِي كل لَحْظَة لِأَنَّهُ مَالك مِنْهَا إِلَّا مَا عقلت كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَر

(1/165)

ورؤية التَّقْصِير فِيهَا بعد الْفَرَاغ مِنْهَا

كَانَ الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا إِذا تَوَضَّأ للصَّلَاة تغير لَونه واضطربت فرائصه فَسئلَ عَن ذَلِك فَقَالَ أَتَدْرُونَ بَين يَدي من أَقف أَتَدْرُونَ من أخاطب

فَهَذَا هَذَا وأنى لنا بذلك وَمن أَيْن وحسبنا مَا نعلم من تفريطنا وغفلتنا وَإِذا صحت هَذِه وَقل مَا تصح فَالْأَمْر بعد مَوْقُوف على السَّابِقَة وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم

{قل بِفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هُوَ خير مِمَّا يجمعُونَ}

فصل

وَأما أَنْت أَيهَا التارك البطال المنهمك فِي غلواء التعطيل المرتبك فِي طماعية الأمل المخيل الَّذِي يسمع الْأَذَان فِي كل يَوْم وَلَيْلَة خمس مَرَّات وَأَنت وادع الْقلب مطمئن الْجَوَارِح لَا تصحو من سكرتك وَلَا تتيقظ من غامض غفلتك كَأَنَّك لم تفرض عَلَيْك وَكَأن الْمَطْلُوب بهَا غَيْرك ولتعلم أَن كل مَا سبق من أَفْرَاد الْعدَد فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة الْمَفْرُوضَة عَلَيْك مثل عَددهَا من الآثام فِي التّرْك لكَون جَزَاء السَّيئَة بِمِثْلِهَا

وَأَنت مَعَ ذَلِك فِي دنياك أبطش من عِقَاب وَأحذر من

(1/166)

غراب ذِئْب عتم وضبع قرم جماع مناع عفرية نفرية تنتهز الفرصة وتغتنم من قمامة أَخِيك القبصة وتخدع من سواك وَلَو فِي نفثة سواك لتحصل بهَا شهواتك وتجاهر من يطلع عَلَيْك فِي خلواتك

كَمَا قيل

(مَا أميل النَّفس إِلَى الْبَاطِل ... وأهون الدُّنْيَا على الْعَاقِل)

(ترضي الْفَتى فِي عَاجل شَهْوَة ... لَو خسر الْجنَّة فِي الآجل)

فَإِن ادعيت الْجَهْل بِمَا يلزمك فَمَا أعلمك بِمَا لَا يلزمك وَإِلَّا فَانْظُر كَيفَ تجهد أيامك وَتصرف غوائلك وتنصب شركك وحبائلك لتصيد نزر خسيس بخبث مَكَائِد لَا يتفطن لَهَا إِبْلِيس

يَا بائس يَا فَقير يَا دودة الْحَرِير تبني على نَفسك سرادق نحسك وبخسك

كَمَا قيل

(1/167)

(تجمع مَا تتركه حسرة ... لوَارث أَو آمل أملك)

(أقربهم مِنْك وأدناهم ... إِلَيْك من فِي حُفْرَة أنزلك)

(وَرَاح من قبرك مستعجلا ... فتش من فرحته مَنْزِلك)

ورحل مَا أخفيت من عقدَة ... كنت بَخِيلًا أَن يَرَاهَا ملك)

قَالَ بشر بن الْحَارِث رَحْمَة الله عَلَيْهِ (لِابْنِ آدم فِي مَاله ثَلَاث حسرات يجمعه كُله ويتركه كُله وَيسْأل عَنهُ كُله

وكما قَالَ عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه فِي خطْبَة خطبهَا رفعتم الطين ووضعتم الدّين وضيعتم الْمَسَاكِين وتشبهتم بالدهاقين فألحقتم بالملاعين

أَيهَا المغالط لنَفسِهِ المتغافل عَن هيل التُّرَاب عَلَيْهِ فِي رمسه رَاجع بصيرتك وسدد نحيرتك وَقدر أَنَّك الْمَطْلُوب وَحدك

قَالَ الله تَعَالَى {كلهم آتيه يَوْم الْقِيَامَة فَردا} يَا رواغ يَا خداع وَلَا وزر إِلَى رَبك يَوْمئِذٍ المستقر فافرغ إِلَى عقلك من غَمَرَات حسك وصير يَوْمك خيرا من أمسك حذار حذار فجأك الْمَوْت فبادر إِلَى التَّوْبَة قبل الْفَوْت جعلنَا الله وَإِيَّاكُم مِمَّن قَالَ وَفعل

(1/168)

وَأمر فامتثل بفضله بمنه وَلَا جعلنَا مِمَّن يرى القذى فِي عين أَخِيه وَلَا يرى الْجذع فِي عينه

وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَبِه أستعين وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم وَصلى على سيدنَا مُحَمَّد وَآله صَحبه وَسلم تَسْلِيمًا

كمل بِحَمْد الله وَمِنْه وَحسن توفيقه وَوَقع الْفَرَاغ من تحريره على يَد الْفَقِير إِلَى الله الخاطئ المذنب الراجي عَفْو ربه الْكَرِيم إِسْحَاق بن مَحْمُود بن بلكويه بن أبي الْفَيَّاض الشابرخواستي البرجردي غفر الله لَهُ ولوالديه وَلِجَمِيعِ أمة مُحَمَّد برحمته الواسعة

وَذَلِكَ فِي الْخَامِس عشر من صفر سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة بِالْقَاهِرَةِ المحروسة المعزية

وَالْأَصْل الَّذِي انتسخ مِنْهُ كَانَ مُقَابلا بِأَصْل الْمُؤلف رَحْمَة الله عَلَيْهِ

وَالْحَمْد لله وَحده وصلواته على نبيه مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وعترته الطيبين الطاهرين

قَالَ عبد الله الراجي رَحمته ومغفرته مُحَمَّد رضوَان بن أَحْمد بن عبد الرَّزَّاق بن أَحْمد الداية الْمَكِّيّ أرومة الدِّمَشْقِي الصَّالِحِي أصلا الدومي ولادَة وَإِقَامَة

نجز بِحَمْد الله وتوفيقه النّظر فِي كتاب تَنْزِيه الْأَنْبِيَاء عَمَّا نسب إِلَيْهِم حثالة الأغبياء لأبي الْحسن عَليّ بن أَحْمد الْأمَوِي السبتي غرَّة يَوْم الثُّلَاثَاء

(1/169)

تَاسِع محرم الْحَرَام عَام إِحْدَى عشرَة وَأَرْبع مئة وَألف 1411 من هِجْرَة سيدنَا وَنَبِينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وزاده تَشْرِيفًا وتكريما الْمُوَافق الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ من شهر تموز من عَام تسعين وتسع مئة وَألف 1990 من مولد عِيسَى الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام

كتب الله لي هَذَا الْجهد فِي الْأَعْمَال المقبولة وأجزل فِي مثوبته ورضوانه بعفوه وَمِنْه إِنَّه ذُو الطول وَالْفضل وَصلى الله على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه

وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جلباب المرأة المسلمة للشيخ الألباني

  جلباب المرأة المسلمة صفحة رقم -35-  مقدمة الطبعة الأولى :   بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه الكريم : ( يا...