Translate

Translate ترجم الصفحة لاي لغة تريد

بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 17 فبراير 2024

سلسلة الأسماء والصفات ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]



سلسلة الأسماء والصفات

﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومَنْ والاه، وبعد:

صفةُ الاستواءِ: صفةٌ فِعليَّةٌ ثابتةٌ للهِ عزَّ وجلَّ بدلالة الكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماع سلف الأمة.

أولًا: دلالة الكِتابِ:

وقد وردت صفةُ الاستواءِ في سَبْعَةِ مواضِعَ من كتاب الله تعالى:

الموضع الأول: في قولِه تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، والمواضع الستة الأخرى في قَولِه تعالى: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾، وقد وردت في المواضع التالية من كتاب الله تعالى:

1- الأعراف: 54.

2- يونس: 3.

3- الرعد: 2.

4- الفرقان: 59.

5- السجدة: 4.

6- الحديد: 4.

ومما يُدلِّل على استوائه سبحانه على العرش قوله تعالى: ﴿ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الزمر: 75].

ثانيًا: الأدلة من السُّنَّة:

ومِمَّا يُدلِّل على استوائه تبارك وتعالى على عرشه من السنة ما يلي:

1- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ، كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي)) [1].

2- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ()إنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتابًا قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ: إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهو مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ)) [2].

ثالثًا: الأدلة من الآثار المرفوعة:

ومن الأدلة التي تلحق بالسُّنَّة:

الآثار التي لها حكم المرفوع، فإن مثلها لا يُقال فيه بالرأي، فتأخذ حكم المرفوع؛ ومنها:

1- ما رُوي عَن عبدالله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: "ما بين السماء القصوى والكرسي ‏خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء كذلك، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، ولا ‏يخفى عليه شيء من أعمالكم"[3].

2- ما رُوي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (ت: 68هـ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: "الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ قَدَمَيْهِ، وَالْعَرْشُ لَا يُقْدَرُ قَدْرُهُ"[4].

3- ورواه عبدالله بن أحمد (ت: 290هـ) رحمه الله في "السُّنَّة" بلفظ: "إِنَّ الْكُرْسِيَّ الَّذِي وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمَوْضِعُ قَدَمَيْهِ، وَمَا يُقَدِّرُ قَدْرَ الْعَرْشِ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهُ"[5].

وقال أبو منصور الأزهري (ت: 370هـ) رحمه الله في "التهذيب": " الصحيحُ عَن ابْن عَبَّاس فِي الكُرْسِيّ مَا رواهُ الثَّوْريُّ وغيرهُ، عَن عمارٍ الدُّهْنِي، عَن مُسْلمٍ البَطِينِ، عَن سعيد بن جُبَيْرٍ، عَن ابْن عباسٍ، أَنه قَالَ: "الكُرْسِيُّ: موضعُ القدمينِ، وأَمَّا العَرْشُ فإنَّهُ لَا يُقدرُ قدرهُ" وَهَذِه روايةٌ اتفقَ أَهْلُ العِلْمِ على صِحتها" [6].

فقول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾ [البقرة: 255]: "الكرسي موضع القدمين" يدل دلالة واضحة على أن الاستواء حقيقي وليس مجازيًّا.

وقال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي (ت: 280هـ) رحمه الله: "وهو بنفسه على العرش، بكماله، كما وصف"[7].

قال أبو يحيى زكريا القزويني (ت: 682هـ) رحمه الله: "ومن قال: العرش ملك، أو الكرسي ليس بالكرسي الذي يعرف الناس: فهو مبتدع"[8].

رابعًا: إجماع السلف:

لقد أجمع أئمة السلف ومَن تَبِعَهم بإحسان على إثبات علوِّ الله تعالى واستوائه على عرْشِهِ.

ولقد نقل الإجماع على ذلك جمعٌ غفيرٌ من أئمة السلف، وممَّا علم من دين الله بالضرورة أن إجماع الأمة حجة قاطعة؛ ذلك لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة.

كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ قد أجارَ أُمَّتي أن تجتمِعَ علَى ضلالةٍ"[9]، وفي رواية: "إنَّ اللَّهَ لا يجمعُ أمَّتي - أو قالَ: أمَّةَ محمَّدٍ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ - علَى ضلالةٍ" [10].

لذا فإن مخالفة إجماع السَّلَف فيه من السَّفَه والضلال والعَمَه ما فيه.

والاستواء صفة فعليَّة ثابتة للربِّ جلَّ في عُلاه، ولقد أثبتها أهل السُّنَّة والجماعة لله تبارك وتعالى على الحقيقة على وجه يليق به سبحانه، من غير تحريف لمعناها، كما يقول المُعطِّلة؛ كالجهمية والمؤولة؛ كالمعتزلة والأشاعرة ومن نحا نحوهم من أهل التأويل: إن معناه: "الاستيلاء"! ومن غير تمثيل لها باستواء المخلوق، فإن الله جل في عُلاه لا يشبهه أحدٌ في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله.

وحكى إجماع التابعين على ذلك إمام أهل الشام عبدالرحمن بن عمر أبو عمرو الأوزاعي (ت: 157 هـ) فقال رحمه الله: "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السُّنَّة من صفاته"[11].

قال أبو زرعة الرازي (ت: 264هـ) رحمه الله: "أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازًا وعراقًا وشامًا ويَمَنًا؛ فكان من مذهبهم: أن الله عز وجل على عرشه، بائنٌ من خلقه كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بلا كيف"[12].

وقال الإمام السَّمعانيُّ (ت: 489هـ) رحمه الله: "أهلُ السُّنَّةِ يَقولُون: إنَّ الاستواءَ على العَرْشِ صِفةٌ لله تعالى بلا كَيفٍ، والإيمانُ به واجِبٌ، كذلك يُحكى عن مالِكِ بنِ أنَسٍ وغَيرِه مِنَ السَّلَفِ أنَّهم قالوا في هذه الآيةِ: الإيمانُ به واجِبٌ، والسُّؤالُ عنه بِدعةٌ"[13].

ولقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728هـ) إجماع السَّلَف واتفاقهم على ذلك فقال رحمه الله: "أصل الاستواء على العرش: ثابت بالكِتاب والسُّنَّة واتفاق سلف الأمة وأئمة السُّنَّة؛ بل هو ثابت في كل كتاب أنزل، على كل نبي أرسل"[14].

ويقول الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت: 311هـ) رحمه الله: "فنحن نؤمن بخبر الله جلَّ وعلا: أن خالقنا مستوٍ على عرشه؛ لا نبدل كلام الله، ولا نقول قولًا غير الذى قيل لنا؛ كما قالت المُعطِّلة الجهمية: إنه استولى على عرشه، لا استوى؛ فبدلوا قولًا غير الذى قيل لهم، كفِعْل اليهود: لما أمروا أن يقولوا: حِطَّة، فقالوا: حنطة؛ مخالفين لأمر الله جل وعلا، كذلك الجهمية"[15].

وحكى أبو الحسن الأشعري (ت: 324هـ) رحمه الله مذهب أهل الحديث، فقال: "جملةُ ما عليه أهل الحديث والسُّنَّة:.. وأن الله سبحانه على عرشه كما قال: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5] [16].

قال الإمام الصابوني الشافعي(ت: 449هـ) رحمه الله: "وعلماء الأُمَّة وأعيان الأئمة من السلف رحمهم الله لم يختلفوا في أن الله تعالى على عرشه، وعرشه فوق سماواته"[17].

قال أبو نصر السجزي (ت: 444هـ) رحمه الله: "فأئمتنا كسفيان الثوري، ومالك، وسفيان بن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وعبدالله بن المبارك، والفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وإسحق بن إبراهيم الحنظلي، متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش، وأن علمه بكل مكان" [18].

وهذه النقولات تُدلِّل على إجماع أئمة السَّلَف واشتهار هذا الأمر بينهم، وأنه لا خلاف بينهم فيه.

خامسًا: أقوالُ السلف في إثباتِ صِفةِ الاستواءِ:

وفيما يلي نسوق جملةً مِن أقوالِ السَّلَف في إثباتِ صِفَةِ الاستواءِ للهِ عزَّ وجَلَّ: قال أبو حنيفةَ (ت: 150هـ) رحمه الله: "نُقِرُّ بأنَّ اللهَ تعالى على العَرْشِ استوى من غيرِ أن يكونَ له حاجةٌ"[19]، وقال الشَّافعيُّ في وصيَّتِه (ت: 204هـ) رحمه الله: "هذه وصيَّةُ محمَّدِ بنِ إدريسَ الشَّافعيِّ، أوصى أنَّه يَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه لا شريكَ له، وأنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَبْدُه ورَسولُه، وأنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ يُرى في الآخرةِ، يَنظُرُ إليه المؤمنون عِيانًا جِهارًا، ويَسْمَعونَ كَلامَه، وأنَّه فوقَ العَرشِ..."[20] ، وقال أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ(ت: 241هـ) رحمه الله: "وقد عَرَف أهلُ العِلْمِ أنَّه فوقَ السَّمَواتِ السَّبعِ: الكُرسيِّ، والعَرْشِ، واللَّوحِ المحفوظِ، والحُجُبِ، وأشياءَ كثيرةٍ لم يُسَمِّها"[21].

وقال الطَّحاويُّ (ت: 321هـ) رحمه الله: "العَرْشُ والكُرسيُّ حَقٌّ، وهو مُستغنٍ عن العَرْشِ وما دونَه، محيطٌ بكُلِّ شَيءٍ وفوقَه"[22].

قال إسحاق بن راهويه (ت: 238هـ) رحمه الله: "قال الله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾، إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة" [23].

وقال ابنُ أبي زيد القيروانيُّ (ت: 386هـ) رحمه الله: "إنَّ اللهَ إلهٌ واحدٌ، لا إلهَ غيرُه، ولا شبيهَ له، ولا نظيرَ له، ولا وَلَدَ له، ولا والِدَ له، ولا صاحِبةَ له، ولا شريكَ له... وأنَّه فوقَ عَرْشِه المجيدِ بذاتِه" [24].

وقال ابنُ أبي زمنين (ت: 399هـ) رحمه الله: "من قَولِ أهلِ السُّنَّةِ: أنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ خَلَق العَرْشَ واختَصَّه بالعُلُوِّ والارتفاعِ فَوْقَ جميعِ ما خَلَق، ثم استوى عليه كيف شاء، كما أخبَرَ عن نَفْسِه"[25].

وقال أبو يَعْلى (ت: 458هـ) رحمه الله: "نصُّ القُرآنِ والأخبارِ الصِّحاحِ أنَّه في السَّماءِ، مُسْتوٍ على عَرْشِه، بائنٌ مِن خَلْقِه"[26].

سادسًا: مذهب السلف في تفويض كيفية الصفات:

السلف متفقون على الإيمان بصفات الله تعالى على حقيقتها والإقرار بها وإمرارها على ظاهرها، ويثبتون لله معانيها على وجه يليق به تبارك وتعالى، ويُفوِّضُون كيفيتها إليه سبحانه، ويفهم من إقرارهم هذا أن إثبات ظواهر نصوص الصفات والخوض في تشبيه الخالق بالمخلوق لا تلازم بينهما البتة.

فتفويض الصفات عند السلف قائم على إثبات لفظها، وفَهْم معناه الذي تدل عليه، ثم يفوضون كيفيَّتها إلى الله، فهم يعرفون معانيها ويؤمنون بها، غير أنهم لا يعلمون كيفيتها.

قال الوليد بن مسلم (ت: 195هـ) رحمه الله: "سألت الأوزاعي ومالكًا وسفيانًا وليثًا عن هذه الأحاديث التي فيها الصفة، فقالوا: أمرُّوها بلا كيف.."[27].

ويقول ابن قتيبة الدينوري (ت 276 هـ) رحمه الله: "الواجب علينا أن ننتهي في صفات الله حيث انتهى في صفته، أو حيث انتهى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نزيل اللفظ عمَّا تعرفه العرب وتضعه عليه، ونمسك عمَّا سوى ذلك"[28].

وقال أبو الحسن الأشعري (ت: 324هـ) رحمه الله: "وقال أهل السنة وأصحاب الحديث: … وأنه على العرش؛ كما قال عز وجل: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، ولا نقدم بين يدي الله في القول؛ بل نقول استوى بلا كيف"[29].

ويقول أبو سليمان الخطابي (ت 388 هـ) رحمه الله: "فأمَّا ما سألت عنه من الكلام في الصفات، وما جاء منها في الكِتاب والسُّنَن الصحيحة، فإن مذهب السلف إثباتها، وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها"[30].

وقال الإمام أبو عمر بن عبدالبر (ت: 463هـ) رحمه الله: "أهل السُّنَّة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكِتاب والسُّنَّة وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لم يُكيِّفُوا شيئًا من ذلك"[31].

ويقول أبو طاهر الكرجي (ت 489 هـ) رحمه الله: "وكل صفة وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله فهي صفة حقيقية لا مجازية"[32].

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" فقول ربيعة ومالك: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب) موافق لقول الباقين: (أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف) فإنما نفوا علم الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة" [33].

وقال ابن القيم (ت: 751هـ) رحمه الله: ".... ولم يتنازعوا- الصحابة- في تأويل آيات الصفات وأخبارها في موضع واحد؛ بل اتفقت كلمتهم وكلمة التابعين بعدهم على إقرارها وإمْرارها مع فهم معانيها وإثبات حقائقها.."[34].

سابعًا: التفويض المخالف لتفويض أهل السُّنَّة:

أمَّا التفويض المخالف لتفويض أهل السُّنَّة فهو تفويض الصفة من غير معرفة معناها، وهو تفويض باطل.

فأهل السنة: يثبتون الصفة ويعرفون معناها؛ لكنهم يفوِّضُون كيفيَّتها.

"وأما أهل التفويض والتجهيل: فهم القائلون بأن نصوص الصفات ألفاظ لا تُعْقَل معانيها، ولا ندري ما أراد الله ورسوله منها؛ ولكن نقرؤها ألفاظًا لا معاني لها؛ فجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يُفهَم"[35].

ويُقـال لأهل التفويض الباطل: إذا كنتم قد أثبتم أن لله ذاتًا تليق به سبحانه تعْلَمونها، فكذلك صفاته - جلَّ في علاه - يجب عليكم أن تعلموا معناها؛ ذلك لأن القول في الصفات كالقول في الذات، وهذا هو مذهب السلف الذي قرره الأئمة وأجمعوا عليه.

قال ابن القيِّم (ت: 751هـ) رحمه الله: "لا يستقر للعبد قَدَم في المعرفة - بل ولا في الإيمان حتى يؤمن بصفات الربِّ - جل جلاله - ويعرفها معرفة تخرج عن حدِّ الجهل بربِّه؛ فالإيمان بالصفات وتعرُّفُها هو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان، وثمرة شجرة الإحسان" [36].

ثامنًا: مفهوم الاستواء عند السلف:

سبق معنا بيان منهج السلف في إثبات الصفات - وهو أنهم يثبتونها لله تعالى على الحقيقة ويمرُّونها كما جاءت مِن غيرِ تكييفٍ ولا تشبيهٍ ولا تعطيلٍ، وأنهم يفوضون كيفيتها ويفهمون معناها- وهنا نذكر طرفًا من أقوالهم في بيان معنى الاستواء.

الاستواء في لغة العرب:

وأمَّا مفهوم الاستواء لغة العرب: فهو العلو والاستقرار [37]، وقال ابن عبدالبر (ت: 463هـ) رحمه الله: "والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو العلوُّ والارتفاع على الشيء" [38].

الاستواء عند السلف يعود معناه إلى العلو والارتفاع هذا المشهور في تفسيره عندهم:

لقد فسَّر أئمة السلف "الاستواء" بالعلوِّ والارتفاع، يعنون بذلك: أن الله تبارك وتعالى ارتفع فوق العرش وعلا عليه بدون كيف.

تاسعًا: أقوال السلف في معنى الاستواء:

ونسوق هنا جملةً من تفسير السَّلَف لمعنى الاستواء:

1- روى البخاري عن أبي العالية الرياحي في معنى ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ﴾ [فصلت: 11]، قال: ارتفع، وعن مجاهد قال: استوى: علا على العرش [39].

2- وقال الطبري (ت: 310هـ) رحمه الله:

بعد أن أورد عدة معانٍ للاستواء "وأولى المعاني بقوله جل ثناؤه: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 29] علا عليهن، وارتفع فدبرهن بقدرته وخلقهن سبع سماوات"؛ ا.هـ [40].

3- وقال البغوي (ت: 516هـ) رحمه الله: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ﴾ [فصلت: 11]: "قال ابن عباس وأكثر مفسِّري السلف؛ أي: ارتفع إلى السماء" [41].

عاشرًا: بطلان تأويل الاستواء بالاستيلاء:

قال ابنُ رشدٍ القرطبي - الجد -(ت: 520هـ) رحمه الله: "أمَّا من قال: إنَّ الاستواءَ بمعنى الاستيلاءِ فقد أخطَأَ؛ لأنَّ الاستيلاءَ لا يكونُ إلَّا بعد المغالَبةِ والمقاهَرةِ، واللهُ يتعالى عن أن يُغالِبَه أحَدٌ، وحَمْلُ الاستواءِ على العُلُوِّ والارتفاعِ أَولى ما قيلَ، كما يقالُ: استَوَت الشَّمسُ في كَبِدِ السَّماءِ؛ أي: عَلَت"[42].

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - (ت: 728هـ) - رحمه الله: "لم يثبت أن لفظ استوى في اللغة بمعنى استولى؛ إذ الذين قالوا ذلك عمدتهم البيت المشهور:

ثم استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق [43]

ولم يثبت نقل صحيح أنه شعر عربي، وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروه، وقالوا: إنه بيتٌ مصنوعٌ لا يُعرَف في اللغة، وقد عُلم أنه لو احتج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحتاج إلى صحته؛ فكيف ببيت من الشعر لا يعرف إسناده، وقد طعن فيه أئمة اللغة؛ وذكر عن الخليل، كما ذكره أبو المظفر في كتابه "الإفصاح" قال: سئل الخليل: هل وجدت في اللغة استوى بمعنى استولى؟ فقال: هذا ما لا تعرفه العرب، ولا هو جائز في لغتها.

وهو إمام في اللغة على ما عرف من حاله، فحينئذٍ حمله على ما لا يعرف حمل باطل" [44].

قال ابن كثير(ت: 744هـ) رحمه الله: "وهذا البيت [45] تستدل به الجهمية على أن الاستواء على العرش بمعنى الاستيلاء، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه وليس في بيت هذا النصراني حجة ولا دليل على ذلك ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاءه عليه تعالى الله عن قول الجهمية علوًّا كبيرًا، فإنه إنما يقال استوى على الشيء إذا كان ذلك الشيء عاصيًا عليه قبل استيلائه عليه"[46].

ويُجاب أيضًا: بـ"أن الاستواء في اللغة عبارة عن الارتفاع على الشيء، قال تعالى: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ﴾ [فصلت: 11]، ولا يجوز حمله على الاستيلاء؛ لأنه يقال في اللغة: استولى فلان على الشيء، ولا يُقال: استوى إلى الشيء" [47].

- هذا - وقد أبطل الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - تأويل الاستواء بالاستيلاء من اثنين وأربعين وَجْهًا في كتابه: "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطِّلة".

والحمد لله رب العالمين، قاله بلسانه، واعتقده بجنانه، وَكَتَبَهُ بِبَنَانِهِ الفَقِيِرُ إلى عَفْوِ رَبِّهِ البَارِيِ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ عَرَفةُ بْنُ طَنْطَاوِيِّ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَلِوالِدَيهِ وَلِمشَايِخِهِ وَلِذُريَّتِهِ ولِلمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ.

الهامش

[1] رواه البخاري (7453)، ومسلم (27519).

[2] رواه البخاري: (7554).

[3] أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ‏‏(3/ 395-396، ح 659)والبيهقي في الأسماء والصفات ‏‏(2/ 186ـ187)، والدارمي في الرد على الجهمية (ص275 - ضمن عقائد السلف-‏‏)، وابن خزيمة في التوحيد (1/ 242-243، ح149)، والطبراني في الكبير ‏‏(9/ 228)، وأبو الشيخ في العظمة (2/ 688-689، ح279)، وابن قدامة في إثبات صفة العلو (ص104-105، ح75)، وأورده ‏الذهبي في العلو (ص64)، وعزاه لجمع من أئمة السلف، وقال: (وإسناده صحيح)، وأورده ابن القيم في اجتماع الجيوش ‏الإسلامية (ص122)، وفي مختصر الصواعق (2/ 210)، وأورده الهيثمي في مجمع ‏الزوائد (1/ 86)، وعزاه للطبراني، وقال: (رجاله رجال الصحيح).‏

[4] رواه الحاكم (3116)، وقال الحاكم عَقِبه: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ "، ووافقه الذهبي، والطبراني في "المعجم الكبير" (12404).

[5] رواه عبدالله بن أحمد في "السنة": (590).

[6] تهذيب اللغة، لأبي منصور الأزهري: (10/ 33)، ويُنظَر: "البداية والنهاية" لابن كثير (1/ 13)، "الإبانة الكبرى" لابن بطة (7/ 325) .

[7] "الرد على الجهمية" (ص/ 55).

[8] يُنظَر: الحجة، لقوام السنة الأصبهاني: (1/ 249) .

[9] قال الألباني في"السلسلة الصحيحة" (3/ 319) ... فالحديث بمجموع هذه الطرق حسن يُنظَر: "الضعيفة": (1510) اهـ، وهو في صحيح الجامع حديث رقم :(1786)، وفي: تخريج كتاب السنة برقم: (83).

[10] رواه الترمذي :( 2167 ( قَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وصحَّحه الألباني في: صحيح الترمذي: (2167).

[11] يُنظَر: مختصر العلو للذهبي 137، والأسماء والصفات للبيهقي، وفتح الباري: 13/ 417.

[12] شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي: (1/ 197).

[13] يُنظر: تفسير السمعاني: (2/ 188) باختصارٍ يسيرٍ.

[14] مجموع الفتاوى: (2 / 188) .

[15] التوحيد، لابن خزيمة: (1/ 233).

[16] مقالات الإسلاميين، للأشعري: (ص: 226).

[17] عقيدة السلف أصحاب الحديث للصابوني: (ص:410).

[18] يُنظر: العرش للذهبي: (2/ 437).

[19] يُنظر: شرح وصية الإمام أبي حنيفة، للبابرتي: (ص: 87).

[20] يُنظر: اعتقاد الشافعي، للهكاري: (ص: 15).

[21] يُنظر: الرد على الجهمية والزنادقة: (ص: 128).

[22] يُنظر: متن الطحاوية: (ص: 54-56).

[23]نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (5/ 52) وفي درء التعارض (2/ 261)، وعزاه لابن أبي حاتم في الرد على الجهمية، وأورده الذهبي في العلو (ص158).

[24] يُنظر: عقيدة السلف – مقدمة ابن أبي زيد القيرواني لكتابه الرسالة: (ص: 56).

[25] يُنظر: أصول السنة: (ص: 88).

[26] يُنظر: إبطال التأويلات: (ص: 240).

[27] إبطال التأويلات: (1/ 47).

[28] الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية لابن قتيبة: (ص: 44).

[29] مقالات الإسلاميين، للأشعري: (ص: 168).

[30] العلو للعلي الغفار للذهبي: (ص: 236).

[31] العلو للعلي الغفار: (ص 250).

[32] الاعتقاد القادري (ص: 247) لأبي طَاهِرٍ أَحْمَد بن الحَسَنِ بنِ أَحْمَدَ بنِ الحَسَنِ بنِ خُدَادَاد الكَرَجِيُّ، البَاقِلَّانِي، البَغْدَادِي .

[33] مجموع الفتاوى "الفتوى الحموية": (5/ 41) .

[34] الصواعق المرسلة (1/ 213).

[35] يُنظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 13/ 295، والصواعق المرسلة، لابن القيم: 2/ 422.

[36] مدارج السالكين: 3/ 347.

[37] يُنظَر: الصحاح (6/ 2385)، والاختلاف في اللفظ لابن قتيبة مطبوع ضمن عقائد السلف، ص241.

[38] التمهيد، لابن عبدالبر: (7/ 131).

[39] أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب: (وكان عرشه على الماء) معلقًا بصيغة الجزم (6/ 2698)، ويُنظَر: الفتح: (13/ 415).

[40] تفسير الطبري: (1/ 191-192)، والحجة في بيان المحجَّة: (2/ 258).

[41] تفسير البغوي: (1/ 78)، ونقله الحافظ في الفتح: (13/ 417)، وقال: "وقال أبو عبيدة والفراء وغيرهما بنحوه.

[42] المقدمات الممهدات: (1/ 21).

[43] والبيت ينسب للأخطل، وهو من نصارى العرب المتنصرة، يُنظر: البداية والنهاية، لابن كثير: (9/ 262).

[44] مجموع الفتاوى: (5/ 146).

[45] يعني البيتَ الذي يُنسَب للأخطل.

[46] يُنظَر: البداية والنهاية، لابن كثير: (9/ 262) بتصرُّف.

[47] التبصرة في أصول الدين: (ص: 129).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جلباب المرأة المسلمة للشيخ الألباني

  جلباب المرأة المسلمة صفحة رقم -35-  مقدمة الطبعة الأولى :   بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه الكريم : ( يا...