Translate

Translate ترجم الصفحة لاي لغة تريد

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 27 فبراير 2024

شرح قصة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام /و شرح قصَّة آدم عَلَيْهِ السَّلَام و شرح قصَّة نوح عَلَيْهِ السَّلَام /و شرح قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام /و شرح قصَّة عُزَيْر عَلَيْهِ السَّلَام


شرح قصة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام /و شرح قصَّة آدم عَلَيْهِ السَّلَام و شرح قصَّة نوح عَلَيْهِ السَّلَام /و شرح قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام /و شرح قصَّة عُزَيْر عَلَيْهِ السَّلَام

تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء

شرح قصَّة نَبينَا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام


مَعَ زيد وَزَيْنَب فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذ تَقول للَّذي أنعم الله عَلَيْهِ وأنعمت عَلَيْهِ أمسك عَلَيْك زَوجك وَاتَّقِ الله وتخفي فِي نَفسك مَا الله مبديه وتخشى النَّاس وَالله أَحَق أَن تخشاه} إِلَى قَوْله {وَكَانَ أَمر الله مَفْعُولا}

هَذِه من الْقَصَص الَّتِي امتحن بهَا عوام هَذِه الْأمة ومقلدوهم المجازفون المقتفون مَا لَيْسَ لَهُم بِهِ علم

والقصة بِحَمْد الله أشهر وَأظْهر من أَن يتقول فِيهَا بزور أَو يدلى بغرور وَالْأولَى أَن نقدم مَا صَحَّ من الْقِصَّة ثمَّ نرْجِع إِلَى شرح الْآيَة  وَالَّذِي صَحَّ مِنْهَا أَن الْمَرْأَة هِيَ زَيْنَب بنت جحش بن أُمَيْمَة بنت عبد الْمطلب جد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما بَعْلهَا فَهُوَ زيد بن حَارِثَة مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومعتقه وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد رباه وتبناه وَكَانَ يُسمى ابْن رَسُول الله حَتَّى أنزل الله تَعَالَى {وَمَا جعل أدعياءكم أبناءكم ذَلِكُم قَوْلكُم بأفواهكم} فنفى الْبُنُوَّة بِالدَّعْوَى وَقَالَ {ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أقسط عِنْد الله} الْآيَة فَلَمَّا أدْرك زوجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْنَب الْمَذْكُورَة وَبَقِي مَعهَا حَتَّى أَمر الله تَعَالَى نبيه عَلَيْهِ السَّلَام أَن يَتَزَوَّجهَا أَو أخبرهُ بِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي شرح الْآيَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى  وَمَا تَقوله المُنَافِقُونَ والجهلة المجازفون من أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَآهَا وأحبها وشغف بحبها حَتَّى كَانَ يضع يَده على قلبه وَيَقُول يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبت قلب نبيك وَيدخل عَلَيْهِ زيد الْمَسْجِد وَيَقُول (ادن مني يَا زيد) شوقا إِلَيْهَا إِلَى غير ذَلِك من هذيانات لَا يرضاها صلحاء الْمُسلمين لأَنْفُسِهِمْ فَكيف سيد الْمُرْسلين فَكل ذَلِك بَاطِل متقول

وَكَذَلِكَ قَوْلهم إِنَّه عَلَيْهِ السَّلَام رَآهَا فأحبها تخرص وزور وَكَيف وَقد تربت فِي حجر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى زَوجهَا لزيد على أَنه لَو أحبها كَمَا اختلقوه لم يُدْرِكهُ فِي ذَلِك الْيَوْم لوم فَإِن الْحبّ أَمر ضَرُورِيّ لَا يدْخل تَحت الْكسْب جَاءَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي عدلت فِيمَا أملك فَاغْفِر لي مَا لَا أملك) يَعْنِي عدلت فِيمَا أكسب فَاغْفِر لي مَا لَا أكسب فَلم يكره الْعُقَلَاء الْحبّ إِلَّا لما يكون مَعَه للمحبين من الطيش والميل وَالذكر بِمَا لَا يَنْبَغِي وَطلب الظفر بالمحبوب على الْوُجُوه الْفَاسِدَة

وَهَذِه الْأُمُور كلهَا لَا تلِيق بصلحاء الْمُسلمين فَكيف بسادات الْمُرْسلين المعصومين مِمَّا دون ذَلِك كَمَا تقدم

جَاءَ فِي الْأَثر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بِرَجُل ينشد

(أَقبلت فلاح لَهَا ... عارضان كالسبج)

(أَدْبَرت فَقلت لَهَا ... والفؤاد فِي وهج)

(هَل عَليّ ويحكما ... إِن عشقت من حرج)

فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا حرج إِن شَاءَ الله مَعْنَاهُ لَا حرج عَلَيْك إِن كنت تكْتم وتصبر وَلَا تؤذي محبوبك بقول وَلَا بِفعل وَلَا يشغلك حبه وَذكره عَمَّا فرض عَلَيْك

ومصداق هَذَا الشَّرْح مَا جَاءَ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ من عشق وكتم وعف وَمَات مَاتَ شَهِيدا وَسبب شَهَادَته أَن النَّفس الأمار ة بالسوء تحب الشَّهْوَة والتشفي بِالْفِعْلِ فيحاربها الورعون المتقون بِالْكِتْمَانِ والعفاف حَتَّى يقتلهُمْ

وعَلى هَذَا مَضَت الْعَادَات وتناظرت الحكايات وَلَوْلَا قصد الِاخْتِصَار لأسمعتك فِي هَذَا الشَّأْن أَخْبَارًا وأشعارا عَن ظرفاء المحبين المتدينين وَأهل الهمم من فتيَان الْعَرَب فقد قيل إِن قيس بن عَامر تعرضته ليلى بِأَرْض فلاة فَقَالَت لَهُ هَا أَنا بغيتك ومثار فتنتك ليلى جئْتُك وَلَا رَقِيب وَلَا وَاسِطَة فَاقْض مَا أَنْت قَاض

فَقَالَ لَهَا بِي مِنْك مَا شغلني عَنْك ثمَّ سَار وَتركهَا فَهَذَا من ظرفاء المحبين

وَآخر رأى غُبَار ذيل محبوبه فَغشيَ عَلَيْهِ فَهَذَا أظرف مِنْهُ إِلَى غير  ذَلِك وَجَاء فِي الْأَثر أَن عليا كرم الله وَجهه كَانَت لَهُ جَارِيَة تتصرف فِي أشغاله وَكَانَ بإزائه مَسْجِد فِيهِ قيم فَكَانَت مَتى مرت بِهِ تِلْكَ الْجَارِيَة قَالَ لَهَا أما إِنِّي أحبك فشق عَلَيْهَا ذَلِك فَأخْبرت عليا رَضِي الله عَنهُ بذلك فَقَالَ لَهَا إِذا قَالَ لَك ذَلِك فَقولِي لَهُ وَأَنا أحبك فأيش تُرِيدُ بعد هَذَا

فَلَمَّا مرت بِهِ قَالَت لَهُ ذَلِك فَقَالَ نصبر حَتَّى يحكم الله بَيْننَا فَلَمَّا أخْبرت عليا عَلَيْهِ السَّلَام بِمَا قَالَ لَهَا دَعَا بِهِ وَقَالَ لَهُ خُذْهَا إِلَيْك فقد حكم الله بَيْنكُمَا فَهَذَا شَأْن الظرفاء والمتدينين من المحبين

وَمَعَ هَذَا فالرسول عَلَيْهِ السَّلَام أشرف وأسنى من أَن يمْتَحن بِمثل هَذِه النقيصة وَمَعَ ذَلِك فَمَا صَحَّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحبها وَلَا شغف بهَا فِي كتاب وَلَا سنة سوى مَا تخيله الجهلة وكل مَا رَوَوْهُ فِي ذَلِك عَن الصَّحَابَة فكذب وزور وَجَهل بِمُقْتَضى الْآيَة ومنصب النُّبُوَّة وتخرص من أهل النِّفَاق وَهَا أبين لَك ذَلِك فِي سِيَاق الْآيَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى

فصل

قَالَ الله تَعَالَى {وَإِذ تَقول للَّذي أنعم الله عَلَيْهِ وأنعمت عَلَيْهِ أمسك عَلَيْك زَوجك وَاتَّقِ الله}

ذكر بعض الْمُفَسّرين فِي أشبه الْأَقْوَال أَن قَوْله تَعَالَى {وَإِذ تَقول} تَنْبِيه من الله تَعَالَى لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على وَجه العتاب فِي قَوْله لزيد {أمسك عَلَيْك زَوجك} وَأَقُول إِنَّه تَنْبِيه لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليتهيأ لفهم الْخطاب من غير عتاب وَهُوَ الْأَظْهر وَالْأولَى  وبذا تناصرت الْآيَات كَقَوْلِه تَعَالَى {إِذْ ابتلى إِبْرَاهِيم ربه بِكَلِمَات} وَقَوله {وَإِذ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم} إِلَى غير ذَلِك من الْآي

وَأما قَوْله تَعَالَى {أنعم الله عَلَيْهِ} فَفِي هَذَا الْخَبَر معْجزَة للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكرامة لزيد لَكِنَّهَا من أعز الكرامات وَأَشْرَفهَا

فَأَما المعجزة فَهِيَ من بَاب إخْبَاره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالغيوب فَتَقَع كَمَا أخبر عَنْهَا وَذَلِكَ أَن الإنعام هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ فِي أَن وهبه الله تَعَالَى إِيمَانًا لَا يُفَارِقهُ إِلَى الْمَمَات إِذْ لَو كَانَ فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى أَن يسلبه إِيَّاه عِنْد الْوَفَاة لم يسمه نعْمَة فَإِن ثَمَرَة الْإِيمَان إِنَّمَا تجتنى فِي الْآخِرَة وإيمان زائل لَا ثَمَرَة لَهُ فِي الْآخِرَة وَلَا يُسمى نعْمَة بل هُوَ نقمة كَإِيمَانِ بلعم بن باعورا وَغَيره من المخذولين المبدلين نَعُوذ بِاللَّه من بغتات سخطه

فَخرج من فحوى ذكر هَذِه النِّعْمَة أَن زيدا يَمُوت مُؤمنا فَكَانَ ذَلِك وَزِيَادَة أَنه مَاتَ أَمِيرا شَهِيدا مقدما بَين الصفين فِي يَوْم مُؤْتَة كَانَ قد قدمه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْجَيْش فِي حَدِيث يطول ذكره ثمَّ قتل شَهِيدا فَنزل الْوَحْي على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَصَعدَ الْمِنْبَر  فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ (أَخذ الرَّايَة زيد فأصيب) إِلَى قَوْله لقد رفعوا لي فِي الْجنَّة على أسرة من ذهب الحَدِيث

فَهَذِهِ معْجزَة صحت لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بَاب الْإِخْبَار بالغيوب فَوَقَعت بِمحضر الأشهاد كَمَا أخبر عَنْهَا وكما وَقع نقيضها فِي قصَّة أبي لَهب حَيْثُ أخبرهُ ربه فِي قُرْآن يُتْلَى أَنه من أهل النَّار وَمَات كَافِرًا فَكَانَ ذَلِك..

وَأما كَرَامَة زيد فبإعلام الله لَهُ فِي ضمن الْآيَة بسلامة الْعَاقِبَة كَمَا ذَكرْنَاهُ

وَأما تصور العتاب إِن صَحَّ فِي قَوْله {أمسك عَلَيْك زَوجك} فقد يَقع من بَاب ترك الأولى من الْمُبَاحَات كَمَا تقدم وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى أمره بزواجها أَو أخبرهُ بِهِ حَيْثُ قَالَ لَهُ فِي آخر الْآيَة {وَكَانَ أَمر الله مَفْعُولا} وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك الْأَمر عِنْد فراغنا من شرح الْآيَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى

وَأما سَبَب قَوْله لَهُ أمْسكهَا فَهُوَ أَن زيدا جَاءَهُ يتشكى لَهُ بهَا فَقَالَ يَا رَسُول الله زَيْنَب تسبني وتستعلي عَليّ وتعيرني وتفخر عَليّ بِشَرَفِهَا إِلَى غير ذَلِك وَأُرِيد أَن أطلقها

فقد رُبمَا كَانَ الأولى أَن يَقُول لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثلا أَنْت وشأنك أَو مَا يقرب من هَذَا من الْأَقْوَال أَو يسكت عَنهُ فَلَا يَأْمُرهُ وَلَا ينهاه لكَونه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أمره الله تَعَالَى بتزويجها أَو أخبر بذلك فَقَالَ لَهُ أمْسكهَا وَالْأَظْهَر أَنه قصد عَلَيْهِ السَّلَام بِهَذِهِ القولة خوف القالة من السُّفَهَاء أَن يَقُولُوا  مَا قَالُوهُ فيهلكوا بأذيته فَتَصِح عَلَيْهِم اللَّعْنَة فِي الدَّاريْنِ وَالْعَذَاب الْأَلِيم بِدَلِيل الْكتاب قَالَ الله تَعَالَى {إِن الَّذين يُؤْذونَ الله وَرَسُوله لعنهم الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأعد لَهُم عذَابا مهينا}

وَأَيْضًا أَنه لما سمع أَن الله تَعَالَى عَاتب دَاوُود صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله {أكفلنيها} قَالَ هُوَ أمْسكهَا وَسقط العتاب

وَأما قَوْله {وَاتَّقِ الله} يَعْنِي فِي ذكرهَا بالقبح لغيبها فِي قَوْله تَقول لي كَذَا وَتفعل بِي كَذَا وَهِي غَائِبَة فَنَهَاهُ عَن الْغَيْبَة الْمنْهِي عَنْهَا شرعا بِدَلِيل أَن قَول زيد أطلقها كَلَام مُبَاح لَيْسَ فِيهِ حظر وَلَا كَرَاهَة فِي الشَّرْع

وَأما قَول الله عز وَجل لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وتخفي فِي نَفسك مَا الله مبديه} يَعْنِي من تَزْوِيجهَا الَّذِي أَمرتك بِهِ أَو أعلمتك بِهِ

وَأما قَوْله تَعَالَى {وتخشى النَّاس} أَي تخشى من قَول النَّاس على حذف حرف الْجَرّ كَأَنَّهُ يَقُول تخشى من النَّاس أَن يَقُولُوا فِيك فيأثموا ويهلكوا وَالله أَحَق أَن تخشاه

أَي تخشى مِنْهُ على النَّاس وَلِلنَّاسِ حَتَّى يَقع مرادي فِيك وَفِي النَّاس إِذْ لَيْسَ احتياطك يُغني عَنْهُم من الله شَيْئا فَلَا عَلَيْك مِمَّن قَالَ وَلَا مِمَّن أَثم فَأَنا أعلم بِمَا يَقُولُونَ وَبِمَا أجازيهم كَمَا قَالَ تَعَالَى لَهُ لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء و (لَيْسَ عَلَيْك هدَاهُم) و {إِنَّك لَا تهدي من أَحْبَبْت} إِلَى غير ذَلِك  وَأما أَن يكون الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْشَى النَّاس من غير مُرَاعَاة لهَذَا الْقدر وَمَا أشبهه فحاشا وكلا وَكَيف وَقد قَالَ تَعَالَى بعد هَذِه الْآيَة {الَّذين يبلغون رسالات الله ويخشونه وَلَا يَخْشونَ أحدا إِلَّا الله} فقد زكى الله تَعَالَى أنبياؤه بإنهم أفردوه بالخشية فَلَو كَانَ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْشَى النَّاس لأجل النَّاس لتناقض الْخَبَر والتناقض فِي خبر الله وَرَسُوله محَال

وَأما مَا خَافَ أَن يَقُوله النَّاس فيهلكوا فَهُوَ على خَمْسَة أوجه

أَحدهَا مَا جرت بِهِ عادات الجهلة المتكبرين على الموَالِي فَيَقُولُونَ كَيفَ يسوغ لَهُ أَن يعمد إِلَى كَرِيمَة من كرائمه وَأقرب النَّاس إِلَيْهِ نسبا فيزوجها لعَبْدِهِ

وَالثَّانِي وَهُوَ أَشد عَلَيْهِم فِي الْإِنْكَار أَن يَقُولُوا كَيفَ رَضِي أَن يَتَزَوَّجهَا بعد عَبده

الثَّالِث أَن يَقُولُوا إِنَّمَا حمله على ذَلِك حبه لَهَا وشغفه بهَا

الرَّابِع قلَّة المراعاة لأمر الله وَعدم التَّسْلِيم لحكمه إِذْ لَو كَانُوا يذعنون لأحكام الله تَعَالَى ويسلمون لَهُ لم ينكروا شَيْئا مِمَّا فعله نَبِيّهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

الْخَامِس وَهُوَ أصل لكل رذيلة وَهُوَ مُرَاعَاة التحسين والتقبيح وردهما إِلَى الْعُقُول القاصرة وَمَا جرت بِهِ الْعَادَات وَهُوَ دَاء عضال نغلت بِهِ قُلُوب الجهلة الضَّالّين ففندوا حكم الله تَعَالَى واعترضوا لفعاله فِي خلقه  وَكَانَ أول من سنّ هَذِه الداهية الدهياء إِبْلِيس حَيْثُ قَالَ {أأسجد لمن خلقت طينا} و {قَالَ لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون} و {أَنا خير مِنْهُ} و {أرأيتك هَذَا الَّذِي كرمت عَليّ} إِلَى غير ذَلِك من أَقْوَاله السخيفة فَانْظُر رَحِمك الله إِلَى أهل هَذِه الْمذَاهب الخسيسة بِمن اقتدوا فِيهَا وعَلى من عولوا فِي اقتدائهم قَاتلهم الله أَنى يؤفكون

وَمِمَّا قيل فِي معنى قَوْله {وتخشى النَّاس} أَنه يخْشَى النَّاس أَن يَقُولُوا كَيفَ يحرم علينا أَزوَاج الْبَنِينَ وَهُوَ مَعَ ذَلِك يتَزَوَّج زوج ابْنه فلأجل هَذِه الْأَقْوَال كَانَت خَشيته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على النَّاس إِذْ لَيْسَ مِنْهَا وَاحِدَة إِلَّا وَهِي تحمل إِلَى سِجِّين فَإِنَّهَا كلهَا مُعَارضَة لقَوْله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا}

وَقَوله تَعَالَى {من يطع الرَّسُول فقد أطَاع الله}

وَقَوله تَعَالَى {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله}

وَقَوله تَعَالَى حَيْثُ أقسم بِذَاتِهِ المعظمة فَقَالَ {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا}

فَمن أجل هَذِه الْآي وأمثالها خشِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(1/58)

أَن يَقع فِيهِ النَّاس وَقد وَقَعُوا فِيمَا ذَكرْنَاهُ وَفِيمَا هُوَ أَشد مِنْهُ

قَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا زَوَّجْنَاكهَا} الوطر هُنَا النِّكَاح

وَاعْلَم رَحِمك الله أَن فِي هَذِه الْآيَة فَوَائِد جمة مِنْهَا أَن الله تَعَالَى جعل فِيهَا لزيد صيتًا وشرفا خصّه بِهِ عَن جملَة الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَذَلِكَ أَنه لم يذكر فِي الْكتاب مِنْهُم أحدا باسمه الْعلم إِلَّا زيدا وَسبب ذَلِك وَالله أعلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قد تبناه قبل ذَلِك فَكَانَ يدعى بِابْن رَسُول الله حَتَّى نزل عَلَيْهِ {ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أقسط عِنْد الله}

فَسُمي بعد ذَلِك زيد بن حَارِثَة فَعوضهُ الله تَعَالَى بِأَن سَمَّاهُ فِي كِتَابه باسمه الْعلم

وَهَذِه القولة لَيست لي وَلَا يبلغ نَظَرِي إِلَى هَذَا الْقدر وَإِنَّمَا ذكرهَا الإِمَام أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ فِي بعض تواليفه وَلَا أعلم هَل هِيَ لَهُ أَو لغيره وَلِأَن من غاص عَلَيْهَا لغواص من بَاب الْإِشَارَة

وَقد يحْتَمل أَن تخرج من بَاب الْفِقْه وَهُوَ أَن يكون تَسْمِيَة زيد بالعلمية ليتبين فِي الْآيَة ثُبُوت هَذَا الحكم ووقوعه فِي أَبنَاء التبني إِذْ لَو قَالَ تَعَالَى فَلَمَّا قضى بَعْلهَا لم يعلم من البعل من مُقْتَضى الْآيَة

وَمِنْهَا أَن الله تَعَالَى سنّ لرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه السّنة على

(1/59)

رغم أنف المتكبرين فَمن لَام بعد هَذِه السّنة أحدا فِي أَن يُزَوّج مثلا بنته لعَبْدِهِ أَو يتَزَوَّج امْرَأَة عَبده من بعده فليفغر فوه بفهر يكسر قواضمه وخواضمه ويطرح فِي أمه الهاوية إِذْ لَيْسَ بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَارِع وَلَا فَوق شرفه شرف

وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى لرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {زَوَّجْنَاكهَا}

فأضاف تَعَالَى تَزْوِيجهَا لنَبيه إِلَى نَفسه وَمَا أضَاف الله تَعَالَى لنَفسِهِ شَيْئا إِلَّا وَشرف ذَلِك الشَّيْء كَمَا قَالَ تَعَالَى {روحي} و {بَيْتِي} و {جنتي} و {عَذَابي} و {نَاقَة الله} و {نَار الله} وَالْكل مَخْلُوق ومربوب وَلَكِن الله اخْتصَّ بالشرف الإضافي هَذِه الْمَخْلُوقَات

وَفِي هَذَا التَّزْوِيج شرف لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كَون تَزْوِيج النَّاس أجمع من عِنْدهم وباختيارهم واجتهادهم وَهَذَا التَّزْوِيج بِأَمْر الله على الْخُصُوص واختياره وإكرامه لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

وَمِنْهَا تشريف لِزَيْنَب زوجه وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى مَا اخْتَارَهَا لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى علم حصانتها ودينها وورعها وَحفظ أدبها لمراعاة خلْطَة سيد الْمُرْسلين وَلها أَيْضا على سَائِر نِسَائِهِ فِي هَذَا التَّزْوِيج مزية وَإِن كن كُلهنَّ

(1/60)

مطهرات محفوظات وَقد ذكرت هِيَ ذَلِك لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت لَهُ يَا رَسُول الله أما إِنِّي لأدل عَلَيْك بِثَلَاث لَا يدل بهَا عَلَيْك وَاحِدَة من نِسَائِك

فَقَالَ وَمَا هِيَ

فَقَالَت إِحْدَاهَا أَنِّي أقرب إِلَيْك نسبا من جَمِيع نِسَائِك لِأَن جدي وَجدك وَاحِد

وَالثَّانيَِة أَن الله تَعَالَى زَوجنِي إياك

وَالثَّالِثَة أَن كَانَ السفير بيني وَبَيْنك جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام

فيا لَهَا من حرَّة فَلَقَد فخرت وصدقت مَعَ أَنَّهَا أغفلت رَابِعا يُؤَكد ثُبُوت هَذِه الثَّلَاثَة وَهُوَ كَون قصَّتهَا مسطرة فِي قُرْآن يُتْلَى إِلَى الْأَبَد

إِذْ لَو كَانَت من خبر الْوَاحِد لاختلجتها الظنون

ثمَّ قَالَ تَعَالَى لكيلا يكون على الْمُؤمنِينَ حرج فِي أَزوَاج أدعيائهم إِذا قضوا مِنْهُنَّ وطرا وَكَانَ أَمر الله مَفْعُولا

علل الله عز وَجل هَذَا التَّزْوِيج ليعلم النَّاس أَن من تبنى أحدا ثمَّ تزوج امْرَأَته من بعده فَلَا حرج عَلَيْهِ فَإِن من تبناه لَيْسَ كابنه الَّذِي لصلبه

قَالَ تَعَالَى فِي تَحْرِيم أَزوَاج الْأَبْنَاء للصلب {وحلائل أَبْنَائِكُم الَّذين من أصلابكم} وَقَالَ {وَمَا جعل أدعياءكم أبناءكم} فَرفع الْحَرج بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي التبني ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَكَانَ أَمر الله مَفْعُولا}

(1/61)

الْأَمر هُنَا يحْتَمل الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فَإِن كَانَ الله أمره بتزويجها فَيكون وَكَأن الْمَأْمُور بِهِ مَفْعُولا أَي وَاقعا فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى وَيُسمى الْمَأْمُور بِهِ أَمر الْمُنَاسبَة بَين الْأَمر والمأمور فَإِن الْأَمر من الله تَعَالَى يَسْتَحِيل أَن يكون مَفْعُولا لكَونه يرجع لكَلَامه الأزلي وَإِن كَانَ أَمر بِمَعْنى المُرَاد على سَبِيل الْمجَاز فَيكون وَكَأن مَا أخْبرك الله تَعَالَى بِهِ من المُرَاد وَاقعا إِذْ مَا أَرَادَ الله تَعَالَى وُقُوعه فَلَا بُد من وُقُوعه فَتَأمل رَحِمك الله هَذِه الْقِصَّة العجيبة فَإِنَّهَا تَتَضَمَّن خمس عشرَة فَائِدَة مِنْهَا فِي جَانب الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتَّة

إِحْدَاهمَا المعجزة فِي إخْبَاره بالغيوب فَوَقَعت كَمَا أخبر عَنْهَا

الثَّانِيَة تواضعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن زوج كريمته بِعَبْدِهِ

الثَّالِثَة انقياده لأمر الله فِي تَزْوِيجهَا بِعَبْدِهِ

الرَّابِعَة إِثْبَات هَذَا التَّزْوِيج سنة

الْخَامِسَة قمع المتكبرين وإرغام أنوفهم فِي هَذِه السّنة

السَّادِسَة فِي الرَّد على من قَالَ بتحسين الْعقل وتقبيحه

وَالَّتِي من جَانب زيد أَربع

إِحْدَاهَا بِشَارَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ بسلامة عاقبته

الثَّانِيَة مَوته شَهِيدا بَين الصفين

الثَّالِثَة مَا أخبر عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه فِي الْجنَّة

الرَّابِعَة تَسْمِيَته فِي الْكتاب بالعلمية على الْخُصُوص

وَالَّتِي فِي حق زَيْنَب رَضِي الله عَنْهَا خمس

(1/62)

إِحْدَاهَا أَن الله تَعَالَى رضيها لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَهلا

الثَّانِيَة أَن صيرها أم الْمُؤمنِينَ

الثَّالِثَة أَن كَانَ خطيبها جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام

الرَّابِعَة أَن كَانَ وَليهَا رب الْعَالمين

الْخَامِسَة أَن كَانَت قصَّتهَا قُرْآنًا يُتْلَى

فَهَذِهِ خمس عشر فَائِدَة صحت فِي هَذِه الْقِصَّة شَامِلَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولأمته سوى مَا أغفله الخاطر

والجهلة يخبطون عشواء الدجون

فَهَذَا مَا من الله تَعَالَى بِهِ من ثَمَرَات النّظر فِي هَذِه الْقَصَص الْأَرْبَع فِي حق السَّادة القادة صلوَات الله عَلَيْهِم

ونسأل الله تَعَالَى مَعَ هَذَا التحفظ على مناصبهم السّنيَّة ومناقبهم الرضية الْعَفو عَمَّا وَقع فِيهَا من الْخَطَأ والخطل بحوله وَطوله

(1/63)

فصل

ولنذكر الْآن مَا وَقع من بعض قصَص الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي الْقُرْآن وَهِي الْقَصَص الَّتِي اعترضها أهل الزيغ والإلحاد فِي أَقْوَال الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وأفعالهم بِمَا من الله بِهِ وَالله الْمُسْتَعَان

وَقد كُنَّا نرتب الْكَلَام فِيهَا على تَرْتِيب الزَّمَان فنبدأ بِقصَّة آدم عَلَيْهِ السَّلَام ونختم بِقصَّة نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكنا قدمنَا هَذِه الْقَصَص لتأكيد اعْتِرَاض السفلة عَلَيْهَا وشناعة طبعهم فِيهَا كَمَا تقدم

فَنَذْكُر قصَّة آدم عَلَيْهِ السَّلَام فِي أكله من الشَّجَرَة الْمنْهِي عَنْهَا

وقصة نوح عَلَيْهِ السَّلَام فِي قَوْله {إِن ابْني من أَهلِي} وَفِي دُعَائِهِ على قومه

وقصة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي الثَّلَاثَة الْأَقْوَال الَّتِي عدهَا هُوَ كذبات وَفِي الثَّلَاثَة الْكَوَاكِب والأنوار وقصته عَلَيْهِ السَّلَام فِي قَوْله {رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى}

وقصة عُزَيْر عَلَيْهِ السَّلَام فِي قَوْله {أَنى يحيي هَذِه الله بعد مَوتهَا}

وقصة أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام فِي محنته

وقصة يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام ومغاضبته لِقَوْمِهِ وفراره مِنْهُم ولومه وتوبته وَقبُول تَوْبَته

(1/64)

وقصة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي قتل الْكَافِر

ثمَّ نختم هَذِه الْقَصَص بِقصَّة مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام فِي هزها الْجذع وَغلط من حط من مقَامهَا من الْجمع إِلَى الْفرق فِي ذَلِك الْوَقْت إِن شَاءَ الله تَعَالَى

وَكَذَلِكَ قصَّة إخْوَة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام وَالرَّدّ على من اعْترض علينا فَقَالَ إِنَّهُم عِنْدَمَا واقعوا مَا واقعوا مَعَ أخيهم وأبيهم كَانُوا أَنْبيَاء وَالله الْمُسْتَعَان

(1/65)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء

شرح قصَّة آدم عَلَيْهِ السَّلَام

فِي أكله من الشَّجَرَة بَعْدَمَا نهي عَنْهَا

اخْتلف النَّاس فِي هَذِه الْقِصَّة اخْتِلَافا لَا يكَاد يَنْضَبِط وَذَلِكَ لِأَن الله تَعَالَى مَا نَص على مَعْصِيّة لنَبِيّ إِلَّا لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام خُصُوصا فَلَمَّا كَانَ ذَلِك وجد أهل الدَّعَاوَى وَأهل الْحيرَة مَعَ مَا دهاهم من عدم التَّحْقِيق وَكيد الوسواس سَبِيلا إِلَى الْإِخْلَال بِحقِّهِ عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى سطروا فِي الضبائر وأفصحوا على المنابر بِأَن قَالُوا إِذا كَانَ راس الدن درديا فَمَا ظَنك بقعره

وَهَذِه وصمة تجر إِلَى تنقيصه وتنقيص من بعده من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَهُوَ مقصودهم فِي ذَلِك وشرحوا قَوْله تَعَالَى فَلَمَّا ذاقا الشَّجَرَة بَدَت لَهما سوءاتهما أَنَّهُمَا لما عصيا سلب الله عَنْهُمَا أنوار الربوبية الروحانية الَّتِي كَانَت فاضت عَلَيْهِمَا مِنْهُ تَعَالَى عَمَّا يصفونَ فطهر لَهما الْجِسْم الترابي المجبول على الْمعْصِيَة فعلما إِذْ ذَاك أَنه مِنْهُ أُتِي عَلَيْهِمَا فأوجبوا الْمعاصِي للأجسام الترابية وأنبياء الله تَعَالَى كلهم أجسام ترابية وَهِي ظَاهِرَة لَهُم

وَهَذَا أقل مَا نسبوه لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام

(1/66)

فصل

وَأول مَا يَنْبَغِي أَن نقدم أَن آدم عَلَيْهِ السَّلَام لم يكن عِنْدَمَا أكل من الشَّجَرَة نَبيا والعصمة لَا تشْتَرط للنَّبِي إِلَّا بعد ثُبُوت النُّبُوَّة لَهُ فَمن النَّاس من ذكر الْإِجْمَاع على أَنه لم يكن نَبيا عِنْدَمَا أكل من الشَّجَرَة وَمِنْهُم من اكْتفى بِظَاهِر قَوْله تَعَالَى {ثمَّ اجتباه ربه فَتَابَ عَلَيْهِ} وَهَذَا عطف ب (ثمَّ) الَّتِي تُعْطِي المهلة ثمَّ ذكر الاجتباء وَالْهِدَايَة

والاجتباء هُنَا النُّبُوَّة بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام عِنْدَمَا عدد الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام ومناقبهم على التَّفْصِيل قَالَ {وَمِمَّنْ هدينَا واجتبينا} يَعْنِي من النَّبِيين أجمعهم

وَقَالَ فِي قصَّة يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام بعد قصَّة الْحُوت {فاجتباه ربه} وَهَذَا وَجه من الْوُجُوه يثبت أكله من الشَّجَرَة قبل نبوته لَا

فصل

وَالَّذِي يَنْبَغِي أَن يعول عَلَيْهِ فِي قصَّة آدم عَلَيْهِ السَّلَام أَن نَهْيه عَن الشَّجَرَة كَانَ نهي إرشاد وإعلام على جِهَة الْوَصِيَّة والنصيحة لَا على جِهَة التَّكْلِيف فَإِنَّهُ مَا صَحَّ تَكْلِيفه فِي الْجنَّة وَلَا نبوته فِي كتاب وَلَا سنة والأوامر والنواهي تَنْقَسِم إِلَى مَشْرُوع وَغير مَشْرُوع كالأوامر اللُّغَوِيَّة فَإِن السَّيِّد قد يَقُول لعَبْدِهِ وَالْأَخ لِأَخِيهِ والصاحب لصَاحبه على جِهَة الْإِعْلَام والإرشاد والنصيحة افْعَل كَذَا واترك كَذَا تسلم من كَذَا وتظفر بِكَذَا وَكَذَلِكَ أوَامِر الْأَطِبَّاء للعليل بالحمية والدواء والغذاء إِلَى غير ذَلِك

(1/67)

فَكَانَ أَمر الله تَعَالَى لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام بسكنى الْجنان وَالْأكل الرغد ونفوذ الْمَشِيئَة من بَاب الْإِعْلَام والتأنيس بالبشارات بِأَنَّهُ لَا يجوع فِيهَا وَلَا يعرى وَلَا يظمأ وَلَا يضحى وَكَانَ نَهْيه لَهُ على جِهَة الْإِرْشَاد الْمُتَقَدّم ذكره أَو التحذير مِمَّا تؤول إِلَيْهِ عقباه إِن فعل مَا نهي عَن فعله فِي خُرُوجه عَن الْجنَّة وشقائه فِي الدُّنْيَا والإعلام بمكيدة الشَّيْطَان والتحفظ مِنْهُ وَكَونه عدوا حَاسِدًا لَهُ

وَهَذَا مَعْلُوم فِي اللِّسَان وَمَا جرت بِهِ الْعَادَات وَقد أَمر الله تَعَالَى إِبْلِيس بقوله {واستفزز من اسْتَطَعْت مِنْهُم بصوتك وأجلب عَلَيْهِم بخيلك ورجلك وشاركهم فِي الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد وعدهم} فَهَذِهِ أوَامِر على جِهَة الْوَعيد لَهُ والتهديد كَقَوْلِه تَعَالَى للكفرة {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} وَلَيْسَت بتكليف إِذْ لَو كَانَت على جِهَة التَّكْلِيف بِفِعْلِهَا لَكَانَ وُقُوعهَا مِنْهُ طَاعَة وَهُوَ عَاص فِي هَذِه الْأَفْعَال إِجْمَاعًا

وَقد أَمر الله مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام بِأخذ الْحَيَّة وَنَهَاهُ عَن الْخَوْف مِنْهَا حَيْثُ قَالَ لَهُ {خُذْهَا وَلَا تخف} وَالْخَوْف أَمر ضَرُورِيّ فَلَا يَقع الْأَمر بِهِ جزما فَكَانَ الْأَمر لَهُ على جِهَة التأنيس والإعلام بِأَنَّهَا لَا تؤذيه إِذْ أَخذهَا وَكَانَ مُكَلّفا إِذا ذَاك وَلم يكن ذَلِك الْأَمر وَالنَّهْي لَهُ مشروعين وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {اسلك يدك فِي جيبك تخرج بَيْضَاء من غير سوء} وَقَوله تَعَالَى لأم مُوسَى {فَإِذا خفت عَلَيْهِ فألقيه فِي اليم وَلَا تخافي وَلَا تحزني}

(1/68)

وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي الصَّحِيح إِذْ رأى رجلا يقطعهُ الْآل فَقَالَ كن أَبَا خَيْثَمَة فَإِذا هُوَ أَبُو خَيْثَمَة فَهَذَا أَمر على وَجه الْخَيْر كَأَنَّهُ يَقُول هَذَا أَبُو خَيْثَمَة إِلَى غير ذَلِك

وَيَكْفِيك أَن الْآخِرَة لَيست بدار تَكْلِيف وفيهَا أوَامِر ونواه مثل قَوْله تَعَالَى للْمُؤْمِنين على جِهَة الْبشَارَة {ادخُلُوا الْجنَّة أَنْتُم وأزواجكم تحبرون} وَقَوله تَعَالَى {ادخلوها بِسَلام آمِنين} وَقَوله تَعَالَى للْكَافِرِينَ على جِهَة الإغلاظ والترويع فادخلوا أَبْوَاب جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا فبئس مثوى المتكبرين وَقَوله تَعَالَى {اخسؤوا فِيهَا وَلَا تكَلمُون} على جِهَة التحقير والخزي والطرد وَقَوله تَعَالَى على جِهَة التصير لأَصْحَاب السبت {كونُوا قردة خَاسِئِينَ} وَقَوله تَعَالَى على جِهَة

(1/69)

التَّعْجِيز {كونُوا حِجَارَة أَو حديدا} إِلَى غير ذَلِك من أَنْوَاع الْأَوَامِر والنواهي

وَإِذا كَانَ هَذَا هَذَا فَمن أَيْن لقَائِل أَن يَقُول إِن نهي آدم عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ على جِهَة الْحَظْر اَوْ الْكَرَاهَة فَإِن احْتَجُّوا بقوله تَعَالَى إِنَّه عصى وغوى وظلم نَفسه

قُلْنَا إِذا لم يثبت تَكْلِيفه فِي الْجنَّة فَتخرج هَذِه الْأَلْفَاظ على مُقْتَضى اللُّغَة فَإِن الْمعْصِيَة فِي اللِّسَان عدم الِامْتِثَال كَانَت مَقْصُودَة أَو غير مَقْصُودَة وظلم النَّفس غبنها وبخسها فِي مَنَافِعهَا لكَونه وضع الْفِعْل فِي غير مَوْضِعه وَكَذَلِكَ غوى أَدخل على نَفسه الضَّرَر يُقَال غوى الفصيل إِذا رضع فَوق حَده من اللَّبن فبشم فعلى هَذِه الْوُجُوه تخرج هَذِه الْأَلْفَاظ

فَإِن قيل إِذا خَرجْتُمْ هَذِه الْأَلْفَاظ على هَذِه الْوُجُوه فَمَا قَوْلكُم فِي

(1/70)

قَوْله تَعَالَى {فأزلهما الشَّيْطَان عَنْهَا فأخرجهما} وَفِي قَوْله {فدلاهما بغرور} إِلَى غير ذَلِك فَنَقُول تخرج هَذِه الْأَلْفَاظ أَيْضا على جِهَة قصد الشَّيْطَان والتعريض بالوسوسة إِلَيْهِ لَا على قصد الْقبُول من آدم عَلَيْهِ السَّلَام لوسوسته وخدعه فَإِن الشَّيْطَان قد يوسوس إِلَى الْأَنْبِيَاء وَلَكِن لَا يقبلُونَ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى لنبينا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ فاستعذ بِاللَّه} وَقَالَ لَهُ {وَقل رب أعوذ بك من همزات الشَّيَاطِين وَأَعُوذ بك رب أَن يحْضرُون}

وسنحيل ذَلِك فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى

وَجُمْلَة الْأَمر أَنه إِذا لم يثبت تَكْلِيف لم يثبت إِيجَاب وَلَا حظر وَلَا طَاعَة وَلَا مَعْصِيّة يَقع فِيهَا ذمّ شَرْعِي وَلَا مدح وَلَا ثَوَاب وَلَا عِقَاب وَهَذَا مَا أجمع عَلَيْهِ أهل السّنة

فصل

فَإِن قيل فَإِذا كَانَ ذَلِك كَمَا زعمتم فَمَا الْمُخْتَار عِنْد أهل الْحق فِي هَذِه الْقِصَّة وَمَا معتقدهم فِيهَا وَكَيف التَّخَلُّص مِنْهَا

فَنَقُول التَّخَلُّص مِنْهَا عِنْد أهل الْحق إِن شَاءَ الله أَن الله تَعَالَى نَهَاهُ على جِهَة الْإِرْشَاد والإعلام والنصيحة لَا على نهي التَّكْلِيف ووسوس إِلَيْهِ الشَّيْطَان على جِهَة الإغواء والحسد وَالْمَكْر فَلم يقبل مِنْهُ ثمَّ

(1/71)

أنساه الله تَعَالَى بعد ذَلِك إرشاده إِيَّاه ووصيته لَهُ ووسوسة الشَّيْطَان إِلَيْهِ فَأكل مِنْهَا غافلا عَن الْوَصِيَّة والوسوسة

وَإِذا كَانَ ذَلِك لم يبل هَل كَانَ عِنْد ذَلِك نَبيا أَو لم يكن نَبيا فَإِن النَّاسِي لَا طلب عَلَيْهِ فِي الشَّرْع وَلَا ذمّ بِالْإِجْمَاع وَالدَّلِيل على أَنه نسي قَوْله تَعَالَى {وَلَقَد عهدنا إِلَى آدم من قبل فنسي وَلم نجد لَهُ عزما} يَعْنِي عهدنا إِلَيْهِ فِي أَمر الشَّجَرَة فنسي الْعَهْد فَأكل مِنْهَا من غير عزم على أكلهَا وَلَا مُتَعَمدا لاطراح الْوَصِيَّة وَالنَّهْي أَو نسي المراقبة لتِلْك الْوَصِيَّة وَلم نجد لَهُ عزما على المراقبة فألقي عَلَيْهِ النسْيَان بِتَرْكِهِ المراقبة فَأكل مِنْهَا وَلَا يَصح فِي حَقه عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ شَهَادَة الْقَرَائِن وَعظم المكانة غير هذَيْن الْوَجْهَيْنِ مَعَ أَن الْعَزْم فِي اللِّسَان هُوَ الْإِرَادَة الَّتِي يَقع مَعهَا الْفِعْل وَقد نَهَاهُ تَعَالَى عَنهُ فَلم يبْق إِلَّا أَنه أكل نَاسِيا من غير عزم

فَإِن قيل وَمَا دليلكم على أَن الْعَهْد المنسي إِنَّمَا كَانَ فِي أَمر الشَّجَرَة والعهود كَثِيرَة كعهده لَهُ فِي حمل الْأَمَانَة وَغَيرهَا

فَنَقُول دليلنا على ذَلِك أَنه لَو قصد ارْتِكَاب نهي الله تَعَالَى وَترك نصيحته لَهُ مُرَاعَاة لمكيدة الشَّيْطَان ومكره بِهِ وقبوله مِنْهُ فَأكل مِنْهَا مُتَعَمدا لصِحَّة قَول اللعين تَارِكًا لوَصِيَّة الله وَنَهْيه مُتَعَمدا لتركهما لَكَانَ مُتَّهمًا لخبره تَعَالَى مفندا لحكمه مرتكبا لنَهْيه وَهَذِه كَانَت فعلة الشَّيْطَان عِنْد امْتِنَاعه من السُّجُود حذوك النَّعْل بالنعل وَبهَا حكم بِكُفْرِهِ

فَمن اعْتقد هَذَا فِي حَقه عَلَيْهِ السَّلَام فقد رَمَاه برجام الْكفْر والإبتراك فِي أوضار الْجَهْل ودحض المزلات فَأَما مَا كَانَ يبترك

(1/72)

فِيهِ من الجهالات فَفِي تَقْلِيده عدوه الشَّيْطَان وَقبُول قَوْله من غير دَلِيل فِي أَنَّهَا شَجَرَة الْخلد الَّتِي توجب الْملك الدَّائِم والحياة الدائمة وَهَذَا هُوَ القَوْل بالطبع فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو أَن تفعل الشَّجَرَة ذَلِك باختيارها أَو توجبه بِنَفسِهِ ومحال أَن تفعل باختيارها فَإِنَّهَا جماد وَلَو قدرت حَيا لم يَصح فعلهَا فِي غَيرهَا فَإِن الْقُدْرَة الْحَادِثَة لَا تتَعَلَّق بِمَا خرج عَن محلهَا فَلم يبْق إِلَّا الطَّبْع وَالْقَوْل بِهِ كفر فَمن قَالَ إِنَّه أكلهَا قَاصِدا لما ذَكرْنَاهُ ألزم اعْتِقَاد وُقُوع هَذِه الجهالات كلهَا من آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَهِي لَا تجوز عَلَيْهِ فَإِنَّهَا تُؤدِّي إِلَى الْكفْر الصراح

وَمَعْلُوم من دين الْأمة أَنه مَا كفر نَبِي قطّ وَلَا جهل الله تَعَالَى وَلَا سجد لوثن وَلَا أخبر تَعَالَى عَن وَاحِد مِنْهُم بالْكفْر وَلَا بِمَا دون الْكفْر من الْمعاصِي قبل النُّبُوَّة وَبعدهَا سوى قصَّة آدم عَلَيْهِ السَّلَام فَمن قَالَ بسوى هَذَا فَعَلَيهِ الدَّلِيل وَلَا دَلِيل

فَإِن قيل وَلَعَلَّه كَانَ يعْتَقد أَن إِبْلِيس أعلم أَنه من أكل مِنْهَا يخلد فِي الْجنَّة بِإِرَادَة الله تَعَالَى لَا بالطبع والإيجاب

قُلْنَا بَاطِل فَإِن الله تَعَالَى أعلمهُ قبل ذَلِك بنقيض قَول الشَّيْطَان فِي أَن الْأكل مِنْهَا سَبَب الْخُرُوج فَلَو اعْتقد الخلود فِيهَا إِذا أكل من الشَّجَرَة بقول الشَّيْطَان لَكَانَ مُكَذبا للْخَبَر السَّابِق من الله تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي فَرغْنَا من استحالته عَلَيْهِ فَلم يبْق إِلَّا أَنه أكل مِنْهَا نَاسِيا فَإِنَّهُ إِذا لم يَصح الْعمد لم يبْق إِلَّا النسْيَان على أَنا لَو قَدرنَا وُقُوع هَذِه القبائح من أدنى عَاقل مُؤمن من البله منا لم يَصح فَكيف يَصح مِمَّن خلقه الله تَعَالَى بِيَدِهِ وأسجد لَهُ مَلَائكَته وَجعله قبْلَة لَهُم وَعلمه الْأَسْمَاء كلهَا وَجعله معلما

(1/73)

لَهُم كَلمه بِلَا ترجمان على جِهَة الْإِكْرَام والإعلام والنصيحة جَاءَ فِي الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ آدم نَبِي مُكَلم يَعْنِي بِغَيْر وَاسِطَة إِذْ من الْأَنْبِيَاء غير مكلمين قَالَ الله تَعَالَى {مِنْهُم من كلم الله} فَكيف يكون آدم عَلَيْهِ السَّلَام مكلما على هَذِه الْوُجُوه كَمَا تقدم ثمَّ يَقع فِي مثل هَذِه الجهالات قَاصِدا مُتَعَمدا حاشى وكلا فيا لله لما يرتكبه الْجَاهِل من نَفسه من حَيْثُ لَا يشْعر

فَخرج من مَجْمُوع مَا ذَكرْنَاهُ أَنه أكل مِنْهَا نَاسِيا وَعُوتِبَ على نسيانه الْوَصِيَّة إِذْ لَو كَانَ مراقبا لم ينسها على مجْرى الْعَادة فَهَذَا هُوَ الْحق الَّذِي يرغب فِيهِ وَلَا يرغب عَنهُ وَلَا يَصح أَن يعْتَقد فِي حَقه وَلَا فِي حق نظرائه من النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ سوى مَا ذَكرْنَاهُ أَو مَا يضاهيه من الشُّرُوح الَّتِي لَا تخل بِقَدرِهِ وَلَا تغض من جاهه واجتبائه واصطفائه كَمَا أخبر تَعَالَى عَنهُ

فَإِن قيل وَلَعَلَّه أكل مِنْهَا غير قَابل لمكيدة الشَّيْطَان وَلَا راد لوَصِيَّة ربه وإرشاده إِيَّاه أَو نَاسِيا لمكيدة الشَّيْطَان عَالما بِوَصِيَّة ربه لَكِن لشَهْوَة غلبت عَلَيْهِ حَتَّى هان عَلَيْهِ الْخُرُوج من الْجنَّة لتَحْصِيل تِلْكَ الشَّهْوَة

قُلْنَا هَذَا لَا يَصح فِي حَقه عَلَيْهِ السَّلَام لِأَنَّهُ مُؤذن بِضعْف عقل فَاعله وَشدَّة شرهه وَسُوء رَأْيه وَقلة علمه والتقحم على خسيس الشَّهْوَة

(1/74)

رضى بالنقمة وَلَيْسَت هَذِه أخلاقه وَلَا شيمته بل كَانَ رَأس الْعُقَلَاء وَرَئِيس الْحُكَمَاء ومعلم الْمَلَائِكَة وَلَو حُكيَ هَذَا عَن عَاقل من لفيف النَّاس لاستبعد فِي حَقه فَكيف فِي حق من كَلمه الله بِلَا ترجمان على جِهَة الْإِكْرَام فَلم يبْق إِلَّا أَن النسْيَان الَّذِي أخبر الله عَنهُ وَعدم الْعَزْم إِنَّمَا كَانَ فِي أَمر أكل الشَّجَرَة لَا غير

فَهَذَا هَذَا وَلم يبْق بعد الْخُرُوج عَن هَذِه الإلزامات فِي أَنه أكل مِنْهَا نَاسِيا مطْعن لطاعن وَالله أعلم

ولتعلموا أرشدنا الله وَإِيَّاكُم أَن هَذِه النُّكْتَة الغريبة فِي أَمر النسْيَان الَّذِي خلص هَذِه الْقِصَّة من التخيلات الْفَاسِدَة والآراء المضطربة قد تقدم إِلَيْهَا غير وَاحِد من الْعلمَاء وَذكرهَا لَا سِيمَا مَشَايِخ الصُّوفِيَّة فَإِنَّهُم على هَذِه القولة عولوا لكِنهمْ لم يتخلصوا مِنْهَا كل التَّخَلُّص بل نزهوه عَنْهَا تَنْزِيها جمليا غير مفصل بِمثل هَذَا التَّفْصِيل

وَلَقَد تحيرت فِي إِثْبَات هَذَا التَّخَلُّص على هَذَا الْوَجْه مُنْذُ سِنِين لمعارضة هَذَا النسْيَان بِذكر الْمعْصِيَة والغواية وَالظُّلم حَتَّى تذاكرت يَوْمًا فِيهَا مَعَ الْفَقِيه الْعَالم المتفنن أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد اللَّخْمِيّ أدام الله كرامته فَكَانَ مِنْهُ فِي درج المذكرة مَا يَلِيق بِمثلِهِ من التَّنْبِيه فِيهَا على بعض نكت نادرة مؤيدة بالتوفيق الرباني فثلج بِهِ الصَّدْر إِذْ لَا يَصح سواهَا كَمَا قدمْنَاهُ

وَأَخْبرنِي مَعَ ذَلِك أَنه أتعبه النّظر فِي حل مشكلاتها مُدَّة طَوِيلَة حَتَّى فتح عَلَيْهِ فشارك بِحَمْد الله وأعان على مَا كَانَ تعذر مِنْهَا بَارك الله لَهُ فِيمَا

(1/75)

منحه وَبَارك لنا فِي حَيَاته وبقائه وَصِحَّة مُعَامَلَته ومعونته فَانْظُر أَيهَا اللبيب الفطن إِلَيْهَا نظر المتناصف وَلَا تعدل عَن هَذَا الشَّرْح إِلَى سواهُ لِئَلَّا يفتح عَلَيْك بَاب من الْفساد وَلَا يمكنك سَده فَإِنَّهُ إِذا جوزت عَلَيْهِ الْمعْصِيَة الْمنْهِي عَنْهَا شرعا جَازَت على من بعده من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَإِذا لم تجز عَلَيْهِ فأحرى أَلا تجوز على من بعده مِنْهُم لكَوْنهم لم يذكر لوَاحِد مِنْهُم مَعْصِيّة فِي الْكتاب وَلَا فِي السّنة ضمنا وَلَا تَصْرِيحًا وَلَا يجوز وُقُوعهَا عَلَيْهِم كَمَا قدمْنَاهُ

ثمَّ إِن الله تَعَالَى لطف بِآدَم عَلَيْهِ السَّلَام فِي أكله من الشَّجَرَة بعد النَّهْي عَنْهَا من سِتَّة أوجه

أَحدهَا أَنه لما اسجد لَهُ مَلَائكَته على جلالة قدرهم وصيره قبْلَة لَهُم ومعلما لطف بِقَلْبِه أَلا تخطر بِهِ لفتة عجب فامتحنه بِأَكْل الشَّجَرَة فَلَمَّا أكل مِنْهَا عوتب عَلَيْهَا فتواضع

الثَّانِي أَنه كَانَ منبسطا فَلَمَّا أكل مِنْهَا انقبض فَسلم من وهلات الْبسط لِأَن الله تَعَالَى لَا يُعَامل إِلَّا بالخوف وَالْقَبْض

الثَّالِث أَنه امتحن التَّكْلِيف وكد الْمَعيشَة فِي الدُّنْيَا ليحصل لَهُ مقَام الصَّبْر

الرَّابِع أَنه رزق من طَيّبَات ثمراتها ليلتذ بهَا فيشكر نعم الله تَعَالَى عَلَيْهِ فَيجمع بَين الصَّبْر وَالشُّكْر

فَإِن قيل فقد كَانَ يتنعم فِي الْجنَّة بِأَكْثَرَ مِمَّا يتنعم فِي الدُّنْيَا قُلْنَا كَانَ يتنعم من غير تَعب سَابق ونعيمه فِي الدُّنْيَا ممزوج بالمشقة والتنعم بعد الْمَشَقَّة يُؤَكد خَالص الشُّكْر وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لم يُكَلف فِي الْجنَّة كَمَا تقدم فَمَا كَانَ يُؤجر على شكر لَو وَقع مِنْهُ

الْخَامِس أَنه لما خرج من دَار التنعم والدعة إِلَى دَار الْمَشَقَّة

(1/76)

والتكليف صحت لَهُ الْمُعَامَلَة بِالْكَسْبِ والدرجات بِالطَّاعَةِ وميزان الْجنَّة بِالْعَمَلِ

السَّادِس أَن تحصل لَهُ أجور مَا ينتهك بعض ذُريَّته من حُرْمَة عرضه فِي هَذِه الْقِصَّة فَإِنَّهُم يغتابونه فِي اقتفاء مَا لَيْسَ لَهُم بِهِ علم وَكفى بِالْمَرْءِ عقوقا أَن ينتهك عرض أَبِيه

فَهَذِهِ رَحِمك الله سِتَّة ألطاف بِهِ فِي ضمن كل لطف مِنْهَا مقَام كريم لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا قيل

(لَعَلَّ عتبك مَحْمُود عواقبه ... فَرُبمَا صحت الْأَجْسَام بالعلل)

(1/77)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء

شرح قصَّة نوح عَلَيْهِ السَّلَام

فِي محاورته مَعَ ابْنه الْكَافِر وسؤاله ربه فِي أمره وَكَذَلِكَ فِي دُعَائِهِ على قومه

قَالَ تَعَالَى {ونادى نوح ابْنه وَكَانَ فِي معزل يَا بني اركب مَعنا وَلَا تكن مَعَ الْكَافرين قَالَ سآوي إِلَى جبل يعصمني من المَاء قَالَ لَا عَاصِم الْيَوْم من أَمر الله إِلَّا من رحم وَحَال بَينهمَا الموج فَكَانَ من المغرقين}

قَالُوا كَيفَ يَصح أَن يَقُول لَهُ {اركب مَعنا} فيأبى ويظن أَن الْجبَال تعصمه من الْغَرق مَعَ قَول أَبِيه لَهُ {وَلَا تكن مَعَ الْكَافرين} وَفِي إبائه أَن يركب مَعَ أَبِيه السَّفِينَة مَعَ عقوق أَبِيه وَالرَّدّ عَلَيْهِ واعتصامه بِغَيْر السَّفِينَة دَلِيل على إِثْبَات كفره إِذْ لَو صدق أَبَاهُ فِي أَن النجَاة فِي السَّفِينَة والهلاك فِي غَيرهَا لم يقل ذَلِك

وَفِي قَوْله أَيْضا مَعَ اعْتِقَاده أَن الْجبَال تعصم من المَاء تسفيه حلم أَبِيه إِذْ لَو كَانَ الِاعْتِصَام بِغَيْر السَّفِينَة لَكَانَ الِاعْتِصَام بالسفينة سفها من جِهَة الضّيق وَالتَّعْزِير ونوح عَلَيْهِ السَّلَام أعلم النَّاس بِهَذِهِ الْوُجُوه وَهَذِه الْقَرَائِن من أَحْوَال وَلَده وأقواله فَإِنَّهَا تدل على كفره بتكذيبه إِيَّاه وتسفيه حلمه وَإِذا كَانَ هَذَا فَكيف يسوغ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَن يَقُول بعد ذَلِك {رب إِن ابْني من أَهلِي وَإِن وَعدك الْحق} يَعْنِي فِي سَلامَة أَهلِي وَقد

(1/78)

قيل لَهُ قبل ذَلِك {إِلَّا من سبق عَلَيْهِ القَوْل} وأقوال ابْنه وأحواله تدل على أَنه مِمَّن سبق عَلَيْهِ القَوْل وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى لَهُ {وَلَا تخاطبني فِي الَّذين ظلمُوا إِنَّهُم مغرقون} وَهُوَ من الَّذين ظلمُوا

فَالْجَوَاب أَن نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام حِين ركب السَّفِينَة وَأدْخل فِيهِ الْمُؤمنِينَ وَأَهله كَمَا أَمر رأى وَلَده فِي جِهَة من خَارج السَّفِينَة وبمقربة مِنْهَا حَيْثُ يسمع النداء وَلم ير امْرَأَته فيئس من سلامتها وَظن أَنَّهَا هِيَ المستثناة وَحدهَا وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي سبق عَلَيْهَا القَوْل من الله تَعَالَى بِخَتْم الْكفْر وَالْعَذَاب فَقَط وطمع فِي إِيمَان وَلَده الَّذِي كَانَ عهد مِنْهُ قبل ذَلِك وَكَانَ وَلَده يظْهر لَهُ الْإِيمَان ويبطن الْكفْر والأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام إِنَّمَا عنوا بالظواهر وَالله يتَوَلَّى السرائر فَلَمَّا لم ير امْرَأَته يئس من سلامتها وَلما رأى وَلَده بمقربة من السَّفِينَة حَيْثُ يسمع النداء طمع فِي سَلَامَته وَحسن الظَّن أَنه مُؤمن فَقَالَ {يَا بني اركب مَعنا} يَعْنِي فِي السَّفِينَة {وَلَا تكن مَعَ الْكَافرين} أَي لَا تبْق فِي الأَرْض فتهلك مَعَ الْكَفَرَة (و) فِي قَوْله لَهُ {وَلَا تكن مَعَ الْكَافرين} دَلِيل على أَنه كَانَ يعْتَقد إيمَانه فَلَمَّا قَالَ لَهُ {سآوي إِلَى جبل يعصمني من المَاء} حسن أَيْضا بِهِ الظَّن بِأَنَّهُ كَانَ يعْتَقد أَن مَا أخبر بِهِ أَبوهُ من هَلَاك الْكَفَرَة صَحِيح وَأَن الْمُؤمن يسلم بإيمانه فَظن هُوَ أَنه يسلم فِي السَّفِينَة وَغَيرهَا فَقَالَ لَهُ أَبوهُ {لَا عَاصِم الْيَوْم من أَمر الله} يَعْنِي من مُرَاد الله هَلَاك الْكَفَرَة {إِلَّا من رحم} يَعْنِي من رَحمَه الله فَسلم بإيمانه وَلم يقل إِلَّا من ركب السَّفِينَة فَاحْتمل القَوْل جَوَاز سَلامَة الْمُؤمن فِي السَّفِينَة وَغَيرهَا فَلم يَقع من الْوَلَد تَكْذِيب ظَاهر لِأَبِيهِ فِي هَذِه

(1/79)

الْمُرَاجَعَة مَعَ هَذِه الِاحْتِمَالَات ثمَّ {حَال بَينهمَا الموج} فِي الْحِين فَظن نوح عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قد كَانَ يدْخل مَعَه السَّفِينَة لَوْلَا مَا حَال بَينهمَا الموج فَلَمَّا حَال بَينهمَا الموج لم يدر مَا صنع الله بِهِ وَبَقِي مستريبا فِي إيمَانه فَقَالَ بعد ذَلِك {رب إِن ابْني من أَهلِي} يَعْنِي فِي النّسَب وَظَاهر ايمانه {وَإِن وَعدك الْحق} فِي سَلامَة أَهلِي بإيمَانهمْ {وَأَنت أحكم الْحَاكِمين} إِن كَانَ الحكم هُنَا من الْحِكْمَة الَّتِي هِيَ الْعلَّة فَمَعْنَاه أَنْت أعلم الْعَالمين بِحَالهِ ومعتقده وَإِن كَانَ الحكم الْقَهْر بالإرادة وَالْقُدْرَة فَمَعْنَاه أَنْت أقهر القاهرين الَّذِي لَا راد لأمرك وَلَا معقب لحكمك

وَفِي ضمن هَذَا كُله سُؤَاله ربه ورغبته فِي أَن يطلعه على عَاقِبَة أَمر وَلَده كَيفَ كَانَت فأطلعه الله على ذَلِك فَقَالَ {يَا نوح إِنَّه لَيْسَ من أهلك} يَعْنِي فِي الدّين لَا فِي النّسَب {إِنَّه عمل غير صَالح} يَعْنِي أَن عمله غير صَالح لَكِن سَمَّاهُ باسم صفته الْغَالِبَة عَلَيْهِ وَقد قرئَ {إِنَّه عمل غير صَالح} بِفَتْح اللَّام على معنى الْخَبَر عَن عمله فَأعلمهُ الله تَعَالَى بِحَالهِ ومآله ثمَّ أدبه تَعَالَى ووعظه وَعلمه فَقَالَ لَهُ {فَلَا تسألن مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} نَهَاهُ ربه أَن يسْأَله تَحْصِيل علم مَا لم يُكَلف علمه إِذْ لَيْسَ يجب على الْمُكَلف أَن يسْأَل علم مَا لم يُكَلف الْعلم بِهِ

(1/80)

وَمن هَذَا الْوَجْه تخرج قولة خضر لمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام فَلَا تَسْأَلنِي عَن شَيْء حَتَّى أحدث لَك مِنْهُ ذكرا وَذَلِكَ أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام طلب مِنْهُ علما لم يُكَلف طلبه إِذْ لَا يجوز لطَالب الْعلم الْمُكَلف بِطَلَبِهِ السُّكُوت عَن سُؤال علم يلْزمه وَلَا يجوز للمعلم أَيْضا أَن ينهاه عَن السُّؤَال فِيمَا كلف الْعلم بِهِ

فَخرج من ذَلِك أَن نوحًا عَلَيْهِ السَّلَام سَأَلَ فِي أَمر وَلَده عَن علم لَا يلْزمه فَنَهَاهُ الله تَعَالَى أَن يسْأَل عَمَّا لم يُكَلف الْعلم بِهِ ثمَّ حذره تَعَالَى أَن يفعل ذَلِك على جِهَة النزاهة لَا على الْحَظْر فَقَالَ {إِنِّي أعظك أَن تكون من الْجَاهِلين} يَعْنِي الَّذين يتعصبون لعاطفة الرَّحِم حَتَّى يسْأَلُوا عَمَّا لم يكلفوا الْعلم بِهِ

فقد قَامَ بِحَمْد الله عذر نوح فِي سُؤَاله عَن رفع الْإِشْكَال وَإجَابَة ربه تَعَالَى إِيَّاه فِي إِعْلَامه بمآل وَلَده وعتبه إِلَّا يعود لمثل ذَلِك واستعاذ هُوَ بربه أَلا يفعل مثل ذَلِك

وَللَّه تَعَالَى أَن يعتب أنبياءه ويؤدبهم ويحذرهم وَيُعلمهُم من غير أَن يلْحق بهم عتب وَلَا ذَنْب

فَهَذَا هَذَا والجهلة يخبطون عشواء الدجون

(1/81)

فصل

فِي شرح مَا جَاءَ فِي الْكتاب من دُعَائِهِ على قومه وامتناعه الشَّفَاعَة الْكُبْرَى فِي الْآخِرَة من أَجله

وَأما قصَّته عَلَيْهِ السَّلَام فِي دُعَائِهِ على قومه حِين قَالَ {رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا} فَأَجَابَهُ ربه فيهم فجَاء فِي الْخَبَر أَنه احْتمل أذايتهم ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما كَمَا أخبر تَعَالَى وَهُوَ يَقُول مَعَ ذَلِك رب اهد قومِي فَإِنَّهُم لَا يعلمُونَ فَبينا هُوَ ساجد يَوْمًا إِذْ مر بِهِ رجل من كفار قومه وعَلى عُنُقه حفيد لَهُ فَقَالَ الْجد للحفيد يَا بني هَذَا هُوَ الشَّيْخ الْكذَّاب الَّذِي دَعَانَا إِلَى عبَادَة رب لَا نعرفه وأوعدنا وعيدا بِلَا أمد فتحفظ مِنْهُ لِئَلَّا يضلك فَقَالَ الْحَفِيد لَهُ إِذا كَانَ على هَذِه الْحَالة فَلم تَرَكْتُمُوهُ حَيا إِلَى الْآن فَقَالَ لَهُ الْجد وَمَا كُنَّا نصْنَع بِهِ فَقَالَ أنزلني حَتَّى ترى مَا أصنع بِهِ فأنزله فَأخذ صَخْرَة فصبها على رَأسه فتلقفها الْملك وَقيل شج رَأسه فَلَمَّا سمع نوح عَلَيْهِ السَّلَام قَوْله وَرَأى فعله علم إِذْ ذَاك أَن الْحَفِيد أطغى من الْجد فَدَعَا فِي تِلْكَ السَّجْدَة فَكَانَ مَا كَانَ ثمَّ نَدم على دُعَائِهِ حَتَّى إِذا سُئِلَ الشَّفَاعَة فِي الْآخِرَة امْتنع مِنْهَا وَاعْتذر بِأَنَّهُ دَعَا على قومه بالإهلاك

وَمَعْلُوم أَن دُعَاء الْمُؤمن على الْكَافِر مُبَاح لَا ذَنْب فِيهِ صَغِيرا وَلَا كَبِيرا

(1/82)

لَا سِيمَا بَعْدَمَا قيل لَهُ {أَنه لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن} فَلَمَّا قطع بكفرهم دَعَا عَلَيْهِم

وَإِذا كَانَ الدُّعَاء على الْكَفَرَة على الْإِطْلَاق مُبَاحا كَانَ أَحْرَى إِذا وَقع الْقطع على كفرهم بالْخبر الصدْق

وَقد دَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مُضر وَكَذَلِكَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام دَعَا على فِرْعَوْن وملئه

على أَن دَعْوَة نوح عَلَيْهِ السَّلَام رَحْمَة عللها هُوَ إِذْ دَعَا فَقَالَ {إِنَّك إِن تذرهم يضلوا عِبَادك} يَعْنِي يضلوا من آمن من قومه بِكَثْرَة الإذاية فَرُبمَا رَجَعَ مِنْهُم إِلَى مَذْهَبهم وَقد يكون الْعباد هُنَا المولودين على الْفطْرَة الَّذين إِذا أدركوا يكفرون بِكفْر آبَائِهِم كَمَا ورد فِي الْخَبَر

{وَلَا يلدوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا} يَعْنِي من يكفر فِي ثَانِي حَال لصِحَّة الْخَبَر أَنهم لَا يُؤمنُونَ وَلما رأى من الصَّبِي الَّذِي طرح على رَأسه الصَّخْرَة إِن صَحَّ الْخَبَر

(1/83)

وَإِذا كَانَ كَذَلِك وَطَالَ مكثهم يتوالدون فيكثر سَواد أهل النَّار بطول مكثهم

وَهَذَا دُعَاء مُبَاح مَعَ مَا فِيهِ من الرِّفْق بِالْغَيْر وَطلب السَّلامَة للْبَعْض وَقد عده هُوَ ذَنبا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رأى أَن سُكُوته وَصَبره عَلَيْهِم كَانَ أولى بِهِ حَتَّى ينفذ فيهم حكم رَبهم بِمَا شَاءَ

وَيحْتَمل أَن يعده ذَنبا لكَونه لم يُؤمر بِهِ كَمَا عد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قتل الْكَافِر ذَنبا لكَونه لم يُؤمر بِهِ فَيَقُول قتلت نفسا لم يَأْمُرنِي الله بقتلها

فَهَذَا رَحِمك الله أدل دَلِيل على صِحَة مَا ذَكرْنَاهُ فِي أَن الأكابر يصيرون بعض الْمُبَاحَات ذنوبا من بَاب الأولى والأحرى إِذْ الدُّعَاء على الْكَفَرَة مُبَاح إِجْمَاعًا

فصل

ثمَّ إِن لله تَعَالَى أَن يعتب أنبياءه وأصفياءه ويؤدبهم كَمَا تقدم ويطلبهم بالنقير والقطمير من غير أَن يلحقهم فِي ذَلِك نقص من كمالهم وَلَا غض من أقدارهم حَتَّى يتمحصوا للعبودية وَالْقِيَام فِي نطاق الْخدمَة وَالْقعُود على بِسَاط الْقرْبَة

أَلا ترى كَيفَ نهى الله تَعَالَى نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن النّظر

(1/84)

لبَعض الْمُبَاحَات فَقَالَ {لَا تَمُدَّن عَيْنَيْك إِلَى مَا متعنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم} الْآيَة وَنَهَاهُ أَن يتبع النظرة الأولى ثَانِيَة فَقَالَ لَهُ {وَلَا تعد عَيْنَاك عَنْهُم تُرِيدُ زِينَة الْحَيَاة الدُّنْيَا} مَعَ قَوْله تَعَالَى فِي مقَام آخر {قل من حرم زِينَة الله الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ والطيبات من الرزق}

فَإِذا لم يحرم أكل الطَّيِّبَات والتمتع بالزينة إِذا كَانَت من كسب الْحَلَال وَالنَّظَر فِي الْحسن من التَّمَتُّع والزينة فَكيف يحرم النّظر إِلَيْهَا لَكِن كَمَا قَالَ الْمَشَايِخ حَسَنَات الْأَبْرَار سيئات المقربين

جَاءَ فِي الصَّحِيح أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَوْم الْفَتْح (مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ خَائِنَة الْأَعْين)

يَعْنِي الْإِشَارَة بِالْعينِ فِي الْأَوَامِر حَتَّى يفصح بهَا

وَالْإِشَارَة بِالْعينِ فِي الْأَوَامِر مُبَاحَة لكنه يجْرِي عَنْهَا تنزها وتأكيدا لرفع الالتباس وَهِي مُبَاحَة لغير الْأَنْبِيَاء

(1/85)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء

شرح قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام

بِمَا تَقْتَضِيه الْآيَات الثَّلَاث

إِحْدَاهَا فِي استدلاله بِالثَّلَاثَةِ الْكَوَاكِب

الثَّانِيَة فِي الْأَقْوَال الثَّلَاثَة الَّتِي قَالَ إِنَّهَا كذبات

الثَّالِثَة فِي قَوْله {رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى}

فمما تخيلوه فِي استدلاله بالكواكب أَنهم زَعَمُوا أَن أمه فرت بِهِ صَغِيرا إِلَى مغارة خوفًا من النمرود فَإِنَّهُ كَانَ يذبح أَبنَاء العماليق ويستحيي نِسَاءَهُمْ خيفة على خراب ملكه على يَد مَوْلُود فيهم كَمَا كَانَ يفعل فِرْعَوْن ببني إِسْرَائِيل خيفة من خراب ملكه على يَد مَوْلُود مِنْهُم

فألقته فِي المغارة وَكَانَت تخْتَلف إِلَيْهِ فترضعه فِيهَا وَكَانَ يشق عَلَيْهَا ذَلِك خيفة من أَن يظْهر أمرهَا مَعَه لقومها بالتكرار إِلَيْهِ إِلَى أَن جَاءَت يَوْمًا فَوَجَدته يرضع ظَبْيَة فطابت نَفسهَا وَعلمت أَنه مَحْفُوظ فتركته وَلم تعد إِلَيْهِ فَبَقيَ كَذَلِك حَتَّى حصل فِي حد من يعقل فَخرج لَيْلًا من المغارة ليطلب الْعلم بصانعه ومعبوده فَرَأى كوكبا وقادا فَقَالَ هَذَا رَبِّي إِلَى آخر مَا قَالَ

فَأَما قَوْلهم فِي قصَّة المغارة والظبية فَهُوَ قَلِيل فِي كرامته وَجَائِز عَلَيْهِ

وَأما قَوْلهم نظر فِي الْكَوْكَب فَقَالَ هَذَا رَبِّي مُعْتَقدًا لذَلِك فَبَاطِل فَإِن هَذَا القَوْل كفر صراح وَمَا كفر نَبِي قطّ وَلَا سجد لوثن قبل النُّبُوَّة وَلَا بعْدهَا

(1/86)

وَلَا تفوه أحد من الْأمة بذلك قطّ كَانَ محقا أَو غير محق

جَاءَ فِي الْأَثر فِي خُرُوج نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَغِيرا مَعَ عَمه أبي طَالب إِلَى الشَّام أَنه لما مر بصومعة بحيرا الراهب نزل إِلَيْهِ فِي حَدِيث يطول ذكره إِلَى أَن قَالَ لَهُ بِاللات والعزى يَا غُلَام مَا اسْمك

فَقَالَ لَهُ إِلَيْك عني فوَاللَّه مَا تَكَلَّمت الْعَرَب بِكَلِمَة هِيَ أثقل عَليّ من هَذِه الْكَلِمَة

فحاشا لأنبياء الله تَعَالَى من اعْتِقَاد الْكفْر فِي وَقت من الْأَوْقَات

وَكَيف وَقد جَاءَ فِي الصَّحِيح أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ كَانَ غُلَاما كَانَ يَوْمًا ينْقل الْحِجَارَة مَعَ عَمه أبي طَالب لإِصْلَاح مَا ثلم فِي الْكَعْبَة وَهُوَ عَار فَسقط على وَجهه فِي الأَرْض مغشيا عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاق قَالَ لَهُ عَمه مَا بالك فَقَالَ رَأَيْت شخصا أَشَارَ إِلَيّ أَن استتر وَكَانَ ذَلِك الشَّخْص الْملك فَهَذَا صَغِير ينبهه الْملك على أدب من آدَاب الشَّرِيعَة قبل التَّكْلِيف فَمَا ظَنك بحمايتهم من الْكفْر على أَن مِنْهُم من أُوتِيَ الحكم صَبيا كيحيى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا} وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام تكلم فِي المهد صَبيا بالحكمة حَيْثُ قَالَ {إِنِّي عبد الله} الْآيَة والذبيح أُوتِيَ الْعلم والحلم غُلَاما قَالَ {وبشروه بِغُلَام عليم} وَفِي آيَة

(1/87)

أُخْرَى {حَلِيم}

فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَصح من أَحْوَالهم ويعتقد فِي جانبهم الْكَرِيم

وَإِذا كَانَ هَذَا شَأْنهمْ فِي حَال الطفولية فَمَا ظَنك بهم فِي حَال الْإِدْرَاك وَكَمَال الْعقل

فحاشاهم أَن يكفروا اعتقادا أَو يتلفظوا بِكَلِمَة كفر كَانُوا صغَارًا أَو كبارًا

فَإِن قيل فَمن أَيْن عرفُوا الله تَعَالَى قبل النُّبُوَّة

فَنَقُول بِالنّظرِ وَالِاسْتِدْلَال

فَإِن قيل فقد كَانُوا زمن النّظر غير عَالمين بِاللَّه تَعَالَى

قُلْنَا كَذَلِك هُوَ لَكِن مَا دَامَ الْمحل معمورا بِالنّظرِ لم يحكم لَهُ بِكفْر وَلَا بِإِيمَان إِلَّا أَنه كَانَ آخر نظرهم مُتَّصِلا بِالْعلمِ فَفِي أثر مَا نظرُوا عرفُوا الْحق حَقًا من غير أَن يعتقدوا جهلا أَو يتلفظوا بِكَلِمَة كفر

وَمن النَّاس من قَالَ إِنَّهُم علمُوا خالقهم بعلوم ضَرُورِيَّة على جِهَة الْخرق وَالْإِكْرَام لَهُم

وَهَذَا سَائِغ فِي الْمَقْدُور لَائِق بهم إِلَّا أَنهم يفوتهُمْ فِي ذَلِك أجر الْكسْب إِذْ {لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا مَا سعى}

وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّهُم اكتسبوا الْعلم من غير تقدم نظر على جِهَة الْخرق إِكْرَاما من الله تَعَالَى لَهُم وَالله أعلم

وَلَهُم فِي هَذَا كَلَام لَا تحْتَمل هَذِه التَّعَالِيق بَسطه لكِنهمْ مجمعون

(1/88)

على أَنهم علمُوا من أول وهلة على أَي وَجه علمُوا نظرا أَو ضَرُورَة

فصل

وَأول مَا يَنْبَغِي أَن نقدم قبل الْخَوْض فِي هَذِه الْمسَائِل الْإِعْلَام بِأَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ نَبِي الْحجَّة وَهُوَ أول من أصل أصُول الدّين بالاستدلال على علم التَّوْحِيد وَبِه اقْتدى رُؤَسَاء الْمُتَكَلِّمين فِي استدلاله بِالثَّلَاثَةِ الْكَوَاكِب الَّتِي وَردت فِي الْكتاب كَمَا سَيَأْتِي فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى

قَالَ تَعَالَى {وَتلك حجتنا آتيناها إِبْرَاهِيم على قومه نرفع دَرَجَات من نشَاء إِن رَبك حَكِيم عليم}

نرفع دَرَجَات من نشَاء أَي بِالْحجَّةِ الْبَالِغَة والعلوم الْعَالِيَة فَكَانَ قومه حرانيين ينظرُونَ فِي النُّجُوم ويردون لَهَا الْقَضَاء فِي الْأَفْعَال ويعبدون بَعْضهَا فَكَانَ هُوَ يقْصد الِاحْتِجَاج عَلَيْهِم فِي حدوثها بتغيرها وتبدل أحوالها فَخرج مَعَ أهل الرصد لَيْلًا لينبههم على حدوثها بتغيرها مَعَ تَسْلِيم مَذْهَبهم الْفَاسِد لَهُم جدلا وقصده مُقَابلَة الْفَاسِد بالفاسد فَإِنَّهُ من وُجُوه النّظر وَالْأَظْهَر فِي طَريقَة التَّنْبِيه على الْحُدُوث الِاسْتِدْلَال بالأكوان فَإِن الْحَرَكَة يعلم حدوثها ضَرُورَة لكَونهَا تقطع الحيز بعد الحيز بحركة بعد حَرَكَة فَمن رأى سَاكِنا يَتَحَرَّك ضَرُورَة علم تغيره ضَرُورَة فَنظر عَلَيْهِ السَّلَام فَرَأى كوكبا فَقَالَ لِقَوْمِهِ {هَذَا رَبِّي} يَعْنِي على ظنكم وحسابكم فَفَرِحُوا بقوله وظنوا أَنه رَجَعَ إِلَى مَذْهَبهم فَلَمَّا أفل رَجَعَ لَهُم عَن قَوْله الأول بقوله {لَا أحب الآفلين}

فَعَلمُوا إِذْ ذَاك أَنه رَجَعَ عَن مَذْهَبهم بِحجَّة بَالِغَة وَالدَّلِيل على صِحَة مَا

(1/89)

رمناه مِنْهُ أَنه قَالَ {هَذَا رَبِّي} على جِهَة التعنيت لَهُم وإقامته الْحجَّة عَلَيْهِم لَعَلَّهُم يتفطنون ويتعلمون من وُجُوه الِاسْتِدْلَال

وَيتَصَوَّر الرَّد فِيهِ على الْقَائِلين بِأَنَّهُ اسْتدلَّ وَغلط وتحير من ثَلَاثَة أوجه

أَحدهَا أَنه لَو قَالَ {هَذَا رَبِّي} على جِهَة الِاعْتِقَاد والتصميم لَكَانَ كَافِرًا فِي تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَى حِين غرُوب الْكَوْكَب وَكَذَلِكَ يلْزم فِي قَوْله فِي الْقَمَر وَالشَّمْس وَمن اعْتقد هَذَا فقد أعظم عَلَيْهِ الْفِرْيَة ورد مَا علم من دين الْأمة فِي أَن نَبيا مَا كفر قطّ عقدا وَلَا لفظا كَمَا تقدم وغايته أَن لَو كَانَ مَا زعموه لتوقف على دؤوب النّظر حَتَّى يعلم الْحق حَقًا لكَون النَّاظر فِي حَال نظره لَا يحكم لَهُ بِكفْر وَلَا بِإِيمَان كَمَا تقدم

الثَّانِي أَنه لَو كَانَ يثبت إلهية الْكَوْكَب عِنْد الطُّلُوع من أجل ظُهُوره وينفيها عِنْد الْغُرُوب من أجل غروبه لقامت عَلَيْهِ حجَّة الْخصم بِأَن يَقُول لَهُ إِذا أثبت إلهيته الْكَوْكَب عِنْد الطُّلُوع ونفيتها عِنْد الْغُرُوب فالكوكب يسري على مَا هُوَ بِهِ وَإِنَّمَا غَابَ عَنْك وسيطلع غَدا وَيظْهر لَك فيلزمك أَن تثبت الآلهية لَهُ عِنْد كل طُلُوع وتنفيها عِنْد كل غرُوب وَهَذَا تنَاقض بَين مَعَ تَسَاوِي الْغُرُوب والطلوع لَهُ فِي التَّغَيُّر

الثَّالِث أَن الْكَوَاكِب لَا تكَاد تعد كَثْرَة فَمن أَيْن لَهُ أَن يعين أَحدهَا بالإلهية مَعَ التَّسَاوِي بَينهمَا فِي كل حَال

فَإِن قَالُوا إِن الْكَوْكَب كَانَ من الدراري السَّبْعَة الَّتِي يعْتَقد قومه فِيهَا الآلهية قبل

قيل لَهُم هَذَا بَاطِل من أَرْبَعَة أوجه

أَحدهَا أَنكُمْ قُلْتُمْ إِنَّه عِنْدَمَا خرج فِي حَال صغره من المغارة رأى أول كَوْكَب فَقَالَ هَذَا رَبِّي فَهُوَ على قَوْلكُم لم يعلم الدراري من غَيرهَا رُؤْيَة وَلَا سَمَاعا لكَونه لم ير أحدا يُخبرهُ بذلك

(1/90)

الثَّانِي أَنه لَو كَانَ يقْصد أحد الدراري لعلمه بِأَن قومه عبدوها وخصصوها بالآلهية فَيَقُول {هَذَا رَبِّي} مُعْتَقدًا لذَلِك لَكَانَ مُقَلدًا لِقَوْمِهِ فِي الْكفْر لكَونه مَا عِنْده إِلَّا مَا سمع مِنْهُم بِأَنَّهَا آلِهَة وَهَذَا أَشد عَلَيْهِم فِي الْإِنْكَار من كل مَا تخيلوه

الثَّالِث أَن الطُّلُوع والغروب فِي التَّغَيُّر والحركات على سَوَاء فِي الِاسْتِدْلَال على الْحُدُوث فَلم اسْتدلَّ بِأَحَدِهِمَا على نفي الآلهية وأثبتها للثَّانِي

الرَّابِع أَنه قَالَ فِي الشَّمْس وَالْقَمَر مَا قَالَه فِي الْكَوْكَب فَصَارَ ينْقل الآلهية من جسم إِلَى جسم وَالْكل فِي حَالَة الطُّلُوع والغروب على سَوَاء وَهَذِه غَايَة الْجَهْل الَّذِي يحاشى الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَنهُ قطعا

فَإِن قَالُوا لما رأى الْقَمَر ظن أَنه لَا يغرب فَقَالَ ذَلِك قُلْنَا هَذَا بَاطِل فَإِنَّهُ قد جرب الْكَوْكَب وطلوعه وغروبه ثمَّ رأى الْقَمَر طالعا كَالْكَوْكَبِ فَلَو كَانَ مَا زعمتم لتوقف عَن هَذَا القَوْل حَتَّى يرى هَل يغرب أم لَا يغرب وَأما قَوْله فِي الشَّمْس فَيجب أَن يتَأَكَّد الْإِنْكَار عَلَيْهِ لتأكد تكْرَار التجربة مِنْهُ فِي الْكَوَاكِب وَالْقَمَر

وَهَذِه الْأَقْوَال كلهَا لَو قدرت لأحد منا لأنكرها كل الْإِنْكَار فَإِن فِيهَا غَايَة الْحيرَة وَعدم الِاسْتِدْلَال فَكيف تثبت لخليل الرَّحْمَن الَّذِي أرَاهُ ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْض حَتَّى كَانَ يرى وَيسمع صريف الْقَلَم فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ وَكَانَ يسمع خفقات قلبه من خشيَة الله على فَرسَخ فَإِذا بطلت فِي حَقه بل فِي حق الْعُقَلَاء المستدلين هَذِه الْأَقْوَال لم يبْق إِلَّا أَنه قَالَهَا بَاب مُقَابلَة الْفَاسِد بالفاسد ليقيم الْحجَّة على قومه فِي التَّغَيُّر بالأكوان الدَّالَّة

(1/91)

على الْحُدُوث ويعضد ذَلِك قَوْله لَهُم فِي الشَّمْس {هَذَا رَبِّي هَذَا أكبر} يَعْنِي أكبر جرما وأبهر ضِيَاء وأنفع لأهل الأَرْض من كل مَا دونهَا من الْكَوَاكِب وَهِي تَتَغَيَّر كتغيرها وَلَيْسَ بعْدهَا مَا ينْتَظر يَا قوم إِنِّي بَرِيء مِمَّا تشركون الْآيَات إِلَى قَوْله {وحاجه قومه قَالَ أتحاجوني فِي الله وَقد هدان} الْآيَة والبارئ تَعَالَى يخبر أَنه نَادَى قومه وناجاهم وحاجوه وحاجهم ورد عَلَيْهِم وهم يَقُولُونَ إِنَّه خرج من المغارة وَحده وَاسْتدلَّ وَغلط وتحير وَقَالَ هَذَا رَبِّي فِي الْكَوَاكِب الثَّلَاثَة فَلَو كَانَ صَغِيرا كَمَا زَعَمُوا لم يكن لَهُ قوم يناديهم ويحاجهم ويحاجونه وَلَو كَانَ أَيْضا لم ير الْكَوَاكِب إِلَّا تِلْكَ اللَّيْلَة كَمَا زَعَمُوا لم يقل فِي الشَّمْس على الْإِطْلَاق {هَذَا رَبِّي هَذَا أكبر} مَعَ تَجْوِيز طُلُوع أكبر مِنْهَا فلولا مَا رأى الْكَوَاكِب قبل ذَلِك لم يقل هَذَا أكبر

وَهَذَا جَزَاء من يتَكَلَّم فِي أُمُور الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام قبل أَن يتمرن فِي علم مَا يجب لَهُم ويستحيل عَلَيْهِم

فصل

فَإِن قَالُوا فَإِذا زعمت أَنه قَالَ لِقَوْمِهِ هَذَا يَعْنِي ثَلَاث مَرَّات مُعْتَرضًا ومنبها ليقيم الْحجَّة عَلَيْهِم وَهُوَ يعْتَقد خلاف مَا يَقُول فَلم لم يعد هَذِه الْأَقْوَال فِي الكذبات الَّتِي يعْتَذر بهَا فِي الْمَحْشَر حِين يُطَالب بالشفاعة فَيَقُول كذبت فِي الْإِسْلَام ثَلَاث كذبات وَهِي بِالْإِضَافَة إِلَى هَذِه الثَّلَاث سِتّ وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الحَدِيث أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام لم يكذب إِلَّا ثَلَاث كذبات وَمَا مِنْهَا كذبة إِلَّا وَهُوَ يماحل بهَا عَن الْإِسْلَام أَي يدافع فَالْجَوَاب من ثَلَاثَة أوجه

(1/92)

أَحدهَا ان الثَّلَاث الكذبات الَّتِي عَددهَا على أوجه مُخْتَلفَة فإحداها أَنه لما دَعوه لِلْخُرُوجِ مَعَهم لمهرجانهم فِي سدفة السحر وَفِي باله أَن يكيد أصنامهم بعد خُرُوجهمْ كَمَا أخْبرهُم حِين قَالَ {وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أَن توَلّوا مُدبرين} فَنظر إِلَى النُّجُوم ليقيم عذره عِنْدهم على زعمهم لكَوْنهم يَقُولُونَ بِالْقضَاءِ فِي النُّجُوم {فَقَالَ إِنِّي سقيم} فاعتقدوا أَنه رأى فِي النُّجُوم أَسبَاب الْمَرَض فرضوا عَنهُ بذلك وتركوه

وَهَذَا من النمط الَّذِي قدمْنَاهُ فِي الْكَوَاكِب الثَّلَاثَة أَن أَقْوَاله فِيهَا إِنَّمَا كَانَت على جِهَة الْإِبْهَام عَلَيْهِم والتنبيه لَهُم لَعَلَّهُم يتفطنون فِي ثَانِي حَال

الثَّانِيَة قَوْله بَعْدَمَا صير أصنامهم جذاذا حِين سَأَلُوهُ {من فعل هَذَا بآلهتنا} فَقَالَ {بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا} وَأَشَارَ إِلَى كَبِير الْأَصْنَام وَهُوَ قد شوه صورته وسمل عَيْنَيْهِ وجدع أَنفه ومقطوع بِهِ أَنه قَالَ ذَلِك ليقيم الْحجَّة عَلَيْهِم فِي نفي الإلهية عَمَّا اعتقدوه من الْكَوَاكِب والأصنام فَصَارَت هَذِه القولة فِي مَعْنَاهَا تشبه تِلْكَ الْأَقْوَال الثَّلَاثَة فِي الْكَوَاكِب فَلَمَّا كَانَت الْأَقْوَال مَعَ قَوْله فِي الصَّنَم على وَجه وَاحِد من إِقَامَة الْحجَّة على مَذْهَب الْخصم ومقابلة الْفَاسِد بالفاسد صَارَت كالواحدة فِي الْمَعْنى ثمَّ أضَاف لَهَا القولتين المختلفتين فِي النّظر فِي النُّجُوم وَقَوله فِي أَهله للْملك الْجَبَّار هِيَ أُخْتِي فَصَارَت ثَلَاثًا

(1/93)

وَأما الثَّالِثَة الَّتِي هِيَ قَوْله للْملك الَّذِي أَرَادَ أَن يَأْخُذ مِنْهُ أَهله عنْوَة فَسَأَلَهُ مَا هَذِه الَّتِي مَعَك فَقَالَ هِيَ أُخْتِي فَكَانَ قَوْله ذَلِك طَمَعا فِي تَخْلِيصهَا مِنْهُ بِهَذِهِ القولة ليقيم عذره عِنْد الْملك لكَون الْغيرَة على الْأُخْت آكِد مِنْهَا على الزَّوْج فَقَالَ لَهُ ذَلِك لَعَلَّه يَتْرُكهَا لَهُ كَالَّذي فعل فَلَو قَالَ هِيَ زَوْجَتي فَرُبمَا كَانَ يَقُول لَهُ انْزِلْ لي عَنْهَا أتملكها على الْوَجْه الَّذِي كَانَت عنْدك فَلَمَّا كَانَت القولتان تخَالف الْوَاحِدَة الَّتِي اتّحدت مَعَ الثَّلَاث فِي إِقَامَة الْحجَّة على الْخُصُوم بعد تَسْلِيم مَذْهَبهم لَهُم جدلا عد الْكل ثَلَاثًا لِاتِّحَاد الْأَرْبَعَة الْأَقْوَال فِي الْمَعْنى

الْوَجْه الثَّانِي أَن تكون القولات الثَّلَاث فِي الْكَوَاكِب الَّتِي لم يعدها من الكذبات بِأَمْر من الله تَعَالَى أَمر أَن يَقُولهَا فَقَالَهَا وَلم يعدها كذبات لكَونه مَأْمُورا بهَا وَتلك الثَّلَاث الَّتِي عدهَا كَانَت عَن نظره واجتهاده فأبهمها بِأَن رأى أَن السُّكُوت عَنْهَا كَانَ لَهُ أولى على مَا قدمْنَاهُ فِي حَقهم من مُرَاعَاة الأولى

وَإِذا كَانَت الثَّلَاث الْأُخَر بِأَمْر الله تَعَالَى لَهُ فَلَا حرج فِيهَا لكَونه مَأْمُورا بهَا فَتخرج لَهُ مخرج قَول الْملك لداوود عَلَيْهِ السَّلَام {إِن هَذَا أخي} وَلم يكن أَخَاهُ حَقِيقَة وَقَوله {لَهُ تسع وَتسْعُونَ نعجة} وَلم يكن لَهُ نعاج إِلَى آخر مَا قَالَه

وَقَوله يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام لإخوته {إِنَّكُم لسارقون} كَمَا قدمْنَاهُ حرفا بِحرف

وَالْأَظْهَر من الْوَجْهَيْنِ الْأَخير مِنْهُمَا وَدَلِيلنَا عَلَيْهِ أَن السِّتَّة الْأَلْفَاظ فِي التَّلَفُّظ بِخِلَاف المعتقد على سَوَاء

فَذكر الثَّلَاث والإعراض عَن ذكر الثَّلَاث الْأُخَر مَعَ ورعه عَلَيْهِ السَّلَام وَشدَّة مراقبته دَلِيل على أَن الَّتِي أعرض عَن ذكرهَا كَانَت بِأَمْر الله تَعَالَى

(1/94)

الثَّالِث مَا جَاءَ فِي الصَّحِيح أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (لم يكذب إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْإِسْلَام إِلَّا ثَلَاث كذبات كلهَا مَا حل بهَا عَن دين الله قَوْله فِي الْكَوْكَب {هَذَا رَبِّي} وَقَوله فِي سارة هِيَ أُخْتِي وَقَوله فِي الْأَوْثَان {بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا}

فقد فَسرهَا عَلَيْهِ السَّلَام حِين عدهَا ثَلَاثًا فَصَارَت الثَّلَاثَة القولات فِي الْكَوَاكِب كالواحد فِي الْعدَد لكَونهَا متحدة فِي الْمَعْنى وانضافت إِلَيْهَا قولته عَن سارة وقولته عَن الْأَوْثَان فَصَارَت ثَلَاثًا

وَتَكون قولته {إِنِّي سقيم} حَقِيقَة وَتَكون النُّجُوم هُنَا مَا ينجم لَهُ من تفاصيل أَحْوَاله أَي يظْهر لَهُ ويعضد هَذَا الْخَبَر مَا ذَكرْنَاهُ من أَنه قَالَ فِي الْكَوَاكِب مَا لم يَعْتَقِدهُ دينا كَمَا زعم الجهلة

فصل

وَأما قصَّته عَلَيْهِ السَّلَام فِي طلب رُؤْيَة كَيْفيَّة الْبَعْث وَجمع الْأَجْسَام بعد تبددها وَسبب هَذَا الطّلب مَا جَاءَ فِي الْخَبَر عَن سيد الْبشر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (بَيْنَمَا إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام يمشي على سَاحل الْبَحْر إِذْ مر بِدَابَّة

(1/95)

بَعْضهَا فِي الْبر وَبَعضهَا فِي الْبَحْر فَرَأى دَوَاب الْبَحْر تَأْكُل مِمَّا يَليهَا ودواب الْبر تَأْكُل مِمَّا يَليهَا فَقَالَ لَيْت شعري كَيفَ يجمع الله هَذِه الحَدِيث

فاشتاق إِلَى رُؤْيَة الْكَيْفِيَّة فَقَالَ إِذْ ذَاك {رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى} نقل هَذَا الْخَبَر على الْمَعْنى

فصل

اعترضت الملحدة هَذِه الْقِصَّة وَمن تَابعهمْ من الْيَهُود وَالنَّصَارَى والقرامطة وَمن قَالَ من الباطنية باستحالة حشر الأجساد والجهلة بعصمة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ قبل

فَقَالُوا هَذَا إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام على جلالة قدره قد استراب فِي الْبَعْث حَتَّى طلب رُؤْيَة الْكَيْفِيَّة لِيَطمَئِن قلبه بِنَفْي الاسترابة وَهَذَا أَشد فِي الِاعْتِرَاض من كل مَا ذَكرُوهُ فَإِن الشَّك فِي الْبَعْث كفر صراح بِالْإِجْمَاع من كل أمة فَإِن حَقِيقَة الْكفْر فِي الشَّرْع تَكْذِيب الله وَرُسُله وَمَا ملئت طباق جَهَنَّم إِلَّا من هَذَا الصِّنْف الشاك فِيمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام

فَانْظُر عصمنا الله وَإِيَّاكُم إِلَى مُعْتَقد هَذِه الوصمة فِي حق الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَن تؤول بِهِ ولأجلها جَاءَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (نَحن أَحَق بِالشَّكِّ من إِبْرَاهِيم) نبه ضعفاء الْعَامَّة أَن أَنْبيَاء الله تَعَالَى فِي الْعِصْمَة والنزاهة على سَوَاء فَمَا جَازَ على أحدهم جَازَ على الْكل فَكَأَنَّهُ

(1/96)

يَقُول إيَّاكُمْ أَن تجوزوا الشَّك على إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا يُوحى إِلَيْهِ ربه فَإِن جوزتموه عَلَيْهِ فَأَنا أَحَق أَن تجوزوه عَليّ وَأَنْتُم لَا تجوزونه عَليّ فَلَا تجوزوه عَلَيْهِ ثمَّ تأدب عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ الْأَب بقوله نَحن أَحَق

فصل

فِي شرح الْآيَة قَالَ الله تَعَالَى وَإِذا قَالَ إِبْرَاهِيم رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى قَالَ أولم تؤمن قَالَ بلَى وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي قَالَ فَخذ أَرْبَعَة من الطير فصرهن إِلَيْك ثمَّ اجْعَل على كل جبل مِنْهُنَّ جُزْءا ثمَّ ادعهن يأتينك سعيا وَاعْلَم أَن الله عَزِيز حَكِيم

قَوْله تَعَالَى {وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم} تَنْبِيه لنبينا عَلَيْهِ السَّلَام ليتهيأ لقبُول الْخطاب كَمَا قدمنَا فِي قصَّة زيد فَكَأَنَّهُ يَقُول لَهُ وَقد أخْبرك عَن قَول إِبْرَاهِيم إِذْ طلب أَن أريه كَيفَ أحيي الْمَوْتَى فأسعفته فِي ذَلِك وأريته الْكَيْفِيَّة فَذكره تَعَالَى إسباغ آلائه على أنبيائه وإسعافه لَهُم فِيمَا يثلج بِهِ صُدُورهمْ مِمَّا غَابَ عَنْهُم من بعض الجائزات فِي معلوماته تَعَالَى

وَأما قولة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام {رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى} وَأَنه طلب أَن يرِيه تَعَالَى مثلا محسوسا يطلعه على كَيْفيَّة الْجمع من أقاصي الأَرْض وبطون الْحَيَوَانَات وَكَيْفِيَّة سرعتها فِي الحركات عِنْد الِاجْتِمَاع ولأي أصل تَجْتَمِع وعَلى أَي وَجه تتَصَوَّر إِذْ الْجَوَاز بَحر لَا سَاحل لَهُ

وَقد نبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على بعض هَذِه الكيفيات فَقَالَ (كل ابْن آدم تَأْكُله الأَرْض إِلَّا عجب الذَّنب فَإِنَّهُ مِنْهُ خلق وَفِيه يركب)

(1/97)

وَمعنى خلق هُنَا صور لكَون الشَّيْء لَا يخترع من الشَّيْء وَإِنَّمَا يخترع لَا من شَيْء وَأخْبر عَلَيْهِ السَّلَام أَن عجب الذَّنب الَّذِي هُوَ وسط الجرم مِنْهُ بُدِئَ تركيبه فِي الرَّحِم وَإِلَيْهِ ترجع الْأَجْزَاء الزائلة عَنهُ فِي نواحي الأَرْض إِذا بعث

وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن اكل الأَرْض إِنَّمَا هُوَ عبارَة عَن تبدد الْأَجْزَاء فِي الْجِهَات لَا عدمهَا الْبَتَّةَ

ويعضد ذَلِك مَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي هَذِه الْقِصَّة من جمع أَجزَاء الطُّيُور بعد تفريقها وَلِلنَّاسِ فِي هَذَا عريض من القَوْل لسنا الْآن لَهُ

وَأما قَوْله تَعَالَى أولم تؤمن قَالَ بلَى

سَأَلَهُ بِالنَّفْيِ فَأَجَابَهُ ب بلَى الَّتِي هِيَ جَوَاب النَّفْي لإِثْبَات الْمَنْفِيّ كَأَنَّهُ قَالَ لَهُ أَلَسْت مُؤمنا بِالْبَعْثِ قَالَ بلَى مَعْنَاهُ أَنا مُؤمن بِهِ كَمَا علمت لكنني أُرِيد أَن يطمئن قلبِي بِرُؤْيَة الْكَيْفِيَّة فَقَالَ تَعَالَى لَهُ {فَخذ أَرْبَعَة من الطير فصرهن إِلَيْك} أَي أملهن إِلَيْك بِالْإِحْسَانِ والتعليم لكَي تدعوها فتأتيك مجيبة لدعائك فَفعل ذَلِك ثمَّ أَخذ الطُّيُور وذكاها وحز رؤوسها وأمسكها عِنْده وهشم أجسامها وخلطها حَتَّى صَارَت جسما وَاحِدًا لَا يتَمَيَّز بَعْضهَا من بعض ثمَّ فرقها على أَرْبَعَة أجبل ثمَّ قعد هُوَ فِي الْجَبَل الْوسط الَّذِي أحاطت بِهِ الْجبَال الْأَرْبَعَة ثمَّ دَعَاهَا فطارت القطرة من الدَّم إِلَى القطرة واللحمة إِلَى اللحمة والريشة إِلَى الريشة وَكَذَلِكَ صكيك الْعِظَام وَهُوَ ينظر إِلَيْهَا حَتَّى التأم كل جَسَد على مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْأَجْزَاء الَّتِي كَانَت لَهُ قبل ثمَّ طَار كل جَسَد إِلَى رَأسه فالتأم بِهِ

(1/98)

فصل

انْظُرُوا رحمكم الله إِلَى وُقُوع هَذِه الْكَيْفِيَّة فَإِنَّهَا تشبه بعث بعض الأجساد وَجَمعهَا واحياءها وَسُرْعَة مسيرها إِلَى أَرض الْمَحْشَر حذوك النَّعْل بالنعل

فَأَما كَون وُقُوع الْمِثَال بالطيور بَدَلا من سَائِر الْحَيَوَانَات فَهُوَ أَن يَقع الشّبَه فِيهَا بأحوال الْبَعْث من ثَلَاثَة أوجه

أَحدهَا أَنَّهَا تقبل التَّعْلِيم حَتَّى تدعى فتجيب كالنسر وَالْعِقَاب والبازي والسوذنيق والغراب والطاووس إِلَى غير ذَلِك

وَأَنَّهَا تُؤْخَذ أفراخا فتربى وَتعلم فَتقبل التَّعْلِيم حَتَّى تطير وَترجع إِلَى داعيها إِذا دعيت وَكَذَلِكَ الْملك إِذا دَعَا الْمَوْتَى من الْقُبُور جمعُوا وحيوا وأتوه

وَالثَّانِي أَن الطُّيُور إِذا دعيت أَتَت بِسُرْعَة تفوق بهَا سَائِر الْحَيَوَانَات وَكَذَلِكَ الْملك إِذا دَعَا الْمَوْتَى أَتَوْهُ بِسُرْعَة كَمَا قَالَ تَعَالَى {مهطعين إِلَى الداع} أَي مُسْرِعين وَقَالَ تَعَالَى {يَوْم يخرجُون من الأجداث سرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نصب يوفضون}

الثَّالِث أَن الطير تَأتي فِي الْهَوَاء على خطّ اسْتِوَاء فَتكون أسْرع فِي الْإِتْيَان وَأظْهر للرائي فَإِنَّهَا لَا تفوت بَصَره فَلَو كَانَت غير الطُّيُور من الْحَيَوَانَات كالأرانب والثعلب وَالْكَلب وَالذِّئْب إِلَى غير ذَلِك وجاءته لكَانَتْ تتوارى فِي بعض الْغِيطَان وَخلف الشّجر والربا إِلَى غير ذَلِك فَكَانَت تغيب عَن بصر

(1/99)

إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام تَارَة وَتظهر أُخْرَى فَمَا كَانَت تتمّ لَهُ الرُّؤْيَة الَّتِي طلب إِذْ قَالَ {رب أَرِنِي}

وَأما كَونهَا أَرْبَعَة وَلم يكن أَكثر وَلَا أقل فَلِأَن يَقع الِاكْتِفَاء بهَا فِي الْجِهَات الْأَرْبَع وَهُوَ الْمَقْصُود أَيْضا بِكَوْن الْجبَال أَرْبَعَة وَذَلِكَ لِأَن الْجِهَات سِتّ فَوق وَتَحْت وَيَمِين وشمال وأمام وَخلف

وَمَعْلُوم أَن أَجزَاء الْحَيَوَانَات الأرضية إِذا تبددت بعد مَوتهَا لَا تصعد إِلَى فَوق وَلَا تغوص إِلَى تَحت وَإِنَّمَا تتبدد فِي الْجِهَات الْأَرْبَع

فَلِذَا كَانَت الطُّيُور أَرْبَعَة وَالْجِبَال أَرْبَعَة وَالله أعلم

وَأما كَون إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام على الْجَبَل الْمُتَوَسّط مِنْهَا فَأشبه شَيْء بِالْملكِ الَّذِي يقف على صَخْرَة بَيت الْمُقَدّس فيدعو الْحَيَوَانَات فَيَأْتُونَ إِلَيْهِ من الْأَرْبَع جِهَات مُسْرِعين كَمَا تقدم

وَأما مَجِيء النقطة من الدَّم إِلَى النقطة واللحمة إِلَى اللحمة والريشة إِلَى الريشة والعظم إِلَى الْعظم وَهُوَ ينظر إِلَيْهَا فَأشبه شَيْء بمجيء الْأَجْزَاء يَوْم الْبَعْث من الْجِهَات الَّتِي افْتَرَقت فِيهَا حَتَّى تَجْتَمِع كَمَا كَانَت أول مرّة لَا يشذ مِنْهَا شَيْء عَن صَاحبه وَهُوَ كَانَ مَطْلُوبه عِنْدَمَا رأى الدَّابَّة تتبدد أجزاؤها فِي بطُون حيوانات مُخْتَلفَة كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَر فاشتاق إِلَى رُؤْيَة كَيْفيَّة الْجمع فَسَأَلَهَا فَأُجِيب فِيهَا

وَأما فَائِدَة حبس الرؤوس عِنْده ومجيء الْأَجْسَام بِأَعْيَانِهَا فلخمسة أوجه

أَحدهَا أَنه لما كَانَت رؤوسها عِنْده وَجَاء كل جَسَد إِلَى رَأسه وَقع لَهُ الْيَقِين أَنَّهَا هِيَ لَا غَيرهَا

الثَّانِي أَن فِي هَذِه الْقِصَّة ردا على من أنكر حشر الأجساد من غلاة الباطنية وَغَيرهم

(1/100)

الثَّالِث رد على من زعم أَن الْأزْوَاج تركب فِي أجسام أخر غير الَّتِي كَانَت مركبة عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا لكَون الْأَرْوَاح عِنْدهم فِي الْحَيّ النَّاطِق والأجسام ظروف متماثلة فَلَا يُبَالِي بإعادتها

الرَّابِع رد على من قَالَ من أهل الْأَهْوَاء المضلة إِن الْحَيَوَانَات لَا تحيى دون الرؤوس وَلَا يجوز ذَلِك فحييت الرؤوس

الْخَامِس قَوْلهم إِنَّه لَا تكون الإدراكات والحواس إِلَّا فِي الرؤوس على بنية مَخْصُوصَة فأكذبهم الله تَعَالَى بِأَن سَمِعت وَرَأَتْ بإدراكات خلقت فِي بعض أجسامها دون الرؤوس فحييت وَسمعت حِين دعيت وَرَأَتْ وَجَاءَت طائرة بِلَا رُؤُوس وَلَا عُيُون وَلَا آذان وَهَذَا هُوَ مَذْهَب أهل الْحق أَنه لَيْسَ للإدراكات شَرط فِي الْمحل سوى الْحَيَاة

وَأما قَوْله تَعَالَى {وَاعْلَم أَن الله عَزِيز حَكِيم} فقد يكون أمرا لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام بِأَن يبْقى على معلوماته فِي إِثْبَات عزة الله تَعَالَى وحكمته لَا أَن يستجد علما بِمَا لم يكن يعلم وَيحْتَمل أَن يَأْمُرهُ بِأَن يستجد علوما أخر بأنواع من الْحِكْمَة والعزة لم يكن يعلمهَا قبل

وَأما ذكره الْعِزَّة فِي هَذَا الْمقَام فَهِيَ الغلب والقهر تَقول الْعَرَب من عز بز أَي من غلب سلب فَلَمَّا كَانَ فِي جمع الْمَوْتَى وإحيائهم دفْعَة وَاحِدَة غَايَة الغلب والقهر وَالْحكم وَالْعلم والإتقان والإحكام تمدح البارئ تَعَالَى بصفاته العلى وَعزة قهره فَأمره أَن يتزيد علما بِصِفَات الْجلَال وَالْجمال

وَقد يكون الْأَمر بِالْعلمِ فِيمَا رأى من تفاصيل عجائب الكيفيات فَلَمَّا أطلعه على ذَلِك غَايَة الإطلاع وَعلمه مَا لم يكن يعلم قَالَ لَهُ

(1/101)

تَعَالَى {وَاعْلَم أَن الله عَزِيز حَكِيم} أَي وابق عَالما بِمَا زدتك من الْعُلُوم الحسية الَّتِي لَا يَتَأَتَّى الْجَهْل بهَا وَلَا الشَّك فِيهَا فِي مُسْتَقر الْعَادة وَلَا يتغافل عَنْهَا

فَهَذِهِ رَحِمك الله قصَص إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي الثَّلَاث الْآيَات والتبرئة لَهُ

(1/102)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء

شرح قصَّة عُزَيْر عَلَيْهِ السَّلَام

فِي الْآيَة الَّتِي وَردت فِي إماتته وإحيائه

قَالَ تَعَالَى {أَو كَالَّذي مر على قَرْيَة} الْآيَة

الى قَوْله تَعَالَى أعلم أَن الله على كل شَيْء قدير

فمما اختلقوه عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه شكّ فِي الْبَعْث بقوله {أَنى يحيي هَذِه الله بعد مَوتهَا} فَأرَاهُ الله الْآيَة فِي نَفسه حَيْثُ أَمَاتَهُ ثمَّ أَحْيَاهُ فَحِينَئِذٍ أَيقَن بِالْبَعْثِ فَقَالَ أعلم أَن الله على كل شَيْء قدير

وَمَا أرى أَن هَؤُلَاءِ الأوباش الَّذين يَعْتَقِدُونَ فِي عقائد أَنْبيَاء الله تَعَالَى مثل هَذَا الِاعْتِقَاد إِلَّا أَنهم يقيسونها بعقائدهم الْفَاسِدَة وشكوكهم المضطربة

كَمَا قيل رمتني بدائها وانسلت وَقيل وكل إِنَاء بِالَّذِي فِيهِ يرشح

(1/103)

مَعَ جهلهم بمقادير النُّبُوَّة فيمشون فهم مثل هَذِه الْأَقْوَال الحاسمة لأصل الْإِيمَان

وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّه مَا مَاتَ عُزَيْر وَلَكِن غشي عَلَيْهِ بِدَلِيل أَنه لَو مَاتَ لم يحي بعد

وَهَذَا هُوَ التَّنْصِيص على إِنْكَار الْبَعْث واستبعاد إحْيَاء الْمَوْتَى وَتَكْذيب البارئ تَعَالَى حَيْثُ قَالَ فأماته الله مئة عَام ثمَّ بَعثه

وَقد قَالَ كلب من كلاب الْقصاص هَذِه القولة فِي هَذَا الْبَلَد على الْمِنْبَر فَمَا أنكروها عَلَيْهِ وَلَا طُولِبَ بهَا وَمَا يُمكن أَن ينبو فهم مُسلم عَن فَسَاد هَذِه القولة فَإِنَّهَا رد نَص الْكتاب وَلكنهَا قُلُوب طبع الله عَلَيْهَا بِطَابع الحرمان

فصل

وَأما عُزَيْر عَلَيْهِ السَّلَام فَاخْتلف النَّاس فِي نبوته لكَونه لم ينص عَلَيْهِ الْكتاب وَالْأَظْهَر إِثْبَات نبوته بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى {وَلَا يَأْمُركُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَة والنبيين أَرْبَابًا} وَهَذَا خطاب للْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْيَهُود عبدت عُزَيْرًا بِنَصّ الْكتاب وَمِمَّا يدل على نبوته أَيْضا من الْكتاب أَنه ذكر مَعَ الْأَنْبِيَاء فِي معرض الْفَضِيلَة وَالْإِكْرَام فِي موطنين ذكره تَعَالَى مَعَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي إحْيَاء الْمَوْتَى لَهما وَذكره مَعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَن عبد من دون الله

وَسبب هَاتين الْقصَّتَيْنِ نذكرهُ الْآن بعون الله تَعَالَى

(1/104)

جَاءَ فِي الْأَثر أَنه كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل من بعد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام نَبيا وَكَانَ اسْمه دانيال وَإِنَّمَا سمي عُزَيْرًا لِكَثْرَة تَعْزِير الْيَهُود لَهُ وإعظامهم لقدره عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ غلوا فِي تَعْظِيمه حَتَّى عبدوه وَسبب ذَلِك لِأَن أَمَاتَهُ الله مئة سنة ثمَّ أَحْيَاهُ وَأرَاهُ الْآيَة فِي طَعَامه وَشَرَابه الَّذِي مرت عَلَيْهِ مئة عَام وَلم يتسنه أَي لم يتَغَيَّر وَفِي حِمَاره الَّذِي أَمَاتَهُ مَعَه وتبددت أجزاؤه ثمَّ أنشرت وجمعت وحييت وَهُوَ ينظر إِلَى ذَلِك كُله

فَقَالَ الجهلة لم يختصه بِهَذِهِ الكرامات إِلَّا لِأَن كَانَ وَلَده فعبدوه تَعَالَى الله عَمَّا يصفونَ

فَلَمَّا طَغى بَنو إِسْرَائِيل وَقتلُوا الْأَنْبِيَاء بِغَيْر حق وبدلوا أَحْكَام التَّوْرَاة وأخبارها سلط الله عَلَيْهِم بخت نصر البابلي وَكَانَ مجوسيا فَأتى إِلَى مَدِينَة بَيت الْقُدس ودخلها عنْوَة فَرَأى دَمًا يترشح فِيهَا من الأَرْض فَجمع بني إِسْرَائِيل وسألهم عَن سَبَب ذَلِك الدَّم فأنكروا سَببه خيفة مِنْهُ أَن يَقع مَا وَقع فَقَالَ لَهُ بعض من يخْتَص بِهِ هُنَا رجل يزْعم أَنه نَبِي والأنبياء لَا يكذبُون فسله يُخْبِرك فَأمر بإحضاره فجيء بِهِ فَقَالَ لَهُ أَيهَا الشَّيْخ أخْبرت أَنَّك تزْعم أَنَّك نَبِي والأنبياء لَا يكذبُون فَأَخْبرنِي عَن سَبَب هَذَا الدَّم

فَقَالَ لَهُ عَسى أَن تعفيني أَيهَا الْملك

فَقَالَ لَا أعفيك حَتَّى تُخبرنِي أَو أعذبك حَتَّى تَمُوت

فَقَالَ لَهُ أما إِذْ لَا بُد من القَوْل فَهَذَا دم نَبِي قَتله قومه ظلما

فَقَالَ لَهُ وَمن ذَلِك النَّبِي الَّذِي قَتله قومه ظلما

فَقَالَ يحيى بن زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَام

فَقَالَ لَهُ وَمن قومه الَّذين قَتَلُوهُ

فَقَالَ بَنو إِسْرَائِيل

(1/105)

فَقَالَ وَالله لأقتلن عَلَيْهِ خيارهم وَلَا أرفع عَنْهُم السَّيْف حَتَّى يجِف هَذَا الدَّم

فَقتل عَلَيْهِ من خيارهم سبعين ألفا وَحِينَئِذٍ جف الدَّم

ويعضد هَذَا الْخَبَر مَا جَاءَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (دِيَة النَّبِي إِذا قَتله قومه سَبْعُونَ ألف رجل من خِيَار قومه) فَلَمَّا رأى ذَلِك دانيال عَلَيْهِ السَّلَام خرج فَارًّا بِنَفسِهِ إِلَى بِلَاد مصر فَبَقيَ فِيهَا أَرْبَعِينَ سنة ثمَّ اشتاق إِلَى موطنه ومسقط رَأسه وقبور أسلافه من الْأَنْبِيَاء والأولياء عَلَيْهِم السَّلَام فَركب حمارا لَهُ وأتى نَحْو بَيت الْمُقَدّس فَلَمَّا كَانَ بمقربة مِنْهُ رأى جنَّة كَانَت لَهُ وَقد بَقِي فِيهَا بعض علائق من شجر الْعِنَب فَأَتَاهَا فَوجدَ فِيهَا عنبا نضجا فاقتطف مِنْهَا وَأكل وملأ سلة كَانَت مَعَه وَركب حِمَاره وَسَار حَتَّى أشرف على مَدِينَة بَيت الْمُقَدّس فرآها خرابا يبابا لم يبْق فِيهَا رسم وَلَا طلل فتحسر على فقد الخلان وخراب الأوطان كَمَا قيل

(أحب بِلَاد الله مَا بَين منعج ... إِلَيّ وسلمى أَن يصوب سحابها)

(بِلَاد بهَا عق الشَّبَاب تمائمي ... وَأول أَرض مس جلدي ترابها)

فَتحَرك قلبه تحسرا على فقد الخلان وخراب الأوطان فَقَالَ {أَنى يحيي هَذِه الله بعد مَوتهَا} يَعْنِي كَيفَ تعود هَذِه الْبَلدة على مَا كَانَت عَلَيْهِ بعد خرابها فاستبعد أَن تعود على مَا كَانَت عَلَيْهِ من نباتها وشجرها وبساتينها كَمَا يستبعد النَّاس أَن تعود الْبِلَاد كَمَا كَانَت عَلَيْهِ بعد خرابها على مجْرى الْعَادة

(1/106)

وَهَذَا من الْكَلَام الْمُبَاح الَّذِي يَقُوله النَّاس إِذا خربَتْ الْبِلَاد وَكَانُوا يعرفونها عامرة من قبل

وَكَثِيرًا مَا قيل هَذَا فِي ندب الأطلال الخالية والرسوم البالية إِلَّا أَن أهل المراقبة يطْلبُونَ بِهَذِهِ الْأَقْوَال الَّتِي كَانَ غَيرهَا أولى مِنْهَا كَمَا تقدم

فَإِن مثل أُولَئِكَ لَا يستبعدون كَائِنا فِي مَقْدُور الله تَعَالَى كَانَ مُعْتَادا أَو غير مُعْتَاد لما يعلمُونَ من نُفُوذ إِرَادَته ومضاء أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون

كَمَا عتب الْمَلَائِكَة امْرَأَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام حَيْثُ قَالَت

يَا ويلتا أألد وَأَنا عَجُوز الْآيَة فَقَالُوا لَهَا {أَتَعْجَبِينَ من أَمر الله}

أَي مثلك يرى فِي فعل الله عجبا وَأَنت صديقَة

قَالَ الْمَشَايِخ الْعجب أَن لَا ترى عجبا فَإِذا لم تَرَ عجبا كنت أَنْت الْعجب

فَلَمَّا استبعد إصلاحها على مجْرى الْعَادة أرَاهُ الْآيَة فِي نَفسه فأماته ثمَّ أَحْيَاهُ بعد مئة سنة ثمَّ أطلعه على ذَلِك بِأَن أنشأ لَهُ الْحمار الَّذِي كَانَ يركبه بَعْدَمَا أَمَاتَهُ ورم حَتَّى صَار تُرَابا ثمَّ أنشأه لَهُ من التُّرَاب وَهُوَ ينظر إِلَيْهِ وَأبقى عنبه كَمَا كَانَ بعد مئة سنة ثمَّ الْتفت إِلَى جِهَة مَدِينَة بَيت الْمُقَدّس فرآها أعمر مَا كَانَت قبل فندم على قولته فَكَأَن الله عز وَجل عَتبه وأدبه حَتَّى لَا يستبعد وُقُوع مَقْدُور تَحت الْقَهْر كَانَ خارقا أَو غير خارق

فَهَذَا هُوَ الَّذِي يجوز فِي حَقه عَلَيْهِ السَّلَام لَا مَا اختلقوه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جلباب المرأة المسلمة للشيخ الألباني

  جلباب المرأة المسلمة صفحة رقم -35-  مقدمة الطبعة الأولى :   بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه الكريم : ( يا...