جلباب المرأة المسلمة
صفحة رقم -35-
مقدمة الطبعة الأولى :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه الكريم : ( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ) [ الأعراف : 26 ] وصلى الله على محمد المبعوث رحمة للناس أجمعين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد فهذه رسالة لطيفة وبحوث مفيدة إن شاء الله تعالى جمعتها لبيان اللباس الذي يجب على المرأة المسلمة أن تدثر به إذا خرجت من دارها والشروط الواجب تحققها فيه حتى يكون لباسا إسلاميا واستندت في ذلك على الكتاب والسنة مسترشدا بما ورد فيه من الآثار والأقوال عن الصحابة والأئمة فإن أصبت فمن الله تعالى وله الفضل والمنة وإن كانت الأخرى فذلك مني وأسأله العفو والمغفرة لذنبي إنه عفو كريم غفور رحيم . وقد كان ذلك بطلب من بعض الإخوان الأحبة الذين نظن فيهم الصلاح والاستقامة والحرص على العمل بما يدل عليه الكتاب والسنة
صفحة رقم -36- وقد دنا يوم زفافه جعله الله مباركا عليه وعلى أهله وذريته فرأيت من الواجب أن أبادر إلى إجابة طلبه وتحقيق رغبته على الرغم من ضيق وقتي وانصرافي إلى العمل في مشروعي الذي أسميته ( تقريب السنة بين يدي الأمة ) الذي شرعت فيه منذ سنتين وزيادة مبتدئا ب ( سنن أبي داود ) ثم توقفت عنه منذ أشهر لعارض طرأ على عيني اليمنى الذي أرجو الله تعالى أن يذهبه عني بفضله وكرمه . على الرغم من هذا فقد بادرت إلى تحرير هذه الرسالة القيمة ثم قدمتها إليه هدية عسى أن تكون له ولغيره - ممن عسى أن يقف عليها - عونا على طاعة الله ورسوله في هذه المسألة التي تهاون بها في هذا العصر أكثر الناس وفيهم كثير من أهل العلم المفروض فيهم أن يكونوا قدوة لغيرهم في كل أمر من أمور الشريعة فما بالك بغيرهم حتى ندر أن ترى في هذه البلاد من وقف عند ما حدده الشارع فيها كما سترى . ولكنا نحمد الله تعالى على أنه لا تزال طائفة من أمته صلى الله عليه وسلم قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس . أسأل الله تعالى أن يجعلنا من هذه الطائفة وأن يجعل هذه الرسالة وكل ما كتبت وأكتب خالصا لوجهه وسببا لنيل مرضاته والفوز بجناته إنه خير مسؤول . دمشق 7/5/1370 ه محمد ناصر الدين الألباني .
صفحة رقم -37- إن تتبعنا الآيات القرآنية والسنة المحمدية والآثار السلفية في هذا الموضوع الهام قد بين لنا أن المرأة إذا خرجت من دارها وجب عليها أن تستر جميع بدنها وأن لا تظهر شيئا من زينتها حاشا وجهها وكفيها - إن شاءت - بأي نوع أو زي من اللباس ما وجدت فيه الشروط الآتية : شروط الجلباب - 1 - استيعاب جميع البدن إلا ما استثني . ( ص 39 - 117 ) - 2 - أن لا يكون زينة في نفسه . ( ص 119 - 123 ) - 3 - أن يكون صفيقا لا يشف . ( ص 125 - 129 ) - 4 - أن يكون فضفاضا غير ضيق . ( ص 131 - 136 ) - 5 - أن لا يكون مبخرا مطيبا . ( ص 137 - 140 ) - 6 - أن لا يشبه لباس الرجل . ( ص 141 - 159 ) - 7 - أن لا يشبه لباس الكافرات . ( 161 - 212 ) - 8 - أن لا يكون لباس شهرة . ( 213 - 216 ) صفحة رقم -38- ( تنبيه ) : واعلم أن بعض هذه الشروط ليست خاصة بالنساء بل يشترك فيها الرجال والنساء معا كما لا يخفى . وأيضا فبعضها يحرم عليها مطلقا سواء كانت في دارها أو خارجها كالشروط الثلاثة الأخيرة ولكن لما كان موضوع البحث إنما هو في لباسها إذا خرجت انحصر كلامنا فيه فلا يتوهمن منه التخصيص . وهاك الآن تفصيل ما أجملنا والدليل على ما ذكرنا . صفحة رقم -39- الشرط الأول ( استيعاب جميع البدن إلا ما استثني ) فهو في قوله تعالى في [ سورة النور : الآية 31 ] : ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) . وقوله تعالى في [ سورة الأحزاب : الآية 59 ] : ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما ) . ففي الآية الأولى التصريح بوجوب ستر الزينة كلها وعدم إظهار شيء منها أمام الأجانب إلا ما ظهر بغير قصد منهن فلا يؤاخذن عليه إذا بادرن صفحة رقم -40- إلى ستره قال الحافظ ابن كثير في ( تفسيره ) : ( أي : لا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه قال ابن مسعود : كالرداء والثياب يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه لأن هذا لا يمكن إخفاؤه ) . وقد روى البخاري ( 7 / 290 ) ومسلم ( 5 /197 ) عن أنس رضي الله عنه قال : ( صحيح ) ( لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوب عليه بحجفة له . . . ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما ( يعني الخلاخيل ) تنقزان القرب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم . . . ) . قال الحافظ ابن حجر العسقلاني : ( وهذه كانت قبل الحجاب ويحتمل أنها كانت عن غير قصد للنظر ) . قلت : وهذا المعنى الذي ذكرنا في تفسير : ( إلا ما ظهر منها ) [ النور : 31 ] هو المتبادر من سياق الآية وقد اختلفت أقوال السلف في تفسيرها : فمن قائل : إنها الثياب الظاهرة . صفحة رقم -41- ومن قائل : إنها الكحل والخاتم والسوار والوجه وغيرها من الأقوال التي رواها ابن جرير في ( تفسيره ) ( 18 / 84 ) عن بعض الصحابة والتابعين ثم اختار هو أن المراد بهذا الاستثناء الوجه والكفان فقال : ( وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عنى بذلك الوجه والكفين يدخل في ذلك - إذا كان كذلك - الكحل والخاتم والسوار والخضاب وإنما قلنا : ذلك أولى الأقوال في ذلك بالتأويل لإجماع الجميع على أن على كل مصل أن يستر عورته في صلاته وأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها في صلاتها وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها إلا ما روي [ الحديث منكر ] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أباح لها أن تبدي من ذراعها قدر النصف فإذا كان ذلك من جميعهم إجماعا كان معلوما بذلك أن لها أن تبدي من بدنها ما لم يكن عورة كما ذلك للرجال لأن ما لم يكن عورة فغير حرام إظهاره وإذا كان لها إظهار ذلك كان معلوما أنه مما استثنى الله تعالى ذكره بقوله : ( إلا ما ظهر منها ) [ النور : 31 ] لأن كل ذلك ظاهر منها ) .
صفحة رقم -50- وهذا الترجيح غير قوي عندي لأنه غير متبادر من الآية على الأسلوب القرآني وإنما هو ترجيح بالإلزام الفقهي وهو غير لازم هنا لأن للمخالف أن يقول : جواز كشف المرأة عن وجهها في الصلاة أمر خاص بالصلاة فلا يجوز أن يقاس عليه الكشف خارج الصلاة لوضوح الفرق بين الحالتين . أقول هذا مع عدم مخالفتنا له في جواز كشفها وجهها وكفيها في الصلاة وخارجها لدليل بل لأدلة أخرى غير هذه كما يأتي بيانه وإنما المناقشة هنا في صحة هذا الدليل بخصوصه لا في صحة الدعوى فالحق في معنى هذا الاستثناء ما أسلفناه أول البحث وأيدناه بكلام ابن كثير . ويؤيده أيضا ما في ( تفسير القرطبي ) ( 12 /229 ) :
صفحة رقم -51- ( قال ابن عطية : ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه أو إصلاح شأن ونحو ذلك ف ( ما ظهر ) على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه ) . قال القرطبي : ( قلت : هذا قول حسن إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة وذلك في الصلاة والحج فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها : أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها : يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفيه فهذا أقوى في جانب الاحتياط ولمراعاة فساد الناس فلا تبدي المرأة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفيها والله الموفق لا رب سواه ) . قلت : وفي هذا التعقيب نظر أيضا لأنه وإن كان الغالب على الوجه والكفين ظهورهما بحكم العادة فإنما ذلك بقصد من المكلف والآية حسب فهمنا إنما أفادت استثناء ما ظهر دون قصد فكيف يسوغ حينئذ جعله دليلا شاملا لما ظهر بالقصد ؟ فتأمل . ثم تأملت فبدا لي أن قول هؤلاء العلماء هو الصواب وأن ذلك من دقة نظرهم رحمهم الله وبيانه : أن السلف اتفقوا على أن قوله تعالى : ( إلا ما ظهر منها ) يعود إلى فعل يصدر من المرأة المكلفة غاية ما في الأمر أنهم صفحة رقم -52- اختلفوا فيما تظهره بقصد منها فابن مسعود يقول : هو ثيابها أي : جلبابها . وابن عباس ومن معه من الصحابة وغيرهم يقول : هو الوجه والكفان منها . فمعنى الآية حينئذ : إلا ما ظهر عادة بإذن الشارع وأمره . ألست ترى أن المرأة لو رفعت من جلبابها حتى ظهر من تحته شيء من ثيابها وزينتها - كما يفعل ذلك بعض المتجلببات السعوديات - أنها تكون قد خالفت الآية باتفاق العلماء فقد التقى فعلها هذا مع فعلها الأول وكلاهما بقصد منها لا يمكن إلا هذا فمناط الحكم إذن في الآية ليس هو ما ظهر دون قصد من المرأة - فهذا مما لا مؤاخذة عليه في غير موضع الخلاف أيضا اتفاقا - وإنما هو فيما ظهر دون إذن من الشارع الحكيم فإذا ثبت أن الشرع سمح للمرأة بإظهار شيء من زينتها سواء كان كفا أو وجها أو غيرهما فلا يعترض عليه بما كنا ذكرناه من القصد لأنه مأذون فيه كإظهار الجلباب تماما كما بينت آنفا . فهذا هو توجيه تفسير الصحابة الذين قالوا : إن المراد بالاستثناء في الآية الوجه والكفان وجريان عمل كثير من النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده كما سترى في النصوص الآتية المتواترة معنى . ويعود الفضل في التنبه لهذا التوجيه - بعد الله تعالى - إلى الحافظ أبي الحسن بن القطان الفاسي رحمه الله تعالى في كتابه القيم الفريد صفحة رقم -53- الذي أطلعني الله عليه وأنا أهيئ مقدمة هذه الطبعة الجديدة ألا وهو ( النظر في أحكام النظر ) فقد تكلم فيها بعلم واسع ونظر ثاقب على كل مسائله ومنها ما نحن فيه فنبهني على ما أشرت إليه قوله فيه ( ق 14 /2 ) : ( وإنما نعني بالعادة هنا عادة من نزل عليهم القرآن وبلغوا عن النبي صلى الله عليه وسلم الشرع وحضروا به خطاب المواجهة ومن لزم تلك العادة بعدهم إلى هلم جرا لا لعادة النسوان وغيرهم المبدين أجسادهم وعوراتهم ) . قلت : فابن عباس ومن معه من الأصحاب والتابعين والمفسرين إنما يشيرون بتفسيرهم لآية ( إلا ما ظهر منها ) إلى هذه العادة التي كانت معروفة عند نزولها وأقروا عليها فلا يجوز إذن معارضة تفسيرهم بتفسير ابن مسعود الذي لم يتابعه عليه أحد من الصحابة لأمرين اثنين : الأول : أنه أطلق الثياب ولا قائل بهذا الإطلاق لأنه يشمل الثياب الداخلية التي هي في نفسها زينة كما تفعله بعض السعوديات كما تقدم فإذن هو يريد منها الجلباب فقط الذي تظهره المرأة من ثيابها إذا خرجت من دارها . والآخر : أن هذا التفسير - وإن تحمس له بعض المتشددين - لا ينسجم مع بقية الآية وهي : ( ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن . . . ) الآية فالزينة الأولى هي عين الزينة الثانية كما هو معروف في الأسلوب العربي : أنهم إذا ذكروا اسما معرفا ثم كرروه فهو هو فإذا كان الأمر كذلك فهل الآباء ومن ذكروا معهم في الآية لا يجوز لهم أن صفحة رقم -54- ينظروا إلا إلى ثيابهن الباطنة ؟ ولذلك قال أبو بكر الجصاص رحمه الله في ( أحكام القرآن ) ( 3/316 ) : ( وقول ابن مسعود في أن ( ما ظهر منها ) هو الثياب لا معنى له لأنه معلوم أنه ذكر الزينة والمراد العضو الذي عليه الزينة ألا ترى أن سائر ما تتزين به من الحلي والقلب والخلخال والقلادة يجوز أن تظهرها للرجال إذا لم تكن هي لابستها فعلمنا أن المراد مواضع الزينة كما قال في نسق الآية بعد هذا : ( ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ) والمراد موضع الزينة فتأويلها على الثياب لا معنى له إذ كان مما يرى الثياب عليها دون شيء من بدنها كما يراها إذا لم تكن لابستها ) . وكأنه لهذا لم يعرج عليه الحافظ ابن القطان في كتابه الآنف الذكر وقد ذكره في جملة ما قيل في تفسير الآية كما ذكر أقوال العلماء والمذاهب حولها بتفصيل وتحرير وتحقيق فيها لا أعرف له مثيلا ثم ساق بعض الأحاديث التي يمكن الاستدلال بها على جواز إبداء المرأة لوجهها وكفيها للأجانب ومع أنه فاته الكثير من الأحاديث التي ذكرت في كتابنا هذا فقد ناقشها مناقشة دقيقة وميز صحيحها وسقيمها وما يصح الاستدلال به وما لا يصح من الناحية الفقهية دون أن يتحيز لفئة . ثم تكلم على الآية وفسرها تفسيرا بديعا يدل على أنه إمام في التفسير والفقه أيضا كما هو في الحديث فأفاد - رحمه الله - أن النهي فيها مطلق من وجوه ذكرها وهي أربعة وفصل القول فيها تفصيلا رائعا ويهمنا هنا منها رابعها فقال ( ق 15 / 1 ) :
صفحة رقم -55- ( ومطلقة بالنسبة إلى كل ناظر ورد على إطلاقه منها استثناءان : أحدهما : على مطلق الزينة وخصص به منها ( ما ظهر منها ) فيجوز إبداؤه لكل واحد . والآخر : على مطلق الناظرين الذين يبدى لهم شيء من ذلك فخصص منهم البعولة ومن بعدهم ) . وبعد أن ساق قول ابن مسعود وأقوال الصحابة والتابعين المخالفة وأقوال المذاهب والأحاديث المشار إليها آنفا قال ملخصا للموضوع وموضحا رأيه فيه ( ق 21 / 1 ) : ( الأحاديث المذكورة في الباب إما أن تدل على إبدائها جميع ذلك ( يعني : الوجه والكفين ) أو بعضه دلالة يمكن الانصراف عنها بتحميل اللفظ أو القصة غير ذلك لكن الانصراف عما يدل عليه ظاهر اللفظ أو سياق القصة لا يكون جائزا إلا بدليل عاضد يصير الانصراف تأويلا وإذا لم يكن هناك دليل كان الانصراف تحكما فعلى هذا يجب القول بما تظاهرت هذه الظواهر وتعاضدت عليه من جواز إبداء المرأة وجهها وكفيها لكن يستثنى من ذلك ما لا بد من استثنائه قطعا وهو ما إذا قصدت بإبداء ذلك التبرج وإظهار المحاسن فإن هذا يكون حراما ويكون الذي يجوز لها إنما هو إبداء ما هو في حكم العادة ظاهر حين التصرف والتبذل فلا يجب عليها أن تتعاهده بالستر بخلاف ما هو في العادة ( أي الشرعية ) مستور إلا أن يظهر بقصد كالصدر والبطن فإن هذا لا يجوز لها إبداؤه ولا يعفى لها عن بدوه ويجب عليها ستره في حين التصرف كما يجب من
صفحة رقم -56- ستره في حين الطمأنينة ويعضد هذه الظواهر وهذا المنزع قوله تعالى : ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) فمعنى الآية : لا يبدين زينتهن في مواضعها لأحد من الخلق إلا ما كان عادة ظاهرة عند التصرف فما وقع من بدوه وإبدائه بغير قصد التبرج والتعرض للفتنة فلا حرج فيه ) . ثم قال ( ق 21 / 2 ) : ( ويتأيد المعنى الذي حملنا عليه الآية من أن الظاهر هو الوجه والكفان بقوله تعالى المتقدم متصلا به : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) فإنه يفهم منه أن القرطة قد يعفيهن عند بدو وجوههن عن تعاهد سترها فتنكشف فأمرن أن يضربن بالخمر على الجيوب حتى لا يظهر شيء من ذلك إلا الوجه الذي من شأنه أن يظهر حين التصرف إلا أن يستر بقصد وتكلف مشقة وكذلك الكفان وذكر أهل التفسير أن سبب نزول الآية هو أن النساء كن وقت نزولها إذا غطين رؤوسهن بالخمر يسدلنها خلفهن كما تصنع النبط فتبقى النحور والأعناق بادية فأمر الله سبحانه بضرب الخمر على الجيوب ليستر جميع ما ذكر وبالغ في امتثال هذا الأمر نساء المهاجرين والأنصار فزدن فيه تكثيف الخمر . . . ) . ثم ذكر حديث عائشة الآتي ( ص 78 ) لكن من رواية أبي داود بلفظ : ( شققن أكنف ( وقال ابن صالح : أكثف ) مروطهن فاختمرن بها ) . وقال : ( هذا إسناد حسن ) صفحة رقم -57- ثم قال الحافظ ابن القطان رحمه الله تعالى : ( فإن قيل : هذا الذي ذهبت إليه من أن المرأة معفو لها عن بدو وجهها وكفيها - وإن كانت مأمورة بالستر جهدها - يظهر خلافه من قوله تعالى : ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) الآية ؟ فالجواب أن يقال : يمكن أن يفسر هذا ( الإدناء ) تفسيرا لا يناقض ما قلناه وذلك بأن يكون معناه : يدنين عليهن من جلابيبهن ما لا يظهر معه القلائد والقرطة مثل قوله : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) فإن ( الإدناء ) المأمور به مطلق بالنسبة إلى كل ما يطلق عليه ( إدناء ) فإذا حملناه على واحد مما يقال عليه ( إدناء ) يقضي به عن عهدة الخطاب إذ لم يطلب به كل ( إدناء ) فإنه إيجاب بخلاف النهي والنفي ) . ويلاحظ القراء الكرام أن هذا البحث القيم الذي وقفت عليه بفضل الله من كلام هذا الحافظ ابن القطان يوافق تمام الموافقة ما كنت ذكرته اجتهادا مني وتوفيقا بين الأدلة : أن الآية مطلقة كما ستراه مصرحا به ( ص 87 ) فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات . نعم حديث عائشة عند أبي داود دليل واضح على جواز إظهار المرأة الوجه والكفين لولا أن فيه ما بيناه في التعليق إلا أنه من الممكن أن
صفحة رقم -58-أما صفحة -59 ليست بالاصل
== يقال : إنه يقوى بكثرة طرقه وقد قواه البيهقي كما يأتي أدناه فيصلح حينئذ دليلا على الجواز المذكور لا سيما وقد عمل به كثير من النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث كن يكشفن عن وجوههن وأيديهن بحضرته صلى الله عليه وسلم وهو لا ينكر ذلك عليهن وفي ذلك عدة أحاديث نسوق ما يحضرنا الآن منها :
صفحة رقم -60-
1 ( صحيح ) عن جابر بن عبد الله قال : ( شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثم قام متوكئا على بلال فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن فقال : تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم فقامت امرأة من سطة النساء ( أي : جالسة في وسطهن ) سفعاء الخدين ( أي : فيهما تغير وسواد ) فقالت : لم يا رسول الله ؟ قال : لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير قال : فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتمهن ) .
صفحة رقم -61-
2 ( صحيح ) عن ابن عباس [ عن الفضل بن عباس ] : صفحة رقم -62- ( أن امرأة من خثعم استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع [ يوم النحر ] والفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم [ وكان الفضل رجلا وضيئا . . . فوقف النبي صلى الله عليه وسلم للناس يفتيهم ] ) الحديث وفيه : ( فأخذ الفضل بن عباس يلتفت إليها وكانت امرأة حسناء ( وفي رواية : وضيئة ) ( وفي رواية : فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها ) [ وتنظر إليه ] فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذقن الفضل فحول وجهه من الشق الآخر ) . وفي رواية لأحمد ( 1 / 211 ) من حديث الفضل نفسه : ( فكنت أنظر إليها فنظر إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقلب وجهي عن وجهها ثم أعدت النظر فقلب وجهي عن وجهها حتى فعل ذلك ثلاثا وأنا لا أنتهي ) . ورجاله ثقات لكنه منقطع إن كان الحكم بن عتيبة لم يسمعه من ابن عباس . وروى هذه القصة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وذكر أن الاستفتاء كان عند المنحر بعد ما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة وزاد : ( فقال له العباس : يا رسول الله لم لويت عنق ابن عمك ؟ قال : رأيت شابا وشابة فلم آمن الشيطان عليهما )
صفحة 63.ليست بالاصل
صفحة رقم -64-
3 ( صحيح ) عن سهل بن سعد :
صفحة رقم -65- ( أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ وهو في المسجد ] فقالت : يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي [ فصمت فلقد رأيتها قائمة مليا أو قال : هوينا ] فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد النظر إليها وصوبه ثم طأطأ رأسه فلما رأت المرأة أنه لم يقصد فيها شيئا جلست ) الحديث . 4 ( صحيح ) عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كن نساء المؤمنات يشهدن مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفن من الغلس ) . ووجه الاستدلال بها هو قولها : ( لا يعرفن من الغلس ) فإن مفهومه أنه لولا الغلس لعرفن وإنما يعرفن عادة من وجوههن وهي مكشوفة فثبت المطلوب . وقد ذكر معنى هذا الشوكاني ( 2 / 15 ) عن الباجي . ثم وجدت رواية صريحة في ذلك بلفظ :
صفحة رقم -66- ( صحيح ) ( وما يعرف بعضنا وجوه بعض ) . 5 ( صحيح ) عن فاطمة بنت قيس : ( أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة ( وفي رواية : آخر ثلاث تطليقات ) وهو غائب . . . فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له . . . فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال : تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك [ عنده ] ( وفي رواية : انتقلي إلى أم شريك - وأم شريك امرأة غنية من الأنصار عظيمة النفقة في سبيل الله ينزل عليها الضيفان - فقلت : سأفعل فقال : لا تفعلي إن أم شريك امرأة كثيرة الضيفان فإني أكره أن يسقط خمارك أو ينكشف الثوب عن ساقيك فيرى القوم منك بعض ما تكرهين ولكن انتقلي إلى ابن عمك عبد الله بن أم مكتوم [ الأعمى ] . . . وهو من البطن الذي هي منه [ فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك ] فانتقلت إليه فلما انقضت عدتي سمعت نداء المنادي ينادي : الصلاة جامعة فخرجت إلى المسجد
صفحة رقم -67- فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قضى صلاته جلس على المنبر فقال : إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ولكن جمعتكم لأن تميما الداري كان رجلا نصرانيا فجاء فبايع وأسلم وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال . . . ) الحديث . وينبغي أن يعلم أن هذه القصة وقعت في آخر حياته صلى الله عليه وسلم لأن فاطمة بنت قيس ذكرت أنها بعد انقضاء عدتها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يحدث بحديث تميم الداري وأنه جاء وأسلم . وقد ثبت في ترجمة تميم أنه أسلم سنة تسع فدل ذلك على تأخر القصة عن آية الجلباب فالحديث إذن نص على أن الوجه ليس بعورة . 6 ( صحيح ) عن ابن عباس رضي الله عنهما :
صفحة رقم -68- ( قيل له : شهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ولولا مكاني من الصغر ما شهدته حتى أتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت فصلى [ قال : فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده ثم أقبل يشقهم ] ثم أتى النساء ومعه بلال [ فقال : ( يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ) فتلا هذه الآية حتى فرغ منها ثم قال حين فرغ منها : أنتن على ذلك ؟ فقالت امرأة واحدة لم يجبه غيرها منهن : نعم يا نبي الله قال : ] فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة [ قال : فبسط بلال ثوبه ثم قال : هلم لكن فداكن أبي وأمي ] فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه ( وفي رواية : فجعلن يلقين الفتخ والخواتم ) في ثوب بلال ثم انطلق هو وبلال إل
صفحة رقم -69- 7 ( صحيح ) عن سبيعة بنت الحارث : ( أنها كانت تحت سعد بن خولة فتوفي عنها في حجة الوداع وكان بدريا فوضعت حملها قبل أن ينقضي أربعة أشهر وعشر من وفاته فلقيها أبو السنابل بن بعكك حين تعلت من نفاسها وقد اكتحلت [ واختضبت وتهيأت ] فقال لها : اربعي على نفسك - أو نحو هذا - لعلك تريدين النكاح ؟ إنها أربعة أشهر وعشر من وفاة زوجك قالت : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ما قال أبو السنابل بن بعكك فقال : قد حللت حين وضعت ) .
صفحة رقم -70- 8 ( حديث حسن أو صحيح ) عن عائشة رضي الله عنها : ( أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تبايعه ولم تكن مختضبة فلم يبايعها حتى اختضبت ) . 9 ( صحيح ) عن عطاء بن أبي رباح قال : قال لي ابن عباس : ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ قلت : بلى . قال : هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم قالت : إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي . قال : ( إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك ) فقالت : أصبر فقالت : إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف فدعا لها . 10 ( صحيح ) وعن ابن عباس أيضا قال : ( كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء من أحسن الناس [ قال ابن عباس : لا والله ما رأيت مثلها قط ] فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه [ وجافى يديه ] فأنزل الله تعالى :
صفحة رقم -71- ( ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين ) . 11 ( صحيح ) عن ابن مسعود قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة فأعجبته فأتى سودة وهي تصنع طيبا وعندها نساء فأخلينه فقضى حاجته ثم قال : ( أيما رجل رأى امرأة تعجبه فليقم إلى أهله فإن معها مثل الذي معها ) . 12 ( حسن ) عن عبد الله بن محمد عن امرأة منهم قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا آكل بشمالي وكنت امرأة عسرى فضرب يدي فسقطت اللقمة فقال : ( لا تأكلي بشمالك وقد جعل الله تبارك وتعالى لك يمينا ) أو قال : ( وقد أطلق الله عز وجل لك يمينا ) .
صفحة رقم -72- 13 ( صحيح ) عن ثوبان رضي الله عنه قال : جاءت بنت هبيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي يدها فتخ من ذهب [ أي : خواتيم كبار ] فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يضرب يدها بعصية معه يقول : ( أيسرك أن يجعل الله في يدك خواتيم من نار ؟ . . . ) الحديث . ففي هذه الأحاديث دلالة على جواز كشف المرأة عن وجهها وكفيها فهي تؤيد حديث عائشة المتقدم وتبين أن ذلك هو المراد بقوله تعالى : ( إلا ما ظهر منها ) [ النور : 31 ] كما سبق ( ص 51 ) على أن قوله تعالى فيما بعد : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) [ النور : 31 ] يدل على ما دلت عليه بعض الأحاديث السابقة من عدم وجوب ستر المرأة لوجهها لأن ( الخمر ) جمع خمار وهو ما يغطى به الرأس . و( الجيوب ) جمع
صفحة رقم -73- ( الجيب ) وهو موضع القطع من الدرع والقميص وهو من الجوب وهو القطع فأمر تعالى بلي الخمار على العنق والصدر فدل على وجوب سترهما ولم يأمر بلبسه على الوجه فدل على أنه ليس بعورة ولذلك قال ابن حزم في ( المحلى ) ( 3 /216 - 217 ) : ( فأمرهن الله تعالى بالضرب بالخمار على الجيوب وهذا نص على ستر العورة والعنق والصدر وفيه نص على إباحة كشف الوجه لا يمكن غير ذلك ) .
صفحة رقم -74- إبطال دعوى أن هذه الأدلة كلها كانت قبل فرضية الجلباب : أقول : فإن قيل : إن ما ذكرته واضح جدا غير أنه يحتمل أن يكون ذلك وقع قبل فرض الجلباب فلا يصح الاستدلال حينئذ إلا بعد إثبات وقوعه بعد الجلباب . وجوابنا عليه من وجهين . الأول : أن الظاهر من الأدلة أنه وقع بعد الجلباب وقد حضرنا في ذلك حديثان : الأول : ( صحيح ) حديث أم عطية رضي الله عنها : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر النساء أن يخرجن لصلاة العيد قالت أم عطية : إحدانا لا يكون لها جلباب ؟ قال : لتلبسها أختها من جلبابها ) . متفق عليه . ففيه دليل على أن النساء إنما كن يخرجن إلى العيد في جلابيبهن وعليه فالمرأة السفعاء الخدين كانت متجلببة . ويؤيده الحديث الآتي وهو : الحديث الثاني : حديثها أيضا قالت : ( لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت ثم أرسل إليهن عمر بن الخطاب فقام على الباب فسلم عليهن فرددن السلام فقال : أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن فقلن : مرحبا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبرسوله فقال : تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئا ولا تسرقن ولا تزنين ولا تقتلن أولادكن ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن ولا تعصين في معروف ؟ فقلن : نعم فمد عمر يده من خارج الباب ومددن أيديهن من داخل ثم قال اللهم اشهد وأمرنا ( وفي رواية : فأمرنا ) أن
صفحة رقم -75- نخرج في العيدين العتق والحيض ونهينا عن اتباع الجنائز ولاجمعة علينا فسألته عن البهتان وعن قوله : ( ولا يعصينك في معروف ) ؟ قال : هي النياحة ) . ووجه الاستشهاد به إنما يتبين إذا تذكرنا أن آية بيعة النساء : ( ياأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا . . . ) [ الممتحنة : 12 ] إنما نزلت يوم الفتح كما قال مقاتل ( الدر ) ( 6 /209 ) ونزلت بعد آية الامتحان كما أخرجه ابن مردويه عن جابر ( الدر ) ( 6 / 211 ) وفي ( البخاري ) عن المسور أن آية الامتحان نزلت في يوم الحديبية وكان ذلك سنة ست على الصحيح كما قال ابن القيم في ( الزاد ) وآية الحجاب إنما نزلت سنة ثلاثة وقيل : خمس حين بنى صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش كما في ترجمتها من ( الإصابة ) . فثبت من ذلك أن أمر النساء بالخروج إلى العيد إنما كان بعد فرض
صفحة رقم -76- الجلباب ويؤيده أن في حديث عمر أنه لم يدخل على النساء وإنما بايعهن من وراء الباب وفي هذه القصة أبلغهن أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء بأن يخرجن للعيد وكان ذلك في السنة السادسة عقب رجوعه صلى الله عليه وسلم من الحديبية بعد نزول آية الامتحان والبيعة كما تقدم وبهذا تعلم معنى قول أم عطية في أول حديثها الثاني : ( لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ) أي : من الحديبية ولا تعني قدومه إليها من مكة مهاجرا كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة . فتأمل . الوجه الآخر : إذا فرضنا عجزنا عن إثبات ما ذكرنا فإن مما لا شك فيه عند العلماء أن إقراره صلى الله عليه وسلم المرأة على كشف وجهها أمام الرجال دليل على الجواز وإذا كان الأمر كذلك فمن المعلوم أن الأصل بقاء كل حكم على ما كان عليه حتى يأتي ما يدل على نسخه ورفعه ونحن ندعي أنه لم يأت شيء من ذلك هنا بل جاء ما يؤيد بقاءه واستمراره كما سترى فمن ادعى خلاف ذلك فهو الذي عليه أن يأتي بالدليل الناسخ وهيهات هيهات . على أننا قد أثبتنا فيما تقدم من حديث الخثعمية أن الحادثة كانت في حجة النبي صلى الله عليه وسلم وهي كانت بعد فرض الجلباب يقينا وما أجابوا عنها تقدم إبطاله بما لا يبقي شبهة . ويؤيد ذلك قوله تعالى في صدر الآية المتقدمة . . . ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم . . . وقل للمؤمنات . . . ) الآية [ النور : 30 - 31 ] فإنها تشعر بأن في المرأة شيئا مكشوفا يمكن النظر إليه فلذلك أمر تعالى بغض النظر عنهن وما ذلك غير
صفحة رقم -77- الوجه والكفين . ومثلها قوله صلى الله عليه وسلم : ( صحيح ) ( إياكم والجلوس بالطرقات . . . . فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه . قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله ؟ قال : غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) . وقوله : ( الحديث حسن ) ( يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة ) .
صفحة رقم -78- وعن جرير بن عبد الله قال : ( صحيح ) ( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة ؟ فأمرني صلى الله عليه وسلم أن أصرف بصري ) . هذا وقد ذكر القرطبي ( 12 / 230 ) وغيره في سبب نزول هذه الآية : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) [ النور : 31 ] . ( أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة وهي المقانع سدلنها من وراء الظهر كما يصنع النبط فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك . فأمر الله تعالى بلي الخمار على الجيوب ) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( صحيح ) ( يرحم الله نساء المهاجرين الأول لما أنزل الله : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) شققن مروطهن فاختمرن بها ( وفي رواية : أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها ) .
صفحة رقم -79- وعن الحارث بن الحارث الغامدي قال : ( صحيح ) ( [ قلت لأبي ونحن بمنى : ] ما هذه الجماعة ؟ قال : هؤلاء القوم قد اجتمعوا على صابئ لهم قال : فنزلنا ( وفي رواية : فتشرفنا ) فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى توحيد الله والإيمان به وهم يردون عليه [ قوله ] ويؤذونه حتى انتصف النهار وتصدع عنه الناس وأقبلت امرأة قد بدا نحرها [ تبكي ] تحمل قدحا [ فيه ماء ] ومنديلا فتناوله منها وشرب وتوضأ ثم رفع رأسه [ إليها ] فقال : يا بنية خمري عليك نحرك ولا تخافي على أبيك [ غلبة ولا ذلا ] قلت : من هذه ؟ قالوا : [ هذه ] زينب بنته ) .
صفحة رقم -80- ثم إن قوله تعالى : ( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ) [ النور : 31 ] يدل على أن النساء يجب عليهن أن يسترن أرجلهن أيضا . وإلا لاستطاعت إحداهن أن تبدي ما تخفي من الزينة ( وهي الخلاخيل ) ولاستغنت بذلك عن الضرب بالرجل ولكنها كانت لا تستطيع ذلك لأنه مخالفة للشرع مكشوفة ومثل هذه المخالفة لم تكن معهودة في عصر الرسالة ولذلك كانت إحداهن تحتال بالضرب بالرجل لتعلم الرجال ما تخفي من الزينة فنهاهن الله تعالى عن ذلك وبناء على ما أوضحنا قال ابن حزم في ( المحلى ) ( 3 / 216 ) : ( هذا نص على أن الرجلين والساقين مما يخفى ولا يحل إبداؤه ) . ويشهد لهذا من السنة حديث ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( حسن صحيح ) ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقالت أم سلمة : فكيف يصنع النساء بذيولهن ؟ قال : يرخين شبرا فقالت : إذن تنكشف أقدامهن قال : فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه ) . أخرجه الترمذي ( 3 / 47 ) وقال : ( هذا حديث حسن صحيح ) .
صفحة رقم -81- وفي الحديث رخصة للنساء في جر الإزار لأنه يكون أستر لهن وقال البيهقي : ( وفي هذا دليل على وجوب ستر قدميها ) . وعلى هذا جرى العمل من النساء في عهده صلى الله عليه وسلم وما بعده وترتب عليه بعض المسائل الشرعية فقد أخرج مالك وغيره ( صحيح ) عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنها سألت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر ؟ قالت أم سلمة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يطهره ما بعده ) . وعن امرأة من بني عبد الأشهل قالت : ( صحيح ) ( قلت : يا رسول الله إن لنا طريقا إلى المسجد منتنة فكيف نفعل إذا مطرنا ؟ قال : أليس بعدها طريق هي أطيب منها ؟ قالت : قلت : بلى قال : فهذه بهذه ) .
============
صفحة رقم -82-
ومن أجل ذلك كان من شروط المسلمين الأولين على أهل الذمة أن تكشف نساؤهم عن سوقهن وأرجلهن لكي لا يتشبهن بالمسلمات كما جاء في ( اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ) ( ص 59 ) .
ثم إن الله تعالى بعد أن بين في الآية السابقة - آية النور - ما يجب على المرأة أن تخفي من زينتها أمام الأجانب ومن يجوز أن تظهرها أمامهم أمرها في الآية الأخرى إذا خرجت من دارها أن تلتحف فوق ثيابها وخمارها بالجلباب أو الملاءة لأنه أستر لها وأشرف لسيرتها وهي قوله تعالى :
( ياأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما ) . [ الأحزاب : 59 ] .
ولما نزلت خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من
صفحة رقم -83-
الأكسية .
والجلباب : هو الملاءة التي تلتحف به المرأة فوق ثيابها على أصح الأقوال وهو يستعمل في الغالب إذا خرجت من دارها كما روى الشيخان وغيرهما عن أم عطية رضي الله عنها قالت :
( صحيح ) ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى : العواتق والحيض وذوات الخدور فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير
صفحة رقم -84-
ودعوة المسلمين . قلت : يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب ؟ قال : لتلبسها أختها من جلبابها ) .
قال الشيخ أنور الكشميري في ( فيض الباري ) ( 1 / 388 ) تعليقا على هذا الحديث :
( وعلم منه أن الجلباب مطلوب عند الخروج وأنها لا تخرج إن لم يكن لها جلباب .
والجلباب رداء ساتر من القرن إلى القدم . وقد مر مني أن الخمر في البيوت والجلابيب عند الخروج وبه شرحت الآيتين في الحجاب :
( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) [ النور : 31 ] والثانية : ( يدنين عليهن من جلابيبهن ) [ الأحزاب : 59 ] ) .
وقال في المكان الذي أشار إليه ( 1 / 256 ) بعد أن فسر الجلباب والخمار بنحو ما تقدم :
( فإن قلت : إن إدناء الجلباب يغني عن ضرب الخمر على جيوبهن قلت : بل إدناء الجلباب فيما إذا خرجت من بيتها لحاجة وضرب الخمر في عامة الأحوال فضرب الخمر محتاج إليه ) .
قلت : وتقييده الخمر بالبيوت فيه نظر لأنه خلاف الظاهر من الآية الأولى : ( وليضربن بخمرهن . . . ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ) [ النور : 31 ] فإن النهي عن الضرب بالأرجل قرينة واضحة على أن الأمر بضرب الخمر خارج الدار أيضا وكذلك قوله في صدر الآية :
صفحة رقم -85-
( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ) . . . الآية [ النور : 31 ] فالحق الذي يقتضيه العمل بما في آيتي النور والأحزاب أن المرأة يجب عليها إذا خرجت من دارها أن تختمر وتلبس الجلباب على الخمار لأنه كما قلنا سابقا أستر لها وأبعد عن أن يصف حجم رأسها وأكتافها وهذا أمر يطلبه الشارع كما سيأتي بيانه عند الكلام على ( الشرط الرابع ) والذي ذكرته هو الذي فسر به بعض السلف آية الإدناء ففي ( الدر ) ( 5 / 222 )
( وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله ( يدنين عليهن من جلابيبهن ) قال : يسدلن عليهن من جلابيبهن وهو القناع فوق الخمار ولا يحل لمسلمة أن يراها غريب إلا أن يكون عليها القناع فوق الخمار وقد شدت به رأسها ونحرها ) .
واعلم أن هذا الجمع بين الخمار والجلباب من المرأة إذا خرجت قد أخل به جماهير النساء المسلمات فإن الواقع منهن إما الجلباب وحده على رؤوسهن أو الخمار وقد يكون غير سابغ في بعضهن كالذي يسمى اليوم ب ( الإشارب ) بحيث ينكشف منهن بعض ما حرم الله عليهن أن يظهرن من زينتهن الباطنة كشعر الناصية أو الرقبة مثلا .
وإن مما يؤكد وجوب هذا الجمع حديث ابن عباس : ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن . . . ) الآية واستثنى من ذلك : ( والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا ) الآية .
وتمام الآية : ( فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم ) [ النور : 60 ] .
صفحة رقم -86-
وفي رواية عن ابن عباس : أنه كان يقرأ : ( أن يضعن من ثيابهن ) قال : الجلباب . وكذا قال ابن مسعود .
قلت : فهذا نص في وجوب وضع الجلباب على الخمار على جميع النساء إلا القواعد منهن ( وهن اللاتي لا يطمع فيهن لكبرهن ) فيجوز لهن أن لا يضعن الحجاب على رؤوسهن .
أفما آن للنساء الصالحات حيثما كن أن يتنبهن من غفلتهن ويتقين الله في أنفسهن ويضعن الجلابيب على خمرهن ؟
ومن الغريب حقا أن لا يتعرض لبيان هذا الحكم الصريح في الكتاب والسنة كل الذين كتبوا اليوم - فيما علمت - عن لباس المرأة مع توسع بعضهم على الأقل في الكلام على أن وجه المرأة عورة مع كون ذلك مما اختلف فيه والصواب خلافه كما تراه مفصلا في هذا الكتاب والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
ثم إن قوله : ( والجلابيب عند الخروج ) لا مفهوم له إذ إن الجلباب لستر زينة المرأة عن الأجانب فسواء خرجت إليهم أو دخلوا عليها فلا بد على كل حال من أن تتجلبب ويؤيد هذا ما قاله قيس بن زيد :
( صحيح ) ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة بنت عمر . . . فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها فتجلببت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن جبريل أتاني فقال لي :
صفحة رقم -87-
أرجع حفصة فإنها صوامة قوامة وهي زوجتك في الجنة ) .
هذا ولا دلالة في الآية على أن وجه المرأة عورة يجب عليها ستره بل غاية ما فيها الأمر بإدناء الجلباب عليها وهذا كما ترى أمر مطلق فيحتمل أن يكون الإدناء على الزينة ومواضعها التي لا يجوز لها إظهارها حسبما صرحت به الآية الأولى وحينئذ تنتفي الدلالة المذكورة ويحتمل
صفحة رقم -88-
أن يكون أعم
من ذلك فعليه يشمل الوجه . وقد ذهب إلى كل من التأويلين جماعة من العلماء المتقدمين وساق أقوالهم قي ذلك ابن جرير في ( تفسيره ) والسيوطي في ( الدر المنثور ) ولا نرى فائدة كبرى بنقلها هنا فنكتفي بالإشارة إليها ومن شاء الوقوف عليهما فليرجع إليهما .
ونحن نرى أن القول الأول أشبه بالصواب لأمور :
صفحة رقم -89-
الأول : أن القرآن يفسر بعضه بعضا . وقد تبين من آية النور المتقدمة أن الوجه لا يجب ستره فوجب تقييد الإدناء هنا بما عدا الوجه توفيقا بين الآيتين .
الآخر : أن السنة تبين القرآن فتخصص عمومه وتقيد مطلقه وقد دلت النصوص الكثيرة منها على أن الوجه لا يجب ستره فوجب تفسير هذه الآية على ضوئها وتقييدها بها .
فثبت أن الوجه ليس بعورة يجب ستره وهو مذهب أكثر العلماء كما قال ابن رشد في ( البداية ) ( 1 /89 ) ومنهم أبو حنيفة ومالك والشافعي ورواية عن أحمد كما في ( المجموع ) ( 3 /169 ) وحكاه الطحاوي في ( شرح المعاني ) ( 2 / 9 ) عن صاحبي أبي حنيفة أيضا وجزم في ( المهمات ) من كتب الشافعية أنه الصواب كما ذكره الشيخ الشربيني في ( الإقناع ) ( 2 / 110 ) .
لكن ينبغي تقييد هذا بما إذا لم يكن على الوجه وكذا الكفين شيء من الزينة لعموم قوله تعالى : ( ولا يبدين زينتهن ) [ النور : 31 ] وإلا وجب ستر ذلك ولا سيما في هذا العصر الذي تفنن فيه النساء بتزيين وجوههن وأيديهن بأنواع من الزينة والأصبغة مما لا يشك مسلم - بل عاقل ذو غيرة - في تحريمه وليس من ذلك الكحل والخضاب لاستثنائهما في الآية كما تقدم . ويؤيد هذا ما أخرجه ابن سعد ( 8 / 238 - 239 ) من طريق سفيان عن منصور عن ربعي بن خراش عن امرأة عن أخت حذيفة وكان له أخوات
صفحة رقم -90-
قد أدركن النبي صلى الله عليه وسلم قالت :
( خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا معشر النساء أليس لكن في الفضة ما تحلين ؟ أما إنه ليس منكن امرأة تحلى ذهبا تظهره إلا عذبت به قال منصور : فذكرت ذلك لمجاهد فقال : قد أدركتهن وإن إحداهن لتتخذ لكمها زرا تواري خاتمها ) .
وليس استشهادي في هذه الرواية بالحديث المرفوع وإن كان صريحا في ذلك - لأن في إسناده المرأة التي لم تسم - وإنما هو بقول مجاهد : ( تواري خاتمها ) فهو نص صريح فيما ذكرت والحمد لله على توفيقه . ثم رأيت قول مجاهد بسند آخر صحيح عنه في ( مسند أبي يعلى ) ( 6989 ) .
هذا وقد أبان الله تعالى عن حكمة الأمر بإدناء الجلباب بقوله : ( ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) [ الأحزاب : 59 ] يعني أن المرأة إذا التحفت بالجلباب عرفت بأنها من العفائف المحصنات الطيبات فلا يؤذيهن الفساق بما لا يليق من الكلام بخلاف ما لو خرجت متبذلة غير مستترة فإن هذا مما يطمع الفساق فيها والتحرش بها كما هو مشاهد في كل عصر ومصر . فأمر الله تعالى نساء المؤمنين جميعا بالحجاب سدا للذريعة .
وأما ما أخرجه ابن سعد ( 8 / 176 ) : أخبرنا محمد بن عمر عن ابن أبي سبرة عن أبي صخر عن ابن كعب القرظي قال :
( ضعيف جدا ) ( كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المؤمنين يؤذيهن فإذا قيل له ؟ قال : كنت أحسبها أمة فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء ويدنين
صفحة رقم -91-
عليهن من جلابيبهن ) .
فلا يصح بل هو ضعيف جدا لأمور :
الأول : أن ابن كعب القرظي - واسمه محمد - تابعي لم يدرك عصر النبوة فهو مرسل .
الثاني : أن ابن أبي سبرة وهو أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة ضعيف جدا قال الحافظ في ( التقريب ) :
( رموه بالوضع ) .
والثالث : ضعف محمد بن عمر وهو الواقدي وهو مشهور بذلك عند المحدثين بل هو متهم .
وفي معنى هذه الرواية روايات أخرى أوردها السيوطي في ( الدر المنثور ) وبعضها عند ابن جرير وغيره وكلها مرسلة لا تصح لأن منتهاها إلى أبي مالك وأبي صالح والكلبي ومعاوية بن قرة والحسن البصري ولم يأت شيء منها مسندا فلا يحتج بها ولا سيما أن ظاهرها مما لا تقبله الشريعة المطهرة ولا العقول النيرة لأنها توهم أن الله تعالى أقر إماء المسلمين - وفيهن مسلمات قطعا - على حالهن من ترك التستر ولم يأمرهن بالجلباب ليدفعن به إيذاء المنافقين لهن
ومن العجائب أن يغتر بعض المفسرين بهذه الروايات الضعيفة فيذهبوا بسببها إلى تقييد قوله تعالى : ( ونساء المؤمنين ) [ الأحزاب : 59 ] بالحرائر دون الإماء وبنوا على ذلك أنه لا يجب على الأمة ما يجب على
صفحة رقم -92-
الحرة من ستر الرأس والشعر بل بالغ بعض المذاهب فذكر أن عورتها مثل عورة الرجل : من السرة إلى الركبة وقالوا :
( فيجوز للأجنبي النظر إلى شعر الأمة وذراعها وساقها وصدرها وثديها ) .
وهذا - مع أنه لا دليل عليه من كتاب أو سنة - مخالف لعموم قوله تعالى : ( ونساء المؤمنين ) [ الأحزاب : 59 ] فإنه من حيث العموم كقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا ) الآية [ النساء : 43 ] ولهذا قال أبو حيان الأندلسي في تفسيره : ( البحر المحيط ) ( 7 / 250 ) :
( والظاهر أن قوله : ( ونساء المؤمنين ) يشمل الحرائر والإماء والفتنة بالإماء أكثر لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح ) .
وسبقه إلى ذلك الحافظ ابن القطان في ( أحكام النظر ) ( ق 24 / 2 ) وغيره . وما أحسن ما قال ابن حزم في ( المحلى ) ( 3 / 218 - 219 ) :
( وأما الفرق بين الحرة والأمة فدين الله واحد والخلقة والطبيعة واحدة كل ذلك في الحرائر والإماء سواء حتى يأتي نص في الفرق بينهما
صفحة رقم -93-
في شيء فيوقف عنده ) . قال :
( وقد ذهب بعض من وهل في قول الله تعالى : ( يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) إلى أنه إنما أمر الله تعالى بذلك لأن الفساق كانوا يتعرضون للنساء للفسق فأمر الحرائر بأن يلبسن الجلابيب ليعرف الفساق أنهن حرائر فلا يتعرضوهن ) .
ونحن نبرأ من هذا التفسير الفاسد الذي هو إما زلة عالم أو وهلة فاضل عاقل أو افتراء كاذب فاسق لأن فيه أن الله تعالى أطلق الفساق على أعراض إماء المسلمين وهذه مصيبة الأبد وما اختلف اثنان من أهل الإسلام في أن تحريم الزنا بالحرة كتحريمه بالأمة وأن الحد على الزاني بالحرة كالحد على الزاني بالأمة ولا فرق وأن تعرض الحرة في التحريم
صفحة رقم -94-
كتعرض الأمة ولا فرق ولهذا وشبهه وجب أن لا يقبل قول أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بأن يسنده إليه عليه السلام ) .
ولا يعارض ما تقدم حديث أنس :
( صحيح ) ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اصطفى لنفسه من سبي خيبر صفية بنت حيي قال الصحابة : ما ندري أتزوجها أم اتخذها أم ولد ؟ فقالوا : إن يحجبها فهي امرأته وإن لم يحجبها فهي أم ولد . فلما أراد أن يركب حجبها حتى قعدت على عجز البعير فعرفوا أنه تزوجها ( وفي رواية : وسترها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملها وراءه وجعل رداءه على ظهرها ووجهها ثم شده من تحت رجلها وتحمل بها وجعلها بمنزلة نسائه ) .
صفحة رقم -95-
نقول : لا مخالفة بين هذا الحديث وبين ما اخترناه من تفسير الآية لأنه ليس فيه نفي الجلباب وإنما فيه نفي ( الحجاب ) ولا يلزم منه نفي الجلباب مطلقا إلا احتمالا ويحتمل أن يكون المنفي الجلباب الذي يتضمن حجب الوجه أيضا كما هو صريح قوله في الحديث نفسه : ( وجعل رداءه على ظهرها ووجهها ) ويقوي هذا الاحتمال أيضا ما سيأتي بيانه فهذه الخصوصية هي التي كان بها يعرف الصحابة حرائره عليه السلام من إمائه وهي المراد من قولهم المتقدم سلبا وإيجابا : ( إن يحجبها فهي امرأته وإن لم يحجبها فهي أم ولد ) .
فيتضح من هذا أن معنى قولهم : ( وإن لم يحجبها ) أي : في وجهها فلا ينفي حجب سائر البدن من الأمة وفيه الرأس فضلا عن الصدر والعنق فاتفق الحديث مع الآية والحمد لله على توفيقه .
صفحة رقم -96-
والخلاصة أنه يجب على النساء جميعا أن يتسترن إذا خرجن من بيوتهن بالجلابيب لا فرق في ذلك بين الحرائر والإماء ويجوز لهن الكشف عن الوجه والكفين فقط لجريان العمل بذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع إقراره إياهن على ذلك .
ومن المفيد هنا أن نستدرك ما فاتنا في الطبعات السابقة من الآثار السلفية التي تنص على جريان العمل بذلك أيضا بعد النبي صلى الله عليه وسلم فأقول :
1 ( صحيح ) عن قيس بن أبي حازم قال :
( دخلت أنا وأبي على أبي بكر رضي الله عنه وإذا هو رجل أبيض خفيف الجسم عنده أسماء بنت عميس تذب عنه وهي [ امرأة بيضاء ] موشومة اليدين كانوا وشموها في الجاهلية نحو وشم البربر فعرض عليه فرسان فرضيهما فحملني على أحدهما وحمل أبي على الآخر ) .
صفحة رقم -97-
2 ( إسناده جيد في الشواهد ) عن أبي السليل قال :
جاءت ابنة أبي ذر وعليها مجنبتا صوف سفعاء الخدين ومعها قفة لها فمثلت بين يديه وعنده أصحابه فقالت : يا أبتاه زعم الحراثون والزراعون أن أفلسك هذه بهرجة فقال : يا بنية ضعيها فإن أباك أصبح بحمد الله ما يملك من صفراء ولا بيضاء إلا أفلسه هذه .
3 ( سنده لا بأس به في الشواهد ) عن عمران بن حصين قال :
كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا إذ أقبلت فاطمة رحمها الله فوقفت بين يديه فنظرت إليها وقد ذهب الدم من وجهها فقال : ادني يا فاطمة فدنت حتى قامت بين يديه فرفع يده فوضعها على صدرها موضع القلادة وفرج بين أصابعه ثم قال :
( اللهم مشبع الجاعة ورافع الوضيعة لا تجع فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ) .
قال عمران :
فنظرت إليها وقد غلب الدم على وجهها وذهبت الصفرة كما كانت الصفرة قد غلبت على الدم .
صفحة رقم -98-
قال عمران :
فلقيتها بعد فسألتها ؟ فقالت : ما جعت بعد يا عمران
4 ( سنده حسن ) عن قبيصة بن جابر قال :
( كنا نشارك المرأة في السورة من القرآن نتعلمها فانطلقت مع عجوز من بني أسد إلى ابن مسعود [ في بيته ] في ثلاث نفر فرأى جبينها يبرق فقال : أتحلقينه ؟ فغضبت وقالت : التي تحلق جبينها امرأتك قال : فادخلي عليها فإن كانت تفعله فهي مني بريئة فانطلقت ثم جاءت فقالت : لا والله ما رأيتها تفعله فقال عبد الله بن مسعود : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( لعن الله الواشمات والمستوشمات . . . . ) إلخ .
5 ( صحيح ) عن أبي أسماء الرحبي أنه دخل على أبي ذر [ الغفاري رضي الله عنه ] وهو بالربذة وعنده امرأة له سوداء مسغبة . . . قال : فقال :
( ألا تنظرون إلى ما تأمرني به هذه السويداء . . . ) .
6 - وفي ( تاريخ ابن عساكر ) ( 19 / 73 / 2 ) وفي قصة صلب ابن الزبير أن أمه ( أسماء بنت أبي بكر ) جاءت مسفرة الوجه متبسمة .
صفحة رقم -99-
7 ( صحيح ) عن أنس قال :
دخلت على عمر بن الخطاب أمة قد كان يعرفها لبعض المهاجرين أو الأنصار وعليها جلباب متقنعة به فسألها : عتقت ؟ قالت : لا . قال : فما
صفحة رقم -100-
بال الجلباب ؟ ضعيه عن رأسك إنما الجلباب على الحرائر من نساء المؤمنين فتلكأت فقام إليها بالدرة فضرب رأسها حتى ألقته عن رأسها .
8 ( صحيح ) عن عمر بن محمد أن أباه حدثه عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل : أن أروى خاصمته في بعض داره فقال : دعوها وأباها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( من أخذ شبرا من الأرض بغير حقه طوقه في سبع أرضين يوم القيامة ) .
اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واجعل قبرها في دارها .
قال : فرأيتها عمياء تلتمس الجدر تقول : أصابتني دعوة سعيد بن
صفحة رقم -101-
زيد .
فبينما هي تمشي في الدار مرت على بئر في الدار فوقعت فيها فكانت قبرها .
9 ( صحيح ) عن عطاء بن أبي رباح قال : رأيت عائشة رضي الله عنها تفتل القلائد للغنم تساق معها هديا .
10 ( حسن ) عن عبد الله بن محمد بن عقيل قال :
أرسلني علي بن الحسين إلى الربيع بنت معوذ أسألها عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يتوضأ عندها فأتيتها فأخرجت إلي إناء يكون مدا . . . فقالت : بهذا كنت أخرج لرسول الله صلى الله عليه وسلم للوضوء . . . الحديث .
صفحة رقم -102-
11 ( صحيح ) عن عروة بن عبد الله بن قشير :
أنه دخل على فاطمة بنت علي بن أبي طالب قال : فرأيت في يديها مسكا غلاظا في كل يد اثنين اثنين . قال : ورأيت في يدها خاتما . . . إلخ .
12 ( إسناده جيد ) وعن عيسى بن عثمان قال :
كنت عند فاطمة بنت علي فجاء رجل يثني على أبيها عندها فأخذت رمادا فسفت في وجهه .
13 ( سنده جيد ) وعن يحيى بن أبي سليم قال :
رأيت سمراء بنت نهيك وكانت قد أدركت النبي صلى الله عليه وسلم عليها درع غليظ وخمار غليظ بيدها سوط تؤدب الناس وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر .
14 ( صحيح ) عن ميمون - هو ابن مهران - قال :
دخلت على أم الدرداء فرأيتها مختمرة بخمار صفيق قد ضربت
صفحة رقم -103-
على حاجبها . قال : وكان فيه قصر فوصلته بسير . قال : وما دخلت في ساعة صلاة إلا وجدتها مصلية .
15 ( سنده جيد في الشواهد ) عن معاوية رضي الله عنه :
دخلت مع أبي على أبي بكر رضي الله عنه فرأيت أسماء قائمة على رأسه بيضاء ورأيت أبا بكر رضي الله عنه أبيض نحيفا .
16 ( سنده حسن ) عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال :
( جاءت امرأة إلى سمرة بن جندب فذكرت أن زوجها لا يصل إليها فسأل الرجل فأنكر ذلك وكتب فيه إلى معاوية رضي الله عنه قال : فكتب : أن زوجه امرأة من بيت المال لها حظ من جمال ودين . . . قال : ففعل . . . قال : وجاءت المرأة متقنعة . . . ) .
صفحة رقم -104-
مشروعية ستر الوجه :
هذا ثم إن كثيرا من المشايخ اليوم يذهبون إلى أن وجه المرأة عورة لا يجوز لها كشفه بل يحرم وفيما تقدم في هذا البحث كفاية في الرد عليهم ويقابل هؤلاء طائفة أخرى يرون أن ستره بدعة وتنطع في الدين كما قد بلغنا عن بعض من يتمسك بما ثبت في السنة في بعض البلاد اللبنانية فإلى هؤلاء الإخوان وغيرهم نسوق الكلمة التالية :
ليعلم أن ستر الوجه والكفين له أصل في السنة وقد كان ذلك معهودا في زمنه صلى الله عليه وسلم كما يشير إليه صلى الله عليه وسلم بقوله :
( صحيح ) ( لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( تفسير سورة النور ) ( ص 56 ) :
( وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن ) .
صفحة رقم -105-
والنصوص متضافرة عن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن يحتجبن حتى في وجوههن وإليك بعض الأحاديث والآثار التي تؤيد ما نقول :
1 ( صحيح ) عن عائشة قالت :
( خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها عمر بن الخطاب فقال : يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين قالت : فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق ( هو العظم إذا أخذ منه معظم اللحم ) فدخلت عليه فقالت : يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر : كذا وكذا قالت : فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال : إنه أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن ) .
صفحة رقم -106-
2 ( صحيح ) وعنها أيضا في حديث قصة الإفك قالت :
( . . . فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان
صفحة رقم -107-
ابن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت ( وفي رواية : فسترت ) وجهي عنه بجلبابي . . . ) الحديث .
3 ( صحيح ) عن أنس في قصة غزوة خيبر واصطفائه صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه قال :
( فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر ولم يعرس بها فلما قرب البعير لرسول الله ليخرج وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجله لصفية لتضع قدمها على فخذه فأبت ووضعت ركبتها على فخذه وسترها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملها وراءه وجعل رداءه على ظهرها ووجهها ثم شده من تحت رجلها وتحمل بها وجعلها بمنزلة نسائه ) .
4 ( حسن في الشواهد ) عن عائشة قالت :
صفحة رقم -108-
( كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه ) .
5 ( صحيح ) عن أسماء بنت أبي بكر قالت :
( كنا نغطي وجوهنا من الرجال وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام ) .
6 - عن صفية بنت شيبة قالت :
( رأيت عائشة طافت بالبيت وهي منتقبة ) .
7 - عن عبد الله بن عمر قال :
صفحة رقم -109-
( لما اجتلى النبي صلى الله عليه وسلم صفية رأى عائشة منتقبة وسط الناس فعرفها ) .
8 ( حسن ) عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف :
( أن عمر بن الخطاب أذن لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الحج في آخر حجة
صفحة رقم -110-
حجها وبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف قال : كان عثمان ينادي : ألا لا يدنو إليهن أحد ولا ينظر إليهن أحد وهن في الهوادج على الإبل فإذا نزلن أنزلهن بصدر الشعب وكان عثمان وعبد الرحمن بذنب الشعب فلم يصعد إليهن أحد ) .
ففي هذه الأحاديث دلالة ظاهرة على أن حجاب الوجه قد كان معروفا في عهده صلى الله عليه وسلم وأن نساءه كن يفعلن ذلك وقد استن بهن فضليات النساء بعدهن وإليك مثالين على ذلك :
1 ( صحيح ) عن عاصم الأحول قال :
( كنا ندخل على حفصة بنت سيرين وقد جعلت الجلباب هكذا : وتنقبت به فنقول لها : رحمك الله قال الله تعالى : ( والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات
صفحة رقم -111-
بزينة ) هو الجلباب قال : فتقول لنا : أي شيء بعد ذلك ؟ فنقول : ( وأن يستعففن خير لهن ) فتقول : هو إثبات الحجاب ) .
112. ساقط
صفحة رقم -113-
2 - عن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن موسى القاضي قال :
حضرت مجلس موسى بن إسحاق القاضي بالري سنة ست وثمانين ومائتين وتقدمت امرأة فادعى وليها على زوجها خمسمائة دينار مهرا فأنكر فقال القاضي : شهودك . قال :
قد أحضرتهم . فاستدعى بعض الشهود أن ينظر إلى المرأة ليشير إليها في شهادته فقام الشاهد وقال للمرأة :
قومي . فقال الزوج :
صفحة رقم -114-
تفعلون ماذا ؟ قال الوكيل :
ينظرون إلى امرأتك وهي مسفرة لتصح عندهم معرفتها . فقال الزوج :
وإني أشهد القاضي أن لها علي هذا المهر الذي تدعيه ولا تسفر عن وجهها . فردت المرأة وأخبرت بما كان من زوجها - فقالت :
فإني أشهد القاضي : أن قد وهبت له هذا المهر وأبرأته منه في الدنيا والآخرة .
فقال القاضي :
يكتب هذا في مكارم الأخلاق .
فيستفاد مما ذكرنا أن ستر المرأة لوجهها ببرقع أو نحوه مما هو معروف اليوم عند النساء المحصنات أمر مشروع محمود وإن كان لا يجب ذلك عليها بل من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج .
ومما تقدم بيانه يتضح ثبوت الشرط الأول في لباس المرأة إذا خرجت ألا وهو أن يستر جميع بدنها إلا وجهها وكفيها .
( فائدة هامة ) :
قوله تعالى في آية النور المتقدمة في أول هذا الشرط : ( أو نسائهن ) [ 31 ] يعني : المؤمنات كما قال مجاهد وغيره من السلف خلافا لبعض المعاصرين فإنه زعم أن المعنى : الصالحات من النساء سواء كن مسلمات أو كافرات
صفحة رقم -115-
قال الشوكاني في ( فتح القدير ) ( 4 / 22 ) :
( وإضافة النساء إليهن تدل على اختصاص ذلك بالمؤمنات ) .
وقال البيهقي في كتاب ( الآداب ) ( ص 407 - لبنان ) :
( وأما قوله : ( نسائهن ) فقد روينا عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح : إن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات ومعهن نساء من أهل الكتاب فامنع ذلك ) .
وفي رواية أخرى :
( فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها ) .
قلت : الرواية الأولى عند البيهقي في ( السنن ) ( 7 / 95 ) من طريق عيسى بن يونس : ثنا هشام بن الغاز بن ربيعة الجرشي عن عبادة بن نسي الكندي قال : كتب عمر . . . إلخ .
ورواه ابن جرير أيضا ( 18 / 95 ) .
قلت : ورجاله ثقات لكنه منقطع فإن عبادة لم يدرك عمر رضي الله عنه بينهما نسي والد عبادة .
هكذا رواه سعيد بن منصور في ( سننه ) كما في ( تفسير ابن كثير ) ( 3 / 284 ) ومن طريقه البيهقي : ثنا إسماعيل بن عياش عن هشام بن الغاز عن عبادة بن نسي عن أبيه عن الحارث بن قيس قال : كتب عمر . . . إلخ . الرواية الأخرى .
صفحة رقم -116-
ورجاله ثقات غير نسي فإنه لم يوثقه غير ابن حبان ( 5 / 482 ) .
وقال الحافظ في ( التقريب ) :
( مجهول ) .
قلت : لكن المعنى المذكور متفق عليه بين المفسرين المحققين كابن جرير وابن كثير والشوكاني وغيرهم ممن لا يخرج عن التفسير المأثور ولا يعتد بآراء الخلف .
إذا تبين ذلك فاعلم أن من الخطورة بمكان ما ابتلي به كثير من أغنياء المسلمين اليوم من استخدامهم النساء الكافرات في بيوتهم لأنه لا يخلو الأمر من أن يقع الزوجان أو أحدهما في الفتنة والمخالفة للشريعة
أما الزوج فواضح لأنه يخشى أن يزني بها وبخاصة أنه لا عفة عندهن بحكم كونهن كافرات لا يحرمن ولا يحللن كما صرح بذلك القرآن الكريم بحق أهل الكتاب فكيف يكون حال الوثنيات كالسيريلانكيات اللاتي لا كتاب لهن ؟
وأما بالنسبة للزوجة فمن الصعب جدا على أكثر مسلمات هذا الزمان زوجات وبنات بالغات أن يحتجبن من تلك الخادمات كما تحتجب من الرجال إلا من عصم الله وقليل ما هن .
ولو أننا فرضنا سلامة الزوجين من الفتنة فلن يسلم أولادهما من التأثر بأخلاقهن وعاداتهن المخالفة لشريعتنا هذا إذا لم يقصدن إفساد تربيتهم وتشكيكهم في دينهم كما سمعنا بذلك عن بعضهن .
صفحة رقم -117-
هذا ولقد بلغني عن أحد المفتين - والعهدة على الراوي - أنه سئل عن استخدامهن فأجاب بالجواز لأنهن عنده بمنزلة السبايا والجواري اللاتي استحلت شرعا بملك اليمين فأخشى ما أخشاه أن يصل الأمر بمثل هذا المفتي أن يستحل أيضا وطأهن قياسا على ملك اليمين وبخاصة أن هناك من أسقط الحد عمن زنى بخادمته - ولو كانت مسلمة - بشبهة استئجاره إياها قال ذلك بعض الآرائيين القدامى فالله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله .
هذا ما أردت بيانه للناس حول هذه المسألة لعل الله ينفع بها من قد يكون غافلا عنها وينفع من كان معرضا عن العمل بها وهو سبحانه ولي التوفيق والهادي إلى أقوم طريق .
118. ساقط من الأصل
صفحة رقم -119-
الشرط الثاني
( أن لا يكون زينة في نفسه )
لقوله تعالى في الآية المتقدمة من سورة النور : ( ولا يبدين زينتهن ) [ النور : 31 ] فإنه بعمومه يشمل الثياب الظاهرة إذا كانت مزينة تلفت أنظار الرجال إليها ويشهد لذلك قوله تعالى في [ الأحزاب : 33 ] :
( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) .
وقوله صلى الله عليه وسلم :
( صحيح ) ( ثلاثة لا تسأل عنهم : رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصيا وأمة أوعبد أبق فمات وامرأة غاب عنها زوجها قد كفاها مؤونة الدنيا فتبرجت بعده فلا تسأل عنهم ) .
صفحة رقم -120-
و ( التبرج : أن تبدي المرأة من زينتها ومحاسنها وما يجب عليها ستره مما تستدعي به شهوة الرجل ) .
والمقصود من الأمر بالجلباب إنما هو ستر زينة المرأة فلا يعقل حينئذ أن يكون الجلباب نفسه زينة وهذا كما ترى بين لا يخفى ولذلك قال الإمام الذهبي في ( كتاب الكبائر ) ( ص 131 ) :
( ومن الأفعال التي تلعن عليها المرأة إظهار الزينة والذهب واللؤلؤ تحت النقاب وتطيبها بالمسك والعنبر والطيب إذا خرجت ولبسها الصباغات والأزر الحريرية والأقبية القصار مع تطويل الثوب وتوسعة الأكمام وتطويلها وكل ذلك من التبرج الذي يمقت الله عليه ويمقت فاعله في الدنيا والآخرة ولهذه الأفعال التي قد غلبت على أكثر النساء قال عنهن النبي صلى الله عليه وسلم : اطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء ) .
قلت : وهو حديث صحيح أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث عمران ابن حصين وغيره وزاد أحمد وغيره من حديث ابن عمرو مرفوعا :
( والأغنياء ) .
وهذه الزيادة منكرة كما حققته في ( سلسلة الأحاديث الضعيفة )
صفحة رقم -121-
برقم ( 2800 ) من المجلد السادس يسر الله طباعته .
قلت : ولقد بالغ الإسلام في التحذير من التبرج إلى درجة أنه قرنه بالشرك والزنى والسرقة وغيرها من المحرمات وذلك حين بايع النبي صلى الله عليه وسلم النساء على أن لا يفعلن ذلك فقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنه :
( حسن ) ( جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام فقال : أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئا ولا تسرقي ولا تزني ولا تقتلي ولدك ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك ولا تنوحي ولا تتبرجي تبرج الجاهلية الأولى ) .
واعلم أنه ليس من الزينة في شيء أن يكون ثوب المرأة الذي تلتحف
صفحة رقم -122-
به ملونا بلون غير البياض أو السواد كما يتوهم بعض النساء الملتزمات وذلك لأمرين :
الأول : قوله صلى الله عليه وسلم :
( طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه . . . ) .
وهو مخرج في ( مختصر الشمائل ) ( 188 ) .
والآخر : جريان العمل من نساء الصحابة على ذلك وأسوق هنا بعض الآثار الثابتة في ذلك مما رواه الحافظ ابن أبي شيبة في ( المصنف ) ( 8 / 371 - 372 ) :
1 - عن إبراهيم وهوالنخعي أنه كان يدخل مع علقمة والأسود على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيراهن في اللحف الحمر .
2 - عن ابن أبي مليكة قال :
رأيت على أم سلمة درعا وملحفة مصبغتين بالعصفر .
صفحة رقم -123-
3 - عن القاسم - وهو ابن محمد بن أبي بكر الصديق -
أن عائشة كانت تلبس الثياب المعصفرة وهي محرمة .
وفي رواية عن القاسم :
أن عائشة كانت تلبس الثياب الموردة بالعصفر وهي محرمة .
4 - عن هشام عن فاطمة بنت المنذر
أن أسماء كانت تلبس المعصفر وهي محرمة .
5 - عن سعيد بن جبير :
أنه رأى بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم تطوف بالبيت وعليها ثياب معصفرة .
124. ساقط من الاصل
صفحة رقم -125-
الشرط الثالث
( أن يكون صفيقا لا يشف )
لأن الستر لا يتحقق إلا به وأما الشفاف فإنه يزيد المرأة فتنة وزينة وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم :
( سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العنوهن فإنهن ملعونات ) .
زاد في حديث آخر :
( لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا ) .
قال ابن عبد البر :
( أراد صلى الله عليه وسلم النساء اللواتي يلبسن من الثياب الشيء الخفيف الذي
صفحة رقم -126-
يصف ولا يستر فهن كاسيات بالاسم عاريات في الحقيقة ) .
وعن أم علقمة بن أبي علقمة قالت :
( رأيت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر دخلت على عائشة وعليها خمار رقيق يشف عن جبينها فشقته عائشة عليها وقالت : أما تعلمين ما أنزل الله في سورة النور ؟ ثم دعت بخمار فكستها ) .
صفحة رقم -127-
( صحيح ) وعن هشام بن عروة :
( أن المنذر بن الزبير قدم من العراق فأرسل إلى أسماء بنت أبي بكر بكسوة من ثياب مروية وقوهية رقاق عتاق بعدما كف بصرها قال : فلمستها بيدها ثم قالت : أف ردوا عليه كسوته قال : فشق ذلك عليه وقال : يا أمه إنه لا يشف . قالت إنها إن لم تشف فإنها تصف ) .
وعن عبد الله بن أبي سلمة :
( أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كسا الناس القباطي ثم قال :
صفحة رقم -128-
لا تدرعها نساؤكم فقال رجل : يا أمير المؤمنين قد ألبستها امرأتي فأقبلت في البيت وأدبرت فلم أره يشف . فقال عمر : إن لم يكن يشف فإنه يصف ) .
وفي هذا الأثر والذي قبله إشارة إلى أن كون الثوب يشف أو يصف كان من المقرر عندهم أنه لا يجوز وأن الذي يشف شر من الذي يصف ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها :
( إنما الخمار ما وارى البشرة والشعر ) .
( صحيح ) وقالت شميسة :
( دخلت على عائشة وعليها ثياب من هذه السيد الصفاق ودرع
صفحة رقم -129-
وخمار ونقبة قد لونت بشيء من عصفر ) .
من أجل ذلك كله قال العلماء :
ويجب ستر العورة بما لا يصف لون البشرة . . . من ثوب صفيق أو جلد أو رق فإن ستر بما يظهر فيه لون البشرة من ثوب رقيق لم يجز لأن الستر لا يحصل بذلك .
وقد عقد ابن حجر الهيتمي في ( الزواجر ) ( 1 / 127 ) بابا خاصا في لبس المرأة ثوبا رقيقا يصف بشرتها وأنه من الكبائر ثم ساق فيه الحديث المتقدم ( ص 125 ) ثم قال :
( وذكر هذا من الكبائر ظاهر لما فيه من الوعيد الشديد ولم أر من صرح بذلك . إلا أنه معلوم بالأولى مما مر في تشبههن بالرجال ) .
قلت : وتأتي الأحاديث في لعن المتشبهات بالرجال عند الكلام على الشرط السادس .
130. ساقط من الاصل
صفحة رقم -131-
الشرط الرابع
( أن يكون فضفاضا غير ضيق فيصف شيئا من جسمها )
لأن الغرض من الثوب إنما هو رفع الفتنة ولا يحصل ذلك إلا بالفضفاض الواسع وأما الضيق فإنه وإن ستر لون البشرة فإنه يصف حجم جسمها أو بعضه ويصوره في أعين الرجال وفي ذلك من الفساد والدعوة إليه ما لا يخفى فوجب أن يكون واسعا وقد قال أسامة بن زيد :
( حسن ) ( كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة مما أهداها له دحية الكلبي فكسوتها امرأتي فقال : مالك لم تلبس القبطية ؟ قلت : كسوتها امرأتي فقال : مرها فلتجعل تحتها غلالة فإني أخاف أن تصف حجم عظامها ) .
فقد أمر صلى الله عليه وسلم بأن تجعل المرأة تحت القبطية غلالة - وهي شعار يلبس تحت الثوب - ليمنع بها وصف بدنها والأمر يفيد الوجوب كما تقرر في
صفحة رقم -132-
الأصول ولذلك قال الشوكاني في شرح هذا الحديث ( 2 / 97 ) ما نصه :
( والحديث يدل على أنه يجب على المرأة أن تستر بدنها بثوب لا يصفه وهذا شرط ساتر العورة وإنما أمر بالثوب تحته لأن القباطي ثياب رقاق لا تستر البشرة عن رؤية الناظر بل تصفها ) .
وهو كما ترى قد حمل الحديث على الثياب الرقيقة الشفافة التي لا تستر لون البشرة فهو على هذا يصلح أن يورد في الشرط السابق ولكن هذا الحمل غير متجه عندي بل هو وارد على الثياب الكثيفة التي تصف حجم الجسم من ليونتها ولو كانت غير رقيقة وشفافة وذلك واضح من الحديث لأمرين :
الأول : أنه قد صرح فيه بأن القبطية كانت كثيفة أي : ثخينة غليظة فمثله كيف يصف البشرة ولا يسترها عن رؤية الناظر ؟ ولعل الشوكاني رحمه الله ذهل عن هذا القيد ( كثيفة ) في الحديث ففسر القبطية بما هو الأصل فيها .
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صرح فيه بالمحذور الذي خشيه من هذه القبطية فقال :
( إني أخاف أن تصف حجم عظامها ) .
فهذا نص في أن المحذور إنما هو وصف الحجم لا اللون .
فإن قلت : فإذا كان الأمر كما ذكرت وكانت القبطية ثخينة فما فائدة الغلالة ؟
قلت : فائدتها دفع ذلك المحذور لأن الثوب قد يصف الجسم ولو
صفحة رقم -133-
كان ثخينا إذا كان من طبيعته الليونة والانثناء على الجسد كبعض الثياب الحريرية والجوخ المعروفة في هذا العصر فأمر صلى الله عليه وسلم بالشعار من أجل ذلك .
والله تعالى أعلم .
وقد أغرب الشافعية فقالوا :
( أما لو ستر اللون ووصف حجم الأعضاء فلا بأس كما لو لبس سروالا ضيقا ) قالوا :
( ويستحب أن تصلي المرأة في قميص سابغ وخمار وتتخذ جلبابا كثيفا فوق ثيابها ليتجافى عنها ولا يتبين حجم أعضائها
صفحة رقم -134-
والقول بالاستحباب فقط ينافي ظاهر الأمر فإنه للوجوب كما تقدم وعبارة الإمام الشافعي رضي الله عنه في ( الأم ) قريب مما ذهبنا فقد قال : ( 1 / 78 ) :
( وإن صلى في قميص يشف عنه لم تجزه الصلاة . . . فإن صلى في قميص واحد يصفه ولم يشف كرهت له ولا يتبين أن عليه إعادة الصلاة . . . والمرأة في ذلك أشد حالا من الرجل إذا صلت في درع وخمار يصفها الدرع وأحب إلي أن لا تصلي إلا في جلباب فوق ذلك وتجافيه عنها لئلا يصفها الدرع ) .
وقد قالت عائشة رضي الله عنها :
( صحيح ) ( لا بد للمرأة من ثلاثة أثواب تصلي فيهن : درع وجلباب وخمار
صفحة رقم -135-
وكانت عائشة تحل إزارها فتجلبب به ) .
وإنما كانت تفعل ذلك لئلا يصفها شيء من ثيابها وقولها : ( لا بد ) دليل على وجوب ذلك وفي معناه قول ابن عمر رضي الله عنهما :
( صحيح ) ( إذا صلت المرأة فلتصل في ثيابها كلها : الدرع والخمار والملحفة ) .
وهذا يؤيد ما سبق أن ذهبنا إليه من وجوب الجمع بين الخمار والجلباب على المرأة إذا خرجت . ( انظر ص 84 - 85 ) .
ومما يحسن إيراده هنا استئناسا ما روي عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت :
( يا أسماء إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء أن يطرح على المرأة الثوب فيصفها فقالت أسماء : يا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أريك شيئا رأيته بالحبشة ؟ فدعت بجرائد رطبة فحنتها ثم طرحت عليها ثوبا فقالت فاطمة : ما أحسن هذا وأجمله تعرف به المرأة من الرجل . فإذا مت أنا فاغسليني أنت وعلي ولا يدخل علي أحد فلما توفيت غسلها علي وأسماء رضي الله عنهما ) .
صفحة رقم -136-
فانظر إلى فاطمة بضعة النبي صلى الله عليه وسلم كيف استقبحت أن يصف الثوب المرأة وهي ميتة فلا شك أن وصفه إياها وهي حية أقبح وأقبح فليتأمل في هذا مسلمات هذا العصر اللاتي يلبسن من هذه الثياب الضيقة التي تصف نهودهن وخصورهن وألياتهن وسوقهن وغير ذلك من أعضائهن ثم ليستغفرن الله تعالى وليتبن إليه وليذكرن قوله صلى الله عليه وسلم :
( صحيح ) ( الحياء والإيمان قرنا جميعا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر ) .
صفحة رقم -137-
الشرط الخامس
( أن لا يكون مبخرا مطيبا )
لأحاديث كثيرة تنهى النساء عن التطيب إذا خرجن من بيوتهن ونحن نسوق الآن بين يديك ما صح سنده منها :
1 ( إسناده حسن ) عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية ) .
2 ( صحيح ) عن زينب الثقفية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
صفحة رقم -138-
( إذا خرجت إحداكن إلى المسجد فلا تقربن طيبا ) .
3 ( صحيح ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة ) .
4 ( صحيح ) عن موسى بن يسار عن أبي هريرة :
( أن امرأة مرت به تعصف ريحها فقال : يا أمة الجبار المسجد تريدين ؟ قالت : نعم قال : وله تطيبت ؟ قالت : نعم قال : فارجعي فاغتسلي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( ما من امرأة تخرج إلى المسجد تعصف ريحها فيقبل الله منها صلاة حتى ترجع إلى بيتها فتغتسل ) .
صفحة رقم -139-
ووجه الاستدلال بهذه الأحاديث على ما ذكرنا العموم الذي فيها . فإن الاستعطار والتطيب كما يستعمل في البدن يستعمل في الثوب أيضا لا سيما وفي الحديث الثالث ذكر البخور فإنه بالثياب أكثر استعمالا وأخص .
وسبب المنع منه واضح وهو ما فيه من تحريك داعية الشهوة وقد ألحق به العلماء ما في معناه كحسن الملبس والحلي الذي يظهر والزينة الفاخرة وكذا الاختلاط بالرجال .
وقال ابن دقيق العيد :
( وفيه حرمة التطيب على مريدة الخروج إلى المسجد لما فيه من تحريك داعية شهوة الرجال ) .
قلت : فإذا كان ذلك حراما على مريدة المسجد فماذا يكون الحكم على مريدة السوق والأزقة والشوارع ؟ لا شك أنه أشد حرمة وأكبر إثما وقد ذكر الهيتمي في ( الزواجر ) ( 2 / 37 ) أن خروج المرأة من بيتها متعطرة متزينة من الكبائر ولو أذن لها زوجها .
ثم إن هذه الأحاديث عامة تشمل جميع الأوقات وإنما خص بالذكر العشاء الآخرة في الحديث الثالث لأن الفتنة وقتها أشد فلا يتوهمن منه أن خروجها في غير هذا الوقت جائز . وقال ابن الملك :
صفحة رقم -140-
( والأظهر أنها خصت بالنهي لأنها وقت الظلمة وخلو الطريق والعطر يهيج الشهوة فلا تأمن المرأة في ذلك الوقت من كمال الفتنة بخلاف الصبح والمغرب فإنهما وقتان فاضحان وقد تقدم أن مس الطيب يمنع المرأة من حضور المسجد مطلقا ) .
صفحة رقم -141-
الشرط السادس
( أن لا يشبه لباس الرجل )
لما ورد من الأحاديث الصحيحة في لعن المرأة التي تتشبه بالرجل في اللباس أو غيره . وإليك ما نعلمه منها :
1 ( صحيح ) عن أبي هريرة قال :
( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل ) .
صفحة رقم -142-
2 - عن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( ليس منا من تشبه بالرجال من النساء ولا من تشبه بالنساء من الرجال ) .
صفحة رقم -145-
3 ( صحيح ) عن ابن عباس قال :
( لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء وقال : أخرجوهم من بيوتكم . قال : فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلانا وأخرج عمر فلانا ) .
وفي لفظ :
( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال ) .
4 ( صحيح الإسناد ) عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
صفحة رقم -146-
( ثلاث لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق والديه والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال والديوث ) .
5 ( صحيح ) عن ابن أبي مليكة - واسمه عبد الله بن عبيد الله - قال : قيل لعائشة رضي الله عنها : إن المرأة تلبس النعل ؟ فقالت :
( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجلة من النساء ) .
وفي هذه الأحاديث دلالة واضحة على تحريم تشبه النساء بالرجال
صفحة رقم -147-
وعلى العكس وهي عامة تشمل اللباس وغيره إلا الحديث الأول فهو نص في اللباس وحده وقد قال أبو داود في ( مسائل الإمام أحمد ) ( ص 261 ) :
( سمعت أحمد سئل عن الرجل يلبس جاريته القرطق ؟ قال : لا يلبسها من زي الرجال لا يشبهها بالرجال ) .
قال أبو داود :
( قلت لأحمد : يلبسها النعل الصرارة ؟ قال : لا إلا أن يكون لبسها للوضوء . قلت : للجمال ؟ قال : لا . قلت : فيجز شعرها ؟ قال : لا ) .
صفحة رقم -148-
وقد أورد الذهبي تشبه المرأة بالرجال وتشبه الرجال بالنساء في ( الكبائر ) ( ص 129 ) وأورد بعض الأحاديث المتقدمة ثم قال :
( فإذا لبست المرأة زي الرجال من المقالب والفرج والأكمام الضيقة فقد شابهت الرجال في لبسهم قتلحقها لعنة الله ورسوله ولزوجها إذا أمكنها من ذلك أو رضي به ولم ينهها لأنه مأمور بتقويمها على طاعة الله ونهيها عن المعصية لقول الله تعالى : ( قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة ) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم :
( صحيح ) ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته الرجل راع في أهله ومسؤول عنهم يوم القيامة ) متفق عليه وهو مخرج في ( غاية المرام ) ( 269 ) .
وتبعه على ذلك الهيتمي في ( الزواجر ) ( 1 / 126 ) ثم قال :
( عد هذا من الكبائر واضح لما عرفت من هذه الأحاديث الصحيحة وما فيها من الوعيد الشديد والذي رأيته لأئمتنا أن ذلك التشبه فيه قولان
صفحة رقم -149-
أحدهما أنه حرام وصححه النووي بل صوبه وثانيهما أنه مكروه وصححه الرافعي في موضع والصحيح بل الصواب ما قاله النووي من الحرمة بل ما قدمته من أن ذلك كبيرة ثم رأيت بعض المتكلمين على الكبائر عده منها وهو ظاهر ) .
وقال الحافظ في ( الفتح ) ( 10 / 273 - 274 ) عند شرح حديث ابن عباس المتقدم برقم ( 3 ) باللفظ الثاني : ( لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال ) ما مختصره :
( قال الطبري : لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء ولا العكس وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة : ظاهر اللفظ الزجر عن التشبه في كل شيء لكن عرف من الأدلة الأخرى أن المراد التشبه في الزي وبعض الصفات والحركات ونحوها لا التشبه في أمور الخير . قال : والحكمة في لعن من تشبه إخراجه الشيء عن الصفة التي وضعها عليه أحكم الحكماء وقد أشار إلى ذلك في لعن الواصلات بقوله : ( المغيرات خلق الله ) .
صفحة رقم -150-
فثبت مما تقدم أنه لا يجوز للمرأة أن يكون زيها مشابها لزي الرجل فلا يحل لها أن تلبس رداءه وإزاره ونحو ذلك كما تفعله بعض بنات المسلمين في هذا العصر من لبسهن ما يعرف ب ( الجاكيت ) و( البنطلون ) وإن كان هذا في الواقع أستر لهن من ثيابهن الأخرى الأجنبية . فاعتبروا يا أولي الأبصار .
ثم وجدت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فصلا جيدا رأيت من المناسب إيراده في هذا المكان لوثيق صلته به ولما فيه من الفوائد الغزيرة والتحقيق العلمي وهو جواب سؤال وجه إليه وهذا نصه مع الجواب كما جاء في ( الكواكب ) لابن عروة الحنبلي ( ج 93 / 132 - 134 ) المحفوظ في المكتبة الظاهرية بدمشق تحت رقم ( 579 - تفسير ) :
( مسألة في لبس الكوفية للنساء ما حكمها إذا كانت بالداير والفرق وفي لبسهن الفراجي فما الضابط في التشبه بالرجال في الملبوس ؟ هل هو بالنسبة إلى ما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كل زمان بحسبه ؟
الجواب :
الحمد لله . الكوفية التي بالفرق والداير من غير أن تستر الشعر المسدول هي من لباس الصبيان والمرأة اللابسة لذلك متشبهة بهم . وهذا النوع قد يكون أوله من قبل النساء قصدن التشبه بالمردان كما يقصد بعض البغايا أن تضفر شعرها ضفيرا واحدا مسدولا بين الكتفين وأن ترخي لها السوالف وأن تعتم لتشبه المردان في العمامة والعذار والشعر ثم قد تفعل الحرة بعض ذلك لا تقصد هذا لكن هي في ذلك متشبهة بالرجال .
صفحة رقم -151-
وقد استفاضت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح وغيرها بلعن المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء وفى رواية : أنه لعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء وأمر بنفي المخنثين وقد نص على نفيهم الشافعي وأحمد وغيرهما وقالوا : جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفي في حد الزنا وبنفي المخنثين .
وفي ( صحيح مسلم ) عنه أنه قال :
( صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما بعد : كاسيات عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن مثل أسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها عباد الله ) .
وقد فسر قوله : ( كاسيات عاريات ) بأن تكتسي مالا يسترها فهي كاسية وهى في الحقيقة عارية مثل من تكتسي الثوب الرقيق الذي يصف بشرتها أو الثوب الضيق الذي يبدي تقاطيع خلقها مثل عجيزتها وساعدها ونحو ذلك وإنما كسوة المرأة ما تسترها فلا تبدي جسمها ولا حجم أعضائها لكونه كثيفا واسعا .
ومن هنا يظهر الضابط في نهيه صلى الله عليه وسلم عن تشبه الرجال بالنساء وعن تشبه النساء بالرجال وأن الأصل في ذلك ليس هو راجعا إلى مجرد ما تختاره الرجال والنساء ويشتهونه ويعتادونه فإنه لو كان كذلك لكان إذا اصطلح قوم
صفحة رقم -152-
على أن يلبس الرجال الخمر التي تغطي الرأس والوجه والعنق والجلابيب التي تسدل من فوق الرؤوس حتى لا يظهر من لابسها إلا العينان وأن تلبس النساء العمائم والأقبية المختصرة ونحو ذلك أن يكون هذا سائغا وهذا خلاف النص والإجماع فإن الله تعالى قال للنساء : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ) الآية وقال : ( قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) الآية وقال : ( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) فلو كان اللباس الفارق بين الرجال والنساء مستنده مجرد ما يعتاده النساء أو الرجال باختيارهم وشهوتهم لم يجب أن يدنين عليهن الجلابيب ولا أن يضربن بالخمر على الجيوب ولم يحرم عليهن التبرج تبرج الجاهلية الأولى لأن ذلك كان عادة لأولئك وليس الضابط في ذلك لباسا معينا من جهة نص النبي صلى الله عليه وسلم أو من جهة عادة الرجال والنساء على عهده بحيث يقال : إن ذلك هو الواجب وغيره يحرم فإن النساء على عهده كن يلبسن ثيابا طويلات الذيل بحيث ينجر خلف المرأة إذا خرجت والرجل مأمور بأن يشمر ذيله حتى لا يبلغ الكعبين ولهذا لما نهى صلى الله عليه وسلم الرجال عن إسبال الإزار وقيل له : فالنساء ؟ قال : يرخين شبرا قيل له : إذن تنكشف سوقهن قال : ذراعا لا يزدن عليه قال الترمذي : ( حديث صحيح ) حتى إنه لأجل ذلك روي أنه رخص للمرأة إذا جرت ذيلها على مكان قذر ثم مرت به على مكان طيب أنه يطهر بذلك وذلك قول طائفة من أهل العلم في مذهب أحمد وغيره جعلا
صفحة رقم -153-
المجرور بمنزلة النعل الذي يكثر ملاقاته النجاسة فيطهر بالجامد كما يطهر السبيلان بالجامد لما تكرر ملاقاتهما النجاسة ثم إن هذا ليس معينا للستر فلو لبست المرأة سراويل أو خفا واسعا صلبا كالمعرق وتدلي فوقه الجلباب بحيث لا يظهر حجم القدم لكان محصلا للمقصود بخلاف الخف اللين الذي يبدي حجم القدم فإن هذا من لباس الرجال وكذلك المرأة لو لبست جبة وفروة لحاجتها إلى ذلك لدفع البرد لم تنه عن ذلك فلو قال قائل : لم يكن النساء يلبسن الفراء ؟ قلنا : فإن ذلك يتعلق بالحاجة فالبلاد الباردة تحتاج إلى غلظ الكسوة وكونها مدفئة وإن لم يحتج إلى ذلك في البلاد الحارة .
فالفارقة بين لباس الرجال والنساء يعود إلى ما يصلح للرجال وما يصلح للنساء وهو ما ناسب ما يؤمر به الرجال وما يؤمر به النساء فالنساء مأمورات بالاستتار والاحتجاب دون التبرج والظهور . ولهذا لم يشرع لها رفع الصوت في الأذان والتلبية ولا الصعود ( كذا ولعله : في الصعود ) إلى الصفا والمروة ولا التجرد في الإحرام كما يتجرد الرجل فإن الرجل مأمور أن يكشف رأسه وأن لا يلبس الثياب المعتادة وهي التي تصنع على قدر أعضائه فلا يلبس القميص ولا السراويل ولا البرنس ولا الخف لكن لما كان محتاجا إلى ما يستر العورة ويمشي فيه رخص له في آخر الأمر إذا لم يجد إزارا أن يلبس سراويل وإذا لم يجد نعلين أن يلبس خفين وجعل ذلك بدلا للحاجة العامة بخلاف ما يحتاج إليه حاجة خاصة لمرض أو برد
صفحة رقم -154-
فإن عليه الفدية إذا لبسه ولهذا طرد أبو حنيفة هذا القياس وخالفه الأكثرون للحديث الصحيح ولأجل الفرق بين هذا وهذا وأما المرأة فإنها لم تنه عن شيء من اللباس لأنها مأمورة بالاستتار والاحتجاب فلا يشرع لها ضد ذلك لكن منعت أن تنتقب وأن تلبس القفازين لأن ذلك لباس مصنوع على قدر العضو ولا حاجة بها إليه .
وقد تنازع الفقهاء هل وجهها كرأس الرجل أو كبدنه ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره فمن جعل وجهها كرأسه أمرها إذا سدلت الثوب من فوق رأسها أن تجافيه عن الوجه كما يجافي عن الرأس ما يظلل به ومن
صفحة رقم -155-
جعله كاليدين وهو الصحيح قال : لم تنه عن ستر الوجه وإنما نهيت عن الانتقاب كما نهيت عن القفازين وذلك كما نهي الرجل عن القميص والسراويل ونحو ذلك ففي معناه البرقع وما صنع لستر الوجه فأما تغطية الوجه بما يسدل من فوق الرأس فهو مثل تغطيته عند النوم بالملحفة ونحوها ومثل تغطية اليدين بالكمين وهي لم تنه عن ذلك .
فلو أراد الرجال أن ينتقبوا ويتبرقعوا ويدعوا النساء باديات الوجوه لمنعوا من ذلك وكذلك المرأة أمرت أن تجتمع في الصلاة ولا تجافي بين أعضائها وأمرت أن تغطي رأسها فلا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ولو كانت في جوف بيت لا يراها أحد من الأجانب فدل ذلك على أنها مأمورة من جهة الشرع بستر لا يؤمر به الرجل حقا لله عليها وإن لم يرها بشر وقد قال تعالى :
( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن ) . وقال صلى الله عليه وسلم :
( حسن ) ( صلاة إحداكن في مخدعها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في حجرتها أفضل من صلاتها في دارها وصلاتها في دارها أفضل من صلاتها في مسجد قومها وصلاتها في مسجد قومها أفضل من صلاتها معي ) . وهذا كله لما في ذلك من الاستتار والاحتجاب .
صفحة رقم -156-
ومعلوم أن المساكن من جنس الملابس كلاهما جعل في الأصل للوقاية ودفع الضرر كما جعل الأكل والشرب لجلب المنفعة فاللباس يتقي الإنسان به الحر والبرد ويتقي به سلاح العدو وكذلك المساكن يتقي بها الحر والبرد ويتقي بها العدو وقال تعالى : ( والله جعل لكم من بيوتكم سكنا ) وقال : ( والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ) فذكر في هذا الموضع ما يحتاجون إليه لدفع ما قد يؤذيهم وذكر في أول السورة ما يضطرون إليه لدفع ما يضرهم
صفحة رقم -157-
فقال تعالى : ( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ) فذكر ما يستدفئون به ويدفعون به البرد لأن البرد يهلكهم والحر يؤذيهم ولهذا قال بعض العرب : البرد بؤس والحر أذى ولهذا السبب لم يذكر في الآية الأخرى وقاية البرد فإن ذلك تقدم في أول السورة وهو في أثناء السورة ذكر ما أتم به النعمة وذكر في أول السورة أصول النعم ولهذا قال : ( كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ) .
والمقصود هنا أن مقصود الثياب يشبه مقصود المساكن والنساء مأمورات في هذا بما يسترهن ويحجبهن فإذا اختلف لباس الرجال والنساء مما كان أقرب إلى مقصود الاستتار والاحتجاب كان للنساء وكان ضده للرجال .
وأصل هذا أن تعلم أن الشارع له مقصودان : أحدهما : الفرق بين الرجال والنساء .
والثاني : احتجاب النساء فلو كان مقصوده مجرد الفرق لحصل ذلك بأي وجه حصل به الاختلاف وقد تقدم فساد ذلك بل أبلغ من ذلك أن المقصود بلباس أهل الذمة إظهار الفرق بين المسلم والذمي ليترتب على كل منهما من الأحكام الظاهرة ما يناسبه ومعلوم أن هذا يحصل بأي لباس اصطلحت الطائفتان على التمييز به ومع هذا فقد روعي في ذلك ما هو أخص من الفرق فإن لباس الأبيض لما كان أفضل من غيره كما قال صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بالبياض فليلبسه أحياؤكم وكفنوا فيه موتاكم ) لم يكن من السنة أن يجعل لباس أهل الذمة الأبيض ولباس أهل الإسلام المصبوغ
صفحة رقم -158-
كالعسلي والأدكن ونحو ذلك بل الأمر بالعكس وكذلك في الشعور وغيرها فكذلك الأمر في لباس الرجال والنساء ليس المقصود به مجرد الفرق بل لا بد من رعاية جانب الاحتجاب والاستتار .
وكذلك أيضا ليس المقصود مجرد حجب النساء وسترهن دون الفرق بينهن وبين الرجال بل الفرق أيضا مقصود حتى لو قدر أن الصنفين اشتركوا فيما يستر ويحجب بحيث يشتبه لباس الصنفين لنهوا عن ذلك والله تعالى قد بين هذا المقصود أيضا بقوله تعالى : ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) فجعل كونهن يعرفن باللباس الفارق أمرا مقصودا ولهذا جاءت صيغة النهي بلفظ التشبه بقوله صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء ) فعلق الحكم باسم التشبه وبكون كل صنف يتصف بصفة الآخر .
وقد بسطنا هذه القاعدة في ( اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ) وبينا أن المشابهة في الأمور الظاهرة تورث تناسبا وتشابها في الأخلاق والأعمال ولهذا نهينا عن مشابهة الكفار ومشابهة الأعاجم ومشابهة الأعراب ونهي كل من الرجال والنساء عن مشابهة الصنف الآخر .
والرجل المتشبه بالنساء يكتسب من أخلاقهن بحسب تشبهه حتى يفضي به الأمر إلى التخنث المحض والتمكين من نفسه كأنه امرأة ولما كان الغناء مقدمة ذلك وكان من عمل النساء كانوا يسمون الرجال المغنين
ساقط من الاصل صفحة 159. 160.
صفحة رقم -161-
( مخانيث ) .
والمرأة المتشبهة بالرجال تكتسب من أخلاقهم حتى يصير فيها من التبرج والبروز ومشابهة الرجال ما قد يفضي ببعضهن إلى أن تظهر بدنها كما يظهره الرجل وتطلب أن تعلو على الرجال كما يعلو الرجال على النساء وتفعل من الأفعال ما ينافي الحياء والخفر المشروع للنساء وهذا القدر قد يحصل بمجرد المشابهة .
وإذا تبين أنه لابد من أن يكون بين لباس الرجال والنساء فرق يميز بين الرجال النساء وأن يكون لباس النساء فيه من الاستتار والاحتجاب ما يحصل مقصود ذلك ظهر أصل هذا الباب وتبين أن اللباس إذا كان غالبه لبس الرجال نهيت عنه المرأة وإن كان ساترا كالفراجي التي جرت عادة بعض البلاد أن يلبسها الرجال دون النساء والنهي عن مثل هذا يتغير [ بتغير ] العادات وأما ما كان الفرق عائدا إلى نفس الستر فهذا يؤمر فيه النساء بما كان أستر . . . ولو قدر أن الفرق يحصل بدون ذلك فإذا اجتمع في اللباس قلة الستر والمشابهة نهي 977 عنه من الوجهين . والله أعلم ) .
الشرط السابع
( أن لا يشبه لباس الكافرات )
لما تقرر في الشرع أنه لا يجوز للمسلمين - رجالا ونساء - التشبه بالكفار سواء في عباداتهم أو أعيادهم أو أزيائهم الخاصة بهم . وهذه قاعدة عظيمة في الشريعة الإسلامية خرج عنها اليوم مع الأسف كثير من المسلمين حتى الذين يعنون منهم بأمور الدين والدعوة إليه جهلا بدينهم أو تبعا لأهوائهم أو انجرافا مع عادات العصر الحاضر وتقاليد أوروبا الكافرة حتى كان ذلك من أسباب ذل المسلمين وضعفهم وسيطرة الأجانب عليهم واستعمارهم ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) [ الرعد : 11 ] لو كانوا يعلمون .
وينبغي أن يعلم أن الأدلة على صحة هذه القاعدة المهمة كثيرة في الكتاب والسنة وإن كانت أدلة الكتاب مجملة فالسنة تفسرها وتبينها كما هو شأنها دائما .
فمن الآيات قوله تعالى في [ الجاثية : 16 - 18 ] :
( ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من
صفحة رقم -162-
الطيبات وفضلناهم على العالمين . وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون . ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ( الاقتضاء ) ( ص 8 ) :
( أخبر سبحانه وتعالى أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغيا من بعضهم على بعض ثم جعل محمدا صلى الله عليه وسلم على شريعة من الأمر شرعها له وأمره باتباعها ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون وقد دخل في ( الذين لا يعلمون ) كل من خالف شريعته . و( أهواؤهم ) : هو ما يهوونه وما عليه المشركون من هديهم الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل وتوابع ذلك فهم يهوونه . وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه . ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم ويسرون به ويودون أن لو بذلوا مالا عظيما ليحصل ذلك . ولو فرض أن ليس الفعل من اتباع أهوائهم فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك أحسم لمادة متابعتهم في أهوائهم وأعون على حصول مرضاة الله في تركها وأن موافقتهم في ذلك قد تكون ذريعة إلى موافقتهم في غيره . فإن ( من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه ) وأي الأمرين كان حصل المقصود في الجملة وإن كان الأول أظهر .
ومن هذا الباب قوله تعالى في [ الرعد : 36 - 37 ] :
2 ( والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب
صفحة رقم -163-
من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب . وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق ) .
والضمير في ( أهواءهم ) يعود والله أعلم إلى ما تقدم ذكره وهم الأحزاب الذين ينكرون بعضه فدخل في ذلك كل من أنكر شيئا من القرآن من يهودي أو نصراني أو غيرهما وقد قال تعالى : ( ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ) [ الرعد : 37 ] ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم وتوابع دينهم اتباع لأهوائهم بل يحصل اتباع أهوائهم بما هو دون ذلك ) .
وقال تعالى في [ الحديد : 16 ] :
3 ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون )
قال شيخ الإسلام ( ص 43 ) :
( فقوله : ( ولا يكونوا ) نهي مطلق عن مشابهتهم وهو خاص أيضا في النهي عن مشابهتهم في قسوة قلوبهم وقسوة القلوب من ثمرات المعاصي ) .
وقال ابن كثير عند تفسير هذه الآية ( 4 / 310 ) :
( ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية ) .
صفحة رقم -164-
ومن ذلك قوله تعالى في [ البقرة : 104 ] :
( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ) . قال الحافظ ابن كثير ( 1 / 148 ) :
( نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص عليهم لعائن الله فإذا أرادوا أن يقولوا : اسمع لنا قالوا : راعنا ويورون بالرعونة كما قال تعالى : ( من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ) [ النساء : 46 ] .
وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون : ( السام عليكم ) والسام هو الموت ولهذا أمرنا أن نرد عليهم ب ( وعليكم ) وإنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم علينا والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا ) .
وقال شيخ الإسلام عند هذه الآية ما مختصره ( ص 22 ) :
( قال قتادة وغيره : كانت اليهود تقوله استهزاء فكره الله للمؤمنين أن يقولوا مثل قولهم وقال أيضا : كانت اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم : راعنا سمعك يستهزئون بذلك وكانت في اليهود قبيحة . فهذا يبين أن هذه الكلمة نهي المسلمون عن قولها لأن اليهود كانوا يقولونها وإن كانت من اليهود قبيحة
صفحة رقم -165-
ومن المسلمين لم تكن قبيحة لما كان في مشابهتهم فيها من مشابهة الكفار وتطريقهم إلى بلوغ غرضهم ) .
وفي الباب آيات أخرى وفيما ذكرنا كفاية فمن شاء الوقوف عليها فلينظرها في ( الاقتضاء ) ( ص : 8 - 14 و22 و42 ) .
فتبين من الآيات المتقدمة أن ترك هدي الكفار والتشبه بهم في أعمالهم وأقوالهم وأهوائهم من المقاصد والغايات التي أسسها وجاء بها القرآن الكريم وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم ببيان ذلك وتفصيله للأمة وحققه في أمور كثيرة من فروع الشريعة حتى عرف ذلك اليهود الذين كانوا في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وشعروا أنه عليه السلام يريد أن يخالفهم في كل شؤونهم الخاصة بهم كما روى أنس بن مالك رضي الله عنه :
( صحيح ) ( إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ) إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح ) فبلغ ذلك اليهود فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا : يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا نجامعهن ؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أن لم يجد عليهما ) .
صفحة رقم -166-
وأما السنة فالنصوص فيها كثيرة طيبة في تأييد القاعدة المتقدمة وهي لا تنحصر في باب واحد من أبواب الشريعة المطهرة كالصلاة مثلا بل قد تعدتها إلى غيرها من العبادات والآداب والاجتماعيات والعادات وهي بيان وتفصيل لما أجمل في الآيات السابقة ونحوها كما قدمت الإشارة إليه .
وها نحن أولاء نسوقها بين يديك لتكون على بصيرة فيما ذهبنا إليه :
صفحة رقم -167-
من ( الصلاة ) :
1 ( صحيح ) عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قال :
( اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها فقيل له : انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها آذن بعضهم بعضا فلم يعجبه ذلك قال : فذكر له القنع يعني الشبور ( وفي رواية : شبور اليهود ) فلم يعجبه ذلك وقال : هو من أمر اليهود قال : فذكر له الناقوس فقال : هو من أمر النصارى فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأري الأذان في منامه ) . الحديث .
من 168 و169.ليس موجودا بالاصل
صفحة رقم -170-
2 ( صحيح ) عن عمرو بن عبسة قال :
صفحة رقم -171-
( قلت : يا نبي الله أخبرني عما علمك الله وأجهله أخبرني عن الصلاة . قال : صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حين تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح ثم أقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حين تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ) .
3 ( صحيح ) عن جندب - وهو ابن عبد الله البجلي - قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول :
صفحة رقم -172-
( . . . ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك ) .
4 ( صحيح ) عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا في خفافهم ) .
5 ( صحيح ) عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
صفحة رقم -173-
( إذا صلى أحدكم في ثوب فليشده على حقوه ولا تشتملوا كاشتمال اليهود ) .
6 ( صحيح ) عن جابر بن عبد الله قال :
صفحة رقم -174-
( اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودا فلما سلم قال : إن كدتم لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا ائتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا ) .
زاد في رواية :
( ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها ) .
صفحة رقم -175-
7 ( صحيح ) عن ابن عمر رضي الله عنه :
( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى رجلا وهو جالس معتمد على يده اليسرى في الصلاة فقال : ( إنها صلاة اليهود ) وفي رواية : لا تجلس هكذا إنما هذه جلسة الذين يعذبون ) .
ومن ( الجنائز ) :
1 - عن جرير بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
صفحة رقم -176-
( اللحد لنا والشق لأهل الكتاب ) .
ومن ( الصوم ) :
1 ( صحيح ) عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر ) .
2 ( حسن ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون ) .
3 ( صحيح ) عن ليلى امرأة بشير بن الخصاصية رضي الله عنه وعنها قالت :
صفحة رقم -177-
أردت أن أصوم يومين مواصلة فنهاني عنه بشير وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاني عن ذلك وقال :
( إنما يفعل ذلك النصارى صوموا كما أمركم الله وأتموا الصوم كما أمركم الله و( أتموا الصيام إلى الليل ) فإذا كان الليل فأفطروا ) .
4 ( صحيح ) عن ابن عباس قال :
( حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا : يا رسول
صفحة رقم -178-
الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع قال : فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .
5 ( ضعيف ) عن أم سلمة رضي الله عنها قالت :
صفحة رقم -179-
( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر مما يصوم من الأيام ويقول : إنهما يوما عيد المشركين فأنا أحب أن أخالفهم ) .
ومن ( الحج ) :
1 ( صحيح ) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :
صفحة رقم -180-
( إن المشركين كانوا لا يفيضون من ( جمع ) حتى تشرق الشمس على ( ثبير ) وكانوا يقولون : أشرق ثبير كيما نغير فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فدفع قبل أن تطلع الشمس ) .
ومن ( الذبائح ) :
1 ( صحيح ) عن رافع بن خديج قال :
صفحة رقم -181-
( قلت : يا رسول الله إنا ملاقو العدو غدا وليست معنا مدى ؟ قال صلى الله عليه وسلم : ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل ليس السن والظفر وسأحدثك : أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة ) .
صفحة رقم -182-
ومن ( الأطعمة ) :
1 - عن عدي بن حاتم قال :
( قلت : يا رسول الله إني أسألك عن طعام لا أدعه إلا تحرجا قال : لا تدع شيئا ضارعت فيه نصرانية ) .
صفحة رقم -183-
ومن ( اللباس والزينة ) :
1 ( صحيح ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال :
صفحة رقم -184-
( رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال : إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها ) .
2 ( ضعيف ) عن علي رضي الله عنه رفعه :
( إياكم ولبوس الرهبان فإنه من تزيا بهم أو تشبه فليس مني ) .
3 ( حسن ) عن أبي أمامة قال :
صفحة رقم -185-
( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال : يا معشر الأنصار حمروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب قال : فقلنا : يا رسول الله إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تسرولوا وائتزروا وخالفوا أهل الكتاب قال : فقلنا : يا رسول الله إن أهل الكتاب يتخففون ولا ينتعلون قال : فتخففوا وانتعلوا وخالفوا أهل الكتاب . قال : فقلنا : يا رسول الله إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم ويوفرون سبالهم قال صلى الله عليه وسلم : قصوا سبالكم ووفروا عثانينكم وخالفوا أهل الكتاب ) .
4 ( صحيح ) عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
صفحة رقم -186-
( خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأفوا اللحى ) .
5 ( صحيح ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
صفحة رقم -187-
( جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس ) .
6 ( صحيح ) وعنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :
صفحة رقم -188-
( إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم ) .
صفحة رقم -189-
7 ( حسن ) وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى ) .
ساقط من الاصل {صفحات 190 و191}
صفحة رقم -192-
8 ( صحيح ) عن ابن عباس قال :
صفحة رقم -193-
( كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم وكان المشركون يفرقون رؤوسهم فسدل النبي صلى الله عليه وسلم ناصيته ثم فرق بعد ) .
ومن ( الآداب والعادات ) :
1 - عن جابر بن عبد الله مرفوعا :
( لا تسلموا تسليم اليهود فإن تسليمهم بالرؤوس والأكف والإشارة ) .
ساقط من الاصل/ 194 و195 .
صفحة رقم -196-
2 ( صحيح ) عن الشريد بن سويد قال :
صفحة رقم -197-
( مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس هكذا وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت على ألية يدي فقال : أتقعد قعدة المغضوب عليهم ؟ ) .
3 ( حسن ) عن سعد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
صفحة رقم -198-
( نظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود تجمع الأكباء في دورها ) .
4 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ساقط من الاصل صفحة 199.
صفحة رقم -200-
( إياكم وهاتان الكعبتان الموسومتان اللتان تزجران زجرا فإنها ميسر العجم ) .
( متنوعات ) :
1 ( صحيح ) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبد الله
صفحة رقم -201-
فقولوا : عبد الله ورسوله )
صفحة رقم -202-
2 ( صحيح ) عن أبي واقد الليثي :
صفحة رقم -203-
( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى حنين مر بشجرة للمشركين يقال لها : ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم [ ويعكفون حولها ] قالوا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
( سبحان الله ( وفي رواية : الله أكبر ) هذا كما قال قوم موسى : ( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم [ سنة سنة ] ) .
3 - عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
صفحة رقم -204-
( بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم ) .
ساقط من الاصل صفحة 205.
صفحة رقم -206-
فثبت مما تقدم أن مخالفة الكفار وترك التشبه بهم من مقاصد الشريعة الإسلامية العليا فالواجب على كل مسلم رجالا ونساء أن يراعوا ذلك في شؤونهم كلها وبصورة خاصة في أزيائهم وألبستهم لما علمت من النصوص الخاصة فيها وبذلك يتحقق صحة الشرط السابع في زي المرأة .
هذا وقد يظن بعض الناس أن هذه المخالفة إنما هي أمر تعبدي محض وليس كذلك بل هو معقول المعنى واضح الحكمة فقد تقرر عند العلماء المحققين أن هناك ارتباطا وثيقا بين الظاهر والباطن وأن للأول تأثيرا في الآخر إن خيرا فخير وإن شرا فشر وإن كان ذلك مما قد لا يشعر به الإنسان في نفسه ولكن قد يراه في غيره .
قال شيخ الإسلام رحمه الله ( ص 105 - 106 ) :
( وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة حتى إن الرجلين إذا كانا من بلد واحد ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والائتلاف أمر عظيم وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين أو كانا متهاجرين وذلك لأن
صفحة رقم -207-
الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة .
بل لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب ونحو ذلك لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما .
وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضا مالا يألفون غيرهم حتى إن ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة إما على الملك وإما على الدين وتجد الملوك ونحوهم من الرؤساء وإن تباعدت ديارهم وممالكهم بينهم مناسبة تورث مشابهة ورعاية من بعضهم لبعض وهذا كله موجب الطباع ومقتضاه إلا أن يمنع من ذلك دين أو غرض خاص .
فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة فكيف بالمشابهة في أمور دينية ؟ فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان . . . وقال سبحانه : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ) [ المجادلة : 22 ] فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يوجد مؤمن يواد كافرا فمن واد الكفار فليس بمؤمن والمشابهة الظاهرة مظنة الموادة فتكون محرمة ) . وقال في مكان آخر ( ص 6 - 7 ) :
( وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ارتباط ومناسبة فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورا ظاهرة وما يقوم بالظاهر من سائر
صفحة رقم -208-
الأعمال يوجب للقلب شعورا وأحوالا وقد بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحكمة التي هي سنته وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين فأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة لأمور :
منها : أن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبا وتشاكلا بين المتشابهين يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال وهذا أمر محسوس فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم واللابس ثياب الجند المقاتلة مثلا يجد من نفسه نوع تخلق بأخلاقهم ويصير طبعه متقاضيا لذلك إلا أن يمنعه مانع .
ومنها أن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال والانعطاف على أهل الهدى والرضوان وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين وكلما كان القلب أتم حياة وأعرف بالإسلام الذي هو الإسلام لست أعني مجرد التوسم به ظاهرا أو باطنا بمجرد الاعتقادات من حيث الجملة كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطنا وظاهرا أتم وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد .
ومنها أن مشاركتهم في الهدي الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التمييز ظاهرا بين المهديين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالين . . . إلى غير ذلك من الأسباب الحكيمة .
صفحة رقم -209-
هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحا محضا لو تجرد عن مشابهتهم فأما إن كان من موجبات كفرهم كان شعبة من شعب الكفر فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع معاصيهم فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له ) .
وكان قد قال في أول الكتاب ( ص 7 - 8 ) :
( وهنا نكتة . . . وهي أن الأمر بموافقة قوم أو بمخالفتهم قد يكون لأن نفس قصد موافقتهم أو نفس موافقتهم مصلحة وكذلك نفس قصد مخالفتهم أو نفس مخالفتهم مصلحة بمعنى أن ذلك الفعل يتضمن مصلحة للعبد أو مفسدة وإن كان ذلك الفعل الذي حصلت به الموافقة أو المخالفة لو تجرد عن الموافقة والمخالفة لم يكن فيه تلك المصلحة أو المفسدة ولهذا نحن ننتفع بنفس متابعتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقين في أعمال لولا أنهم فعلوها لربما قد كان لا يكون لنا مصلحة لما يورث ذلك من محبتهم وائتلاف قلوبنا بقلوبهم وأن ذلك يدعونا إلى موافقتهم في أمور أخرى إلى غير ذلك من الفوائد كذلك قد نتضرر بموافقتنا الكافرين في أعمال لولا أنهم يفعلونها لم نتضرر بفعلها وقد يكون الأمر بالموافقة والمخالفة لأن ذلك الفعل الذي يوافق فيه أو يخالف متضمن للمصلحة أو المفسدة ولو لم يفعلوه لكن عبر عنه بالموافقة والمخالفة على سبيل الدلالة والتعريف فتكون موافقتهم دليلا على المفسدة ومخالفتهم دليلا على المصلحة واعتبار الموافقة والمخالفة على هذا التقدير من باب قياس الدلالة وعلى الأول من باب قياس العلة وقد يجتمع الأمران أعني
صفحة رقم -210-
الحكمة الناشئة من نفس الفعل الذي وافقناهم أو خالفناهم فيه ومن نفس مشاركتهم فيه وهذا هو الغالب على الموافقة والمخالفة المأمور بهما والمنهي عنهما فلا بد من التفطن لهذا المعنى فإنه به يعرف معنى نهي الله لنا عن اتباعهم وموافقتهم مطلقا ومقيدا ) .
قلت : وهذا الارتباط بين الظاهر والباطن مما قرره صلى الله عليه وسلم في قوله الذي رواه النعمان بن بشير قال :
( صحيح ) ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح حتى رأى أنا قد عقلنا عنه ثم خرج يوما فقال :
( عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم وفي رواية : قلوبكم ) .
فأشار إلى أن الاختلاف في الظاهر - ولو في تسوية الصف - مما يوصل إلى اختلاف القلوب فدل على أن الظاهر له تأثير في الباطن ولذلك رأيناه صلى الله عليه وسلم ينهى عن التفرق حتى في جلوس الجماعة ويحضرني الآن في ذلك حديثان :
1 ( صحيح ) عن جابر بن سمرة قال :
صفحة رقم -211-
( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآنا حلقا فقال :
مالي أراكم عزين ؟ ) .
2 ( صحيح ) عن أبي ثعلبة الخشني قال :
( كان الناس إذا نزلوا منزلا تفرقوا في الشعاب والأودية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
صفحة رقم -212-
( إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان ) .
فلم ينزل بعد ذلك منزلا إلا انضم بعضهم إلى بعض حتى يقال : لو بسط عليهم ثوب لعمهم ) .
صفحة رقم -213-
الشرط الثامن
( أن لا يكون لباس شهرة )
لحديث ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة ثم ألهب فيه نارا ) .
صفحة رقم 214.ليس موجودة بالاصل
صفحة رقم -215-
وإلى هنا ينتهي بنا الكلام على الشروط الواجب تحققها في ثوب المرأة وملاءتها وخلاصة ذلك :
أن يكون ساترا لجميع بدنها إلا وجهها وكفيها على التفصيل السابق وأن لا يكون زينة في نفسه ولا شفافا ولا ضيقا يصف بدنها ولا مطيبا ولا مشابها للباس الرجال ولباس الكفار ولا ثوب شهرة .
فالواجب على كل مسلم أن يحقق كل هذه الشروط في ملاءة زوجته وكل من كانت تحت ولايته لقوله صلى الله عليه وسلم :
( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) .
والله عز وجل يقول :
( ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة
صفحة رقم - 216 .
عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) [ التحريم : 6 ] .
أسأل الله تعالى أن يوفقنا لاتباع أوامره واجتناب نواهيه .
قلت المدون اللهم آمين وأن يرضي عنا وذرياتنا من الابناء الي الاحفاد ليوم الدين-- في الدارين آمين
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
دمشق 9 / 5 / 1371 هــ
وكتب محمد ناصر الدين الألباني{أبو عبد الرحمن} ***