Translate

Translate ترجم الصفحة لاي لغة تريد

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 18 فبراير 2024

المدينة المسحورة (1946){عمل أدبي}



عودة شهرزاد

... فلما كانت الليلة المائة بعد الألف أرق الملك شهريار أرقاً طويلاً تجاوز بـه منتصف الليل، وأوفى به على الهزيع الأخير. وضاق صدره بهذا الأرق الذي لايجد منه مهرباً، ولا يعرف له نهاية.

ولم تكن هذه هي الليلة الأولى التي يأرق فيها الملك، ويـضيق صـدره بالليـل والأرق فمنذ ثلاث ليال لم يذق النعاس إلا غراراً، ولم يزره النوم إلا في مطلع الفجر، بعد ينهكه السهر، فيمهد ويسترخي وينام.

لقد مرت تسع وتسعون ليلة منذ أن سمع من شهر زاد آخر أقاصيصها، ومنذ أن أحس أنه قد مل هذه الأقاصيص التي عاش فيها ألف ليلة وليلة في جو مسحور، يهيم فيها خياله مع المردة والشياطين، وتسبح فيها نفسه مع السواحر والجنّان، وتتعلق فيها أنفاسه بمصائر العشاق والعاشقات، ولا يكاد يهبط إلى الأرض حتى يحلق في السماء، ولا يكاد حسه يستقر حتى يضطرب من جديد ! لقد أحس أن شهرزاد قد تجاوزت به المدى في هذه الحياة الخيالية، وبعدت به طويلا عن الحياة الحقيقية، وأحس بشوق إلى الحياة في الأرض، والعودة إلى الواقع. كان قد عاش طويلا في الأحلام مغمض العينين، يسبح مع شهرزاد الساحرة في عالم الأوهام، فأراد أن يفتح عينيه، ويرى الأشياء كما تبدو للأيقاظ في وضح النهار.

وما كادت شهرزاد تختم قصتها الأخيرة في الليلة الواحدة بعد الألف حتى شعرت أن الملك قد سئم، وأنه لن يستمع إليها من جديد، فإ تنتظر حتى يشير عليها بالصمت، أو يهرب من جناح القصر الذي فيه يجتمعان. فقالت في نهاية القصة الأخيرة : « والآن يا مولاي أحسبني في حال من استئذان الملك في أن أعفيه ولو لبضع ليال من هذه الأحاديث الطوال، وأن أنصرف بعض الشيء إلى أطفالنا الثلاثة، فأنظر في الإشراف على نشأتهم لينشأوا لائقين بوالدهم العظيم. فأنا يا مولاي لا أستطيع أن أعتمد إلى ما شاء الله على إشراف المربيات ورجال الحاشية، مهما بلغن ومهما بلغوا من الإخلاص ومن الخبرة بشئون التربية والتقويم، فإن إشراف الأم لا يعدله إشراف، و إدراك الأم لحاجات طفلها وضروراته قائم على حاسة خفية في نفسها لا تتوافر لأي إنسان، وإن الطفل ليجد عندها بحسه الفطري ما لا يجد عند سواها كائنا من كان... فإذا أذن الملك فسأكون منذ الليلة القادمة في جناحي الخاص. »

وما كان الملك في حاجة إلى كل هذا البيان، ولكنه ارتاح إليه ارتياحا شديدا. فلقد كان في حيرة : كيف يستطيع أن يشير على شهرزاد بالصوت منذ الليلة القادمة، وكيف يشير عليها أن تجنح إلى جناحها الخاص منذ الغد، بعد ما استمع إليها ألف ليلة وليلة في شغف وإقبال في أول الأمر، وفي تراخ يتزايد في أخريات الليالي!

لقد كان يعز عليه أن يجرح كبرياءها، وأن يجابهها بالملل والنهور بعد ما استلن أحاديثها ثلاثة أعوام، وخرج بهذه الأحاديث من حال إلى حال، واستحال من سقاك متعطش للدماء إلى إنسان وديع هادئ الطباع. ولم يكن الذنب ذنب شهر زاد في ملله الأحاديث، فهي لم تقصر في انتقائها وتصفيتها، ولكنه ذنب النفس الإنسانية التي تسأم تشابه الأحوال.

كان الملك يدير مثل هذه الأحاديث في نفسه حينها أدركت

شهرزاد بغريزتها الفطنة أن الانسحاب هو أنسب التصرفات. فلما سمع الملاك استئذانها أحس في نفسه بارتياح لذيذ، وتوارى الملل الذي كان يستشعره، وكبرت في نفسه شهر زاد من جديد.. . ولكنه أذن لها فيا تريد، لأنه لن يصير بعد اليوم على هذه الأحاديث. فلما كانت الليلة التالية وجد نفسه وحيدا في جناحه الخاص فأحس بارتياح شديد لهذه الوحدة المحبوبة.

ومرت الأيام ...

***

ولكنه منذ ثلاث ليال عاوده الأرق، فما ينام إلا في مطلع الفجر بعد التعب والهمود. أما في هذه الليلة الأخيرة، فقد أوشك الصبح، والأرق يلاحقه كالمطارد اللئيم. إن صدره ضيق ضيق، و إنه ليحس هذا الضيق يستحيل شيئاً مادياً محسوساً، يقبض عنقه ويزم صدره فيكتم أنفاسه، ويحس له بثقل شديد.

ماذا ؟

لقد عاش في الأرض تسعاً وتسعين ليلة. عاش في الواقع المحسوس الذي كان قد شاقه فتشهاه. عاش في العالم المنظور بحواسه وذهنه بعيداً عن العالم المسحور الذي خلقته شهر زاد.

ولكنه يدرك الآن : كم يفقد الإنسان حينها يفقد الأحلام !

إن هذا العالم ضيق ضيق، تافه تانه، صغير صغير. إن ماتبلغه الحواس لهو أمد قصير ، وإن ما يبلغه الوعى لهو أفق قريب. و إن الخيال والأحلام ليبلغان بهذا المخلوق الإنساني المحدود أبعد الآماد وأوسع الحدود.

ألا ما أشقى الإنسان الذي لا يملك من هذا العالم إلا ما تبصره عيناه !

لقد جالت هذه الخواطر في نفس الملك منذ ليال ، فأحس عندها بالشوق إلى شهر زاد ، وبالحنين إلى أحاديثها الحلوة الشهية التي كانت تطير به من عالم إلى عالم ، وتتجاوز به الحدود والقيود ، وتطلقه من جميع الحواجز ، وتمزج له الواقع بالخيال ، وتجمع بين الأرض والسماء ، والبر والبحر ، والأطباق والأجواء ، والإنس والجن ، والأموات والأحياء.

أحس بهذا كله منذ ليال، وأحس باللهفة إلى لقاء شهر زاد وراودته نفسه أن يتسلل إلى جناحها الخاص في غفلة من الرقباء والحراس، ولكن كبرياءه صدته ليلة بعد ليلة أن يذهب إلى شهر زاد ! أما في هذه الليلة الأخيرة ، فقد أضجره الأرق و برح به الضيق ، وأجد له الشوق إلى شهر زاد منطقاً جديداً :

فيم الكبرياء ؟ وماذا يجرحها ! إنه لم يصرح لشهر زاد بملله وسآمته ، وهي التي استأذنته في أن تعتزل جناحه فأذن ؟ وإنه ليكون تلطفا منه أن يذهب إلى جناحها الخاص !

ولكن أليست هي التي اعتزلتني ، وانصرفت عن تحديثي ، فكيف أبدأ أنا الآن بالعودة إلى ما كان ؟

بلى ! هي التي اعتزلتك . ولكن ألم تكن أنت راغباً في هذه العزلة ؟ ألم تكن شبعت من هذه الأحاديث ؟ ألم تكن في حيرة من أمرك كيف تصدها عنها وتنأى بها عنك ؟

وفيما هو يجادل نفسه وتجادله ، كان قد تجاوز جناحه الملكي في الطريق إلى جناح الملكة . وتنبه الحارس الخاص فأدى التحية ، فأشار إليه الملك بالصمت ، ومضى إلى جناح الملكة الخاص ولما كان على باب المخدع أدركته حيرة مفاجئة : ماذا يقول الآن لشهر زاد ؟ ما حجته في هذه الزيارة الغريبة في مطلع الفجر بعد تسع وتسعين ليلة ؟

وكاد يهم بالرجوع ، ولم يدر أنه لفرط حيرته قد رفع صوته قليلا وهو يحاور نفسه وتحاوره ، حتى أحست به شهر زاد . لقد يتمتم ، ورأته يتأخر و يتقدم . فأدركت بغريزتها اليقظة حقيقة موقفه ، وخافت أن يفلت منها الزمام ، فنهضت جالسة في السرير ، ورفعت مفتاح النور ، فتلألأ القنديل ، وقالت تتصنع الدهشة : – من ؟ مولای !

وعندئذ لم يجد يدًّا من الإقدام ، فأجاب في اضطراب بخفيه :

أي نعم ! معذرة في اقلاقك يا شهر زاد !

قالت : – بل الشكر للملك . لقد جاء في اللحظة المناسبة . لقد كنت أحلم حلماً مخيفاً، وكأنما أحسست يا مولاي بما أنا فيه من الضيق ، فحضرت اللحظة للإنقاذ .

وافتر ثغرها عن ابتسامة مشرقة . فوجد شهريار الطريق أمامه مفتوحا ، وقد أوجدت له المنفذ المناسب شهر زاد !

قال : لقد شعرت بانقباض شديد ، وخالجني إحساس غامض بأن أحضر إلى مخدعك في هذه اللحظة بالذات !

انتفضت شهر زاد من الفراش ، وهي تتثنى فيبدو قوامها الفاتن، وتلقي برأسها إلى الوراء لترد شعرها الجميل، ومدت يدها إلى الملك مصافحة، وقادته إلى مقعد مريح، وجلست بجواره، ويده بين يديها في دلال.

وأنس شهريار لاستقبالها الفاتن، وأحس أن ما يزعمه من الكبرياء الجريحة وهم سخيف. فها هو ذا بين يدي شهر زاده الساحرة، وقلبها من قلبه قريب؛ فليدع هذه الحواجز الوهمية بينه وبينها، فليس بين الرجل والمرأة – حين يخلون – ذلك الحجاز المتوهم من الكبرياء أو غير الكبرياء!

قالت شهر زاد – تستدرجه للحديث:

كأني بك مؤرق يا مولاي؟

قال – وقد عاودته الكبرياء:

كلا ! وماذا يدعوك إلى هذا الظن الآن؟

قالت متلطفة:

أرى علائمه على وجهك يا شهريار. فماذا هناك؟ إنني إمرأتك، فما يدعوك إلى الكتمان؟

قال الملك – وقد أسره تلطفها الودود:

الحق أنني مؤرق منذ ثلاث ليال. وسكت؛ فنظرت إليه شهر زاد مستزيدة، وقالت لتفتح له الحديث:

ولماذا لم تستدعني إليك منذ الليلة الأولى، لنقاوم معاً هذا الوافد الثقيل؟

قال:

لقد أشفقت عليك أن أؤرقك معي وأنت منصرفة على رعاية أطفالنا الصغار!

قالت شهر زاد:

أطفالنا؟ إنما أطفالنا ونحن جميعاً بك أيها الملك... فماذا هناك؟

تنهد شهريار كأنما يزيح عن صدره ثقلا وقال:

أرأيت يا شهر زاد إلى أحاديثك الجميلة ألف ليلة وليلة! أين تراها الآن؟ لقد كانت تنقلنا على جناح الخيال إلى عوالم وآباد لا مثيل لها فيما نحسه أو نراه. إن العالم المحسوس عالم ضيق يا شهر زاد. بل عالم جاف مشوه قبيح. إن الحياة بلا خيال نوع من التحجر، والعيش بلا أحلام حيوانية بليدة... أو لا زالت تملكين يا شهر زاد أن تردينا إلى العوالم المسحورة، وإلى الأكوان الحالمة، وإلى الآفاق الوضيئة، التي عشنا فيها ثلاثة أعوام؟

قالت شهر زاد في تخابث ودلال:

أخشى أن يكون هذا الحديث تلطفاً من الملك مع مولاته شهر زاد، أراد أن يشعرها به أنه لم يأذن لها في الاعتزال عن ملل!

قال شهريار في حماسة:

كلا كلا يا شهر زاد. أؤكد لك أنها رغبة حقيقية. لقد ضقت بهذا العالم المحسوس. لقد شعرت بالغربة فيه بعد أن فارقته ألف ليلة وليلة، ونسيت ضيقه وتحجره؛ حتى إذا عدت إليه ألفيته كما تركته قبل أحاديثك الجميلة. إنه مزعج. إنه رديء. إنه نوع من الموت في أثناء الحياة!

قالت شهر زاد: وقد اطمأنت إلى مكانها، وانتقمت لكبريائها: – الحق – أيها الملك – لقد كنت أقدر ذلك كله. كنت أعلم من اعتاد الحياة في جو الأحلام الوضيئة والخيال الطليق والعوالم الفسيحة، عزيز أن يقص أجنحته، ويقبع في هذا العالم الضيق الذي يدعونه عالم الحقيقة والواقع. والحقيقة والواقع مظلومات يا مولاي. فالحقيقة الكبرى لن تحدها نظرة جيل، والواقع الأصيل لن يحصره إدراك فرد ... إن الحقيقة أعلى بكثير وأكبر بكثير من كل ما يتصوره فرد أو جيل؛ وإن الواقع لأعمق بكثير مما تحده الأبصار والحواس؛ وإن ما يسميه أبناء الفناء بالواقع والحقيقة إن هو إلا طرف صغير ضئيل من الواقع ومن الحقيقة؛ وإنهم لن يستطيعوا إدراك ما هو أكثر وأكبر ما داموا يثقون في حواسهم هذه الثقة العجيبة، وينخدعون بأذهانهم هذا الانخداع المريب؛ وإنهم لن يصلوا إلى شيء إلا بالوجدان والخيال والأحلام. هذه هي الأشعة السحرية التي تكشف الآباد والآفاق؛ وتنير للإنسانية فترى على ضوئها ما لا تدركه عقولها، وما لا تبلغه خطواتها، ولكنها تتزود منه باللمحة والنظرة؛ وتهدف في شوقها إليه نحو الحقيقة والخلود.

... كان الملك يسمع هذه التسجيلات من شهر زاد، وهو مأخوذ مشدوه، كأنما يستمع إلى هاتف من الغيب وراء الأستار.

فلما سكتت تنبه كما يتنبه الحالم وقال:

—– والآن يا شهر زاد، هيا بنا إلى عالم الحقيقة الكبرى. عالم الأحلام والخيال!

قالت شهر زاد: لقد ادخرت يا مولاي لهذه الليلة أجمل قصصي وأروعها؛ فلقد كنت واثقة، كما قلت، من عودة الليالي، ووصل ما انقطع بعد أمد قصير أو طويل. ولكن انظر (وكشفت بيدها الستار عن النافذة فبدت تباشير الصباح): "لقد أدرك شهر زاد الصباح" فأتم الملك بأسماء: "فسكت عن الكلام المباح"!

قالت:

إن الصباح يبدد الأحلام، وإن الضجة تفزع الأطياف، وإن موعدنا لهو الليل الهادئ ، حيث يضرب الظلام على العين والنظر فتتفتح البصيرة ، ويسبح الخيال ، وحيث تتوارى الضجة وتخفت الحركة ، فتدب الأطيف وتسري الأحلام.

قال شهر يار:

إنك لماكرة وإنك لسحارة. وإنك لفاتنة بهذا وذاك! والآن فإلى اللقاء، حينما يضفي، وتسرح الأحلام.

قال شهر زاد: إلى اللقاء....

==================

المدينة المسحورة

فلما كانت الليلة الواحدة بعد المائة قالت شهر زاد:

بلغني أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، مدينة عظيمة في مصر القديمة، يتبعها إقليم بين الوادي والصحراء يحكمه الملك «نفريت»

وكان لهذه المدينة أسوار عالية تحميها من الأعداء، وكان لهذه الأسوار أبواب ضخمة يقوم عليها الحراس الشداد؛ وهذه الأبواب تفتح نهاراً عند مطلع الشمس، وتغلق ليلا عند غروبها، فيمنع الدخول والخروج إلا لمن يحمل كلمة السر من الحكام والحراس.

وكان على مقربة من المدينة غابة فسيحة كثيفة عالية الأشجار، وكانت المراعي تتخلل فجواتها الكثيرة، فيدخل الرعاة بأغنامهم في فجوات الغابة، لترعى الحشائش النباتية فيها، كما كانت بعض الذئاب تأوي إليها وبعض الضباع، تتلقف الحملان الضالة التي تتناثر من القطيع. وكانت الأرانب البرية والثعالب والظباء تتكاثر فيها وتنمو، فيخرج الصيادون لصيدها في مواسم من السنة، بعضهم يتخذها للكسب والتجارة، وبعضهم يتخذها للهو والتسلية.

وعلى خفافي الغابة كانت تتناثر بضعة أكواخ وحظائر للرعاة والصيادين الفقراء، يأوون إليها بأنفسهم وأغنامهم، حين يدخل الظلام، ويصبح التجوال في الغابة خطراً بين الذئاب الجائعة والضباع الهاجمة؛ وكثيراً ما كانوا يوقدون أمام أكواخهم ناراً تشتغل طوال الليل تخويفاً لهذه الحيوانات من السطو على الحظائر

في جنح الظلام.

وكان للملك في وسط المدينة قصر عظيم يتألف من أجنحة كثيرة، وتتبعه أقسام للحراس والأصطبلات، وأمامه ساحة فسيحة يتدرب فيها الجند، وتقام فيها الاستعراضات العسكرية والحفلات الملكية، وتتسع لعدد كبير من الناس. وعلى الجانب الآخر من الساحة يقوم قصر أصغر من قصر الملك هو قصر أخيه.

ولم يكن يعكر صفو الملك إلا حرمانه من وريث لعرشه، إذ كانت امرأته لا تلد، وقد بلغت الأربعين وبلغ الملك الخمسين دون أن يكون لها بنت أو غلام، فكان المنتظر أن يئول العرش بعده إلى أخيه إذا أمهله الموت، أو إلى أحد الأجانب، إذ أن أخاه مثله محروم من الأطفال.

وقد جعل الملك جائزة عظيمة لمن يكون سبباً في دفع العقم عن زوجته وزوجة أخيه. ولكن جميع محاولات الأطباء والكهان ذهبت أدراج الرياح، فلم يبق أمام الملك وأخيه إلا أن يتزوجا من جديد. وفيما هما يفكران هذا التفكير، والمرأتان في غم وضيق، وأهل المملكة جميعاً في اشتغال بهذا الأمر الخطير، هبط المدينة طبيب من الشمال، سمع بالغابة ونباتاتها، فقدم ليجمع منها بعض النباتات الطبية. ولما دخل المدينة وجد أهلها مهمومين مغمومين، لأن الملك وشقيقه سيتخذان زوجتين بدل زوجتيهما المحبوبتين من الشعب كله لطيبتهما وعطفهما على المساكين، فعرض ذلك الطبيب الشمالي استعداده لمداواة العقم، ففرح الناس وتوجهوا إلى الإله بالدعاء.

واستجاب الله دعاء الشعب فحملت الزوجتان في ليلة واحدة بعد طول العقم والحرمان. ولما وفتا الأيام وضعت زوجة الملك طفلا ذكراً، وزوجة أخيه وضعت أنثى، فأقام الملك الأفراح في طول المملكة وعرضها، وأطعم الفقراء والجياع، ولبست المدينة حلة زاهية من الزينة أربعين ليلة كاملة.

وقد سمي المولود "تاسو" وسميت المولودة "تيتي" واتفق الملك وشقيقه أن تكون تيتي لتاسو، ويكون الملك لذريتهما جيلا بعد جيل.

مرت السنوات والطفلان ينموان حتى بلغت سنهما العشرين

واعتزم الوالدان أن يفرحا بهما في حياتهما ، وأن يشهدا زواجهما فأعدا العدة لإقامة الأفراح، وذهبت الرسل لاستحضار المغنين والملهين من أطراف المملكة، ليكون هذا العرس عيداً جميلا يفرح به الشعب كله، ويظل مذكوراً على الأيام.

ولكن إرادة الله كانت غالبة، فاجتاح البلاد مرض وبائي وافد، ذهب ضحيته الملك وشقيقه وزجتاهما ضمن ألوف أخرى كثيرة من السكان. فلبس الناس الحداد على موتاهم، واغتم تاسو وتيتي لفقد والديهما ، وأصيب الشاب بالمرض، ولكنه نجا، فقام منه منهوكاً مهدوداً.

وبغير احتفالات ولا زينات تولي الملك مكان أبيه، وجعل همه مقاومة الوباء الطارئ بجميع الوسائل، وتمكن بعد مضي عامين من القضاء عليه، وإراحة الناس منه، فارتفعت أكف الناس بالدعاء له، وزادوا تعلقاً به.

ولما اطمأنت القلوب وهدأت الاحوال قال مشير الملك الراحل للملك الشاب: "يا مولاي. لقد من الإله عليك بالشفاء من المرض الذي حصد الا رواح؛ وقد ابتهج أهل المملكة بنجاتك، فيحسن أن يتم الا بتهاج بعقد القران، حتى يرزقك الله بولي عهد تقربه عينك، كما أقر الإله بك عيني والدك الراحل فوجدناك عند ارتحاله ذخراً لنا وسندا؛ وأنت تعلم يا مولاي أن والدك العظيم كان يحضّر للعرس لولا هذا الوباء المشئوم" فرد عليه الملك الشاب مستحسنا فكرته وأشار بالتهيؤ لإقامة الأفراح والاحتفالات على النحو الذي أمر به والده، لتقر عينه في قبره بتنفيذ رغباته، بعد أسبوع من الزمان.

ولما سمعت تيتي بهذا النبأ طار قلبها فرحا، فقد كانت مشغوفة بابن عمها حبًّا، ولكن الحياء كان يمنعها من إظهار هذا الحب الذي يملك عليها تفكيرها.

لقد مر هذان العامان كما تمر القرون والأجيال. وكانت قد نضجت أنوثتها، وتفتحت رغباتها، فكانت تحلم بذلك اليوم السعيد الذي تتحقق فيه أمانيها التي عاشت في نفسها منذ أن تنبهت لوجودها، وعلمت أنها خطيبة لولي العهد وابن عمها المحبوب.

كانت حياتها كلها وأحلامها جميعاً تتلخص في هذه الرغبة التي تنمو يوماً بعد يوم، كلما شاهدت خطيبها الشاب تكتمل رجولته، وتبدو عليه مظاهر الفتوة وأمارات القوة؛ فلما بلغها النبأ كادت تجن من الفرح، ولكنها خجلت فتوردت وجنتاها وانهمرت من غينها الدموع. أما الأمير فلم يكن ميله إليها إلا بمقدار الألفة التي تنمو بين طفلين خطيبين.

باتت الأميرة ليلتها لم تذق للنوم طعماً . لقد كانت عشرات الصور والمشاهدة تتوالى على حسها وهي في شبه غيبوبة لذيذة، وكانت تفتح عينيها فلا ترى شيئاً. لقد كانت مشغولة باستعراض الرؤى الجميلة التي تنبع من نفسها وتزدحم في خيالها، كانت تحس بأشتات من الأحاسيس الغريبة التي لا تدرك لها تفسيراً ولا تعرف عنها تعبيراً، فتدعها تمر على حسها متتابعة متمازجة، وهي كالمخدورة بين الأحلام اللذيذة.

وأصبح الصباح فوجد الملك الشاب في نفسه مَيلًا إلى التجوال في الغابة كأن هاتفاً يدعوه إليها، فأمر بإعداد العدة للصيد، وخرج مع الحراس ورجال الحاشية - على عادته حينما يعتزم هذه الرياضة المحبوبة.

كان الربيع قد وافى، فاكتست الأشجار بالأوراق الخضراء وازدهرت أعاليها وأطرافها بالنور المختلف الألوان، وسُمعت أصوات اليمام فيها والطيور المغردة على اختلافها، وانطلقت الأرانب البرية والغزلان تقفز وتمرح، وقد اكتست أجسامها بالشعر الجديد الزاهي، وبان في وثباتها المرح الداخلي النشيط.

وكان الملك الشاب يحس في نفسه شوقاً غامضاً مجهولا ، وحنيناً تائهاً عجيباً، تنطق به كل ذرة في دمائه، وكل خالجة في شعوره. كان يتململ في جلسته على ظهر حصانه، فيغادره ويقفز ليسير على أقدامه، يمسك بأطراف الأشجار المتدلية، ويغرس طرف رمحه في جذوع الأشجار، ويقطف بعض الأزهار ليتأملها برهة ثم يقذف بها على مد الذراع؛ ثم يعود إلى صهوة جواده، وقد شعر بشيء من الراحة لتصريف هذا المذخور في بنيته من القوة والمراح.

وللقدر المقدور وقع نظره وهو في هذه الحالة على فتاة ترعى بضع شياه.

لقد بهت كأنما سمر في مكانه. كانت فتاة ممشوقة القوام ناضرة الوجه، في عينها كل معاني الربيع. كل شيء فيها متفتح كالوردة الناضجة صدرها الناهد، ونظراتها الجاهرة، وبشرتها المملوحة، ومشيتها المتوثبة، ولفتاتها السريعة.. أحس الشاب أن هذه الفتاة هي إحدى ظبيات الغابة أيقظها تفتح الربيع، وأنضجتها حرارته وانفلتت من كيانها تبعثر ما تجمع في كيانها من رصيد الحياة المذخور ، فوقف إزاءها ساها مدهوشاً مأخوذاً . وأحست الفتاة أن نظرات الفارس الجميل تقع على كل موضع فيها ، وتنفذ في ثناياها ، فأرخت أجفانها من الحياء ، وتفترت مفاصلها ، ودب فيها خدر لذيذ .

لم تكن الفتاة تعلم أن الفارس الجميل الذي يلقى عليها هذا الوابل من النظرات النفاذة هو ملك الإقليم . فقد كان من عادته أن يتزيا – حين يقصد إلى الصيد – بزى فارس من الحرس حتى يكون طليقاً في رياضته ، وحتى يتخفف من شارات الملك وتقاليد البلاط . لقد كان بطبعه ينفر من هذه القيود التي تثقل كاهله ، وتحد من نشاطه وهو في فورة الشباب الوثاب ، فما إن

تعرض له فرصة من هذه الفرص حتى يلقى عن نفسه هذه المراسم والطقوس، فيحس أنه خلص من ربقتها، وصار إنسانا له كل حقوق الإنسان ، وكان يحرم على مرافقيه من رجال الحاشية ما دام في هذه الرياضة المحبوبة أن يخاطبوه بمراسم الملك لأن هذا كان يرده إلى أنقال المراسم، ويذكره بضيق القيود التي خرج يتخفف منها و يفرج على نفسه من ضيقها !

فلما وقف أمام الفتاة مبهوتاً مأخوذاً ، وطال هذا الموقف حتى لحظه مرافقوه ، تذكر نفسه ومركزه – على الرغم من تفكره وتخفيه – فأراد أن يستر الموقف المكشوف ، فسأل سؤالا ساذجا متحيراً : أهذه أغنامك ؟

قالت الفتاة – وقد توردت وجنتاها – ! نعم هي أغنامي وأنا أرعاها لأن والدي عجوزان .

قال الفارس العاشق : وهل تسكنون قريباً من هنا ؟

قالت : إن لنا كوخاً على حافة الغابة .

فاطمأن الشاب لذلك ، ورأى أن يختم الموقف بحركة سريعة لم يتهيأ لها بتدبير أو تفكير . فألقى إلى الفتاة بصرة نقود بين يديها ولوی عنان فرسه ومضى يركضه ، والفرسان من خلفه، وهو في شبه غيبوبة ، لا يدرى له وجهة، ولا يكاد يملك جسمه على ظهر الفرس .

وأفاقت الفتاة بعد انصراف الفارس الجميل كما يفيق الحالم من حلم لذيذ، وأحست كأنما كانت غائبة عن الوجود ، ثم ها هي ذي ترد إلى مكانها الذي تعهد ، وأمامها شويهات ترعى لم تكن تحس بها أو بما حولها منذ حين . ونظرت فإذا غبار ثائر في أعقاب كوكبة من الفرسان ، فتعلق نظرها بهذه الكوكبة وارتدت إلى غيبوبتها الحالمة ، وكأنما في هذا الغبار الثائر رؤيا مجنحة تحفها نفساً التهاويل العجيبة . . . حتى إذا اختفى المشهد تنفست عميقاً بعد ما أمسكت أنفاسها ، وهي تتطلع إلى الغبرة الثائرة من بعيد ووجدت نفسها تبتسم منفرجة الأسارير ، وتقلب في يديها هذه المرة المربوطة ، وكأنها حجر سحري يشيع في جسمها الاهتزاز ، ثم تحاول فكها وهي لا تقصد هذه المحاولة ، فتتفتح عن قطع صفراء ذات رنين . يالله ! إنها من الذهب ! إنها نقود !

وبهرتها هذه النقود الذهبية التي لم ترها من قبل إلا في أيدى كبار الأثرياء ، وشغلها بريقها لحظة عما في نفسها من الشعور المبهم الغريب . ولكن ما لبثت هذه الصرة وما فيها أن اتصلت في نفسها بهذا الشعور المبهم الغريب !

وفجأة رأت نفسها تسوق شويهاتها عائدة إلى الكوخ ، وهى لا تدري لماذا تعود !

وأطلت من الكوخ عجوز معروقة ثم ارتدت إليه ، وعادت بشيخ عجوز ، جعل يحدق هو والشيخة في الفتاة العائدة والشويهات أمامها وهي تسوق .

قالت الشيخة : ما الذي يجيء بساسو في هذه الآونة المبكرة ؟

قال الشيخ : لابد من مكروه . لقد كنت أحس صهيل خيل في الغابة ، فلعلهم قطاع الطريق من الأعراب المتهجمين قد هجموا على الرعاة كما يفعلون .

قالت الشيخة : يا لساسو المسكينة ! ويا لخوفي عليها ! لطالما قلت لك : لا تخرج ساسو إلى الغابة بعد ما صارت في هذه السن ، فإني لأخشى عليها ما هو أشد من سلب الأغنام !

قال الشيخ : إن ساسو شجاعة فلا تخشى عليها شيئا . إنها ابنة أبيها أيتها العجوز !

قالت : ابنة أبيها أو ابنة أمها ! لن تخرج إلى الغابة مرة أخرى .

وكانت ساسو قد اقتربت تخطر وكأنها تطير، وأسار يرها تنطق بالبشر والسرور ، وأسرعت الأم تقول في لهفة – و إن يكن مظهر الفتاة قد بعث إليها بشيء من الطمأنينة – :ماذا يا ساسو ؟ وفوجئت الفتاة بهذا السؤال كأنها لم تكن تتوقعه، فاضطربت و تواردت على خاطرها أشتات من الصور ، وقفت عند صورة منها فتوردت وجنتاها ، ونكست بصرها إلى الأرض، وأجابت في حياء : لا شيء يا أماه . أحس في جسمي بفتور .

وكانت لشدة ما نالها من الاضطراب قد اختلجت أوصالهـا في هذه اللحظة ، وأحست بالأرض تحت قدميها تدور . فألقت بنفسها على صدر أمها التي أسرعت إليها تحتضنها في ذعر شديد. وتعاون الشيخان على إدخال فتاتهما إلى الكوخ ،وهى مفترة الأوصال ، مضطربة النبض ، لا تدرى أهي مريضة حقا أم أن ذلك شيء جديد ؟ !

واعتقد الوالد أنها ضربة الشمس أصابت الفتاة ، فجعل يلوم نفسه أن عرضها لرعي الأغنام ، واعتزم أن يعفيها منذ الغد من هذه العملية الشاقة ، ولو أنه محطم مهدود .

أما الأم فإن شعوراً داخلها كان يوسوس لها بأن هناك شيئاً غير عادى قد مس الفتاة اليوم، وان لهذا الاضطراب سراً غير معلوم . ولم يعسر على الشيخة أن تعلم من فتاتها كل شيء بعد قليل ، وأن تتناول صرة الذهب فتذهب بها مغضبة إلى رجلها ، وتقذفها في حجره بشدة ، وهي تقول : ألم أقل لك إن ساسو لم يكن يجوز أن تذهب إلى الغابة منذ بعيد ؟

وفوجىء العجوز بهذا الذهب يتوهج في حجره، وبهذه الصيحة تلقيها العجوز في سمعه . ما هذا وما ذاك ؟ وما علاقة الذهب بالصياح ؟ . . واختليا عن ساسو وراحا يقرران أمراً لا تدريه. . وأدرك شهرزاد الصباح ، فسكتت عن الكلام المباح.

============

​الليلة الثانية​ المؤلف سيد قطب

الليلة الثالثة

فلما كانت الليلة الثانية قالت :

... ونرجع يا مولاي بالحديث إلى الفارس الجميل . فنجده قد دار دورة أو اثنتين في دروب الغابة ومنعرجاتها ، مندفعاً كأن قوة سحرية تدفعه إلى وجه غير معلوم ؛ حتى إذا انتهت الدفعة ، المجهولة، ووقف الركب من خلفه، وقف ساهما لا يدرى أين يذهب ولا كيف يروح أو يجيء . ثم إذا به يلوى عنان فرسه ، ويكر راجعاً إلى مكانه . ورجال حاشيته من الخلف لا يفكرون أول الأمر ، ولكنهم ينتبهون بعد فترة إلى اضطراب حركات الملك وإلى أنه يذهب ويجيء في غير قصد مرسوم .

وحينها يبلغ الركب مكان الفتاة والأغنام يتلفت الملك هنا وهناك فلا يجد أمامه شيئاً ، و ينخطف قلبه ويدق دقات سريعة أن يسأل أحداً من رجال الحاشية عن الفتاة التي كانت هنا منذ لحظة ؛ ولكنه يحس بقسوة المراسم وضغط التقاليد.

و يتحول شعوره المكتوم هذا إلى حركة جامحة يدفع إليها فرسه فتشق الطريق في عنف وقوة ، وكأنما هو يخرج بهذا الانطلاق الجامح من ربقة القيود والتقاليد !

و بعد جولات طائشة في دروب الغابة ومنحنياتها، يعود الملك فيلوي عنان فرسه نحو القصر خارجاً من الغابة في صمت مخيف . لم يبق شك في نفوس رجال الحرس أن هناك شيئا ، وأن الملك قد وقع في نفسه شيء ؛ ثم لم يجرؤ منهم أحد على السؤال فسار الجميع خلف الملك الصامت صامتين . ولما ترجل ليدخل قال لرجاله : ليله سعيدة . سأخلو بنفسي ، فانصرفوا أنتم جميعاً . وكان هذا التصرف كافياً ليثبت في نفوسهم ما خالجهم من قبل ، فراحوا يتخبطون في الظنون .

وأمر الملك ألا يدخل عليه أحد في جناحه الخاص إلا حين يستدعيه ، ورأى رجال القصر وحراسه وخدمه ما يعلو وجه الملك من جد صارم ، فأجفلوا في نفوسهم ، وراحوا يتوجسون . وعند ما حان موعد العشاء لم يكن الملك قد استدعى أحداً ولم يكن أحد يجرؤ على الدخول . ومضى الموعد وتوغل الليل وكل من في القصر ساهر ، وكلهم في عجب شديد .

وأحس الملك بالتعب وهو جالس بملابس الصيد منذ أن عاد ویده تحت ذقنه، وهو شارد الفكر ساهم النظرة ينظر بعينيه، ولكن خياله يمتد إلى بعيد، فقام في تثاقل واسترخي على مقعد طويل، وأطلق لخياله العنان يذهب حينا يريد.

وأطل القمر متلصصاً من النافذة في أول الأمر، ثم أعلن وجوده وأحس الملك كأنما هذا القمر يلاطفه ويؤانسه و يستدرجه للحديث، فسرى إلى نفسه الأنس به والارتياح له، وتحركت شفتاه كأنما يهم أن يفصح للقمر عما يريد.

وأحس بشوق غامر إلى أن يخرج إلى الشرفة حيث القمر هنالك يهمس بصوته المسحور، وتختلج خطواته في دبيب لطيف وما إن تجاوز باب الحجرة حتى اشتمله النور، فأحس كأنما يعانقه، فمد إليه ذراعيه في شوق شديد.

كانت الشرفة تشرف على فضاء رحيب يقوم على نهايته طرف الغابة الفسيحة، وسرعان ما امتد نظره إلى الغابة السابحة في ضوء القمر الهاديء اللين، فخيل إليه أن الفتاة الآن هناك في هدأة القمر الحالم، فأغمض عينيه وراح يدب في جوارها : يده في يدها وذراعه تطوقها، وهي تميل برأسها الصغير على كتفه فيتوقفان برهة عن السير، ثم يفتح عينه فيستيقظ و يفيق : إنه هنا في الشرفة وليس هنالك في الغاب المسحور !

وفى الهزيع الأخير أحس أنه منهوك، فألقى بكرة معدنية في طست من النحاس، فانتبه الخادم الحارس مذعوراً، وهرول يلبى دعوة الملك، وحينما واجهه بهت وسمر في مكانه... لقد كان الملك لا يزال في ملابس الصيد منذ الصباح.

قال الملك : في الصباح الباكر أصحو، حيث تكون فرسى مهيأة. ولا يتبعني إلا « حور ».

فأما ساسو فكانت قد أوت إلى فراشها الخشن على القش الذي كان مهيأ لمرقدها في الكوخ، على حين ظل الشيخان ساهر بن يقلبان وجوه الرأي فيما يعتزمانه منذ الغد : فراراً بساسو هذا الخطر المحيق !

استلقت الفتاة على هذا القش لتنام، وإنها لتنام كل ليلة نوما لا حركة فيه، ولاسيما بعد أن عهد إليها برعي الشويهات في الغابة، فالتعب والحركة والهواء النقى والدم الفائر، كل أولئك كان يهتف بها إلى النوم بمجرد أن يصل جنبها إلى المخدع على هذا القش الوثير !

أما الليلة فإن هناك في نفسها أمراً يشغلها عن النوم اللذيذ... إنها لفي شغل باستعراض حوادث الصباح ورؤاه العجيبة... ها هي ذي تجلس على متكأ من العشب الجاف وشويهاتها أمامها ترعى في منفرج من الغابة. وها هو ذا الهواء الدافىء يداعب أغصان الأشجار الباسقة فتتمايل كالنشوان الثمل… ثم ها هي ذي تسمع صهيل الخيل وترى الغبرة الثائرة. وها هي ذي شويهاتها تجفل فترتد إليها كأنما تلوذ بها من هذا الضجيج. وهنا تقف متطلعة ، ثم تتبختر في بضع خطوات… ثم… ثم ها هو ذا الفارس الجميل… إنها لتحس الآن بوقع نظراته الساخنة تخلل جسدها كقشعريرة ، تحس بذلك الخدر اللذيذ المرتعش تحت نظراته و إنها لتتحسس في جسمها الفائر. واضع هذه النظرات فتتمطى، ثم تفتح فاها بتنهدة لذيذة ، ثم يرتد خيالها إلى الغابة فتستعرض المنظر كله من جديد.

وأطل القمر من كوة الكوخ الصغيرة ، فانتفضت من أحلامها الجميلة ، كان هذا القمر يتلصص عليها في خلوتها ، وضمت ساقيها المنفرجتين وذراعيها المتراخيتين… ولكنها ما لبثت أن أنست بهذا القمر الذي يوصوص لها من كوة الكوخ ، وودت لو تخرج من مخدعها إلى الفضاء الرحب ، إلى هذا الانفساح الحالم الفارق في ضوء القمر الشفيف… ودت لو تخرج لتنطلق في هذا الفضاء غير الحدود ، ولتجري وتركض ، بل لتحلق وتطير كهذه الفراشات البيضاء السابحة في ضوء القمر… ولكنها تسمع وسوسة الشيخين كأنما لا ينامان أبداً… وكاد صدرها يضيق بهما و بيقظتهما لك في هذا الأوان… ولكنها كانت في شغل عن الشيخين ؛ ولم تكن أحاسيسها لتستقر لحظة على فكرة معينة؛ فعادت تحلم حلم اليقظان من جديد ، وتستعرض نظرات الفارس من جديد، وتنتظر الصبح في شوق جارف، فالصبح هو الذي يطلقها من حدود هذا الكوخ ! ولم تدر كيف تسلل الناس إلى مخدعها برفق ، فأغمض بأنامله الرفيقة جفونها الساهرة ، ثم تسلل مرة أخرى وتركها للأحلام اللذيذة ، وعلى شفتيها ابتسامة وضيئة ، تشيع في محياها الجميل. وفى الصباح كان أمر الملك قد أعلن في القصر ، وكان حور يتبع مولاه منفرداً كالكلاب الأمين… يتبعه في صمت مطبق ، فالملك لا يعلن وجهته ولا ينطق بكلمة واحدة تهدى إلى اتجاهه. ولكن ها هو ذا يلوى عنان الفرس إلى الغابة ، فيحدس الحارس عما يريد ، ويتذكر حوادث الأمس ، ويستعرضها واحدة واحدة ، ويطيل الوقوف عند منظر الملك الشاب بحادث الفتاة الراعية… ولكن ماذا ؟ إن المعدات لتتخذ لزفاف الملك الشاب على الأميرة المرتقبة…أتراه لا يذكر الموعد والاستعدادات على قدم وساق ؟ !

ودار الملك دورة بالغابة، ثم انطلق يجوس خلالها، ويتفقد منفرجاتها وحناياها، وقد أخذ الرعاة يفدون. والملك يتطلع إلى كل قطيع وافد، و يلاحق ببصره الرعاة في المنعطفات وشيئاً فشيئاً يبدو على الملك الضيق والانفعال، وتتوالى على وجهه شتى الانفعالات، فيركض فرسه هنيهة والحارس وراءه، ثم يقف فجأة، و يلوى بعنان الفرس في اتجاه آخر، كالذي يبحث عن صيد شارد في الفلاة.

وتنقضي على هذا الكر والفر ساعتان، ينهك فيهما الفرسان والفارسان، و يبلغ القلق بالحارس أن يهم بسؤال الملك عما يريد، فلا يجسر على السؤال والملك على هذه الحال… وبينما هو يفكر على هذا النحو إذا بالملك يمرق بالفرس، فيخرج من الغابة كلها و ينطلق إلى تلك الأكواخ المتناثرة على حفافي الغابة، فيخرج منها نسوة مع أطفال في أسمالهم البالية وهيئاتهم الرثة، يتطلعون إلى الفارسين هنيهة في وجوم وذعر، ثم تعلو وجوههم أمارات الرضا والاطمئنان. فالفارسان ليسا من الأعراب الفتاك.

و يجول الملك بعينيه في هذه الوجوه يستعرضها جميعاً… ولكنه لا يجد بينها الوجه الوحيد الذي يبحث عنه في طرقات الغابة ومنعرجاتها، ولوكان يعرف اسم صاحبته لسأل، ولكن ما جدوى السؤال، وقد عاقته أثقال الملك وتقاليده عن السؤال في حينه المناسب، فأفلتت منه الفرصة… ربما إلى آخر الزمان ؟ وأحس الملك أن الدنيا تزم على صدره وتضغطه، حتى ليكاد صدره أن يتمزق، فخبط. جبينه بكفه، وندت من فيه الكلمات بغير حساب !

لقد ضاعت… ضاعت إلى الأبد. وضاعت معها الحياة ! هنا وجد حور من الجرأة ما يسأل به الملك :

من هي التي ضاعت يا مولاي ؟

قال الملك :

الفتاة..

وأدرك حور كل شيء، وأعوزه أن يجد ما يقول ؛ فلقد كان بود لو يذكر الملك بالعرس المرتقب في نهاية الأسبوع، و بالأميرة المنتظرة، وبالقصة كلها… ولكن وجه الملك لم يكن يشجع على شيء من هذا كله. فقال حور على غير قصد منه :

ربما وجدناها في الغابة يا مولاي !

وأحس الملك أن كوة من الرجاء تنفتح في قلبه ، وتمسك بهذه الكلمات كأنها اليقين الذي لاشك فيه، فقال ـ وهو يلوى عنان فرسه إلى الغابة – :

لئن كانت هناك يا حور، لتكونن من الغد كبير الحراس !!! وانطلقا.

وأدرك شهر زاد الصباح.. فسكتت عن الكلام المباح

***

===================

​الليلة الثالثة​ المؤلف سيد قطب

الليلة الرابعة

فلما كانت الليلة الثالثة قالت :

تركنا الفتاة يا مولاي سابحة في أحلامها الجميلة، وقد أغمض النوم عينيها بأنامله الرفيقة. ولكن الفتاة ما لبثت أن سمعت ضجة وجلبة ، فاستيقظت ملهوفة… لقد خيل إليها — وهى بين النوم واليقظة – أنها في الغابة ، وأنها ضجة الخيل. وتوسمت من بين كوكبة الفرسان وجه فارسها الجميل !

ولكن ماذا ؟

إنهما الشيخان… فماذا يصنعان ؟

إنهما يقوضان أركان الكوخ المنعزل ، ويحزمان متاعهما القليل الذي يحويه… وها هما ذان يوقظان ساسو في عجلة. فإن هنالك لأمراً..

وربعت الفتاة وتوجست في نفسها شرا.

احلى يا ساسو هذا الحمل فإنه نصيبك !

ولكن إلى أين يا أماه والدنيا لم تزل في الظلام ؟

إلى أين ؟ ليس هذا من شئون الفتيات. إننا راحلون ياساسو، راحلون وكفى ! راحلون إلى الشمال، فما عاد لنا عيش في هذه البقعة من الأرض بعد أن كان بالأمس ما كان !!!

وغصت الفتاة بريقها، ودارت بها الأرض، واختنقت في فيها الكلمات. ولكنها انحنت على الحمل فرفعته، كما انحنى الشيخ والشيخة على حمليهما… وانطلق الثلاثة في غبش الفجر، وأمامهم الشويهات !.. إلى الشمال.

ولما كان الوالد خبيراً بالدروب والمسالك منذ رحلته الأولى إلى الجنوب، فقد تنكب الطريق لمسلوك، حذراً، وحيطة، إلى مسالك أخرى لا يمر بها إلا الخبراء !.

وسار الركب الطليح : الشيخ الماني والعجوز المعروقة يدبان على الأرض كالمال، والشويهات يطول عليها السرى وتشتد عليها الهاجرة فتهزل وتضعف عن المسير ، وساسو تسير كالذي يقاد إلى الموت، ويخطو على الشوك. وكلما خطت بقدميها خطوة تلفت قلبها إلى الخلف لفتات… إلى الكوخ العزيز، و إلى الغابة المسحورة. إلى هنالك حيث الحلم الذي أشرق في حياتها لحظة ثم غاب. إلى الرؤيا المجنحة التي لازالت ترفرف هناك… !

إلى أين يا ساسو ؟ إلى أين أيتها المسكينة ؟ إلى أين يراد بك، وهناك في الغابة حلمك الجميل؟… ومضت ليلة إثر ليلة والركب العاني يسير ، والشيخ الفاني يبدو عليه الملل ، فإذا الشيخة المعروقة تتشدد لتصخب على الشيخ وتثور :

أتراك كنت باقياً هنالك حتى تفسد علينا ساسو ؟ لوكان من لداتها لتركنا الأمور تسير ، واقلنا : نظرة فخطبة ، فعرس.. ولكن هذا ! هذا الفارس الثري الذي يلقى بهذه المرة من نقود الذهب كما يلقى بالحصاة ، أتراه يتزوجها زواج الشرفاء الأحرار ؟ أم تراه يسرقها من بيننا بنقوده الذهبية حيث تغدو ساسو الشريفة خليلة في عداد الرقيق ؟.. أتقول لي : تعبنا وهلكنا ؟ النار ولا العار أيها الشيخ الخرف. النار ولا العار ، أليس كذلك أيها الرجل الشريف ؟ !

ثم يعطو ذلك الركب الكليل. حتى تدركه الهاجرة فيستظل و يقيل.

فأما الملك – يا مولاي – فقد لوى عنان فرسه إلى الغابة كما قلنا وخلفه تابعه الأمين، وكانت الشمس قد أوشكت أن تتوسط السماء، ودار بها دورة ودورة قبل أن ينظر حور إلى وجه مولاه، فيرتجف، ويعلو وجهه الاصفرار.. إنه الشر !

فلن تعود الأمور منذ اليوم تسير كما كانت من قبل تسير !

وكرا راجعين إلى القصر، فإذا الهمس الحذر يتلصص في جميع جوانبه، والأميرة العروس قلقة تتطلع من نوافذ قصرها في طرف الميدان الآخر، تترقب عودة العريس الشاب الذي ستزف إليه بعد أيام قلائل، ثم هي لا تعلم فيم يذهب إلى الغابة منذ يومين ؟ وفيم يبيت ليلته لا يخلع ملابس الصيد ؟ وفيم يخرج اليوم منفرداً لا يتبعه إلا حور؟

ألا إنه لأمر !.. ولكن أولا تعلم العروس الحبيبة هذا الأمر ؟

ولم يستطع أحد وهو يرى وجه الملك العائد أن ينبس بكلمة حتى آوى الملك إلى جناحه الخاص ؛ ثم استدعى تابعه الأمين حور فكلفه أن يتخفى في زي الرعاة، ثم يتحسس من خير الفتاة بين

الأكواخ، دون أن يشعر أحداً بتحسسه.

وانطلق حور ينفذ أمر مولاه، وبقى الملك ينتظر، ولكنه لم ينتظر ساكنا ولا صابرا. لقد ظلت عشرات من الصور والخيالات تغزو نفسه وخاطره، وكان بهش لها جميعا، إلا خاطرا واحدا أسود كان يرتجف له كيانه :

ترى قضى الأمر كله فلا لقاء بعد اليوم ولا اجتماع ؟ ! ولكنه سرعان ما كان يهرب من مواجهة هذا الخاطر الأسود حتى إذا ألح على خاطره حرك يده بعنف كمن يطرد شيطانا مساوراً، ثم قام يتمشى في اضطراب، أو يطل من الشرفة وهو يخطو خطوات مرتجلة لا هدف لها ولا اتجاه.

ثم عاد الرسول !

لو أن صاعقة انقضت على رأس الملك في هذه اللحظة لكانت أخف وقعا… . – لقد رحلت ساسو مع أبويها إلى حيث لا يدرى أحـد من الرعاة ! ساسو… ما أحلى هذا الاسم الجميل. ساسو وتاسو. ما أحلى اجتماع الاسمين. أتراها الأقدار قد وفقت هذا التوفيق العجيب بين اسم في القصر واسم آخر في الكوخ ؟.. ولكنها رحلت ! رحلت ؟ – إذن هي حية – وهذا يكفى. وهنا تنبثق في صدر الملك أشعة الرجاء… ولكن منذا يدريه أنها لن تصاب بمكروه في الطريق ؛ ثم منذا يعلمه مكانها الآن أو بعد الآن ؟ ! ولم تمض ساعة حتى كان الملك يستدعى كبير وزرائه – وهو مشير أبيه – لينهى إليه أمراً :

تبطل مراسم العرس. وتوقف جميع الاستعدادات.

وقال الملك :

وتنوب عنى أيها المشير المخلص في سياسة الرعية، حتى أؤوب من رحلة لا أدرى مداها. فإذا أنا لم أعد فالملك لك ولأبنائك عن جدارة واستحقاق !

وصمت الملك كأنما هذه آخر كلمة تقال !

ولكن المشير الذي يدل عليه بالتربية والرعاية لم يسكت. فالأمر جد، ومن واجبه أن يرد الملك عما يريد، ومن حقه أن يعرف على الأقل ماذا يريد.

قال المشير الشيخ :

يا مولاي. أليس لي بحكم خدمتي الطويلة لأبيك من قبل، وحتى إخلاصي لك أنت من بعد، أن أقول كلمة ؟ قال الملك :

بل تقول كل ما تريد أيها المشير الأمين.

قال : أليس لي أن أسأل : فيم هذا كله ؟ وفيم هذه الرحلة المجهولة المدى ؟ وفيم ترويع الشعب الذي يحبك و يتطلع إلى شبابك ؟ وفيم – على الأخص – ترويع الأميرة التي تنتظر اليوم السعيد منذ سنوات ؟

قال الملك :

لقد وددت أن أفصح لك – أيها المشير الناصح – عن هذا كله، بحق ما لك على وعلى أبي من حقوق. ولكنني لا أملك هذا الآن. وكل ما أستطيع أن أقول لك : إننى لم أعد صالحا لشيء من هذا كله، إلا أن تتحقق لى أمنية واحدة هي التي أرحل في سبيلها هذه الرحلة المجهولة

وصمت الملك برهة و بدا على عينيـه أنه يجوب بخياله آفاقا بعيدة ثم قال :

الحياة هناك. هناك أيها المشير المخلص. هناك حيث لا أدرى أين تكون ! وغلب عليه التأثر، فتغرغرت عيناه بالدموع

وتهيأ الملك الشاب يا مولاي للرحيل. الرحيل إلى حيث لا يدرى. ولكنه تزيا بزي التجار، وأمر فأعدت سرا قافلة محملة بالزاد والمتاجر من بضاعة الجنوب، يصحبها جماعة من الخدم والحشم، وعلى رأسهم حور حارسه الخاص، الذي كان وحده يعلم سر الرحلة ولا يبوح.

ولما كان المشير شيخا مجربا أريبا، فقد خاف إن هو أشاع بسفر الملك في مثل هذه الرحلة الغريبة أن يحدث ذلك رجة في المملكة لا تحمد عقباها، فاتفق مع الملك ألا يعرف أحد بالخبر، وأن يعلن في القصر أن الملك مريض، وأن الأطباء قد قرروا ألا يدخل عليه أحد حتى يشفى… ورجا بهذه الحيلة أن يدبر الأمور حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا

وعند ما حان الفراق ودع المشير مليكه وربيبـه، والدموع تبلل شيبته الوقور ؛ ثم تماسك ليواجه العبء الضخم الذي سينهض به منذ الغد وهو شيخ كبير.

أما الشعب فقد شاهد قافلة تمر بالمدينة إلى الشمال كالقوافل الكثيرة التي تهبط في الحين بعد الحين. وعنـد ما أعلن إليه في الصباح نبأ المرض الخطير، خطفت القلوب، واهتزت الأعصاب وتوجه الناس بالصلوات والدعوات أن ينجى الإله الملك… ثم انصرف كل إلى شواغله ليرتزق منها ويعيش !

بقى قلب واحد لا يطمئن إلى هذا الذي يقال ، ولا يرضى بالحيلولة بينه وبين من يهواه. ذلك هو قلب الأميرة تيتى. فما بال اللك الشاب ينقلب بين الصبح والمساء من الصحة الموفورة ، والشباب المنصور ، إلى المرض الداهم والداء الخطير !

وما بالها تحجب عن الملك المريض وهو ابن عمها القريب وخطيبها الحبيب ؟ أو ممكن أن يتم هذا الانقلاب كله ما بين يوم وليلة ؟

ثم ما بالها لا ترى وجه دور تابعه الأمين ؟ لقد قيل لها :

إنه بعث في رحلة إلى الصحراء لإحضار بعض العقاقير النباتية التي أشار بها الأطباء. ولكن هذا كله لم يكن ليطمئن فؤادها المضطرب ، أو يأخذ طريقه إلى قلبها المتوجس. لقد ظلت هواجس سوداء تندس في نفسها وتوسوس في صدرها : إن هنالك لأمراً. و إنها لا تدرى ما الأمر ، ولكنها تحس أنه شيء آخر غير الذين يقولون !!!

وعندما غادرت القافلة حدود المدينة وجد الملك نفسه يعرج على الغابة دون قصد. فيتبعه حور مشيراً إلى سائقي القافلة أن ينتطروهما عند العدوة الأخرى، والملك في شبه ذهول عما يجرى خلفه من أمور

وسار التاجران تحملهما بغلتان فارهتان يجوسان خلال الغابة، ويطوفان بمنعرجاتها، و يتدسسان في منحنياتها… وفجأة ينتبه الملك من ذهوله، فيلتفت إلى تابعه ليقول : — ما هذا الذي نصنع يا حور ؟ لماذا نجوس خلال الغابة كالمشردين ؟ ألم ترحل ساسو عن الغابة ؟ فلماذا نضيع الوقت في هذا التجوال السخيف ؟ !

وصمت حور برهة لا يدرى كيف يجيب. ثم تمتم : — لقد رأيتك يا مولاى تسير، فأشفقت أن أتركك وحدك، فسرت خلفك، لأحرسك وأفديك !

قال الملك :

رعاك الإله يا حور. ما أشد إخلاصك وما أحسن أدبك. عد بنا إلى الخارج. وأين القافلة ؟

قال :

هي تدور بالغابة لتنتظرنا هناك على عدوة الطريق :

عدوة الطريق !… وكأنما فوجئ الملك بهذه الكلمة ! فما الطريق ؟ ما الطريق التي انتوى أن يسلكها ؟ إلى الشمال أم إلى الجنوب ؟ إلى الشرق أم إلى الغرب ؟ إنه لم يسأل نفسه هذا السؤال، ولم يطرحه عليه أحد وهو في هذه الحال. فما كان في موقف يسمح لأحد أن يسأله : إلى أين ؟

إنه يريد الحورية الهاربة، تلك التي مرت كالحلم في حياته ثم أدركه الصحو فلم يجد أثراً لطيفها الجميل. يريد هذه النجمة التي لاحت له فحسبها ملك يديه، ثم إذا هي تبعد في الأفق حتى تغيب، وتتركه قائماً في مكانه لا يدرى كيف يذهب، ولا أين الطريق ؟

أين الطريق ؟

وأين ذهبت هي ليدري ما الطريق ؟ شرقت أم غربت، وانحدرت إلى الشمال أم أصعدت في الجنوب ؟

ثم التفت إلى حور :

أو لم يقل لك أحد أين توجهت : إلى الشمال أم إلى الجنوب ؟

ونكس حور بصره وهو يقول :

أبصر بها وهي ترحل، فلم أعثر على أحد يعلم عنها شيئا… ولكن شيخاً كبيراً في السن قال : إنه يظن أنهم قد اتجهوا إلى الشمال لأن آثاراً في الرمال تتجه إلى هناك… ولكن هذا كله حدس وتخمين !

إلى الشمال. إذن هيا بنا إلى الشمال. فإن قلبي وحده دليل. ثم تنهد وهو يقول

إن قلبي يا حور ليشم رائحتها كما تشم القطاريح الماء من بعد سحيق إلى الشمال ؟ هيا بنا إلى الشمال. هيا بنا قبل فوات الأوان… وانطلق كالمحموم !

و بينما كان الملك والقافلة معه تجوب دروب الصحراء ومسالكها المطروقة، كان العجوزان والفتاة يقطعان الدروب الخفية ويتنكبان الطرق المألوفة، حتى بعدت الشقة بين الركبين، ولم يعد ثمة مجال لالتقاء

وصمتت ساسو طوال الرحلة الكتيبة، وخبا في عينيها ذلك البريق الذي خطف قلب الملك، وشاخت الدورة التي كانت تتنزى في كيانها كله، وخير على نفسها اليأس والظلام، وأحست أن حياتها لا تساوي أن تعاش، بل أحست بالعطب يدب إلى كيانها كله ، كالثمرة الناضجة التي لا تجد من يقطفها في اللحظة المناسبة ، فتعطب و يدب إليها الفساد.

فلما استقر بها وبأبويها المقام في النهاية على مرعى من مراعى الصحراء المتناثرة ، بجانب خيام لبعض الأعراب هناك ، عرفت نهاية المطاف ، وآوت إلى صمت كئيب مخيف ، لم تفلح العجوز الثرثارة أن تخرج فتاتها منه إلا إلى نحيب مؤلم ، و إلى تأفف ثائر ، لا تلبث الفتاة ان تهرب على إثره من وجه العجوز البائسة لتخلو إلى الهم المطبق المقيم

واتصلت العلاقات – بعد قليل – بين الشيخين والأعراب. المقيمين حول المرعى. ولفتت ساسو الجميلة نظر شاب من الأعراب الضار بين في الخيام ، فتن بها قلبه منذ النظرة الأولى، ولكن طابع الحزن القاتم حز في قلبه ، فآلى على نفسه إلا أن يضم هذه الفتاة الحزينة إليه ، لملأ حياتها بهجة وحبوراً.

وحدث أبويه بما يجول في نفسه – وأبوه شيخ القبيلة – فوافقاه ، وتقدما يخطبان ساسو من أبو بيها. ولما كان الشيخ يدرك أمر الفتاة كله ، فقد أشفق أن يجيب ، ولكنه كان محرجاً فهو نزيل في جوار شيخ القبيلة ، ولن يأمن رده خائباً بعد ما أسلف إليه من جميل… عندئذ نفض يده من المسألة وأحالها على زوجه وابنتها

وراحت الأم تتلطف في نقل الخبر إلى الفتاة، وتثنى على الفتى الذي يتقدم لخطبتها خطبة الشرفاء. و… و… وما سمعت الفتاة خلاصة الحديث حتى أحست لأول مرة بعد الرحلة المشئومة أنها تملك لسانها، فاندفعت ثائرة كاللبؤة الجريح، ترفض وترفض وترفض، وتنحى على الأم والأب بلا ترفق ولا تحرج وتسب الرحلة المشئومة التي ساقتها إلى هذا المكان، وتعلن في تأكيد قاطع أنها لن تكون لأحد من الأناسي، وإذا لم يكن بد من أن تكون لأحد، فلتكن لوحوش الفلاة أو كواسر الجو أو دود التراب !

وانطوت على نفسها بعد الثورة الجامحة، وراحت تنشج نشيجاً متواصلا، وجسمها كله يرتجف و يهتز، والعجوز البائسة تنسى ثورة الفتاة وجموحها لتضمها إليها ضما رفيقاً، تسكن جأشها، وتهدىء روعها، وتعدها في حنان بالغ أنها ان تجبر على شيء، وأنها طليقة من كل ضغط، فتهدأ الفتاة رويداً رويداً، وترقأ دموعها المنهلة، و يسكن جسدها المضطرب، ويأخذها النوم في حجر أمها فتنام !

فأما الشيخ وضيفه فقد سمعوا، سمعوا كل شيء ؛ فما كان الخباء الرقيق ليحجب حرفاً ولا نبرة مما دار بين الأم والفتاة، فنظر بعضهم إلى بعض، ثم هم الضيوف بالانصراف معذرين للشيخ الفاني، وإن لم تسترح ضمائرهم لهذا الجموح من فتاة !

وأما الملك الشاب فقد انطلق في الأيام الأولى مؤملا راجياً في قلق واضطراب. فلما انقضت الأيام وطال عليه الأمد وكثر تطوافه بالصحراء وارتداده الريف، يراوح بينهما لتبيع القافلة بعض ما تحمل من بضاعة، وتستعيض عما ينقص من الزاد والماء في الرحلة الطويلة… عندئذ أخذ اليأس يدب إِلى نفسه وهو يطرده فيلح عليه، وكلما امتدت الرحلة نضب معين الرجاء، وحل مكانه في قلبه ذلك الجدب المقفر الموات.

وطال الحال. وانقضت ستة أشهر طويلة مملة. فخبا في نفسه كل بريق، وانطمس في قلبه كل رجاء. ولكنه كان منساقاً إلى البحث والتجوال، لا يدرك ما أصاب رجاله من الإعياء، وما أصابه هو نفسه من البلى. لقد كان يجف كما يجف العود، يجف بدنه و يجف قلبه، وتدب الشيخوخة الباكرة إلى كيانه وهو لا يدرى. لقد أصبح قطعة ميتة من هذه الصحراء الجاثية الجرداء… !

وفي ليلة من الليالي وقد طلع القمر على الصحراء الوسيعة الفسيحة، طافت بنفسه الذكرى : ذكرى الليلة الأولى التي أشرف فيها على الغابة من شرفة القصر، فنسى نفسه يومها ونسى القصر والملك، وأحس أنه هنالك في الغابة يسير والحورية الفاتنة ترافقه، والقمر وحده يشهد جولتهما في قبة السماء

وتنهد في جوف الليل بحرقة حتى لكاد صدره أن ينشق، وأخذ ينشج نشيجاً حاراً متواصلا، والصمت من حوله مطبق والقمر وحده يشهد في صفحة السماء

هنا أحس حور بشهقة الملك فانتفض مستيقظا، وتقدم إلى الملك، ناسياً جميع ما بينهما من فوارق. تقدم إليه كما يتقدم الصديق للصديق، يعطف عليه ويواسيه. واتصل قلب الملك بقلب تابعه الأمين، فأخذ يبثه لواعج نفسه في إسهاب، و بلا كلفة ولا احتياط.

واقترح حور أن يقوما بجولة وحدها في هذه القمراء، أمل السير والسمر يفرجان عن نفس الملك الحزينة، فما كان أسرع ما لبى الملك الاقتراح. وسارا على هيئة واتناد، وأخذها الحديث الطويل، والقمر المنير.

لقد كان الملك يقص على حور قصة حبه جميعاً. وكان يصف له كل خاطرة وكل انفعال. وكان يستعرض معه اللحظات القصار التي مرت عليه في حبه، وكأنما هي دهور طوال لفرط ما ازدحمت بالأحاسيس واللفتات والملاحظات والانفعالات.

وما كان حور لينطق بشيء إلا أن يجيب على سؤال ملهوف من الملك : ترى نلقاها كرة أخرى ؟ فيتكلف الرجاء والثقة، و يجيب في توكيد وتشديد : لا بد. لا بد يامولاي… ! وهنا تتفتح للملك أبواب الرجاء على مصاريعها، وكأنما هذه الكلمات التي ينطقها حور تعاويذ سحرية تفتح له أبواب الرجاء !

وأوشك الصبح أن يشرق، فانتبه العاشق المسحور ورفيقه المبهور، وعاما على حين بغتة، أنهما قد أبعدا في الصحراء، الصحراء الجبارة التي يتوه فيها الدليل. وانتفضا كمن يبغت بالخطر، و إن لم يعلما بالضبط أنهما قد أوغلا في التيه

وحينها راحا يتحسسان آثار أقدامهما ليعودا أدراجهما كانت الريح قد عفت على هذه الآثار، وكان أمامهما أن يضربا في الصحراء على غير هدى، يلتمسان العودة إلى محط القافلة على غير جدوى… !

وانقضى اليوم الأول في بحث مضن بين الرمضاء في الصحراء والفزع المستولى على الخاطر، واليأس من الاهتداء للقافلة في التيه، واليأس الأكبر من الأمل الأكبر، والعطش الذي يجفف البدن ويشوى الأعضاء.

وتحنن الله عليهما في اليوم الثاني فإذا سحابة تظلل الشمس، وما تلبث أن تمطر، فيوجد الماء. الماء العزيز الثمين. وحينها يعبان وبرتو يان يعاودها الأمل في الحياة، و ينفتح لها باب الرجاء. و بعد قليل يستشرفان قافلة عن بعد، فيتحاملان على أنفسهما ويجريان إليها هاتفين بأعلى ما تصل إليه أصواتهما. ويجدان عند القافلة شيئاً من الزاد كما يجدان ما هو أعظم : يجدان الهداية إلى الطريق، فلقد مرت القافلة بالقوم يبحثون عن رجليهما الغائبين، فهي تدلها على أقرب طريق إلى قومهما، وتزودها بالقليل من الزاد والماء، فينطلقان على هدى حتى يصلا في نهاية اليوم، وقد أوشك القوم على اليأس من عودتهما سالمين.

هنا يجد حور من الشجاعة ما يسأل به الملك : أو ليس من الخير أن يعودوا إلى مملكتهم بعد ستة أشهر طوال في التجوال، ويدعا الأمر للمقادير، فقد توفقهما إلى ما يريدان من أقصر الطرق، إن كانت قد قدرت في حسابها اللقاء ؟ !

و يقول الملك : الحق معك ياحور. لقد أتعبتك وأتعبت رجالك، فامضوا أنتم إلى هناك في رعاية الإله، ودعوني هنا وحدى، فما عاد لك في خير، ولا عاد لي في نفسي أمل. فإما ، اهتديت إلى من أريد، وإما أكلتني وحوش البرية، أو أهلكني الجوع والعطش، فأستريح من هذا العذاب الذي أقاسيه !

ويأبى حور على الملك، ويظل يتلطف معه أياما وليالي، و يحدثه بالعبر، ويقص عليه من السير، و يعرض له حوادث الفرج بعد الضيق، واللقاء من أقرب طريق، حتى يلين جماح الملك، فيقبل العودة، لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً.

وكرت القافلة عائدة، وكلما خطت خطوة إلى الأمام تلفتت عين االك وقلبه، وأحس بالهزيمة والانكسار. لقد كانت عودة القافلة عودة الجيش الهزيم المنكسر يجلله الخزى واليأس، وكانت الجمال قد هزنت كالرجال، فكان يخيم على الجميع جو من الهمود والوحشة والكلال.

وأيقن الملك أن الحلم المشرق البهيج الذي لاح له في حياته فترة قصيرة قد مضى وانطوى، وأن « ساسو » الجميلة ليست سوى طيف عابر أشعل قلبه وهز روحه، ثم ارتد عائداً إلى المجهول ؛ فأحس أنه لم تعد له صلة بهذا الكون الغريب، ولا علاقة بهذه الدنيا الموحشة ؛ أحس أنه من عالم آخر لا علاقة له بهذا العالم المحسوس. من العالم الذي لاح له فيه ذلك الطيف العابر ثم غاب.

وفكر مرة ومرة والقافلة تقرب من المدينة أن يعود على عقبيه، أو أن ينفلت متخفياً فيهم في الصحراء التي تمتد إلى آفاق غير محدودة، تشبه التيه الذي تهيم فيه روحه، بما فيه من وحشة وظلام ولكنه كان يجد نفسه منساقاً مع القافلة، لأنه لم تعد له العزيمة التي تقرر التخلف والانفراد.

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

***

​الليلة الرابعة​ المؤلف سيد قطب

الليلة الخامسة

فلما كانت الليلة الرابعة قالت شهرزاد :

عاد الملك يا مولاي أخيراً إلى مقر ملكه. عاد بلا قلب. عاد إنساناً آخر لا أمل له في شيء، ولا رغبه له في شيء… لقد شاخ وشاخت رغباته. فلما استقبله المشير متهللا مبتهجاً بعودته إلى ملكه وعرشه وشعبه، وعرض عليه أنه سيشيع منذ الغد نبأ شفائه، فتدق الطبول وترفع الأعلام وتقام الأفراح و..و..

أشار إليه بيده في يأس :

ـ لا داعي إلى شيء من هذا كله. فالذي عاد اليوم جسد هامد قد فارقته الحياة !

ووجم المشير الشيخ وانطمست في قلبه كل أشعة الفرح وسأل في يأس وانكسار :

ماذا إذن يامولاي ! أجاب الملك :

يبقى كل شيء على حاله، وتظل أنت في تصريف شئون الرعية. وليعلم الناس أن لي شأنا آخر يصرفني عن الملك كله وعن الناس !

قال المشير :

لن يصلح الأمر هكذا يا مولاي. فالشعب لن يفهم هذه الألغاز، ولن يصبر طويلا على هذه الحال !

قال الملك

إذن تصرف في الأمر كما تشاء وآوى إلى مخدعه الذي فارقه منذ زمان. دون أن يعلم أحد شيئا. وذلك بحكمة الشيخ الرزين.

لم تعد للملك حياة. لقد كان محقاً فيما قال. لقد عاد جسداً هامداً فارقته الحياة. عادوا لهم يجثم على صدره فيتراخي و بهمد ولا يحاول المقاومة. وعجز « حور » كما عجز المشير الشيخ أن يجدا لداء الملك علاجا، وسقم جسمه، وهذه المرض ستة أشهر طوال. إلا أن خاطراً مضيئاً قد التمع ذات يوم في نفس حور… فإذا هو يقترح على الملك أن يخرج للرياضة في الغابة، فقد تعاوده الصحة ومن يدرى. فقد يتراءى خيط من رجاء !

وكأنما كان الملك يسمع وحيا من السماء، فانتفض نشيطاً وأبرقت أساريره للخاطر الجديد. ولم تكن إلا لحظات حتى أعلن في أرجاء القصر، وفي أرجاء المملكة، أن الله قد من على الملك بالشفاء، وأنه في دور النقاهة، وقد نصح له الأطباء بالتحول في الغابة ليستنشق هواءها المعطر، حتى تكمل له عافيته بإذن الإله ! واجتمع الشعب في الساحة الواسعة، وقد استخفه النبأ بعد الانتظار الطويل، وتهيأ الملك وتابعه للخروج، وقد كاد ينتصف النهار، في الوقت الذي جاء فيه رسول الأميرة الشابة المعذبة يعلن عن رغبتها في مقابلة الملك بعد طول الاحتجاب، وشوقها الذي لايوصف بعد الغياب… وكاد يفسد التدبير كله، فما كاد يسمع باسم الأميرة حتى تمثلت له القصة كلها، وحتى ثارت كوامن أشجانه جميعاً. لولا أن تلطف حور مع الملك حتى ينفذ رياضته، وتلطف المشير مع رسول الأميرة لتؤجل الزيارة إلى أن يتم للمليك الشفاء

ولما خرج الملك من القصر دوت الساحة كلها بالهتاف الحار والدعاء الخالص، وارتجت جوانب المدينة بالحركة، وانطلقت الألسنة بالحديث. وكان يوما مشهوداً في حياة المملكة، وظل الهتاف يدوى والملك في الطريق

ولما قرب من الغابة هجمت عليه الذكريات، وخفت صوت الجماهير في أذنه، وارتفع صوت واحد محبب جميل، يتسلل إلى أذنه، كأنما ينبعث من سماء بعيدة، ومن وراء الغيب السحيق : — نعم. هي أغنامي. وأنا أرعاها لأن والدي عجوزان… إن لنا كوخاً على حافة الغابة… وظل هذا النغم المستسر العميق يتردد على سمع الملك كلما خطا خطوة وهو غائب عن الوجود، وأساريره تنفرج كما يحلم الطفل حلما وضيئا فيبسم في النوم الهنىء حتى إذا كان في مهبط الحلم الأول انتفض كالمباغت المفجوء، وانفرجت شفتاه ينادي في لهفة واجفة :

ساسو ! ساسو ! أنت هنا ياساسو ؟ ثم يرتفع صوته فجأة بنداء صارخ عنيف ممطوط، يردده الصدى في الغابة كلها : ساسو

فيرتاع حور، ويظن بعقل الملك الظنون، ويغير موقفه خلف الملك فيواجهه في شجاعة ترده إلى اليقين :

مولاى ! يحرسك الإله ! أين ساسو يا مولاى ؟ ادع الإله أن يردها عليك، إنه سميع مجيب !

و يفيق الملك، فيدركه الحياء. ثم ينظر إلى حور فيقول :

إنها هنا يا حور. قلبي يحدثنى أنها هنا… إن قلبي لا يكذبني. أشم رائحتها. أشمها في نفسي وحسى. إنها هنا بلاشك… ثم تجحظ عيناه، و يبدو في هيئة المجانين و ينطلق صالحاً :

ألم أقل لك : إنها هنا يا رفيقي. انظر ها هي ذي ساسو. ها هي ذي ساسو. ساسو. ساسو. أنت هنا. أنت هنا., ,

و يقذف بنفسه عن ظهر الفرس، ثم يعدو كالمجنون !

و ينظر حور إلى حيث ينطلق الملك، و يسمع من حيث صار الملك. فيدركه الدوار، ويمسك رأسه بيديه من الدهش. إنها ساسو حقيقة. وهي بين أحضان الملك تغمغم : « وأنت هنا أيها الفارس الجميل ». ثم يغيبان عن الوجود !

كان الشيخان قد رحلا عن المكان بساسو فما عاد لها عند شيخ القبيلة جوار… وكان الهم الذي ركب ساسو يحز في نفسيهما فيدركان يوماً بعد يوم أنهما قاتلان ، وهما يريانها تذبل في كل يوم وتذوى ، وتنطفىء شعلة الحياة في كيانها الجميل

وثقل الهم والشيخوخة على الوالد ففارق الحياة، وترك العب كله على عاتق العجوز فلم تطقه طويلا، وآثرت أن تترك ساسو وحيدة في هذا العالم ، وتذهب إلى العالم الآخر بعد طول النصب والإعياء

ونظرت ساسو فإذا هي وحيدة في الصحراء. فخطر لها في ساعة من ساعات الضعف أن ترتد إلى خباء شيخ القبيلة تعرض نفسها على فتاه.. ولكن العزة أدركتها. بل أدركها رجاء آخر. رجاء جنوني ، ولكن الحب يزينه و يقرب آماده.

أما إنها لتعودن" إلى الغابة. فستجد الفارس الجميل هناك !

تعود إلى الغابة ! وأنى لها أن تعود ؟ تعود وبينها وبين الغابة تلك المفاوز والمهالك ، وهي فتاة وحيدة لا علم لها بالطريق ولا معين لها في الأسفار ؟

ولكن الحب لا يعرف المستحيل. وإنها لتسير وتسير. فهى تعلم أن الوادي في الغرب، فلتكن الشمس هي الدليل. وكاد أن يدركها العطب مرات، ولكنها كانت تنجو. فلما بلغت الوادي كانت قد استحالت صفراء غبراء هزيلة، وهي في روق الشباب.

وهوت إليها الأفئدة، فوجدت طريقها في مركب إلى مملكة تاسو… ووجدت قدميها تقودانها إلى الغابة في الصباح الباكر بعد اليأس من العودة إلى مهبط الحب الأول. ولكن ها هي ذي تصل إلى الغابة فلا تجد الفارس الجميل، فتنهار أحلامها وتنهد قواها، وينكشف لها الوهم عن الخيبة المرة الأليمة. وإنها لتكاد تتردى تحت تأثير الصدمة القاتلة، فتتهالك مهدودة لتنام حيث كانت يوم التقت بالفارس الجميل. وفى النوم تعتادها الرؤى البهيجة، فترى الفارس الجميل يختال بفرسه الجميل، وتسمع صوته العذب القوى النافذ يناديها، فتجرى إليه كالمجنونة… ثم تصحو فإذا هو طائر من طيور الغابة يحلق إلى بعيد وتجد في نفسها الانس والبشر بالحلم الذاهب والطائر المبتعد، وتحس طمأنينة عجيبة وشوقاً كذلك جارفاً، وتجد في كيانها نشاطاً موفوراً ونحس بحاجة شديدة ماسة إلى أن تغنى أو تبكى أو تطير !

وكانت الشمس قد ارتفعت حتى كادت تستوى في كبد

السماء، والدنيا ربيع کالربيع الأول الذي اجتمعت إبانه بفتى الأحلام، والدفء المنعش يفتر الأوصال، ويشيع فيها خدراً لذيذاً أشبه بنشوة السكر اللطيف، والطبيعة كلها تتفتح كالعذراء الناضجة تداعبها أشهى الأحلام

وتطلعت الفتاة هنيهة إلى الطبيعة حولها في فتور، ثم تمطت ونشرت ذراعيها في الفضاء، ثم هبت واقفة. ونظرت كالذي يستشرف آفاقاً بعيدة، وإن كانت في الواقع لا ترى إلا الحلم الوضيء الجميل ثم مرت لحظة… ثم كان ما كان

وأدرك شهر زاد الصباح، فكنت عن الكلام المباح ==============

​الليلة الخامسة​ المؤلف سيد قطب

الليلة السادسة

فلما كانت الليلة الخامسة قالت : عاد الملك إلى قصره وقد تبدل إنسانا آخر، متهلل الجبين. متوفر القوة، جم النشاط. عاد وبرفقته الحورية التي أطلعتها في حياته الأحلام، وردتها إلى حياته الأحلام، فلم يعد يصدق إلا أنه في حلم من الأحلام.

فأما « حور » تابعه المخلص الأمين فكان يعلم من القصة كل شيء، وأما مشير الملك ورجال الحاشية فلم يكونوا قد عرفوا بعد جلية الأمر. لهذا دهشوا وهم يرون الملك عائداً وقد أردف خلفه فتاة من الرعاة !… أتكون هي الصيد الذي خرج الملك إلى الغابة يبغيه ؟ !

لقد عقدت الدهشة ألسنتهم جميعاً، وزادت دهشتهم حينها رأوا ملكهم يترجل ليمد يده إلى فتاة الغابة، فيساعدها على النزول و إن لم تكن في حاجة إلى المساعدة، فقد انفلتت عن ظهر الفرس كالظبى النافر، و إن كانت ما تزال تبدو عليها آثار التعب والهزال وكانت الكلمة الأولى التي فاه بها الملك للمشير، والدنيا لا تكاد أن تسعه من الفرح الجارف المتوثب في حركاته ونبراته :

لقد وجدتها أخيراً. لقد وجدت الحياة !

ثم أشار إلى حور إشارة خاصة فهم منها كل ما يعنيه. ولم تمض لحظات حتى كانت فتاة الغابة في الحرم، في طريقها إلى الحمام، تتهيأ للحياة التي نسجتها من خيوط الأحلام.

ولم يبد على المشير الشيخ أنه يفهم شيئاً من هذه الألغاز، ولكن الكثيرين من رجال الحاشية فهموا كل شيء، وصدقوا ظنونهم التي نبتت في أذهانهم منذ اليوم الأول، فأدركوا قصة الملك جميعاً.

وقال المشير :

لم أكد أفهم شيئا يا مولاي !

فوجد الملك في نفسه من الخفة والنشاط والمرح ما يطوق به الشيخ الوقور، وهو يقهقه في صوت عال، ثم يقول :

لم تكدتفهم لأن قلبك لم يعد قادراً على الإيحاء إليك يا عزيزي الشيخ، تعال أقص عليك النبأ بالتفصيل..

وانزوى الملك بالمشير في جناح خاص. وترك رجال الحاشية يلغطون ويتعجبون.

وفى الصباح كان المنادي ينادي في أرجاء المدينة يحمل البشرى بتمام شفاء الملك، ويعلن إليه إقامة الأفراح والزينات ابتهاجا بهذا الشفاء، وابتهاجاً بزواج الملك، فستزف إليه الفتاة التي ردت عليه الحياة، وعلى يديها كان الشفاء..

وتسامع الناس بالنبأ العجيب، فتزاحموا حول المنادى يسمعونه مرة ومرة، وهم لا يصدقون ما يسمعون..

إذن لن تكون الأميرة هي العروس، و إذن ستكون فتاة ۶۶ الغابة – كما أسموها – هي الأميرة الجديدة . . . وانطلقوا - - يتحزبون ويتجادلون و يثرثرون : فأما فريق منهم فمتذمر لهذا الانقلاب الذي يقصى الأميرة الأصيلة بعد طول انتظار ، ليحل محلها فتاة من الغابة لا يدرى أحد شيء عن أصلها ونشأتها ، ولا تتطلع طبعاً إلى أن تصبح سيدة القصر وربة التاج . . . ومن هذا الفريق فتيات المدينة ونساؤها جميعاً ! وأما فريق آخر فمستبشر مهلل بهذا الانقلاب ، وفي صميم نفسه شعور غامض بأن هذا تصرف إلهى يرفع من مقام الشعب ، ويزيل الفوارق بينه و بين أكبر الرءوس في البلاد ! و باتت المدينة تلغط وتثرثر بمثل هذه الأحاديث ، يرتفع الجدل تارة و ينخفض أخرى، ويكاد أن يصل في بعض الأحيان إلى التصادم والشجار ، لولا أن يبرز عاقل أو عاقلة فيرد الأمر إلى الهدوء والاعتدال . وكثرت الفروض، وتعددت التأويلات ، وانتشرت القصص والأساطير ، حول الحادث الخطير : زعم فريق أن الكهنة والعرافين كانوا قد تنبأوا الملك الراحل TY بكل ما سيكون من شأن وليده الملك الحاضر في يوم ميلاده . وكانت النبوءة توحي بهذا الذي وقع ، الخطب له الأميرة الصغيرة ليتقى تحقيق النبوءة ، ولكن المقدر المسطور ، لا بد أن يقع حتى داخل القصور ! وزعم فريق أن الأميرة كانت قد قسمت على امرأة عجوز فقيرة رأتها تلوذ بطنف القصر من الوابل المنهمر ، فأمرت بإبعادها عن القصر ، حتى لا تشوهه بمنظرها القذر ! وزعم فريق أن فتاة الغابة إن هي إلا إحدى الحوريات ، عشقت الأمير الشاب وهامت به ، فجعلت تتراءى له في الأحلام حتى هام بها في الصحاري والوديان ، ومرض بحبها ذلك المرض العضال ، ثم تجسمت له أخيراً في صورة فتاة الغابة . ولا أحد يدرى كيف تسير الأحوال ! و بينما كانت الأساطير والأقاويل تملأ حياة الشعب وتعمر مجالسه ، كانت هناك مخلوقة أخرى تكاد تجن مما يقال . كانت الأميرة « تيتى » قد سمعت في قصرها نداء المنادي ، فلم تصدق أذنيها أول مرة ، فأصفت له ثانية وثالثة حتى ابتعد ، فأرسلت وراءه إحدى جوار بها تتأكد 74 وغابت الجارية قليلا والأميرة في شبه حمى ، فلما عادت توجهت إليها الأميرة ملهوفة تسألها عما سمعت كأنها لم تسمع به أول مرة ، فأخذت الجارية تروى لها وهي تلهث ماسمعته من المنادى ، وما اقتطفته من تعليقات الجماهير . و بينما هي ماضية في السرد المتقطع اللاهث ، تقدمت منها الأميرة في غضب هائج ، وأمسكت بكتفيها في عنف ، وهزتهما في ثورة ، وصرخت فيها تقول : - ويحك ! ماذا تقولين يا شقية ! فارتعدت الجارية من الخوف ، والعقد لسانها من الذعر ، فدفعتها الأميرة في عنف ، وانطلقت إلى النافذة تتسمع أصداء المنادي من بعيد فلما ابتعد الصوت والصدى عادت فألقت بنفسها على فراشها مهدمة ، وراحت تنشج نشيجاً متقطعاً مكتوماً لاهثا . ولم تجرؤ الوصيفات على الاقتراب منها إلا بعد فترة طويلة، قالت إحداهن: - يا مولاتي . يجب أن نبعث برسول إلى سراى مولاى يتأكد و يأتينا بصحيح الأخبار . وهنا اعتدلت الأميرة ، وكأنما فتح لها باب الرجاء ، ولكن في هذه اللحظة أدركتها الكبرياء . . - . قالت : - أن أرسل أحداً ولن أتأكد من شيء ! قالت الوصيفة : - إذا أذنت مولاني ، ف...أنتونى أنا الأمر ، ولن يعلم أحد أن الأميرة بعثت تستفسر فوجدت الأميرة راحة لهذا الحل، ومنقذا من الغضاضة المرة التي تحسها ، ومنفذاً للقلق الجامح الذي يستبد بها . فقالت للوصيفة : لا شأن لي بشيء ، فأنت وما تريدين ! ، وانطلقت الرسل شتى تتحسس الأمر من قريب ومن بعيد ، ثم عادت إلى قصر الأميرة بالخبر الأكيد : لقد انتهى الأمر . فالعروس تجلى ، والزفاف في الغد ، وقد عجز المشير كما عجز رجال الحاشية عن تحويل الملك عما يريد ، حتى اضطر المشير الشيخ . إلى اعتزال منصبه ، فتولاه « حور » ، أحب رجل في المملكة إلى قلب الملك ، وموضع سره فيما خفى من الأمور ودق . ماه وعلمت الأميرة قصة الملك جميعا ، فلم يعد خافيا على أحد شيء من تفصيلاتها ، ولم يعد أحد يملك للأمور رداً ، بعد ما انتهت إلى قرار حاسم لا رجعة فيه . . - - -- 79 . ۲۰ ومضت الساعات الباقية من النهار، والأميرة في اضطراب، تحاول إخفاءه، وفي حركة حائرة لاتستقر ولا تهدأ ، ولا تتجه بها وجهة معلومة . وأقبل الليل يمشى وئيدا كالحاً رهيبا ، فانفردت الأميرة في حجرتها ، وأقصت عنها الوصيفات والجواري ، كأنما تفر من مواجهتهن وهي هزيمة كسيرة . . . و بدا لها أن الفلك قد كف عن الدوران ، وأن الليل قد جثم في مريضه ، يتطلع إليها بألف عين وعين ، ويغمز لها غمزات السخرية والنكاية والإذلال . . . وأحست بالحمى تتمشى في مفاصلها ، وتصعد إلى رأسها فيفور ، وشعرت بأن شعرها يتناثر و يقف ، فضغطت رأسها بكلتا يديها ، وقامت متفزعة تذرع الغرفة الواسعة في شبه جنون . وظلت هكذا تروح وتجيء ، وأفكارها مشتقة كخطواتها لاتستقر على وضع ، ولا تركن إلى فكرة ، حتى أحست بالإعياء فاستلقت مرة أخرى في كلال وكا" فما أدركها النوم ، فاذاهى ترى فيها يرى النائم أنها مع ابن عمها الشاب في خلوة رائقة ، والقمر يطل عليهما من النافذة . و بينما ها كذلك إذا بفراشة صغيرة ترفرف في الفضاء ثم تقرب ۷۱ من النافذة المفتوحة ، فيتوجه إليها نظر الشاب . . . ثم إذا هي تكبر وتكبر حتى تصير في حجم النسر الكبير . و إذا هي تطوق الملك ، ثم تنطلق به من النافذة في الفضاء ، والأميرة تحاول أن تلحق بهما فلا تستطيع . و إذا هي تصرخ مستغيثة . ثم تفتح عينيها فإذا الوصيفات من حولها ، و إذا نور الفجر يوصوص من الشباك ! وصحت الأميرة مكدودة لتستقبل الصبح الميت ، فإذا الكون كله في نظرها قدمات ، و إذا هي تحس أن ما يفصلها عن الأمس آباد و آباد ، وأن الماضي بعيد بعيد ، وأن الدنيا من حولها شيء غريب ، وأنه لاتربطها صلة بكل هذا الوجود . وقالت إحدى الوصيفات : ـ ألا تأمر مولاتي باستشارة إحدى العرافات ؟ وأضاء هـذا الخاطر المفاجىء قلب الأميرة ، فشع في عينيها الرجاء ، وأمرت إحدى الجواري أن تنطلق إلى عرافة شهيرة بالمدينة . . . وماهي إلا ساعة حتى كانت في حضرة الأميرة : . وقالت لها الوصيفة بعد استقبال حافل : - إنك ستؤجرين أجرأ يغنيك العمر كله ، لو استطعت أن تكشفى لمولاتي عما سيتم في الأمر المعروف ، ولو استطعت أن ۷۲ تساعديها على استرداد حقها المسلوب . وفرشت العرافة رملها، ونفثت في خرزاتها، وتمتمت بتعويذاتها، ثم بدا عليها الأسى والاضطراب . وكانت الأميرة ووصيفاتها قد كتمن أنفاسهن في انتظار كلماتها . . . فلما طال بها الصمت ، قالت الأميرة في غضب تخفيه : مالك هكذا صامتة ؟ قولى ما ينبئك به الرمل. كائنامايكون. - قالت العرافة : - رملى يقول ياأميرة . إن الأمور صعبة خطيرة. و إنما الساحرة الكبيرة . هي التي على علاجها قديرة . . . قالت الأميرة : -- وأين تلك الساحرة الكبيرة ؟ قالت العرافة : بين الظلام والرمال . مسكنها في هذه الجبال . فإن أردت كنت القائدة . الليلة لا تضيع الفائدة . قالت الأميرة : -- ـ أنا تحت أمرك فاصنعى ماتريدين ! وقبل أن تتوارى الشمس كانت امرأتان ترتديان لباس الرعاة وتمتطيان حمارين وتنطلقان من باب المدينة المواجه للصحراء ، قبل أن تغرب الشمس فتغلق الأبواب ، ولا يسمح الحراس لأحد بالدخول أو الخروج ، حتى تطلع الشمس من جديد . ووجدت الأميرة في نفسها شيئاً من التردد ، ولكن نظرة منها إلى الزينات التي كادت تتم ، والأنوار التي بدأت توقد ، بعثت في جسمها هزة، وفى نفسها ثورة ، وملأت قلبها بالغيظ الفائر، والحقد الثائر، والنقمة تود لو تصبها على كل ما في المدينة . فاندفعت بلا تردد . وانطلقت العرافة والأميرة تجدان السير حتى اجتازتا حدود الوادي، فخرجتا إلى الفضاء العريض في الصحراء ؛ ولم يكن القمر قد بزغ بعد ، فأحست الأميرة بقشعريرة الخوف من الظلام الضارب على الآفاق ، وهمت أن تكر عائدة إلى المدينة لولا أن عاودتها صورة الزينات والأنوار ، وخيالات الملك والفتاة ، قمار الدم في عروقها وامتلأت عزيمة و إقداماً ، ولم يكن همها في هذه اللحظة أن تحول دون هذا الزواج فحسب ، بل ودت لو تحرق غريمتها ولو حرقت حبيبها أيضاً ولم يلبث القمر أن أطل على الصحراء المترامية الأطراف ، فغمرها بضوئه الفضى الشفيف ، وخيم على الكون كله ذلك ٧٤ الصمت الساحر الذي يبسطه القمر على الأكوان ، فسبحت الأميرة في أحلام غامضة ، لا تتبين فيها إلا أطيافا متراقصة مبهمة السمات ؛ ولم يكن هناك صوت ولا نأمة إلا وقع حوافر الحمارين في الرمال، ومالبث هذا الوقع أن غمره السكون الشامل ، فإذا هو نغمة رتيبة منسجمة في موسيقى الضوء والعضاء ، فهدأت فورة نفسها ، وغمرها شهور هاديء ، وبعدت عن خيالها صورة المدينة ، وغابت في الرؤى الغامضة التي تتراءى ولاتبين و بعد مسيرة ساعتين أدرك الأميرة التعب من مركبها الذي لم تعتده ، فهمت أن تسأل العرافة : إلى متى نحن نسير ؟ ولكن هذه فتحت فمها لأول مرة تقول : - ترجلي يا مولاتى فقد دخلنا وادى الشياطين . وقف شعر الأميرة وهي تسمع هذه الكلمات المرعبة ، وهمت أن تصرخ ، لولا أن أشارت إليها العرافة قائلة : حذار أن تفسدي كل شيء، وأن تهلكينا جميعاً . وترجلت الأميرة كما صنعت العرافة التي قيدت الحمار ين ، وربطتهما إلى صخرة ثانئة ، ثم أخذت بيد الأميرة تقودها في ان شعب ضيق ، لايكاد يتسع لها في المسير .. Yo وظلت العرافة تتمتم بكلمات غير مفهومة ، وتشير بيديها إشارات غريبة ، والأميرة صامتة قد استسلمت للقدر ، بعد أن لم يعد يجدي الحذر . و بعد مسيرة نحو نصف ساعة على الأقدام ، لاح للأميرة كهف في نهاية الطريق الضيق ، فالتفتت إلى العرافة تستفهم ، فأشارت إليها بأنه كهف الساحرة ومن معها من المردة والجان، وهم رفقاؤها في ذلك المكان ! فارتجف كيانها كله ، وتسمرت في مكانها لا تبرح . ولكن العرافة دفعتها إلى الأمام مشجعة بأنها قد تلت من التعاويذ والرقى ما يضمن لها السلامة . م و بعد خطوات كانتا على باب الكهف الضيق المظلم حيث لا يدخله ضوء القمر ، ونظرت الأميرة فرأت على ضوء مجمرة في وسط الكهف ، شبحاً يتحرك مكانه حركة خفيفة ، وهمست العرافة في أذنها : اتبعينى ولاتخافى وسارت الأميرة محنية الظهر خلف العرافة كيلا يصطدم رأسها بالصخر في سقف الكهف ، فلما صارتا أمام الشبح ، نظرت الأميرة فإذا عجوز معروقة الوجه ، ضامرة الخدين ، ناتئة الصدغين ، غائرة العينين ، منتكثة الشعر ، مخيفة النظرات ، كأنها إحدى الجنيات YT فارتجفت الأميرة ، ولكن العرافة تقدمت فجئت على ركبتيها ، وأخذت بطرف الثوب الخلق الذي ترتديه الساحرة فلثمته ، ثم أخذت من التراب الذي تحت قدميها وحثت منه على رأسها ، وأشارت إلى الأميرة أن تصنع صنيعها ، ففعلت وهي مأخوذة . ولما أتمت العرافة هذه المراسيم تناولت صرة كانت قد تسلمتها من الأميرة ، فدستها تحت الفروة التي تجلس عليها الساحرة ، وقالت : قطعنا السهل والجبل . إليك في الأمر الجلل . فقالت الساحرة : فات الأوان . فانتظرى دورة الزمان . . . ! ثم أشارت إليهما بالجلوس ، فجلستا على الأرض والمجمرة بينهما يفوح منها البخور ، وهى لاتكف عن التمتمة إلا ريثما تردد هذه الألفاظ المعدودة : فات الأوان ، فانتظرى دورة الزمان ! ولما فرغت من التمتمة نظرت إلى الأميرة وقالت : ستكونين منذ الليلة شريكتي في الدار . فما عاد لك في المدينة قرار . وفي حشاك الحقد والبغضاء . تحرق سكان الأرض والسماء . ولكن فات الأوان . فانتظرى دورة الزمان . وصمتت كأنما هذا فصل الخطاب ! ا وارتج كيان الأميرة كله ، وجحظت عيناها من الفزع وتحرك لسانها في اضطراب ولكني أريد ألا يتم هذا الزواج . قالت الساحرة : _ نفذ المقدور . ووقع المحذور . وفات الأوان . فانتظرى - - - دورة الزمان . قالت الأميرة – وقد فارقها الفزع والخوف ، وغلا في صدرها الحقد والغيظ : أقول لك : أريد أن لا يتم هذا الزواج . أريد الانتقام من غرينتى . بل أريد الانتقام منه . بل أريد تحطيم المدينة على من فيها ! قالت الساحرة : - لن يقف في طريقه شيء . فقد انتهى كل شيء قالت الأميرة . وهي تجز على أسنانها من الغيظ والحقد والمرارة - - ولكن . . ۷۷ . قالت الساحرة : - ليس هناك لكن، فلم تعد تدفع لكن.. انظرى واقرني . . . VA و دست يدها في شق في الصخر ، فتناولت ورقة بردى ملفوفة يعلوها التراب وفضتها ! ثم قربتها من عينى الأميرة ، فتطاعت إليها هنيهة ، ثم ردتها إليها وهى تقول - تلك خطوط ورموز ، ولا علم لى بالخطوط والرموز قالت الساحرة : إذن فاسمعى وأنصتى، و إذا عرفت فاسكتى: - « يتزوج الملك تاسو ، من فتاة الغابة ساسو . أما الخطيبة الأميرة ، فترتد ساحرة شريرة ، تسكن الصخر والرمال ، بين السماء والجبال . فإذا آن الأوان ، وتعين الزمان . جاءت إليها فتاة ، في مقتبل الحياة ، عاشقة مهجورة ، كحالة الأميرة ، تطلب منها الانتقام ، في ساعة الخصام ، فينفذ المقدور ، ويقع المحذور، وتسحر المدينة ، فتشتفى الضغينة !. . . شاهت الوجوه . شاهت الوجوه . شاهت الوجوه » . و بينما كانت الأميرة تستمع والساحرة تقلو ، والبخور يتصاعد، كان وجه الأميرة بر بد شيئاً فشيئاً ، وسحنتها تنقلب قليلا قليلا ، وجسمها ينتفض انتفاضة الغيظ، وعيناها تقدحان بالحقد؛ فما أتمت الساحرة قولها ، حتى تبدلت تبدلا غريباً ، فغارت عيناها ، ونتأ صدغاها، وانتكت شعرها ، و بدا في نظراتها الشر، وتحولت من - صورة الإنسيات إلى صورة الجنيات، راحت تردد بصوت مسموع :

يتزوج الملك تاسو. من فتاة الغابة ساسو. أما الخطيبة الأميرة، فترتد ساحرة شريرة… الخ. وهى تحثو على رأسها التراب، وترقص رقصات جنونية هستيرية، في هيئة تقشعر لها الأبدان. وما هي إلا لحظة حتى امتلأ المكان بأشباح لا عد لها ولا حصر، تحثو على رأسها التراب، وترقص رقصاتها الهستيرية وتردد معها الكلمات في صوت مبحوح، يثير الرعب والفزع. فما لبثت العرافة أن خرجت راكضة، وهي تتلو التعاويذ، والشعب كله يدوى بعزيف الجان

وأدرك شهر زاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح...

=========

​الليلة السادسة​ المؤلف سيد قطب

الليلة السابعة

فلما كانت الليلة السادسة قالت شهرزاد :

و بينما كان وادي الشياطين، وكهف الساحرة، يدويان بعزيف الجان الحاد المبحوح، و برقصات الأميرة الهستيرية وخدم الساحرة العفاريت.. كانت المدينة تزخر بالزينات والأنوار والجماهير، وتنطلق في جوها الزغاريد والأغاني والأهازيج ؛ وقد نسى الشعب الأميرة وقصتها، واندمج في أفراح الملك وفتاة الغابة، ۸۰ و بخاصة بعد أن دعى الجميع إلى موائد الملك في الميادين والطرقات ، فأكلوا وشبعوا وانطلقوا يهزجون و يغنون ويرقصون . فإذا بقى من يذكر الأميرة ، فبعض النسوة والفتيات ، يذكرنها بالعطف والمودة في مقابل ما يذكرن فتاة الغابة بالزراية والغيرة ! ولكن التيار يجرفهن ، فيشاركن المدينة في أفراحها العظيمة . . أما في داخل القصر فقد كان هناك قلبان يشعان بالبهجة والمرح والحبور ، ويرفان بالسعادة والنشاط والتوثب ، و يفيضان بالرجاء والثقة والتطلع ، ويخفقان بالحب والفتنة والانطلاق : قلب الملك الشاب وقلب الحورية الفاتنة . وأطل الملك من شرفة القصر على الساحة و بجانبه عروسه ، فإذا الساحة الواسعة تموج بالمشاعل والناس والزينات ، و إذا الأغاني والأهازيج والهتافات تتعالى في الجو القريب ، وتترامى أصداؤها إلى بعيد ، فتلتقى الأصداء المنبعثة من شتى الأرجاء . فأحس العروسان أن الدنيا كلها ترقص وتهزج وتغنى ، واتصل الهزج الراقص ، والنغم الصادح ، بالأهازيج والأغاني الشائعة في دمائهما وفى كيانهما كله ، فاندمجا - على البعد – في ضجة الجماهير ، وهزج الجموع ، ونبار الراقصين ، ونسيا الملك والقصر، ( - 1 | ۸۱ وأوغلا في حلم سعيد مديد . . . ثم أفاقا فارتدا من الشرفة إلى المخدع ، والأصداء المختلطة تنساب في أسماعهما، والرؤى المتراقصة تنبض في خيالها ، حتى إذا انفردا قليلا غابت الضجة ، وانطوت الأصداء ، وتفتح لها عالم أوسع وأبهج ، يرودانه وحيدين ، و يجوبانه فريدين، وتترامى بهما آفاقه إلى أبعد مما تراه الأبصار . و باتا ليلة يا مولاي ، ليست مما تصوره الأقوال ، ولكن مما يتملاه الخيال ... ثم أصبح الصباح ! ثم تلاه إمساء و إصباح . والحياة تبسم للعروسين الشابين ، والدنيا تنبض بقلب العاشقين حتى دار الفلك دورته ، وأوفى العام على تمامه ... وكانت ليلة همست فيها العروس همسة في أذن العريس ، وفي عينيها إغراء وفرح ، وفى نبرتها فتنة و إدلال . ووثب الملك وثبة ألقى فيها عن عاتقه كل أعباء الملك وتقاليده ، ليرتد بشراً خفيفاً طليقا ؛ وراح يعانقها في فرح ونشوة ، و يضمها في انفعال وقوة ، وهي ترده عنها في لطف و إغراء . . . ومنذ تلك الليلة عادت الملكة تعيش بحساب ، وتتحرك بحساب ، وأصبح القصر ينتظر البشرى ، حين تتم الأيام ، وقلبان خافقان لا يكفان عن الخفقان ! ۸۲ حتى إذا أوفت الحامل أيامها ، وحانت الساعة المنتظرة ، امتلأ القصر بالأطباء والكهنة والعرافين ، واجتمعت « الدايات » المشهورات وعلى رأسهن «داية » القصر التي تلقت الملك يوم ميلاده؛ وتجمعت الوصائف والجواري في حركة ذاهبة آيبة لإعداد المعدات للقادم الجديد . والملك في قلق يداريه ، ولكنه يبدو على الرغم مما يصل إلى سمعه من الأخبار المطمئنة عن . حالة الملكة . ولم تعان الوالدة شيئاً من شدائد الوضع ، فقد كان جسمها كله سليما ناضحاً نامياً . و إن هي إلا فترة حتى أعلن في أرجاء القصر أن أميرة ملكية قد استنشقت أول أنفاسها ، وأن الملكة الأم في أتم صحة وأحسن حال ، فانطلق البشير ينادي في أرجاء المدينة بالنبأ السعيد ، ووفد العظماء والكبراء على القصر يهنئون ويبشرون ، ومدت للشعب الموائد وذبحت الذبائح في كل مكان ، وانقلبت المدينة تهزج كما صنعت قبل عام ؛ و إن تكن المولودة بنتا وليست بالغلام ! فقد كان فرح الملك لا يوصف بصحة الأم ونجاتها ، ومن فرحه الدافق فاضت المدينة بأفراحها . وأمر الملك فاجتمع الديوان ، وجيء بالكهنة والمنجمين والعرافين ، لينظروا في طالع الأميرة الوليدة ، ويروا نجمها و برجها ، ويدلوا بما يتراءى لهم عن مستقبلها وخلا الكهنة إلى هياكلهم ، والمنجمون إلى دفاترهم ، والعرافون إلى رملهم ، ثم عادوا ليقصوا على الملك ورجال الديوان ما تنبئهم به الأفلاك والطوالع . ولكنهم عادوا يغشاهم الوجوم ، و يبدو على وجوههم التهيب . فقالوا – وكأنما يدارون شيئا – خير بإذن الإله ، وسعادة في الحياة ونجاة . وأوجس الملك في نفسه خيفة ، وأحس « حور » كبير وزرائه ومشير به أن وراء الأمر ما وراءه ، فحاول أن يشير بإمهال الكهنة والمنجمين والعرافين بضعة أيام حتى يستوثقوا – وذلك إلى أن يدبر الأمر ويعلم السر - لولا أن الملك كان في حالة عصبية ، فأمر أن يفضوا بما لديهم حالا ، وألا يخفوا من الأمر شيئاً وتقدم كبيرهم فقال : - - ... AT . = - إن الطوالع تشير بأن حياة الأميرة الوليدة ، ستكون هانئة سعيدة . ولكن يقع في حياتها حادثان . أولهما واضح ظاهر ، والآخر غامض مبهم . وليس لنا أن نقول إلا بما نعلم . فأما الحادث الأول فيقع للأميرة عند ما تنضج وتتفتح وهو مرض خطير يحار فيه الأطباء ، و يعجز عنه العرافون ، حتى A 2 . يجي من الشمال طبيب ، فيشير بالعلاج الحاسم والدواء اللازم ، ويكون فيه الشفاء بعد العناء . وأما الحادث الثاني فيعقب الحادث الأول ، ولا تعبر عنه الأرصاد والطوالع ، إلا بالرموز والإشارات ، وآخر ما تكشف لنا : أن الأميرة فيه لن تموت ، ولكنها لن تكون في الأحياء . ولا علم لنا وراء هذا الرمز والإيماء ! و بدا العجب على وجوه الجميع من هذا الكلام الغامض العجيب ، وحسب الملك أن المنجمين يخفون عنه ما يعلمونه من شر سنصیب الأميرة خوفاً وحذراً ، فقال لهم : قولوا كل شيء ولكم منى الأمان . أما إذا أصررتم على الإنكار فلكم التنكيل والعذاب الشديد وأقسم الجميع بين يدى الملك أنهم لا يعلمون شيئاً غير ما قال كبيرهم ، وأن الطوالع والنجوم لم تفصح لهم عن شيء وراء ما قرروه ، وأن الغيب غيب ، وعلمهم لا يتجاوز مدى محدوداً ، فإذا شاء الملك أن ينكل بهم فالأمر أمره ، و لكنهم لن يزيدوا شيئاً على ما قالوه ، لأنه ليس لديهم شيء لم يقولوه . وتدخل حور في الأمر فقال : ۸٥ - - يامولاى إن هم إلا راجمون بالغيب ، وقد قالوا ما بدا لهم فلندع الأمر للسماء ، تدير الأمر بما كتب وراء الغيوب . فسكت الملك ، وأشار حور على المجتمعين بالانصراف . وقد خيم على الجو رهبة وسكون . فلما انصرف الجميع ، وخلا حور إلى الملك ، حاول أن يطمئنه و يبعث إلى قلبه السكينة ، ولكنه ظل قلقاً تساوره الأفكار والخيالات ، ويحاول أن ينفذ بخياله إلى ماوراء تلك الألغاز : كيف لا تكون الأميرة ميتة ، ثم لا تكون في الأحياء ؟ إن هذا إلا حديث مجانين ، أو أن هناك أمراً يخفون ولكن مرور الأيام ، ونمو الأميرة الصغيرة ، وصحة الملكة الأم ، جعلت الملك يطمئن ، و إن جعل القلق يساوره بين الحين والحين ، فيخبط في الأوهام والظنون . ومضى الفلك - يامولاى - يدور ، والشهور تعقب الأيام ، والسنون تعقب الشهور . والأميرة الصغيرة تنمو وتترعرع كالزهرة الندية الجميلة . . . ولكن لا يؤاخيها أحد ، ولا يعقبها مولود كأنها آخر العنقود . وعبثاً ذهبت جهود الأطباء والكهنة في في علاج العقم الذي لازم الملكة ، فزاد هذا من إعزاز الأميرة ... ۸۶ الوحيدة ، وضاعف المخاوف على حياتها ، وظلت النبوءة تعاود الوالدين في خشية و إشفاق، على ما كان يبذله «حور» من محاولات شتى لبث الطمأنينة في قلب الملك . حتى بلغت الأميرة السابعة من عمرها السعيد وتفنن رجال القصر ونساؤه في رعاية الأميرة ، وإحاطتها بالمباهج ومظاهر التدليل . فللا ميرة جناحها الخاص تحت إشراف أخلص الوصائف ، وهي تستيقظ في الصباح على نغمات موسيقية رقيقة ، تعزف في البهو خارج المخدع ، وترتفع شيئاً فشيئاً ، مختلطة بزقزقة العصافير في الحديقة، وتغريد البلابل والشحار ير في طلعة الصباح ، وتقترب من مخدعها قليلا قليلا ، بينما المباخر والمجامر تؤرج الجو بأريجها المعطر ، يتسلل إلى خياشيم الأميرة من الخارج وينعشها في أثناء يقظتها ، حتى إذا أحست الوصيفات أن الأميرة قد استيقظت ، تقدمت الوصيفة الخاصة ، ففتحت باب المخدع لتصبحها بالخير والسعادة . ثم ينقضى النهار بين اللعب والمراح . وتكر السنوات والأميرة تنمو وتتفتح ، حتى إذا بلغت الرابعة عشرة نهد ثدياها ، والتف خصرها ، واستدار ردفها ، وتوردت وجنتاها ، والتمعت نظراتها ، ونضح فيها الحياء المخدور ، . AY والرحيق المذخور ، ذلك الذي تودعه الحياة أنثياتها الفاتنات ! ثم تكر السنوات فتبلغ الثامنة عشرة . ويكون الربيع حينها تنزل إلى الحديقة تقفز وتجرى وتسابق الفراشات الزاهية الألوان . وتتوجه من أبيها نظرة إلى ملامحها الفاتنة ترده إلى ذكرى بعيدة عزيزة . .. إنها ملامح فتاة الغابة يوم أن رآها أول مرة تخطر وكأنها تطير ، وتمشى و إنها لتتوثب . يوم أحس أنها إحدى ظبيات الغابة ، أيقظها تفتح الربيع . ويخفق قلبه خفقاناً سريعاً ، ويشير إلى فتاته فتدنو منه ، فيحتضنها في حنان ظاهر وولع باد ، ثم يغمر وجهها في صدره ، و يربت عليها في حنان . وحينها ترفع الفتاة وجهها إلى أبيها تجد دمعة حائرة تترقرق . في عينيه ، وهو يطبع على جبينها قبلة حارة طويلة . و يروعها منظر الدموع في عينيه ، فلم يسبق لها أن رأته يبكى ، فترتاع ، وتسأل في لهفة عما ألم به . وعندئذ يفيق فيبسم لها و بهش ، و يفصح لها عن سبب اضطرابه ، ومبعث دموعه : إنها دموع الذكرى الحبيبة إلى نفسه . فلقد رأى في ملامحها اليوم ملامح أمها الجميلة يوم كانت في مثل سنها ، ويوم التقى بها أول مرة. إنها ذكرى عهد الشباب الذي لا يعود !

أما الفتاة فيدركها الوجوم لحظة. واسكنها تزهى بهذا الاطراء المستور لجمالها، فتنطلق من فيها العذب ضحكة رنانة. وهي تقول في دلال جميل وتخابث بريء :

إذن أنت تحبها إلى هذا الحد يا أبتاه ! ولا يزال حبكما حيا على مدى الحياة ؟

ثم تنطلق راكضة كالظبي المدل وهي تقول :

سأذهب حالا لأفشى لها هذا السر الخطير !!!

وأبوها يتابع بنظره وقلبه خطواتها القافزة، وهو غارق في حلم جميل طويل. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح ===========

7.

​الليلة السابعة​ المؤلف سيد قطب

الليلة الثامنة

فلما كانت الليلة السابعة قالت :

وكان مساء وكان صباح، وانبعثت النغمات الشحية والنفحات الأريجة، تتسلل إلى مخدع الأميرة كالأحلام، وتوقظها من سباتها في رفق… غير أن الأميرة لم تنتفض من فراشها خفيفة نشيطة طافرة مرحة، كما تصنع في كل صباح. بل قالت للوصيفة التي بادرتها بالتحية : إنها تحس وعكة خفيفة في هذا الصباح.

A4 وانتشر النبأ في لحظة فلا أروقة القصر جميعا ، وذهب الرسل إلى الأطباء في قلق ظاهر؛ ولم يكن بدأن يصل الفروا إلى الملك فيذعر له ذعراً شديداً، وتتجسم مخاوفه وتتضخم ، على الرغم من كل حديث مطمئن . فها هي ذي النبوءة الأولى تتحقق ، وإذن فستلحقها الثانية قريباً. وتستحيل هذه الوعكة الخفيفة يوما بعد يوم إلى مرض يشتد ثم يستحيل سقها ، فتذبل الأميرة شيئاً فشيئاً ، وتذوى نضارتها قليلا قليلا ، وتفقد نظراتها ذلك البريق الفاتن ، وينضب فيهـا الرحيق المذخور ، بعد مضى الأسابيع والشهور. ويحار الأطباء والكهنة والعرافون والمنجمون ، وتثقل الأيام على الملك ، فلا يرى إلا قلقاً مهموما ، وتحاول الملكة - على ما بها من جزع وألم – أن ترد إليه الطمأنينة ، وأن توحى إليه بالصبر فلا تجدى محاولاتها شيئا . إنه يحب الفتاة حباً قوياً عميقاً . يحبها مرتين : حبه الأبوى الحنون ، وحبه الذكرى العزيزة في خاطره. ذكرى فتاة الغابة في عهد الشباب الجميل . 1 و يستنفد الوالدان جميع وسائل الطب والعرافة ، والفتاة تذوى بين أيديهما وتذبل ، فلا تبقى نافذة مفتوحة للرجا، إلا أن تتحقق النبوءة على يدى طبيب الشمال ! ويبث حور العيون والأرصاد على كل قادم إلى المدينة من الشمال ، عسى أن يكون هو الطبيب المنظور ، حتى يمين الأوان ، ويستدير الزمان ، فيفد الطبيب الشمالي للبحث عن بعض العقاقير في الغابة ، وما يكاد يبدأ البحث حتى يحيط به العسس في اهتمام ظاهر ، وحتى يدعى إلى قصر الملك فوراً ؛ فيذعر ذعراً شديداً ، ويفكر صفته وغايته ، ويستشفع لديهم بكل عزيز أن يطلقوا سراحه ، فلا . يسمع من الجميع إلا قولهم الجميع إلا قولهم : أنت مطلوب الملك ، أنت مطلوب الملك . حتى إذا وصل إلى القصر وقد سبقته الرسل ، استقبله حور فطمأنه على حياته ، وأنبأه النبأ ، ووعده أجمل الوعود ، إذا هو رد إلى الأميرة عافيتها ، وأعاد إلى المدينة طمأنينتها ، بعد أن خيم عليها الحزن وشملها الركود عاما و بعض عام . عندئذ تعود للطبيب طمأنينته ، فيطلب رؤية المريضة ، و يعرف في الحال مرضها، ويشير بأن العلاج الوحيد هو هواء ا اء الغابة ونسيمها وشمسها وظلالها، فيجب أن تقضى الأميرة فترة من كل يوم في الغابة ، تشم هواءها ، وتجول فيها حينما تسمح صحتها بالتجوال . أما في مبدأ الأمر فيكفي أن تجلس أو أن نتمشى قليلا . ( 91 الطبيب بالاستئذان فلا يؤذن له حتى تظهر نتائج علاجه ، وحتى يجد جزاءه من الإكرام والحفاوة . ومنذ الصباح الباكر تحمل الأميرة في محفة وهي ذاوية ذابلة لتستنشق نسيم الغابة كما أمر الطبيب ، فتحس له نشوة خفيفة تدب في كيانها و يدب معها البرء والعافية . وتستروح هذه النسيات كأنما تعيد إلى نفسها ذكرى ، وتثير في قلبها حنيناً ، وترد إليها ماضياً بعيداً . وإن لم تكن قد وطئت هذه الغابة من قبل أو رأتها إلا من شرفات القصر البعيدة !. وإن هي إلا أيام قلائل حتى أخذت تسترد عافيتها ، و يسرى الدم في خلاياها ، و يدب النشاط في أوصالها ، وتستطيع الرياضة الهينة ، وتقبل عليها في شغف ولذة . ورأى الملك علائم الصحة تبدو على فتاته الحبيبة فكاد يطير من الفرح ، وخلع على الطبيب و بالغ في إكرامه ، وعرض عليه أن يضمه إلى الحاشية ، وأن يجعله طبيبه الخاص وطبيب الأميرة فاستجاب للعرض في سرور ورضا وغبطة، إذ جذبته الأميرة الشابة بجاذبيتها التي لا تقاوم، فأصبح يحس أنها ابنته ونبته، وأن أروح أيامه هي التي يقضيها في خدمتها والسهر على صحتها . وكان في الفتاة ذلك السحر الأخاذ الذي يؤخذ به الكبار والصغار والرجال والنساء، ۹۲ ا فما يحسون إلا وهم مأخوذون بها ، مفتونون بسحرها ، وكذلك استراح الطبيب إلى جوارها ، والتذ صحبتها بعد بضعة أيام . وقال الطبيب ذات يوم : ياليت الأميرة تقضي أوقاتها جميعاً في الغابة . إذن لاستردت صحتها بأسرع مما تستردها ؛ لأن هواء الغابة هو دواؤها وترياقها . وما سمع الملك هذه الكلمة العابرة حتى أمر ببناء برج في وسط الغابة بداخله قصر صغير يسع يسع الأميرة وحاشيتها وحرسها ، ويقوم البرج حوله سياجاً حصيناً ؛ وكلف حور أن يشرف على البناء بحيث يتم صريعاً ؛ وقال له : وددت ياخور لو أسمى وأصبح فأجد البرج فانما 1 وجمع حور المهندسين والبنائين والفعلة من وكلفهم أن يفرغوا في مدى شهر واحد من بناء البرج والقصر و إعداده بكل ما يلزم له من وسائل الراحة . وما مضى الأجل المضروب حتى ، كان البرج قائماً والقصر مؤنثاً بأفخر الرياش وأوثر الفراش ، فلا يفترق عن قصر الملك إلا بأنه أصغر أرجاء المملكة حجما وأحدث منه بناء منه ( . وانتقلت الأميرة وحاشيتها وحرسها وطبيبها معها . وكانت صحتها قد تحسنت وقوتها قد اشتدت . فاقترح الطبيب أن تركب ال ال في أل الت بالد له. 3.4 ند ۹۳. فرساً وتجول في الغابة كيلا يجهدها السير الطويل في أرجائها البعيدة . فرغبت الأميرة أن تتزيا بري فارس، وأن تصحبها كوكبة من الفرسان ، وأن تتدرب على ألعاب الفروسية ، فهي تجد في نفسها ميلا إليها ، وقدرة عليها . وسرعان مانفذت رغبتها ، فإذا بها في الصباح ترتدي ملابس الفرسان ، فلا يشك أحد وهي قائمة على الفرس ممشوقة القد ، معتدلة الجسم في أنها فارس ، و إن كان أثر من الشعوب لا يزال في وجنتيها . ومرت الأيام واشتد ساعد الأميرة ، ومرنت على ألعاب الفروسية ، وعاد إلى وجهها التورد والنضارة ، وأخذ جسمها الفتى يمتلىء ويستدير ، وتبرز معالم الأنوثة فيه على الرغم من كسوة الفارس التي تخفيه ! ثم أقبل الربيع ، ونضح الجو بالدفءاللذيذ ، وخدرت أنفاسه بالأريج المعطر ، وأحست الفتاة أن في حناياها أشواق تائهة لا تعرف لها كنها ولا اتجاها ، واشتاقت إلى كل شيء ، وحنت إلى كل شيء ، واستمعت في ضميرها إلى أصداء غائرة سحيقة ، تنبعث من قرارات غامضة مجهولة ، فأرخت لفرسها العنان ، وسارت نصف مغمضة ، كأنها ثملة نشوانة . . . و بينما هي تمضى وكوكبة – نحن نتسلى ! قالت ( وألقت إليه بصرة من النقود) : – هل لك في هذه على أن تعيد العزف من جديد ؟ قال : – العلنا أزعجناك أيها الفتى فكففت عن عزفك الجميل ؟ قال : ـ لا يا سيدي . فأنا قد فرغت من عزفى . وإنما – –– 90 خل لك نقودك يا سيدي . فلست أعزف مأجوراً قالت ؛ – بل هي هدية لك لا أجر ، جزاء ما أهديت إلينا من عزفك الجميل . و إن شئت فزدنا . وأخذ الفتى نايه بين أصابعه ، وراح ينفخ فيه بأنفاسه ، فتنبعث منه نغمات . . . ولكنها ليست تلك النغبات الحالمة التي كان يبعثها منذ حين . وعبثا حاول أن يعيد أنغامه الأولى ، فألقى بالناي جانباً وتوجه إلى الفارس الجميل يقول . . معذرة . فلست أدرى أين ذهبت نغماتى . لكأن هذا ليس نابي الذي أعرفه من سنين ؟ فابتسمت مجاملة وقالت : – 97 – لذة استماعها . فحسبنا هذا . . . وهمت أن تلوى عنان فرسها ، وهي تقول : اكانى بك تعرف كل يوم هنا ؟ –– كلا إنها لنفات حلوة : ولعلنا نحن الذين أفسدنا عليك . قال : كثيراً ما نرعى أغنامنا في الغابة فنعزف لها . . . ولنا ! ثم انطلقت الكوكبة في طريقها تتم جولتها . واسكن الأميرة لم تجد في نفسها ميلا لإتمامها ، فقالت : – حسبنا اليوم . فأنا في حاجة لأن أرجع سريعا . وخشى الطبيب أن يكون قد ألم بها سوء ، وقد شاهد اضطرابها الذي راحت تخفيه . فلما كانا في القصر حاول أن يستفسر عما بها ، فطمأنته على صحتها ، وآوت إلى مخدعها سريعاً لم تكن تدرى حقا ما بها ، ولكنها كانت تحس ميلا شديداً إلى العزلة . كانت تائهة خدرة كالنشوانة ، وكانت في حاجة لأن تغمض عينيها في رفق ، فما تريد أن تنظر شيئاً . وأحست مرة أنها تود لو تبكى ، ومرة أنها تود لو تغنى . وتمددت على الفراش الوثير ولكنها وجدت في نفسها شوقاً لأن تحتضن شيئا ، فاحتضنت –– – AV ثم وسادتها برهة ثم ألقتها جانباً ، واستوت في فراشها جالسة أخفت وجهها بين يديها ، وضغطت على عينيها ضغطاً شديداً . ثم انطلقت تقهقه من حركاتها الغريبة . ثم ارتدت إلى ما يشبه الوجوم ، وهي لا تدرى ماذا أصابها ، ولا تعلم من أمرها شيئاً ! - > و باتت ليلتها في يقظة ليست هي الأرق ، تتخللها فترات من النوم المنقطع المملوء بالأحلام . وعند ما أصبح الصباح كانت تحس في روحها نشوة ، وتحس في جسدها فتوراً ؛ ووجدت في نفسها شوقاً إلى الغابة لم تعهده من قبل على فرط حبها للغابة وما فيها ؛ وأخذت في التجوال كالعادة ، ولكن أذنها كانت مرهفة للأصوات والأصداء ؛ فما لبثت أن التقطت النغم الغائر المسحور ، فيممت نحوه في منعرجات الغابة في همس واطف ، ووقفت بعيداً عن مصدره تسمع ولا ترى ، حتى انتهى العازف من عزفه فبرزت له راكضة بفرسها نحوه . فلما قربت منه نهض الفتى واقفاً محيياً في احترام بالغ . فقالت في لهجة مرحة مشرقة : وهكذا غافلناك وسرقنا أنغامك دون أن تشعر بنا خذ هذه هدية اليوم ، جزاء ما سرقنا أنغامك الجميلة ! ۹۸ وحاول الفتى أن يرد الصرة للفارس في إباء البدوى الشريف قربت الفارس على كتفه وهو يقول : لماذا لا تقبل هديتنا الضئيلة ، ونحن نستمتع بما هو - أثمن وأغلى ؟ ! وأحست في هذا اليوم براحة هادئة عند عودتها ، وزايلها ترددها واضطرابها . . . وأشرقت في نفسها مطالع مضيئة ، وإن لم تأخذ لها وجهة محدودة . ومضى الحال على هذا المنوال أياماً طويلة توثقت فيها الألفة بين الفارس والراعي ، وأصبح لقاؤها في كل يوم أمراً مقرراً ؛ ولم يعد الفتى الراعي يجفل أو يضطرب لرؤية الفارس وكوكبته ، ولم يعد عزفه يفسدو يموت إذا عزف على مرأى منه ومسمع ، فالفارس صديقه ، و إنه ليهفو إلى هذا الصديق الطيب المرح الجميل ، فوق ما يهفو الصديق إلى الصديق . . ... لذا لم يجد الفارس صعوبة في إقناع صديقه الراعي ذات يوم بأن يصاحبه في جولته اليومية، وأن تكون له فرس في الكوكبة ، وأن يدر به رئيسها على ألعاب الفروسية ! ولما احتج بغنمه وفتاته بنت عمه ، حلت العقدة بأن يقوم مقامه هناك أحد فرسان ۹۹ الكوكبة كل يوم ، حتى تنتهى الجولة . وكان هذا فعلا ! و بعد شهر كان الفتى الراعي قد برع في ألعاب الفروسية جميعاً فقده المعشوق ، ووثاقة تركيبه ، ومرونة عضلاته ، وهوايته لفنه ، كل ذلك قد صاغ منه فارسا في فترة قصيرة ، و إن لم ينقطع عزفه الجميل كل يوم في فترة من جولاته و بينما الفتى مندفع في طريقه ، يستطيب عشرة رفيقه ، و يستلذ جولاته ونغماته . . . كان قلب الفتاة الراعية ينذرها بشر غامض من وراء هذه السيرة ، فبدأت تضجر من هذه الرحلة اليومية ، وتضيق بهذه الجولة التي تحرمها منه ومن أنغامه ... ولم تكن تدرى من حقيقة الأمر شيئا . ولكن الأحاديث تتصل بينها و بين الفارس الذي يؤانسها ، وتقرب المسافة بينه و بينها ، و يفيض معها في الحديث ، فيفضى إليها ذات يوم بالسر الخطير : إن الفارس الجميل ليس رجلا . إنما هو الأميرة التي تسكن هذا البرج العالى ، وهي ابنة الملك المحبوبة ! لو كانت طعنة خنجر لما وخزت الفتاة هذه الوخزة ، ولو كانت لدغة عقرب لما غزتها هذه الغزة ، ولوكانت قطعة جمر لما حرقتها هذه الحرقة . . . ليته يعود اللحظة لتأبى عليه أن يفارقها ، ... ولتشبث به فلا تدعه مرة أخرى ، ولتأخذه وتمضى به ناحية إلى أبعد مدى . . . و إنه ليعود فتندفع إلى صدره باكية في حرقة ثائرة ، تطوق عنقه بذراعيها ، وتدفن في صدره وجهها ، وهي . تشرق بالدمع، فتنشج نشيجاً متقطعاً . و بهت الفتى لهذه المفاجأة ، و يسأل مرة ومرة ماذا أصابها . فإذا هي استردت أنفاسها راحت تقول في عنف وضغط : ان نبقى هنا . لن نأتى هنا أبداً . إننى خائفة عليك وعلينا من هذه الجولات التي لا تنتهى . و يعجب الفتى لهذا الإصرار ، فيقول : وأي شيء في أن أتجول ساعة أو ساعتين مع جماعة من 1 الفرسان في الغابة ، لي بينهم صديق ودود ؟ وهنا يخون الفتاة احتمالها فتندفع صائحة في ولولة ونشيج : ـ أي صديق تعنى ؟ إنه ليس فارساً . إنها فتاة . إنها ابنة الملك تتزيا بزى فارس . هكذا علمت و إنني لأخشى عليك وعلينا ! - وفوجىء الفتى بهذا التصريح العجيب ، و إن أحس له في نفسه طعا لذيذا . وراح يسألها في دهشة يشوبها الارتياح : ابنة الملك ؟ من قال لك هذا ؟ وكأنما تسربت إلى نفس الفتاة حقيقة ما جال في نفسه - فاشتعلت خواطرها ، وقالت في لهجة صارمة صارخة عنيفة : قات لك لقد علمت . أخبرني الفارس الذي يبقى معى هنا . لقد أراد أن يتحبب إلى فأفضى بهذا السر . أفي حاجة أنت إلى توكيد جديد ؟ وانتظرت أن ترى علائم الغيرة التي قصدت إلى إثارتها بذكر تحبب الفارس إليها . ولكنها لم تلمح أثراً لهذا الخاطر في ملامحه، فغاظها ذلك جداً ... أما هو فسرح بخواطره لحظة وارتد يهدئ -- من روعها : وماذا علينا إن تكن فارساً أو فتاة . . . إنها تمنحنا في كل يوم ضرة كهذى ! وأخذت الفتاة منه الصرة ، فألقتها بعنف على مد ذراعها - وقالت : لا نريد المال . فأنا أتوقع من ورائه شراً . ثم تعلقت به في تهالك وتخاذل ، تناشده ، والدموع في مآقيها ، أن يمضيا منذ اليوم ، فلا يعودا إلى هذا المكان أبدا ۱۰۲ ولكنه أخذ يهدىء روعها و يطمئنها ويزيل مخاوفها ، حتى هدأت ثائرتها ، وعاودها هدوؤها ، وإن لم تسترجع طمأنينتها . وكرت الأيام على هذا المنوال ، والصداقة تزداد كل يوم وثوقاً ، وقد أخذت نظرات الفتى الراعي إلى صديقه الفارس تشع بريقاً جديداً ، ونبراته ونغماته تزداد حرارة واتقاداً ، وكثيراً ما كانا ينفردان عن الكوكبة لحظات ، فيحس كلاها شوقاً جارفا لأن يحتضن رفيقه ، وترخم نبراتهما في هذه اللحظة ، وتشع نظراتهما حنينا . ولكن لا الفتى بقادر على أن يدنو خطوة ، ولا الأميرة بقادرة على أن تكشف القناع للراعي ! . أما الفتاة فكانت تتلظى على الجمر ، وتذرف سخين الدمع ، وتغال حائرة اللب مولهة القلب ، حتى يعود إليها الفتى ، فتحاول في كل يوم محاولتها الأولى ، حتى كادت تيئس ، فركنت إلى دموعها وهمومها ، وهي تذبل في كل يوم وتذوى ودار الفلك دورته فأكمل عاماً جديداً . وعندئذ أخذ يستيقظ في خاطر الملك شبح النبوءة القديمة ، وتدب في نفسه عوامل الخوف والقلق ، و يرى في حياة الأميرة بالغابة بعيدة عن القصر الملكي خطراً قد يمهد للنبوءة ؛ ولم يعد هناك ما يدعو إلى . بقائها هناك بعد أن كمل شفاؤها، واستردت عافيتها. وحينما وجدمن « حور » ومن طبيب الأميرة موافقة على آرائه، أصدر أمره الذي لا يرد بعودة الأميرة إلى جناحها في قصر أبيها، وبانتهاء عهد الغابة و جولاتها. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكنت من الكلام المباح.

8-

​الليلة الثامنة​ المؤلف سيد قطب

الليلة التاسعة

فلما كانت الليلة الثامنة قالت :

كان الصباح التالي — يا مولاي — مفرق الطريق بين عهدين للأميرة وللملك وللمملكة جميعا… لقد صبح المدينة عدو مغير من الشمال، فاجأ الحاميات المبعثرة فقضى عليها، وتدفق على المدينة تدفقاً، فخرج الفرسان للقتال والدفاع. وعندئذ لم يبق مجال لتوسلات الأميرة ورجائها، فلقد ذعرت حينما علمت بقرار أبيها، ولكنها لم تيأس من رجعته عنه لما تعلمه من إعزازه لها وتدليله إياها. ولكن هذا الحادث الذي صبح المدينة قطع الطريق على كل قول، وزحم المجال على كل رجاء، فلم يعد هناك موضع إلا للحرب التي تهدد الجميع، ولم تعد الغابة مجال رياضة ومراد نزهة إنما هي مكان للقتل والقتال، ولقعقعة السيوف وتكسر النصال. أما الفتى الراعي فلم تعد تعلم عنه شيئاً، وما عاد هو يعلم أين ١٠٤ ذهبت ، فالحرب دائرة بأقصى سرعتها ، والجيش المغير يستغل المفاجأة إلى نهايتها ، والجميع في كرب وهم ، اللهم إلا قلباً واحداً نزلت عليه هذه الحرب بردا وسلاماً ، وطمأنينة وأمنا . ذلك قلب الفتاة الراعية التي استردت منذ اليوم حبيبها وخطيبها ! ودارت رحى الحرب أيامـا ، وفوارس المدينة يدافعون كالأبطال عن مدينتهم المهددة ومملكتهم المحطمة ، ولكن المفاجأة الأولى جعلت المغيرين الكفة الراجحة ؛ وكلما مضى يوم بانت الغلبة في صفهم والهزيمة في صف المدافعين ؛ فما انقضت عشرة أيام حتى اضطر هؤلاء إلى التقهقر والاحتماء بأسوار المدينة بعد تغليق أبوابها ؛ وضرب المغيرون الحصار عليها ، وعادت الحرب تراشقا بالسهام والنبال ، حيثما أتيحت للفريقين فرصة وغفلة ولكن هذه الحال قد طالت على المدينة فامتنعت عنها الأقوات وأصبحت مهددة بالجوع إذا نفد منها المخزون ، فعم الكرب ، وزاد الهم ، وبات الملك ورجاله في أسوأ حال . . . إلا أن خاطراً واحداً كان يعزيه بعض العزاء : لقد ألهم إلهاماً أن ينهي حياة الأميرة في الغابة قبل الغارة بليلة واحدة ؛ ولو تأخر لذهبت أسيرة في قبضة المغيرين ، ولتحققت النبوءة كاملة ، فالأسر هو . ه ۱۰ الحياة التي لا حياة فيها ، وهو الموت الذي لا موت فيه : « لن تكون ميتة ولكنها لن تكون في الأحياء » . تلك هي النبوءة المحيرة تتكشف اليوم عن بديهية ظاهرة . حياة الأسر هي هذه الحياة، بلا جدال . ولقد نجت منها الأميرة ، إلا أن تتحطم الأسوار ، أو أن يرغمهم الجوع على الاستفسار ! وعندما وصل في تفكيره إلى هذا الحد اضطرب فؤاده من الخوف والقلق فما الذي يمنع أن تتحقق النبوءة التي صارت واضحة مكشوفة ، ما دام الحصار قائمة والمدينة مهددة ؟ وفى حرارة القلق أمر أن ينادي في المدينة وأن يهتف على أسوارها : - من استطاع أن يرد العدو المغير ، وينقذ المدينة من الدمار ، فله على ذلك مكافأة نادرة : سيتزوج بنت الملك ، ويصبح ولياً للعهد . - ... وانطلق المنادون يتصايحون في المدينة بهذا النداء ، و يرفعون عقيرتهم فوق الأسوار ليسمعهم من في خارج المدينة من أهل المملكة القريبين ومضت ثلاثة أيام لم يتقدم أحد لينال هذا الفوز الذي كان يبدو حاماً من الأحلام ، حتى يئس الملك من الفرج ، وكاد يأمر ۱۰۶ يفتح الابواب ، ولكن شمس اليوم الرابع أشرقت، و إذا بشاب يتقدم إلى الملك يقول : - أنا يا مولاي أتعهد بكسر الأعداء ! - النداء من أسوار لم يكن ذلك إلا الفتى الراعي ، وقد سمع المدينة ، وكان فراق الأميرة وانقطاعها قد كاد يجنه ، فظل يبحث و يسأل حتى علم بعودتها إلى قصر أبيها ، فانقطع كل رجاء له فيها وتمزق قلبه من الحسرة ، ثم ركن أخيراً إلى اليأس ، حتى سمع المنادي ، نخفق له قلبه خفقة شديدة ، واعتزم أن يموت أو يفوز بما لم يخطر له في الأحلام ، وظل يحتال ثلاثة أيام ليدخل المدينة حتى سمح له الحراس بالدخول بعد أن استوثقوا من غايته ، وجاءوا به إلى الملك ليعرض عليه حاجته ! وسر الملك سروراً عظيا بوجود هذا الشاب الشجاع ، ولكنه قال له : من أين لك أن تحاربهم وأنت وحيد ، فهل نجهز لك جيشاً ممن بقى من المدافعين ؟ قال الفتى - لا يا مولاي . لا أريد معى أحداً إلا الكوكبة التي كانت تحرس الأميرة في الغابة ، ففيها البركة والكفاية !

ولما كانت هذه هي الفرصة الأخيرة أمام الملك ، فقد أجاب طلبه ، ودعا له ولجماعته بالنصر المؤزر ، وارتفعت أكف الجميع بالدعاء ، وتعالت أصواتهم بالهتاف ، وهم يشيعونهم إلى الأبواب ۱۰۷ - وانطلق الفتى – يا مولاي - بجماعته الصغيرة ،وقلبه يطفح بشراً ، ونفسه واثقة من الغلبة ، فهو يندفع بألف عزم وعزم و يخيل إليه أن في مكنته دك الجبال ، وتبديل الأحوال - . . . وسرى هذا الشعور إلى نفوس رفاقه، فانقلبوا أسوداً هائجة تذود عن العرين المهدد ، فلما ترامى إلى المغيرين نبأ هذه الكوكبة الصغيرة الخارجة لقتالهم هزئوا وسخروا، وأقبلوا عليهم غير مكترثين بهم يحسبونهم صيداً سهلا . ولكن لم تمض دقائق حتى عاموا : أي أبطال يقاتلون . فلقد تصرع منهم عشرات الفرسان في الميدان ، فأفاقوا ، وبدءوا ينظرون إلى خصومهم القلائل نظرة جديدة ، ويحملون عليهم حملة صادقة . . . ولكن الفتى راح يصول ويجول و يصرخ و يهدر ، ويقتل ويجندل ، والغبار ثائر والمعركة فائرة ، حتى أطاح منهم الرءوس وشتت الجموع ، وألقى الرعب في القلوب ، وهو يهدر في ثورة واندفاع ، وكأنما هو غائب عن الوجود . . حتى أقبل الليل ۱۰۸ فتحاجز الفريقان ، وعاد الفتى بفرسانه إلى المدينة لم يتخلف منهم سوى اثنين صرعا في الميدان ؛ فاستقبلته المدينة كلها بالفرح إذ كان المراقبون على الأسوار يراقبون المعركة و يعلمون الملك بسيرها طول النهار . فلما لقيه استقبله مرحباً وضمه إلى صدره مشجعاً . وأصبح الصباح فبرز الفارس وجماعته ، و برز له من المغير بن شجعانهم وفرسانهم ، فما زال يكرر وقائع اليوم الأول ويزيد حتى أوشك المغيرون على الهزيمة . لولا تشددهم بكثرة العدد وخوف الفضيحة . فما أمسى المساء حتي بادروا بالاحتجاز . وكان يوم ثالث ورابع وخامس ، ثم رجحت الكفة نهائياً و نوى المغيرون الفرار ، فتماسكوا حتى جن الليل ، ثم أقلعوا مولين الأدبار . فما أصبح الصباح حتى كانوا قد أبعدوا إلى الشمال ، فانطلقت في المدينة الزغاريد ، وعلت الأهازيج ، وراح أهل المدينة يتعانقون في الطرقات ، ويتبادلون التهانيء في بشر وانشراح . ولم يبق إلا أن يفى الملك بما وعد ، وأن ينال الفتى حامه البعيد واستقر الرأى على أن يتم ذلك بعد ثلاثة أيام ، وأن يهيأ استقبال حافل رائع للبطل المنقذ ، فيبيت هذه الليالى خارج المدينة حتى . تأخذ زينتها وتستعد لاستقباله ، فإذا كان اليوم الرابع دخلها مع طلعة الشمس كما دخلها أول مرة ، حيث يذهب إلى القصر الملكي فتستقبله كذلك الأميرة . . . ... ۱۰۹ ومضى الفتى يحلم - يا مولاي - حلمه السعيد البعيد ،ومضت المدينة تتهيأ لاستقباله ، والأميرة تكاد تطير من الفرح بعريسها البطل ، وبحبيبها القديم . ولم يحس الجميع أن هناك قلباً يتمزق ونفساً تتحرق ، وأن هناك إنسانة تحس لذع الجمر ولدغة الأفعى - وعذاب الجحيم . تلك الفتاة الراعية – يا مولاى - التي كانت مولهة بابن عمها الراعي ، والتي أمست وأصبحت فإذا آمالها التي عاشت بها ، وأحلامها التي داعبتها ، وحياتها كلها التي أقامتها ، تتحطم وتتناثر في عنف وقسوة دون أن يشعر بها أحد من الناس ، فالجميع منصرفون إلى الاستعداد لليوم العظيم الذي سيقضى عليها القضاء الأخير . ماذا تصنع وهى وحيدة فريدة أمام التيار الجارف الذي لا يحس بوجودها ، ولا يعني بآلامها ، ولا يفكر فيها أقل تفكير تصرخ ؟ تولول ؟ تنطلق كالمجنونة تنادي في كل مكان : أيها الناس اسمعوا . إن هنا مخلوقة آدمية تدوسونها كالنال . . ولكن - .. ما فائدة هذا كله ، ولن يسمع لها أحد ولن ينظر إليها أحد ، وصوتها مهما علا سيغرق في ضجة الهزج والهتاف ! أو مضت في خاطرها فكرة كما تومض الشعلة المضيئة من بعيد : إن الموقف العصيب ليس له إلا شخصية واحدة تسيطر عليه وترد تياره الرهيب . الساحرة ! تيتى . ربة الشعاب والوهاد . ومسخرة المردة والشياطين . . تيتى هي التي توقف هذا التيار . وراحت تنبش في أرض الكوخ فتستخرج الصرة بعد الصرة فلقد كان لها من تلك الصرر نصيب ، حينما كان الفتى يلهيها بالذهب عن الخطر المحيق . وقبل أن يخيم على الصحراء الظلام ، كانت فتاة وحيدة تركض مدفوعة بقوة رهيبة، لاتهاب الليل الزاحف، ولا الأشباح في الجبال . ودخلت الفتاة الشعب وقد خير الظلام ، فانطلقت تجرى ، وقد خامرها الرعب وهز كيانها الخوف ، ولكنها تجرى وتجرى حتى تصل إلى الكهف، فترتمى إليه لاهثة آيسة من النجاة، ويقع نظرها على الساحرة العجوز فتفزع وترتاع ، وتبادر بالقاء صرر النقود إليها وهي تلهث في ارتياع . . وفتحت الساحرة فمها فانطلق منه فحيح مبحوح :

من القادمة في الظلام. بلا سلام ولا كلام ؟

قالت الفتاة وهي ترتعش :

فتاة مسكينة هجرها الحبيب وخانها الزمان. جاءت إليك تطلب رد حبيبها إليها، والانتقام ممن بغوا عليها.

عندئذ قهقهت العجوز قهقهة فظيعة كأنها عزيف الجان، وقالت للفتاة المسكينة :

خذي نقودك فما بي إليها حاجة. اليوم يومي فاتركي اللجاجة. هيا اتبعيني إلى المدينة، أيتها المهجورة المسكينة.

ثم أخذت تحجل وترقص ونردد : آن الأوان، ودار الزمان ثم صرخت صرخة منكرة رعيبة مديدة :

الانتقام… وانطلقت تعدو والفتاة وراءها حتى صارتا على أبواب المدينة.

وأدرك شهر زاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

9..

​الليلة التاسعة​ المؤلف سيد قطب

الليلة العاشرة

فلما كانت الليلة التاسعة قالت :

كانت الشمس – يا مولاي – قد آذنت بالشروق حينا وصلت الساحرة تيتى ومعها الفتاة الراعية ، فانتحت الساحرة جانبا ، وأوقدت النار في مجمرة صغيرة ، وألقت فيها بالبخور ، وأخذت تتلو التعاويذ ، وقد بدا على ملامحها فرح وحشى وجحظت عيناها الغائرتان ، وانتفضت جوارحها في حركات تشنجية ، والفتاة واقفة خلفها تفرك يديها في انتظار المعجزة التي ترد إليها حبيبها ، كما قالت لها الساحرة . وكانت المدينة تتهيأ من الداخل لاستقبال البطل الذي أنقذها ، واستقبال الأفراح التي تنتظرها ، وكان القصر الملكي يستعد لاستقبال المنقذ العريس . أما الأميرة فكانت قد قضت شطراً طويلا من الليل ساهرة ترتقب مطلع الصبح البهيج ، ذلك الصبح الذي تلتقى فيه يقظة الدنيا بيقظة قلبها المتفتح ، والذي يسجل دورة من دورات الفلك عادية ، ويسجل في حياتها بدء عهد سعيد . فلما امتد بها الليل ، وأوشك الفجر ، أخذتها سنة من النوم فراحت في سبات ، وانثالت الرؤى على خاطرها انثيالا ، وكلها ناعم وضيء شفيف . فلما قارب الموعد انبعثت النغمات الرقيقة ، وتسلل الأرج الذكي ، وتمشت الخطوات الهامسة في البهو خارج مخدعها، وتقدمت الوصيفة تفتح الباب لتحييها تحية ۱۱۳ الصباح . وكانت الأميرة قد استيقظت على النغمات الهامسة ، والنفحات الأريجة ، فهمت تعتدل ولم تستو جالسة بعد في الفراش . وفى هذه اللحظة كان الفارس قدقارب سور المدينة ، وهو يمرق بفرسه في لهفة ، وكأنه يطير من فوقها وهي تطير . وقبيل أن ينبعث أول خيط من خيوط الشمس كان الحراس قد تأهبوا لفتح البوابة الكبيرة ، ووقف الحرس خلفها استعداداً لتحية البطل الفاتح قاهر الأعداء ، وعريس الأميرة ، وولى العهد منذ الصباح. فلما أشع أول خيط ذهبي أخذوا في دفع البوابة الكبيرة في هذه اللحظة كانت الساحرة قد انتهت من التمتمة ، وقد انعقد دخان البخور في الجو ، وتلوى فوق المجمرة كأذرع الأخطبوط . وهنا انبعثت من فمها الأدرد صيحة مرعبة كادت الفتاة تصعق لها من الذعر ، ولم تكن إلا هذه الكلمات وهي تشير بيدها إلى المدينة : وقف الزمن . جمدت الحياة . وقف الزمن . جمدت الحياة . ونظرت الفتاة إلى حيث تشير الساحرة ، فإذا الحراس ا الذين يفتحون البوابة قد جمدوا في أماكنهم واستحالوا تماثيل . والبوابة في أيديهم قد وقفت في منتصف الفتحة حيث كانت عندما أرسلت الساحرة صيحتها العجيبة . وذهلت الفتاة لحظة ، فما انتبهت إلا والساحرة تقهقه كالشيطان ، في فرح جنوبى بشع ، وهي تقول : سحرت المدينة . سحرت المدينة . شفيت الضغينة . شفيت الضغينة . ولم يستغرق ذلك كله إلا مدى خطوات الفارس السريعة . . . فلما كان بقرب الباب برزت له ابنة عمه ، وقد أفاقت ، فاعترضت سبيله وزعقت في وجهه ليسمع - كل شيء قد انتهى. وقف الزمن. سحرت المدينة . كل من ... . = فيها تماثيل . انظر للحراس . إنهم جامدون – وهو في سرعته الخاطفة – لم يسمع إلا قليلا ، وكاد يدوس الفتاة التي اعترضته لولا لفتة سريعة لعنان الفرس، فتفاداها وانطلق في سبيله ، فدخل البوابة ركضاً. ولكن البوابة لا تتم فتحتها، وأيدى الحراس جامدة عليها ، وهيئتهم وهم يدفعونها، وقد مالوا بوجوههم وأيديهم إلى الأمام في عنف ، وأرجلهم مثبتة في الأرض ، وقد انفرجت اليمنى

- عن اليسرى . وها هم أولاء رجال الحرس المهيأ لتحيته . إنهم . واقفون وقفة عسكرية في استعداد للتحية ، ولكنهم جامدون . ورن في أذنه صوت الفتاة ، فاستعاد ما التقطته أذنه ألفاظها ، و بدأ يفيق قليلا ، ولكنه يمضى في المدينة و يمضى ، ا من مئات فماذا يرى ؟ رجال جامدون على هيئتهم : هذا يفتح باب داره من الداخل و يخطو برجله اليمنى ثم يقف جامداً والباب موارب . وهذا بائع وضع المفتاح في قفل دكانه وأخذ يديره ثم جمد على هيئته ، وهذا فتح باب الدكان وهم بالدخول . وهذا فلاح يسوق ماشيته وهو والماشية قد جمدوا في وسط الطريق . وهذه امرأة تطل من النافذة وقد بقيت على هيئتها . . . وهكذا وهكذا الصور والأوضاع والحركات وحسب نفسه في حلم مزعج ، فنزل عن صهوة الفرس ، وراح يلمس هذه التماثيل الآدمية في توجس وخيفة ، ثم يهزها، ثم يصرخ في وجهها ، ولا من يسمع أو يجيب . ولكنه سار في طريقه إلى القصر ، وهل يمكن أن يكون قد مس القصر ما مس المدينة ؟ ووجد أبواب القصر تفتح والحراس متهيئين للاستقبال ولكن وا أسفاه ! إنهم تماثيل . وارتجف قلبه رجفة شديدة . . . ، ... ۱۱۶ واندفع يهز الحراس و يصرخ في وجوههم صرخات جنونية . . . ولكن ماذا ؟ ليكن الجميع قد سحروا وجمدوا. أما هي . هي التي تنبض بالحياة والإشراق ، فلن يمسها السحر أبداً . . . واندفع يركض، ويقفز السلاصعداً في وثبات سريعة . و يتلفت هنا وهناك في الغرف والأبهاء : فهذا هو الملك في طريقه إلى المائدة ولكنه جامد على خطوته ، وهذه هي الملكة خارجة من الحمام ، ثم انتهت خطواتها في الطريق ، وهؤلاء هن الوصائف والخدم في حركات الصباح ، والجميع على هيئتهم الأولى وزاد جنونه وهو يبحث عن مخدع الأميرة ، وكلما لقيه تمثال جامد زاده اضطرابا وفزعا ولهفة ... ثم ها هو ذا يجد حجرة الأميرة والوصيفة ببابها : رجل في في الداخل وأخرى في الخارج ، فيمر الفتى من جانبها، ثم ينظر إلى فتاته ... يا الله، إنها حية ! ها هي ذي تهم بالجلوس في فراشها ، وقد اشرأب عنقها الجميل، وافتر ثغرها الفاتن عن ابتسامة وضيئة، وهاتان العينان ، إن فيهما لاستبشاراً وحلماً ! وانتفضت كل ذرة فيه ، وهو يندفع إليها في جنون ولهفة فيعانقها و يصيح : ها أنت ذي وحدك التي نجوت في المدينة ! وصعق صعقة شديدة وهو يلمس الجسد البارد ، و يحس التمثال الهامد . وندت من فيه صيحة جنونية وانطلق من الغرفة عدواً يقفز السلم قفزاً ، و يجرى إلى حيث قد ترك فرسه . فيقفز على ظهرها ، وينطلق إلى خارج المدينة ، ورمحه مشرع في يده ، وقد انتفخت أوداجه، وامتلأت عيناه بالدم، وجز على أسنانه في غيظ، وفارقته كل خالجة إنسانية ، فانقلب وحشاً هائجا مجنوناً . وحينها برز من البوابة لمحته ابنة عمه التي كانت واقفة بجوار الساحرة تنتظر أو بته، وقد أحست أنها استردنه .. لمحته فرأت الشر في عينيه فأسرعت تتوارى . و إن هي إلا لحظة حتى كان قد -

حاذي الساحرة ، وفي الدفاع عنيف أغمد الرمح في صدرها ، فخرج يلمع . من ظهرها ، وهو يضرس على أنيا به قائلا : فعلتها أيتها الشيطانة ! ونطقت العجوز في صوت متقطع :

لو أمهلتنى لأطلعتك على السر . . . ! وكاد يجن فنزل من فوق الفرس وأخذ يهزها في عنف وهو يصرخ :

.

۱۱۷

قولى . قولى أيتها الشيطانة . قولى . والساحرة تردد : ۱۱۸ الماء . الماء ، الماء فقفز إلى ظهر فرسه وأركضها ركضاً شديداً وما كاد يتوارى حتى برزت الفتاه والساحرة تحشرج . وخافت الفتاة أن تفصح للشاب عن السر ، فإذا بها تمد يدها إلى وسطها فتستل منه خنجراً ، تغمده في عنق الساحره . وفياهي لفظ أنفاسها الأخيرة، نطقت في نبرات متقطعة لاهثة : عقد السحر على حقد كظيم . و يفك السحر على حب عظيم . وحينما عاد الفتى يحمل إناء الماء ، كان كل شيء قد انتهى فوقف أمام الجثة مذهولا وقف أمامها لحظات ، ثم اندفع نحو المدينة كرة أخرى الصرخ صرخات مجنونة تشبه العواء ، فلا يجيب صرخاته إلا الصدى ، يرن في جنبات المدينة المسحورة . وظل الفتى يامولاى - أياما يجول في المدينة ويصعد القصر ، و يدخل المخدع ، عسى أن تقع المعجزة فيبطل السحر . ولكن هيهات . - . . وساءت حالته فامتنع عن الطعام والشراب ، وهام في الغابة كالوحش الذاهل ، يجول في منعرجاتها ومنفسحاتها ، ويصعد البرج القائم فيها. ثم يرتد إلى المدينة، فيظل يصرخ في جنباتها صرخات مذعورة إلى أن يدركه الإعياء، فينطرح على الأرض حيثما اتفق : في الطريق، أو على عتبة دار، أو في منعرج من الغابة. والفتاة تتبعه حيثما ذهب، وتلمحه عن كثب، خيفة أن تفترسه الوحوش، أو يموت من الجوع. وفى لحظات ذهوله تجرعه جرعة ماء، أو تدس في فمه لقمة أو ثمرة فاكهة، حتى لا يقتله الظمأ والطوى.

وظل على هذه الحال أياما طويلة والفتاه الوفية المحجبة تتبعه كظله، حتى أفاق من غاشيته، وسرى اليأس إلى قلبه، وعلم أنه كان حلم وانتهى كما تنتهي الأحلام، فعاد إلى حبيبته الأولى

ولاحظ ذات يوم أن الزمن في المدينة لا يتغير، فهو أبداً مطلع صبح. وعندئذ أدرك مع ابنة عمه معنى قول الساحرة العجوز :

وقف الزمن. جمدت الحياة

وأدرك شهر زاد الصباح، فكنت من الكلام المباح.

========10.

​الليلة العاشرة​ المؤلف سيد قطب

فلما كانت الليلة العاشرة قالت :

منذ هذا الوقت — يامولاي — استحالت المدينة المسحورة أعجوبة الزمان ، وقصة كل لسان ، وتناقل الركبان أخبارها، فوفد عليها الناس من مشارق الأرض ومغاربها ، ينظرون هذه العجيبة الغريبة ، و يتذاكرون حوادثها القريبة والبعيدة. وكان أعجب شي فيها غير التماثيل الآدمية الجامدة. ذلك الوقت الذي لا يتغير ليلا ولانهاراً. صيفاً ولا شتاء ، فهو دائماً مطلع صبح ، حينها ترسل الشمس أول خيوطها الذهبية.

ودار الفلك يامولاي ثم دار ، وانقرض الجيل الذي شهد الحادثة وتلته أجيال ، والمدينة قائمة بكل مافيها ومن فيها ، وقد وقف الزمن على بابها بأحداثه وغيره ، وتقلباته وأفاعيله ، فكل مافيها على حاله ، والدنيا من حولها تتغير وتتبدل.

واستحال الزمان ، وتغيرت الدول ، فدخلت المدينة والإقليم من حولها في المملكة الشمالية ، ثم ظلت الممالك الأخرى تندمج حتى صارت مملكة واحدة عظيمة.

أما المدينة المسحورة فقد قام عليها الحراس ينظمون زيارتها للوافدين عليها من مشارق الأرض ومغاربها ، والأدلاء يشرحون للزائرين قصتها ، و يروون لهم أعاجيبها ، جيلا بعد جيل ، حتى اكتملت ألف عام ، منذ أن وقف فيها الزمان . وفي ذات يوم قدم المدينة فيمن يقدمون كل يوم للزيارة شاب مثال بارع . جاء يستلهم الفن الإلهي القائم في التماثيل الآدمية بالمدينة المسحورة .

وطاف بالمدينة شارعاً شارعاً ، وبيتا بيتا ، فراعته هـذه المجموعة العجيبة من التماثيل المبثوثة . ووقف مبهوتاً أمام ذلك الغنى الفائض في التنويع الذي لانهاية له . في السحن والملامح ، والقسمات والمعاني ، فهناك آلاف التماثيل ليس فيها تمثال كتمثال : نساء وفتيات ، وشبان وشيوخ ، وأولاد و بنات ، من كل حجم ولون ، ومن كل طابع وشكل . ومئات الحركات ، وألوف اللفتات وأشتات لا حصر لها من المعاني الكامنة في السحن ، الناطقة في القسمات .

وقف ويستقرى أشتات المعاني وأشتات الرموز ، ويتأمل ۱۲۲ هذا المتحف الإلهي العظيم ، فأحس بالضآلة والصغر في نفسه، وفى فنه ، وفي نفوس المثالين أجمعين . إن جميع ما أخرجه مثالو الدنيا وما يخرجون ، لن يكون شيئاً أمام المدينة المسعورة ، وأمام الفنى الوافر في التنويع والتصوير . ثم دخل القصر ، وسار في أبهائه وردهاته ، وتأمل في أهله وشخصياته . . . وقاده الدليل إلى أعظم حجرة فيه : حجرة الأميرة المسحورة . . وما كاد الشاب يلمح الأميرة في وضعها الفني الجميل ، حتى وقف أمامها مبهوتا . . . إن أعظم مثال على هذه الأرض لن يستطيع إخراج هذا التمثال : في وضعه . في ملامحه . في قسماته . هذه الاثناءة في ذلك الجسد الفاتن . هـذا الصدر في بروزه الناهد . هذا الجيد المشرئب المتطلع . هذا الوجه الذي تفيض قسماته بشراً وسحراً ، هذا التغر الذي بابتسامة ساحرة . هاتان العينان الحالمتان المغرقتان في الحلم الوضىء . وقف الفتى لحظة مبهوتاً ، ثم خطا نحو التمثال، وكأنما يخطو في (13 ۱۲۳

محراب ، ثم باعد وقارب ، والدليل يثرثر من حوله بالقصة العجيبة وهو مستغرق في التمثال ، كأنما استعال إلى تمثال ! وظل الدليل ينتهى من القصة ثم يعيدها حتى مل ، فصمت و بدا عليه الضيق من هذا الزائر الذي ينظر ببلاهة إلى التمثال ولا يزايله ، ودخل زائرون آخرون وخرجوا ، وهو واقف وقفته الذاهلة . . . وأخيراً نبهه الدليل في استقال إلى أن وقت الزيارة قد انتهى . فخرح يجر رجليه جراً ، وهو يعاود النظر إلى التمثال بين لحظة وأخرى !

-

منذ ذلك اليوم - يامولاى – والفتى المثال ينتظر الصبح بفارغ الصبر ، لينطلق إلى المدينة المسحورة ، ثم لا يضيع لحظة واحدة في مشاهدة التماثيل الأخرى ، إنما يقصد توة إلى مخدع الأميرة ، حيث يقف طول مدة الزيارة حيالها كالعابد المتبتل الذي يتطلع إلى إله !

وتكررت زياراته ولاحظ الحراس والأدلاء أطواره ، فلقبوه بالمجنون ، وصاروا يتغامزون عليه كلما دخل أو خرج ، وهو ذاهل عنهم بالتطلع إلى تمثاله الجميل ! ١٢٤ وخيل إليه أنه قد حفظ في مخيلته أدق دقائق التمثال ، فآوى إلى مرسمه يحاول أن ينحت تمثالا مثله ، وهو يمنى نفسه بالمجد والشهرة والخلود . وعكف أياما على تمثاله الصخرى حتى أتمه ، صورة طبق الأصل من نموذجه . ثم وقف أمامه يراه . . . ولكن لم تمض إلا دقائق حتى أهوى بأزميله على التمثال فحطمه تحطها وتركه جذاذاً . لقد خيل إليه أن التمثال النموذجي حى ، أما تمثاله فميت . فانطلق يعدو إلى التمثال الحى الحبيب . وفى نفسه لهفة ومل روحه اشتياق . ودخل المخدع ، والحراس والأدلاء يتصايحون : لقد عاد المجنون . ولكنه اندفع لايعبأ بل لا يسمع . اندفع حتى وقف أمام التمثال ، ثم دنا فركع بجواره ، ثم قرب فعانق التمثال ، مغمض العينين ، تائه الحس ، موله النفس ، وجالت في نفسه أمنية عظمى ، جمع فيها نفسه وحسه ، حتى رآها حقيقة واقعة لفرط اندماجه فيها : آه . لو تدب فيها الحياة ! . هنا يامولاي . تمت المعجزة الكبرى . لقد انتفض التمثال .. ۱۲۰

الجامد حياً ؟ والفتى مغمض العينين تائه عن الوجود ، وحينها أحس بحرارة الجسد الهامد بين يديه كان لايزال في غيبوبته ، يطالع حلمه الذي يغمر نفسه . فما راعه إلا صوت قريب منه وصوت آخر بعيد :

صوت يجاور أذنه : يالله !كيف قد جئت وأنا لا أدرى ؟ ! وصوت بجوار الباب : رباه ! شاب في مخدع الأميرة ! كانت المعجزة قد تمت يا مولاي . ففي اللحظة التي انتفض فيها التمثال الجامد حيا سرت الحياة في القصر و المدينة جميعاً . وكانت الوصيفة القائمة بالباب تنظر فترى الفتى في مخدع الأميرة ، وكانت الاميرة تنظر فترى الشاب ، وهو هو فتاها . ( فهو من نسله وهو شبيهه )

وكاد يجن . وهو يبصر المعجزة الكبرى . وجمدت الالفاظ على شفتيه ، إلا جملة واحدة ظل يرددها ساها حالما مبهوتا : وقعت المعجزة . وقعت المعجزة . . .

وعجبت الأميرة : ما باله هكذا مبهوتا مأخوذاً . وحسبته يذكر معجزة النصر على المغيرين ، أو معجزة التقائه بها بعد اليأس والقنوط . فراحت تقول : وقعت وقعت . ولكن كيف دخلت ها هنا . وأنا لا أدرى ؟ وما هذه الملابس التي ترتديها ؟ ومالك هكذا مبهوتا ؟ وهو ماض في ترديد الجملة الوحيدة التي يملكها ولما يئست من أن يرد عليها بشيء . قالت : - إذا لم تستطع أن تتكلم فاعزف لى لحن الغابة ! وهمت واقفة فطوقته بذراعيها . فأجفل منها لحظة ، ثم اندفع يضمها ضما شديدا .

-

...

أما الوصيفة التي راعها ما شاهدت ، فقد انطلقت تعدو إلى الملكة تخبرها . وما كادت تقبل حتى وجدت بعض الحراس يهرعون إلى الملك في ذعر شديد ، يعلنون إليه نبأ اقتحام المدينة بمخلوقات كثيرة من أجناس لم يروها من قبل أصلا ! وكان الذي حصل أن فوجىء المتفرجون بالحياة التي دبت في المدينة في اللحظة الأولى . وفوجىء المبعوثون بهؤلاء الغرباء الذين لم يروهم من قبل أبدأ . وتنبه حراس القصر والمدينة القدماء فحسبوا المغيرين قد ارتدوا على المدينة ، فانثنوا يعملون فيهم أسلحتهم

دفاعاً عن مليكهم ومدينتهم . وعم الذعر أولئك الزائرين وهم يرون التماثيل تحيا ، وتتخن فيهم جرحاً وقتلا -۱۲۷

وتعالت الصيحات من كل جانب ، وهرب من الزائرين من هرب ، وأخذ منهم بعض الأسرى !

وجي بالأسارى أمام الملك ، وهم في فزع وذهول ، وقيل للملك : هؤلاء بعض المغيرين أما الآخرون ففروا فراراً ! وأخذ الملك في استجوابهم عن بقية الجيش المغير ، وكيف خدعوا المدينة وأهلها فهر بوا ثم عادوا ؟ . . . وفى خوف يعقد الألسنة وذهول يحير العقول ، حاول المساكين أن يفصحوا عن المعجزة التي وقعت بين أيديهم منذ لحظة . فوقع بيانهم من الملك وحاشيته موقعاً عجيباً . وحسبوهم يهزأون بهم ، كما ظنوا بعقولهم الظنون .

وكان الخبر العجيب قـد ترامي إلى سلطات المملكة من الحراس الذين هربوا ومن الزائرين الذين نجوا ، فأقبل الحكام والوزراء والأهالي والعساكر لرؤية المعجزة الكبرى . أما الذين هم داخل المدينة فلم يجل في خاطرهم إلا أن جيوش الأعداء قد مجمت مرة أخرى ، ورأوا لكثرة الهاجمين أن لا مفر من التسليم! وكان انتشار الخبر قد هز البلاد هزأ ، فوفد الناس من ، كل جهة ، وراحوا يتطلعون في دهش إلى هؤلاء الآدميين الغرباء ... ولم تمض يا مولاي إلا ساعات انطلق الزمن فيها من عقاله حتى بدا على هذه المخلوقات فعل ألف عام ، فإذا هم يتهاوون جثثاً هامدة، وعظاماً نخرة ، ورفاتاً سحيقاً . والناس من حولهم في ذهول شديد.

أما الأميرة — يا مولاي — فقد وقف الزمن إزاءها عاجزاً . لقد كانت تحب . وماذا يصنع الزمن — يا مولاي — في قلب يحب ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جلباب المرأة المسلمة للشيخ الألباني

  جلباب المرأة المسلمة صفحة رقم -35-  مقدمة الطبعة الأولى :   بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه الكريم : ( يا...