Translate

Translate ترجم الصفحة لاي لغة تريد

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 18 فبراير 2024

ج1.المنتقى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال للذهبي



 

 

المنتقى من منهاج الاعتدال

 

في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال

 

للذهبي

 

 الأصل اختاره الذهبي من كتاب منهاج السنة النبوية لابن تيمية المقدمة

المنتقى من منهاج الاعتدال

المقدمة | الفصل الأول: في نقل المذاهب في الإمامة | الفصل الثاني: في المذهب الواجب الاتباع | الفصل الثالث: في إمامة علي | الفصل الرابع: في إمامة باقي الاثني عشر | الفصل الخامس: في الرد على إبطاله خلافة أبي بكر وعمر وعثمان | الفصل السادس: في الحجج على إمامة أبي بكر | فهرس

تصنيف: المنتقى من منهاج الاعتدال

=======

وبه نستعين

الحمد لله المنقذ من الضلال المرشد إلى الحق الهادي من يشاء إلى صراطه المستقيم.

أما بعد، فهذه فوائد ونفائس اخترتها من كتاب منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال تأليف شيخنا الإمام العالم أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى. فذكر أنه أُحضر إليه كتاب لبعض الرافضة في عصرنا، يعني ابن المطهر، منفقا لهذه البضاعة يدعو بها إلى مذهب الإمامية أهل الجاهلية ممن قلّت معرفتهم بالعلم والدين، فصنفه للملك المعروف الذي سماه فيه "خُدا بنده".

فالأدلة إما نقلية وإما عقلية. والقوم من أكذب الناس في النقليات وأجهل الناس في العقليات، ولهذا كانوا عند العلماء أجهل الطوائف. وقد دخل منهم على الدين من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد. والنصيرية والإسماعيلية والباطنية من بابهم دخلوا، والكفار والمرتدة بطريقهم وصلوا، فاستولوا على بلاد الإسلام وسبوا الحريم وسفكوا الدم الحرام.

وهذا المصنف سمى كتابه منهاج الكرامة في معرفة الإمامة. والرافضة فقد شابهوا اليهود في الخبث والهوى، وشابهوا النصارى في الغلو والجهل. وهذا المصنف سلك مسلك سلفه كابن النعمان المفيد والكراجكي وأبي القاسم الموسوي والطوسي. فإن الرافضة في الأصل ليسوا أهل خبرة بطريق المناظرة ومعرفة الأدلة وما يدخل فيها من المنع والمعارضة، كما أنهم جهلة بالمنقولات، وإنما عمدتهم على تواريخ منقطعة الإسناد، وكثير منها من وضع المعروفين بالكذب؛ فيعتمدون على نقل أبي مخنف لوط بن يحيى وهشام بن الكلبي.

قال يونس بن عبد الأعلى: قال أشهب: سُئل مالك رضي الله عنه عن الرافضة فقال: لا تكلمهم ولا ترو عنهم فإنهم يكذبون.

وقال حرملة: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: لم أر أحدا أشهد بالزور من الرافضة.

وقال مؤمل بن إهاب: سمعت يزيد بن هارون يقول: يُكتب عن كل مبتدع إذا لم يكن داعية إلا الرافضة فإنهم يكذبون.

وقال محمد بن سعيد الأصفهاني: سمعت شريكا يقول: احمل العلم عن كل من لقيته إلا الرافضة فإنهم يضعون الحديث ويتخذونه دينا.

وقال أبو معاوية: سمعت الأعمش يقول: أدركت الناس وما يسمونهم إلا الكذابين، يعني أصحاب المغيرة بن سعيد.

ورد شهادة من عرف بالكذب متفق عليه.

ومن تأمل كتب الجرح والتعديل رأى المعروف عند مصنفيها بالكذب في الشيعة أكثر منهم في جميع الطوائف. والخوارج مع مروقهم من الدين فهم من أصدق الناس، حتى قيل إن حديثهم من أصح الحديث. والرافضة يقرون بالكذب حيث يقولون ديننا التقية - وهذا هو النفاق؛ ثم يزعمون أنهم هم المؤمنون، ويصفون السابقين الأولين بالردة والنفاق، فهم كما قيل: رمتني بدائها وانسلت.

ثم عمدتهم في العقليات اليوم على كتب المعتزلة، فوافقوهم في القدر وسلب الصفات؛ وما في المعتزلة من يطعن في خلافة الشيخين، بل جمهورهم يعظمونهما ويفضلونهما.

وكان متكلمو الشيعة كهشام بن الحكم وهشام الجواليقي ويونس بن عبد الرحمن القمي يبالغون في إثبات الصفات ويجسمون. قال المصنف ابن المطهر: "أما بعد فهذه رسالة شريفة ومقالة لطيفة اشتملت على أهم المطالب في أحكام الدين وأشرف مسائل المسلمين، وهي مسألة الإمامة التي يحصل بسبب إدراكها نيل درجة الكرامة، وهي أحد أركان الإيمان المستحق بسببه الخلود في الجنان، فقد قال رسول الله ﷺ: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية. خدمت به خزانة السلطان الأعظم ملك ملوك طوائف العرب والعجم شاهنشاه غياث الملة والدين خدا بنده، ورتبتها على فصول: الأول في نقل المذاهب في هذه المسألة. الثاني أن مذهب الإمامية واجب الاتباع. الثالث في الأدلة على إمامة علي. الرابع في الاثني عشر. الخامس في إبطال خلافة أبي بكر وعمر وعثمان" رضي الله عنهم.

فيقال: الكلام على هذا من وجوه:

فقوله إن مسألة الإمامة أهم المطالب كذب بالإجماع، إذ الإيمان أهم. فمن المعلوم بالضرورة أن الكفار على عهد النبي ﷺ كانوا إذا أسلموا أجرى عليهم أحكام الإسلام ولم تذكر لهم الإمامة بحال. فكيف تكون أهم المطالب، أم كيف يكون الإيمان بإمامة محمد بن الحسن المنتظر من أربعمائة ونيف وستين سنة ليخرج من سرداب سامراء أهم من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه؟

ويقال للرافضة: إن كان ما بأيديكم كافيا في الدين فلا حاجة إلى المنتظر وإن لم يكن كافيا فقد أقررتم بالنقص والشقاء حيث كانت سعادتكم موقوفة على أمر آمر لا تعلمون بماذا أمر.

وكان ابن العود الحلي يقول: إذا اختلفت الإمامية على قولين أحدهما يعرف قائله والآخر لا يعرف قائله فالقول الذي لا يعرف قائله هو الحق لأن المنتظر المعصوم في تلك الطائفة.

فانظر إلى هذا الجهل، فإنه بتقدير وجود المنتظر لا يعلم أنه قال ذلك القول ولم ينقله عنه أحد، فمن أين نجزم بأنه قوله؟ فأصل دين هؤلاء مبني على مجهول ومعدوم. فالمقصود من الإمام طاعة أمره، ولا سبيل إلى معرفة أمره، فلا فائدة فيه أصلا لا بعقل ولا بنقل. فأوجبوا وجود المنتظر وعصمته، قالوا: لأن مصلحة الدين والدنيا لا تحصل إلا به. وهم فما حصلت لهم بالمنتظر مصلحة قط، والذين أنكروه لم تفتهم مصلحة في الدين ولا في الدنيا ولله الحمد.

فإن قلتم: إيماننا به كإيمان كثير من الصالحين والزهاد بإلياس والخضر والغوث والقطب ممن لا يعرف وجودهم ولا أمرهم ولا نهيهم؛ قلنا: ليس الإيمان بوجودهم واجبا عند أحد من العلماء، فمن أوجب الإيمان بوجودهم كان قوله مردودا كقولكم، وغاية ما يقوله الزهاد في أولئك إن المصدق بوجودهم أكمل وأفضل ممن ينكر وجودهم، ومعلوم بالاضطرار من الدين أن نبي الله ﷺ لم يشرع لأمته التصديق بوجود هؤلاء. فأما من زعم أن القطب أو الغوث هو الذي يمد أهل الأرض في هداهم ونصرهم ورزقهم وأن هذه الأمور لا تصل إلى أحد من أهل الأرض إلا بواسطته فهذا ضال يشبه قوله قول النصارى في الباب. وهذا كما قال بعض الجهلة في النبي ﷺ وفي شيوخهم إن علم أحدهم ينطبق على علم الله وقدرته فيعلم ما يعلمه الله ويقدر ما يقدره الله.

ثم الذي عليه المحققون أن الخضر وإلياس ماتا.

ولقد خلا بي بعض الإمامية وطلب أن أتكلم معه فقررت له قولهم من أن الله تعالى أمر العباد ونهاهم فيجب أن يفعل بهم اللطف، والإمام لطف لأن الناس إذا كان لهم إمام يأمرهم بالواجب وينهاهم عن القبيح كانوا أقرب إلى فعل المأمور فيجب أن يكون لهم إمام ولا بد أن يكون معصوما ليحصل المقصود به، ولم تدع العصمة لأحد بعد الرسول ﷺ إلا لعلي فتعين أن يكون إياه للإجماع على أن غيره ليس بمعصوم وعلي قد نص على الحسن و [الحسن على] الحسين رضي الله عنهم، إلى أن انتهت النوبة إلى محمد بن الحسن المنتظر. فاعترف بأن هذا تقرير جيد.

قلت: فانا وأنت طالبان للعلم والحق والهدى وهم يقولون من لم يؤمن بالمنتظر فهو كافر فهل رأيته أو رأيت من رآه أو سمعت له بخبر أو تعرف شيئا من كلامه؟ قال: لا. قلت: فأي فائدة في إيماننا بهذا وأي لطف حصل لنا به وكيف يكلفنا الله تعالى بطاعة شخص لا نعلم ما يأمر به ولا ما ينهى عنه ولا طريق لنا إلى معرفة ذلك أصلا -وهم من أشد الناس إنكارا لتكليف ما لا يطاق- فهل في تكليف ما لا يطاق أبلغ من هذا؟

فقال: إثبات هذا مبني على تلك المقدمات. قلت: لكن المقصود منها لنا ما يتعلق بنا نحن وإلا فما علينا مما مضى إذا لم يتعلق بنا منه أمر ولا نهي؟ وإذا كان كلامنا في تلك المقدمات لا يحصل لنا فائدة ولا لطفا علم أن الإيمان بالمنتظر من باب الجهل لا من باب اللطف والمصلحة. والذي عند الإمامية من النقل عن آبائه إن كان حقا محصلا للسعادة فلا حاجة إلى المنتظر، وإن لم يكن محصلا للنجاة والسعادة فما نفعهم المنتظر.

ثم مجرد معرفة الإنسان إمام وقته أو رؤيته لا يستحق به الكرامة إن لم يوافق أمره ونهيه، فما هو بأبلغ من الرسول ﷺ، فكيف بمن عرف الإمام وهو مضيع للفرائض معتد متعد للحدود. وهو يقولون: "حب علي رضي الله عنه حسنة لا يضر معها سيئة". فإن كانت السيئات لا تضر مع حب علي فلا حاجة إلى الإمام المعصوم.

وقولك: إن الإمامة أحد أركان الإيمان جهل وبهتان. فإن النبي ﷺ فسر الإيمان وشُعبه ولم يذكر الإمامة في أركانه ولا جاء ذلك في القرآن، بل قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} إلى قوله: {أولئك هم المؤمنون حقا} وقال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} وقال تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم إلى قوله وأولئك هم المتقون} إلى غير ذلك من الآيات. ولم يذكر الإمامة ولا أنها من أركان الإسلام.

وأما قولك في الحديث: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية. فنقول من روى هذا وأين إسناده؟ بل والله ما قاله الرسول ﷺ هكذا. وإنما المعروف ما روى مسلم أن ابن عمر جاء إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس أتيتك لأحدثك حديثا، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية».

وهذا حديث [حدث] به ابن عمر لما خلعوا أمير وقتهم يزيد مع ما كان عليه من الظلم، فدل الحديث على أن من لم يكن مطيعا لولاة الأمر أو خرج عليهم بالسيف مات ميتة جاهلية. وهذا ضد حال الرافضة فإنهم أبعد الناس عن طاعة الأمراء إلا كرها. [وهذا الحديث يتناول من قاتل في العصبية، والرافضة رءوس هؤلاء. ولكن لا يكفر المسلم بالاقتتال في العصبية فإن خرج عن الطاعة] ثم مات ميتة جاهلية لم يكن كافرا. وفي صحيح مسلم عن جندب البجلي مرفوعا: «من قتل تحت راية عمية يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقتلته جاهلية». وفي مسلم عن أبي هريرة: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات مات ميتة جاهلية». فطالما خرجت الرافضة عن الطاعة وفارقت الجماعة. وفي الصحيحين عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإن من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية».

ثم لو صح الحديث الذي أوردته لكان عليكم، فمن منكم يعرف إمام الزمان أو رآه أو رأى من رآه أو حفظ عنه مسألة؟ بل تدعون إلى صبي ابن ثلاث أو خمس سنين دخل سردابا من أربعمائة وستين عاما ولم ير له عين ولا أثر ولا سمع له حس ولا خبر. وإنما أُمرنا بطاعة أئمة موجودين معلومين لهم سلطان وأن نطيعهم في المعروف دون المنكر. ولمسلم عن عوف بن مالك عن النبي ﷺ قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم» قلنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: «لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة». وفي الباب أحاديث عدة تدل على أن الأئمة ليسوا بمعصومين. ثم الإمامية يسلمون أن مقصود الإمامة إنما هو في الفروع، أما الأصول فلا يحتاج فيها إلى الإمام وهي أهم وأشرف. وإمام الزمان اعترفوا بأنه ما حصلت به بعدُ مصلحة أصلا. فأي سعي أضل من سعي من يتعب التعب الطويل ويكثر القال والقيل ويفارق جماعة المسلمين ويلعن السابقين ويعين الكفار والمنافقين ويحتال بأنواع الحيل ويسلك أوعر السبل ويعتضد بشهود الزور ويدلي أتباعه بحبل الغرور، ومقصوده بذلك أن يكون له إمام يدله على أحكام الله تعالى، وما حصل له من جهته منفعة ولا مصلحة إلا ذهاب نفسه حسرات وارتكب الأخطاء وطول الأسفار وأدمن الانتظار وعادى أمة محمد ﷺ لداخل في سرداب لا عمل له ولا خطاب. ولو كان متيقن الوجود لما حصل لهم به منفعة. فكيف وعقلاء الأمة يعلمون أنه ليس معهم إلا الإفلاس وأن الحسن بن علي العسكري رضي الله عنه لم يعقب كما ذكره محمد بن جرير الطبري وعبد الباقي بن قانع وغيرهما من النسابين. 1

ثم يقولون دخل السرداب وله [إما] سنتان وإما ثلاث وإما خمس؛ وهذا يتيم بنص القرآن تجب حضانته وحفظ ماله، فإذا صار له سبع سنين أُمر بالصلاة. فمن لا توضأ ولا صلى وهو تحت الحجر لو كان موجودا فكيف يكون إمام أهل الأرض وكيف تضيع مصلحة الإمامة مع طول الدهور.

هامش

قال الذهبي في سير الأعلام: "وممن قال إن الحسن العسكري لم يعقب محمد بن جرير الطبري ويحيى بن صاعد، وناهيك بهما معرفة وثقة".

=====================

الفصل الأول

(في نقل المذاهب في هذه المسألة)

قال المؤلف الرافضي: ذهبت الإمامية إلى أن الله عدل حكيم لا يفعل قبيحا ولا يظلم وأنه رءوف بالعباد يفعل لهم ما هو الأصلح لهم - إلى أن قال - ثم أردف الرسالة بعد موت الرسول بالإمامة فنصب أولياء معصومين ليأمن الناس من غلطهم وسهوهم ولئلا يخلي الله العالم من لطفه ورحمته وأنه لما بعث محمدا ﷺ قام بثقل الرسالة ونص على أن الخليفة من بعده علي ثم من بعد علي ولده الحسن ثم على ولده الحسين ثم على [علي] بن الحسين ثم على محمد ثم على جعفر ثم على [موسى بن جعفر ثم على] علي بن موسى ثم على محمد بن علي الجواد ثم على علي بن محمد الهادي ثم على الحسن بن علي العسكري ثم على الحجة محمد بن الحسن. وأن النبي ﷺ لم يمت إلا عن وصية بالإمامة. وأهل السنة ذهبوا إلى خلاف ذلك كله فلم يثبتوا العدل والحكمة في أفعاله تعالى وجوزوا عليه فعل القبيح والإخلال بالواجب، وأنه تعالى لا يفعل لغرض بل أفعاله كلها لا لغرض من الأغراض ولا لحكمة وأنه يفعل الظلم والعبث وأنه لا يفعل الأصلح لعباده بل [ما] هو الفساد في الحقيقة كفعل المعاصي وأنواع الكفر فجميع أنواع الفساد الواقعة في العالم مسندة إليه. وأن المطيع لا يستحق ثوابا والعاصي لا يستحق عقابا، قد يعذب النبي ويثيب إبليس وفرعون. وأن الأنبياء غير معصومين بل قد يقع منهم الخطأ والفسق والكذب. وأن النبي ﷺ لم ينص على إمامة بل مات عن غير وصية وأن الإمام بعده أبو بكر بمبايعة عمر وبرضا أربعة أبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة وأسيد بن حضير وبشير بن سعد؛ ثم من بعده عمر بنص أبي بكر؛ ثم عثمان بنص عمر على ستة هو أحدهم فاختاره بعضهم؛ ثم علي بمبايعة الخلق له. [ثم اختلفوا] فقال بعضهم إن الإمام بعده حسن وبعضهم قال معاوية. ثم ساقوا الإمامة في بني أمية إلى أن ظهر السفاح.

قلنا: هذا النقل لمذهب أهل السنة والرافضة فيه من التحريف والكذب ما نذكره. فمنه أن إدخال القدر والعدل في هذا الباب باطل من الجانبين إذ كل قول منه قد قال به طوائف من السنة والشيعة؛ فالشيعة منهم طوائف تثبت القدر وتنكر التعديل والتجوير، والذين يقرون بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فيهم طوائف تقول بالتعديل والتجوير؛ فإن المعتزلة أصل هذا، وإن شيوخ الرافضة كالمفيد والموسوى والطوسي والكراجكي إنما أخذوا ذلك من المعتزلة. وإلا فالقدماء من الشيعة لا يوجد في كلامهم شيء من هذا. فذكره القدر في مسائل الإمامة لا مدخل له بوجه. وما نقله عن الإمامية لم يحرره. فإن من تمام قولهم إن الله لم يخلق شيئا من أفعال الحيوان بل تحدث الحوادث بغير قدرته ولا خلقه. ومن قولهم إن الله لا يقدر أن يهدي ضالا ولا يقدر أن يضل مهتديا ولا يحتاج أحد من البشر إلى أن يهديه الله بل الله قد هداهم [هدى] البيان وأما الاهتداء فقد يهتدي بنفسه لا بمعونة الله له. ومن قولهم إن هدي الله للمؤمنين والكفار سواء ليس على المؤمنين نعمة في الدين أعظم من نعمته على الكافرين بل قد هدى عليا بما هدى أبا جهل بمنزلة الأب الذي يعطي أحد ابنيه دراهم ويعطي الآخر مثلها فأنفقها هذا في الطاعة وهذا في المعصية. ومن أقوالهم إنه يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء. فلا يثبتون لله مشيئة عامة ولا قدرة تامة ولا خلقا متناولا لكل حادث: وهذا نص قول المعتزلة، ولهذا كانت الشيعة في هذا على قولين. وقوله: "إنه نصب أولياء معصومين لئلا يخلي الله العالم من لطفه"

فهم يقولون إن الأئمة المعصومين مقهورون مظلومون عاجزون ليس لهم سلطان ولا قدرة حتى أنهم يقولون ذلك في علي رضي الله عنه منذ مات النبي ﷺ إلى أن استخلف وفي الاثني عشر ويقرون أن الله ما مكنهم ولا ملّكهم. وقد قال تعالى: {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما}

فإن قيل: المراد بنصبهم أنه أوجب عليهم طاعتهم فإذا أطاعوهم هدوهم ولكن الخلق عصوهم؛ فيقال: لم يحصل بمجرد ذلك في العالم لا لطف ولا رحمة بل إنما حصل تكذيب الناس لهم ومعصيتهم إياهم. والمنتظر ما انتفع به من أقر به ولا من جحده. وأما سائر الاثني عشر سوى علي رضي الله عنه فكانت المنفعة بأحدهم كالمنفعة بأمثاله من أئمة الدين والعلم، وأما المنفعة المطلوبة من أولي الأمر فلم تحصل بهم. فتبين أن ما ذكره من اللطف تلبيس وكذب.

وقوله: "إن أهل السنة لم يثبتوا العدل والحكمة إلخ" نقل باطل عنهم من وجهين: أحدهما أن كثيرا من أهل النظر الذين ينكرون النص يثبتون العدل والحكمة كالمعتزلة ومن وافقهم؛ ثم سائر أهل السنة ما فيهم من يقول إنه تعالى ليس بحكيم ولا إنه يفعل قبيحا، فليس في المسلمين من يتكلم بإطلاق هذا إلا حل دمه. ولكن مسألة القدر فيها نزاع في الجملة فقول المعتزلة ذهب إليه متأخرو الإمامية وجمهور المسلمين من الصحابة والتابعين وأهل البيت فتنازعوا في تفسير عدل الله وحكمته والظلم الذي يجب تنزيهه عنه وفي تعليل أفعاله وأحكامه، فقالت طائفة إن الظلم ممتنع عليه وهو محال لذاته كالجمع بين الضدين وإن كل ممكن مقدور فليس هو ظلما. وهؤلاء يقولون إنه لو عذب المطيعين ونعّم العصاة لم يكن ظلما. وقالوا: الظلم التصرف فيما ليس له والله له كل شيء. وهذا قول كثير من أهل الكلام المؤمنين بالقدر وقول عدة من الفقهاء. وقالت طائفة: بل الظلم مقدور ممكن والله لا يفعله لعدله وبهذا مدح نفسه إذ يقول: {إن الله لا يظلم الناس شيئا} والمدح إنما يكون بترك المقدور. وقالوا: وقد قال: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما} وقال تعالى: {وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون} وقال: {وما أنا بظلام للعبيد} وإنما نزه نفسه عن أمر يقدر عليه لا على المستحيل. وثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أن الله يقول: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي». فقد حرم الظلم على نفسه كما {كتب على نفسه الرحمة} وفي الصحيح: «إن الله لما قضى الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي». وما كتبه على نفسه أو حرمه على نفسه فلا يكون إلا مقدورا له، فالممتنع لنفسه لا يكتبه على نفسه ولا يحرمه على نفسه. وهذا قول أكثر أهل السنة [والمثبتين للقدر] من [أهل] الحديث والتفسير والفقه والكلام والتصوف. وعلى هذا القول فهؤلاء هم القائلون بعدل الله وإحسانه دون من يقول من القدرية إن من فعل كبيرة حبط إيمانه فهذا نوع من الظلم الذي نزه الله نفسه عنه وهو القائل: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} فمن اعتقد أن منه على المؤمن بالهداية دون الكافر ظلم فهذا جهل لوجهين: أحدهما أن هذا تفضيل، قال الله تعالى: {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} وكما قالت الأنبياء: {إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء} فهو تعالى إلا يضع العقوبة إلا في المحل الذي يستحقها لا يضع العقوبة على محسن أبدا. ولهذا قيل: كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل. ولهذا يخبر أنه يعاقب الناس بذنوبهم وأن إنعامه عليهم إحسان منه. وفي الصحيح فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. وقال تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله} أي ما أصابك من نعم تحبها كالنصر والرزق فالله أنعم بذلك عليك وما أصابك من نقم تكرهها فبذنوبك وخطاياك؛ فالحسنات والسيئات هنا النعم والمصائب كما قال: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} وقال: {إن تصبك حسنة تسؤهم} وقال: {إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها}

وأجمع المسلمون على أنه تعالى موصوف بالحكمة. فقالت طائفة معناها راجع إلى العلم بأفعال العباد وإيقاعها على الوجه الذي أراده. وقال جمهور السنة: بل هو حكيم في خلقه وأمره، والحكمة ليست هي مطلق المشيئة إذ لو كان كذلك لكان كل مريد حكيما. ومعلوم أن الإرادة تنقسم إلى إرادة محمودة ومذمومة بل الحكمة ما في خلقه وأمره من العواقب المحمودة. وأصحاب القول الأول كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء يقولون ليس في القرآن لام التعليل في أفعال الله بل ليس فيه إلا لام العاقبة. وأما الجمهور فيقولون بل لام التعليل داخلة في أفعاله وأحكامه. وهذه المسألة لا تتعلق بالإمامة أصلا. وأكثر أهل السنة على إثبات الحكمة والتعليل. فمن أنكر ذلك احتج بحجتين: إحداهما أن ذلك يلزم التسلسل فإنه إذا فعل لعلة فتلك العلة أيضا حادثة وتفتقر إلى علة إن وجب أن يكون لكل حادث علة وإن عقل الإحداث بلا علة لم يحتج إلى إثبات علة. الثانية أنهم قالوا من فعل لعلة كان مستكملا بها لأنه لو لم يكن حصول العلة أولى من عدمها لم تكن علة والمتكمل بغيره ناقص بنفسه وذلك ممتنع على الله. وأوردوا على المعتزلة حجة تقطعهم على أصولهم فقالوا: العلة التي فعل لأجلها إن كان وجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء امتنع أن تكون علة، وإن كان وجودها أولى فإن كانت عنه منفصلة لزم أن تستكمل بغيره وإن كانت قائمة به لزم أن يكون محلا للحوادث.

وأما المجوزون للتعليل فهم متنازعون فالمعتزلة تثبت من التعليل ما لا يعقل وهو فعل لعلة منفصلة عن الفاعل مع كون وجودها وعدمها إليه سواء.

وأما القائلون بالتعليل فإنهم يقولون إن الله يحب ويرضى وذلك أخص من الإرادة. وأما المعتزلة وأكثر الأشعرية فيقولون المحبة والرضاء والإرادة سواء. فجمهور السنة يقولون لا يحب الكفر ولا يرضاه وإن كان داخلا في مراده كما دخلت سائر المخلوقات لما في ذلك من الحكمة، وهو وإن كان شرا بالنسبة إلى الفاعل فليس كل ما كان شرا بالنسبة إلى الفاعل يكون عديم الحكمة بل لله في مخلوقاته حكم قد تخفى. ويجيبون عن التسلسل بجوابين: أحدهما أن يقال هذا تسلسل الحوادث في المستقبل لا في الحوادث الماضية فإنه إذا فعل فعلا لحكمة كانت الحكمة حاصلة بعد الفعل فإذا كانت تلك الحكمة يطلب منها حكمة أخرى بعدها كان تسلسلا في المستقبل وهو جائز عند جماهير الأمة فإن نعيم الجنة و[عذاب] النار دائمان مع تجدد الحوادث فيهما، وإنما أنكر ذلك جهم، زعم أن الجنة والنار تفنيان، وأبو الهذيل العلاف زعم أن حركات أهل الجنة والنار تنقطع ويبقون في سكون دائم؛ وذلك أنهم اعتقدوا أن التسلسل في الحوادث ممتنع في الماضي، ففيه أيضا قولان لأهل الإسلام فمنهم من يقول إن الله لم يزل متكلما إذا شاء ولم يزل فعالا مع قولهم إن كل ما سواه محدث وأنه ليس في العالم شيء قديم مساوٍ لله تعالى كما تقول الفلاسفة القائلون بقدم الأفلاك وأن المبدع علة تامة موجب بذاته، وهذا ضلال إذ العلة تستلزم معلولها ولا يجوز تأخرها عنه والحوادث مشهورة في العالم فلو كان الصانع موجبا بذاته علة تامة مستلزمة لمعلولها لما حدث شيء من الحوادث في الوجود إذ الحادث يمتنع أن يكون صادرا عن علة تامة أزلية فلو كان العالم قديما لكان مبدعه علة تامة والعلة التامة لا يتخلف عنها شيء من معلولها فحدوث الحوادث دليل على أن فاعلها ليس بعلة تامة، وإذا انتفت العلة التامة في الأزل بطل القول بقدم العالم، لكن لا ينفي أن الله لم يزل متكلما إذا شاء ولم يزل فعالا لما يشاء. وعمدة الفلاسفة في قدم العالم قولهم يمتنع حدوث الحوادث بلا سبب حادث فيمتنع تقدير ذات معطلة عن الفعل لم تفعل ثم فعلت من غير حدوث سبب أصلا. وهذا لا يدل على قدم شيء بعينه إنما يدل على أنه لم يزل فعالا، فإذا قدر أنه فعال لأفعال تقوم بنفسه أو مفعولات حادثة شيئا بعد شيء كان ذلك وفاء بموجب هذه الحجة مع القول بأن كل ما سوى الله كائن بعد أن لم يكن. قال هؤلاء: فقد أخبر تعالى بأنه {خالق كل شيء} ولا يكون المخلوق إلا مسبوقا بالعدم فليس شيء من المخلوقات مقارنا لله كما تقوله الفلاسفة إن العالم معلول له وهو موجب له مفيض له وهو متقدم عليه بالشرف والعلية والطبع لا بالزمان.

إلى أن قال: الوجه الثاني لا بد أن يكون الفاعل موجودا عند وجود المفعول لا يجوز عدمه عند ذلك إذ المعدوم لا يفعل موجودا ونفس إيجابه وفعله واقتضائه وإحداثه لا يكون ثابتا بالفعل إلا عند وجود المفعول فلو قدر أن فعله اقتضاه فوجد بعد عدمه لزم أن يكون فعله وإيجابه عند عدم المفعول الموجب وإذا كان كذلك فالموجب لحدوث الحوادث إذا قدر أنه يفعل الثاني بعد الأول من غير أن تحدث له صفة يكون بها فاعلا [للثاني] كان المؤثر التام معدوما عند وجود الأثر، وهذا محال. والواحد من الناس إذا قطع مسافة وكان قطعه للجزء الثاني مشروطا بالأول فإنه إذا قطع الأول حصل له [أمور تقوم به من قدرة وإرادة وغيرهما تقوم بذاته بها] يصير حاصلا في الجزء الثاني لا [أنه] لمجرد عدم الأول صار قاطعا للثاني فإذا شبهوا فعله للحوادث بهذا لزمهم أن تتجدد لله أحوال تقوم به عند إحداث الحوادث وإلا إذا كان هو لم يتجدد له حال وإنما وجد عدم الأول فحاله قبل وبعد سواء فاختصاص أحد الوقتين بالإحداث لا بد له من مخصص ونفس صدور الحوادث لا بد له من فاعل والتقدير أنه على حال واحدة من الأزل إلى الأبد فيمتنع مع هذا التقدير اختصاص وقت دون وقت بشيء منها. وابن سينا وغيره من القائلين بقدم العالم بهذا احتجوا على المعتزلة فقالوا إذا كان في الأزل لا يفعل وهو الآن على حاله فهو الآن لا يفعل وقد فرض فاعلا، هذا خلف وإنما لزم ذلك من تقدير ذات معطلة عن الفعل، فيقال لهم: ذا بعينه حجة عليكم في إثبات ذات بسيطة لا يقوم بها فعل ولا وصف مع صدور الحوادث عنها وإن كانت بوسائط لازمة لها فالوسط اللازم لها قديم بقدمها وقد قالوا إنه يمتنع صدور الحوادث عن قديم هو على حال واحدة كما كان.

الوجه الثالث أنهم قالوا إن الواجب فياض دائم الفيض وإنما يتخصص بعض الأوقات بالحدوث لما يتجدد من حدوث الاستعداد والقبول وحدوث الاستعداد والقبول هو سبب حدوث الحركات: فهذا باطل إذ هذا إنما يتصور إذا كان الفعال الدائم الفيض ليس هو المحدث لاستعداد القبول كما تدعونه في العقل الفعال فتقولون إنه دائم الفيض ولكن يحدث استعداد القوابل بسبب حدوث الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية وتلك ليست صادرة عن العقل الفعال. وأما في المبدع الأول فهو المبدع لكل ما سواه فعنه يصدر الاستعداد والقبول.

إلى أن قال: وإذا كان هو سبحانه [الفاعل] لذلك كله امتنع أن يكون علة تامة أزلية مستلزمة لمعلولها لأن ذلك يوجب أن يكون معلوله كله أزليا وكل ما سواه معول له فيلزم أن يكون ما سواه أزليا. وهذه مكابرة للحس وفساد هذا معلوم بالضرورة. وإنما عظمت حجتهم على أهل الكلام المذموم الذين اعتقدوا أن الرب تعالى كان في الأزل يمتنع منه الفعل والكلام بقدرته ومشيئته وكان حقيقة قولهم إنه لم يكن قادرا في الأزل على الكلام والفعل بمشيئته وقدرته لكون ذلك ممتنعا لنفسه والممتنع لا يدخل تحت المقدور وأنه صار قادرا على الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادرا عليه وأنه انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي، وهذا قول المعتزلة ومن وافقهم والشيعة والكرامية. وأما الكلام فلا يدخل تحت القدرة والمشيئة بل هو شيء واحد لازم لذاته، وهو قول ابن كلاب والأشعري. وقال طوائف من أهل الكلام والفقه والحديث ويعزى ذلك إلى السالمية وحكاه الشهرستاني عن السلف والحنابلة إنه حروف أو حروف وأصوات قديمة الأعيان لا تتعلق بمشيئته وقدرته. وليس هذا قول جمهور أئمة الحنابلة، ولكنه قول طائفة منهم ومن المالكية والشافعية. وقالوا: دل الدليل على أن دوام الحوادث ممتنع وأنه يجب أن يكون للحوادث مبدأ وأنكروا حوادث لا أول لها وقالوا وجب أن يكون كل ما تقارنه الحوادث محدثا فيمتنع أن يكون الباري لم يزل فاعلا متكلما بمشيئته بل امتنع أن يكون لم يزل قادرا على ذلك لأن القدرة في الممتنع ممتنعة. قالوا وبهذا يعلم حدوث الجسم لأنه لا يخلو عن الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. وما فرقوا بين ما لا يخلو عن نوع الحوادث وبين ما لا يخلو عن عين الحوادث.

فيقال لهم الفلاسفة وغيرهم: فهذا الدليل الذي أثبتم به حدوث العالم هو يدل على امتناع حدوث العالم فكان ما ذكرتموه إنما يدل على نقيض ما قصدتموه وذلك لأن الحادث لا بد أن يكون ممكنا والممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح تام والإمكان ليس له وقت محدود فما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله، فيجب أن الفعل لم يزل ممكنا جائزا فيلزم أنه لم يزل الرب تعالى قادرا عليه فيلزم جواز حوادث لا أول لها ولا نهاية. وقالت القدرية والمعتزلة نحن لا نسلم أن إمكان الحوادث لا بداية له لكن نقول الحوادث يشترط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية لها، وذلك لأن الحوادث عندنا يمتنع أن تكون قديمة النوع بل يجب حدوث نوعها لكن لا يجب الحدوث في وقت بعينه، فالحوادث يشترط كونها مسبوقة بالعدو لا أول لها بخلاف جنس الحوادث.

إلى أن قال: هل لإمكان الحوادث انتهاء أم لا فكما أن هذا يستلزم الجمع بين النقيضين في [النهاية فكذلك الأول يستلزم الجمع بين النقيضين في] البداية.

إلى أن قال: والقادر المختار هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

إلى أن قال: والمقصود هنا أن الفلاسفة إن جوزوا حوادث بلا سبب حادث بطلت عمدتهم في قدم العالم وإن منعوا ذلك امتنع خلو العالم عن الحوادث وهم [لا] يسلمون أنه لم يخل من الحوادث. وإذا كان كل موجود معين من مرادات الخالق مقارنا للحوادث مستلزما لها امتنع إرادته دون إرادة لوازمه التي لا ينفك عنها والله رب كل شيء وخالقه فيمتنع أن يكون بعض ذلك بإرادته وبعضه بإرادة غيره بل الجميع بإرادته. وحينئذ فالإرادة الأزلية إما أن لا تكون مستلزمة لمقارنة المراد وإما أن تكون كذلك. فإن كان الأول لزم أن يكون المراد ولوازمه قديمة أزلية والحوادث لازمة لكل مصنوع فوجب أن تكون مرادة له وأن تكون أزلية إذ التقدير أن المراد مقارن للإرادة فيلزم أن تكون جميع الحوادث المتعاقبة قديمة أزلية وهذا ممتنع لذاته. وإن قيل إن الإرادة القديمة ليست مستلزمة لمقارنة مرادها لها لم يجب أن يكون المراد قديما أزليا ولا يجوز أن يكون حادثا لأن حدوثه بعد أن لم يكن يفتقر إلى سبب حادث كما تقدم. وإن كان أن يقال إن الحوادث تحدث بالإرادة القديمة من غير تجدد أمر من الأمور كما يقوله كثير من الأشعرية والكرامية ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد كان هذا مبطلا لحجة هؤلاء الفلاسفة على قدم العالم. فإن أصل حجتهم أن الحوادث لا تحدث إلا بسبب حادث فإذا جوزوا حدوثها عن القادر المختار بلا حادث أو جوزوا حدوثها بالإرادة القديمة بطلت عمدتهم وهم لا يجوزون ذلك. وأصل هذا الدليل أنه لو كان شيء من العالم قديما للزم أن يكون صدر عن مؤثر تام سواء سمى علة تامة أو موجبا بالذات أو قيل إنه قادر مختار واختياره أزلي مقارن لمراده. وسر ذلك أن ما كان كذلك لزم أن يقارنه أثره المسمى معلولا أو مرادا أو موجبا بالذات أو مبدعا أو غير ذلك من الأسماء لكن مقارنة ذلك له في الأزل تقتضي أن لا يحدث عنه شيء بعد أن لم يكن حادثا ولو لم يكن كذلك لم يكن للحوادث فاعل بل كانت حادثة بنفسها لا سيما قول من يقول إن العالم صدر عن ذات بسيطة لا تقوم بها صفة ولا فعل كابن سينا وغيره.

إلى أن قال شيخنا: وإنما القصد هنا التنبيه على أصل مسألة التعليل. فإن هذا المبتدع أخذ يشنع على أهل السنة بمسائل لا يذكر حقيقتها ولا أدلتها وينقلها على الوجه الفاسد، وما ينقله عن أهل السنة خطأ أو كذب عليهم أو على كثير منهم، وما صدق فيه فقولهم فيه خير من قوله؛ فإن غالب شناعته هنا على الأشعرية وهم خير من المعتزلة والرافضة. ويقولون لهم لما كان هذا الدليل عمدتكم استطال عليكم الدهرية والفلاسفة وابن سينا، وهذا الدليل مناف في الحقيقة لحدوث العالم لا مستلزم له فإذا كان هذا الحادث لا بد له من سبب حادث وكان هذا الدليل مستلزما لحدوث بلا سبب لزم أن لا يكون الله أحدث شيئا. وإذا جوزنا ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح انسد طريق إثبات الصانع الذي سلكتموه.

ويقولون أيضا للمعتزلة: أنتم مع هذا عللتم أفعال الله بعلل حادثة فيقال لكم هل توجبون للحوادث سببا حادثا أم لا فإن قلتم نعم لزم تسلسل الحوادث وبطل ما ذكرتموه، وإن لم توجبوا ذلك قيل لكم وكذلك ليس لها غاية حادثة بعدها إذ الفاعل المحدث لا بد لفعله من سبب ولا بد له من غاية، فإن قلتم لا سبب لإحداثه قيل لكم ولا غاية مطلوبة له بالفعل، فإن قلتم لا يعقل فاعل لا يريد حكمة إلا وهو عابث، قيل لكم ولا يعقل فاعل يحدث شيئا بغير سبب حادث أصلا بل ذا أشد امتناعا في العقل من ذاك. فقول من يقول إنه يفعل لمحض المشيئة بلا علة خير من قولكم في حكمته فإن هذا سلم من التسلسل وسلم من كونه يفعل لحكمة منفصلة عنه والمعتزلة تسلم له امتناع التسلسل. وأما من قال بالتعليل من أهل السنة والحديث فقد سلم من هذا وهذا.

وأما قولك: "جوزوا عليه فعل القبيح والإخلال بالواجب" فما قال مسلم قط إن الله يفعل قبيحا أو يخل بواجب ولكنكم معشر النفاة للقدر توجبون على الله من جنس ما يجب على العباد وتحرمون عليه ما يحرم عليهم فتقيسونه على خلقه فأنتم مشبهة للأفعال. فأما المثبتون للقدر من السنة والشيعة فمتفقون على أن الله تعالى لا يقاس بنا في أفعاله كما لا يقاس بنا في ذاته وصفاته، فليس ما وجب علينا أو حرم علينا يجب أو يحرم عليه ولا ما قبح منا قبح منه. واتفقوا على أنه إذا وعد بشيء كان وقوعه واجبا بحكم وعده لقوله تعالى: {إن الله لا يخلف الميعاد} وكذا لا يعذب أنبياءه ولا أولياءه بل يدخلهم جنته كما أخبر. لكن تنازعوا في مسألتين:

إحداهما أن العباد هل يعلمون بعقولهم حسن بعض الأفعال ويعلمون أن الله متصف بفعله ويعلمون قبح بعض الأفعال ويعلمون أن الله منزه عنه، على قولين أحدهما أن العقل لا يعلم به حسن ولا قبح، أما في حق الله فلأن القبيح منه ممتنع لذاته، وأما في حق العباد فلأن الحسن والقبح لا يثبت إلا بالشرع؛ قاله الأشعرية وكثير من الفقهاء وهم لا ينازعون في الحسن والقبح إذا فسر بمعنى الملائم والمنافي أنه قد يعلم بالعقل. وكذا لا ينازع كثير منهم في أنه إذا عني به كون الشيء صفة كمال أو صفة نقص أنه يعلم بالعقل. الثاني أن العقل قد يعلم به حسن كثير من الأفعال وقبحها في حق الله تعالى وحق عباده، وهذا مع أنه قول المعتزلة فهو قول الكرامية وجمهور الحنفية وقول أبي بكر الأبهري المالكي وأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب [الكلواذي] من الحنابلة. وذكر أبو الخطاب أنه قول أكثر أهل العلم وهو وقول أبي نصر السجزي وسعد الزنجاني من المحدثين. وقد تنازع الأئمة في الأعيان قبل ورود السمع، فقالت الحنفية وكثير من الشافعية والحنابلة إنها على الإباحة مثل ابن سريج وابن إسحاق المروذي وأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب، وقالت طائفة كأبي علي بن أبي هريرة وابن حامد والقاضي أبي يعلى إنها على الحظر. مع أن خلقا يقولون إن القولين لا يصحان إلا على أن العقل يحسن ويقبح، فمن قال إنه لا يعرف بالعقل حكم امتنع أن يصفها قبل الشرع بشيء كما قاله الأشعري وأبو الحسن الجزري وأبو بكر الصيرفي وابن عقيل.

وأما المسألة الثانية: تنازعوا هل يوصف الله بأنه أوجب على نفسه وحرم عليها أو لا معنى للوجوب إلا إخباره بوقوعه ولا معنى للتحريم إلا إخباره بعدم وقوعه. فقالت طائفة بالقول الثاني وهو قول من يطلق أن الله لا يجب عليه شيء ولا يحرم عليه شيء. وقالت طائفة بل هو أوجب على نفسه وحرم كقوله تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} وفي الحديث: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي. أما أننا نوجب عليه أو نحرم عليه فلا. فمن قال لا يجب عليه ولا يحرم امتنع عنده أن يكون فاعلا لقبيح أو مخلا بواجب، ومن قال هو أوجب على نفسه أو حرم عليها بإخباره إيانا فاتفقوا على أنه لا يخل بما التزمه.

ولكنك سلكت مسلك أمثالك تحكي الشيء بطريق الإلزام وتقوّل [أهل] السنة ما لم يقولوه فاستنبطت من قولهم "لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء" ما ادعيت عليهم، أي يفعل ما هو قبيح عندك.

وأيضا فأهل السنة يقولون بإثبات القدر ويصرحون بأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأن الهدي تفضل منه. وأنتم تقولون إنه يجب عليه أن يفعل بكل عبد ما تظنونه واجبا عليه ويحرم عليه ضد ذلك، فأوجبتم عليه أشياء وحرمتهم عليه أشياء وهو لم يوجبها على نفسه ولا عُلم وجوبها عليه بشرع ولا عقل. ثم تحكون عن من لم يوجبها أنه يقول إن الله يخل بالواجب، وهذا تلبيس.

وأما قولك: "ذهبوا إلى أنه لا يفعل لغرض ولا لحكمة البتة". فيقال أما تعليل أفعاله وأحكامه بالحكم ففيه قولان لأهل السنة، والغالب على العلماء عند الكلام في الفقه التعليل. وأما في الأصول فمنهم من يصرح بالتعليل. وأما الغرض فالمعتزلة تصرح به وهم من القائلين بإمامة الشيخين. وأما الفقهاء ونحوهم فهذا اللفظ يشعر عندهم بنوع من النقص فلا يطلقونه، فإن كثيرا من الناس إذا قيل لهم فلان له غرض أو فعل لغرض أرادوا أنه يفعل بهوى أو مراد مذموم والله منزه عن ذلك. وأما قولك يفعل الظلم والعبث فما قال بها مسلم تعالى الله عن ذلك. بل يقولون خلق أفعال عباده إذ قال: {هو خالق كل شيء} التي هي ظلم من فاعلها لا هي ظلم من خالقها، كما أنه إذا خلق عبادتهم وحجهم وصومهم لم يكن هو حاجا ولا صائما ولا عابدا وكذا إذا خلق جوعهم لم يسم جائعا، فالله تعالى إذا خلق في محل صفة أو فعلا لم يتصف هو بتلك الصفة ولا بذلك الفعل؛ ولو كان كذلك لاتصف بكل ما خلقه من الأعراض.

وهنا زلّت المعتزلة وأتباعهم الذين قالوا ليس لله كلام إلا ما خلقه في غيره وليس له فعل إلا ما كان منفصلا عنه، فلا يقوم به عندهم لا قول ولا فعل، بل جعلوا كلامه الذي كلم به ملائكته ورسله وأنزله على أنبيائه هو ما خلقه في غيره. فقيل لهم: الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لا على غيره، فإذا خلق حركة في محل كان هو المتحرك لا خالق الحركة، وكذلك إذا خلق لونا أو ريحا أو علما أو قدرة في محل كان هو المتلون والمتروح والقادر والعالم لا خالق ذلك، فكذلك إذا خلق كلاما في محل كان المحل هو المتكلم بذلك الكلام.

واحتجت المعتزلة بالأفعال فقالوا كما أنه عادل محسن بعدل وإحسان يقوم بخلقه فكذلك الكلام. فكان هذا حجة على من سلّم الأفعال لهم كالأشعرية فإنه ليس عندهم فعل يقوم به بل يقول: الخلق هو المخلوق لا غيره، وهو قول طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، لكن الجمهور يقولون: الخلق غير المخلوق، وهو مذهب الحنفية وهذا ذكره عن أهل السنة. ولما قال الأشعري هذا لزمه أن يقول: إن أفعال العباد فعل الله إذ كان فعله عنده مفعوله فجعل أفعال العباد فعلا لله ولم يقل هي فعلهم إلا على المجاز بل يقول هي كسبهم، وفسر الكسب بأنه ما حصل في محل القدرة المحدثة مقرونا بها. وأكثر الناس زيّفوا هذا وقالوا: عجائب الكلام ثلاثة طفرة النظام وأحوال أبي هاشم وكسب الأشعري. وقال جمهور السنة: أفعال العباد فعل لهم حقيقة؛ وهو قول آخر للأشعري.

وقولك: إنهم يقولون إنه لا يفعل الأصلح لعباده بل ما هو الفساد كفعل المعاصي والكفر وأن ذلك مسند إليه تعالى الله عن ذلك؛ قلنا: إن هذا قول بعض السنة كما أنه قول لطائفة من الشيعة. وجمهور أئمة السنة لا يقولون ما ذكرت بل يقولون إنه تعالى خالق كل شيء وربه ومليكه، فهو خالق العباد وحركاتهم وعباداتهم وإراداتهم. والقدرية ينفون عن ملكه خيار ما في ملكه وهو طاعة ملائكته وأنبيائه وأوليائه فيقولون لم يخلقها ولا يقدر أن يستعمل العبد فيها ولا يلهمه إياها ولا يقدر أن يهدي أحدا. وإبراهيم عليه السلام يقول: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} وقال: {رب اجعلني مقيم الصلاة}

وأما كونه لا يفعل ما هو الأصلح لهم فذهبت طائفة ممن أثبتت القدر إلى ذلك وقالوا خلقه وأمره متعلق بمحض المشيئة لا يتوقف على مصلحة. وذهب جمهور العلماء إلى أنه إنما أمر العباد بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم وأرسل الرسل للمصلحة العامة وإن كان في ذلك ضرر على بعض الناس ففيه حِكم. وهذا قول أكثر الفقهاء وأهل الحديث والتصوف والكرامية، ويقولون وإن كان في بعض ما يخلقه ما فيه ضرر كالذنوب فلا بد في ذلك من حكمة ومصلحة لأجلها خلقه الله.

وهذا الذي أوردته ليس من كيس شيوخك الرافضة بل هو من المعتزلة ردوا به على الأشعرية الذين بالغوا في مسائل القدر حتى نُسبوا إلى الجبر وأنكروا الطبائع والقوى التي في الحيوان وأن يكون للمخلوقات حكمة وعلة. ولهذا قيل إنهم أنكروا أن يكون الله يفعل ما يفعل لجلب منفعة لعباده أو دفع مضرة. وهم لا يقولون إنه لا يفعل مصلحة بل يقولون إن ذلك ليس بواجب عليه، ويقولون إنه لا يفعل شيئا لأجل شيء بل لمحض الإرادة.

وقولك: "إنهم يقولون إن المطيع لا يستحق ثوابا والعاصي لا يستحق عقابا بل قد يعذب النبي ويرحم إبليس"؛ فهو فرية على أهل السنة، وما فيهم من يقول إنه يعذب نبيا ولا أنه يثيب إبليس، بل قالوا يجوز أن يعفو عن المذنب وأن يخرج أهل الكبائر من النار فلا يخلد فيها من أهل التوحيد أحدا. وأما الاستحقاق فهم يقولون إن العبد لا يستحق بنفسه على الله شيئا، ويقولون إنه لا بد أن يثيب المطيعين كما وعد فإن الله لا يخلف وعده. وأما إيجاب ذلك على نفسه وإمكان معرفة ذلك بالعقل فهذا فيه نزاع. لكن لو قُدر أنه عذب من يشاء لم يكن لأحد منعه كما قال تعالى: {قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا} وهو تعالى لو ناقش من ناقشه من خلقه لعذبه كما قال ﷺ: «من نوقش الحساب عُذب». وقال: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله». قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته». والتحقيق أنه إذا قُدر أن الله عذب أحدا فلا يعذبه إلا بحق لأنه يتعالى عن الظلم.

وقولك: "إنهم يقولون إن الأنبياء غير معصومين"؛ فباطل، بل اتفقوا على عصمتهم فيما يبلغونه وهو مقصود الرسالة. وقد يقع منهم الذنب ولا يقرون عليه، ولا يقرون على خطأ ولا فسق أصلا، فهم منزهون عن كل ما يقدح في نبوتهم. وعامة الجمهور الذين يجوزون عليهم الصغائر يقولون إنهم معصومون من الإقرار عليها. وقد كان داود بعد التوبة أفضل منه قبلها. وإن العبد ليفعل السيئة فيدخل بها الجنة. ولكن الرافضة أشبهت النصارى فإن الله أمر بطاعة الرسل فيما أمروا وتصديقهم فيما أخبروا ونهى الخلق عن الغلو والإشراك، فبدلت النصارى وغلوا في المسيح حتى أشركوا به وبدلوا دينه فعصوه فصاروا عصاة بمعصيته وخارجين عن الدين بالغوا فيه. والرافضة غلت في الرسل والأئمة حتى اتخذوهم أربابا وكذبوا النص فيما أخبروا به من توبة الأنبياء واستغفارهم؛ فتراهم يعطلون المساجد من الجمعة والجماعة ويعظمون المشاهد المتخذة على القبور فيعكفون عليها ويحجون إليها، حتى منهم من يجعل الحج إليها أعظم من حج البيت. وقد قال ﷺ: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يُحذِّر ما فعلوا. وقال: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد» رواه ابن حبان في صحيحه. وقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» رواه مالك في الموطأ. وقد صنف شيخكم المفيد كتابا سماه حج المشاهد جعل قبور المخلوقين تحج كما يحج البيت.

وقولك: إن أهل السنة يقولون إن النبي ﷺ لم ينص على إمامة أحد وإنه مات عن غير وصية؛ فهذا ليس قول جميعهم بل ذهب من أهل السنة جماعة أن إمامة أبي بكر ثبتت بالنص، وذكر في ذلك أبو يعلى روايتين عن أحمد إحداهما أنها ثبتت بالاختيار، والثانية أنها ثبتت بالنص الخفي والإشارة. وبه قال الحسن البصري وبكر ابن أخت عبد الواحد وبعض الخوارج. قال ابن حامد: الدليل على إثبات خلافة الصديق بالنص ما أسنده البخاري عن جبير بن مطعم قال: أتت امرأة إلى النبي ﷺ فأمرها أن ترجع إليه فقالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ كأنها تريد الموت، قال: «إن لم تجديني فأتي أبا بكر». وذكر أحاديث وقال: وذلك نص على إمامته. قال: وحديث حذيفة: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر». وروى علي بن زيد بن جدعان عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ يوما: «أيكم رأى رؤيا؟» فقلت: أنا يا رسول الله، رأيت كأن ميزانا دلي من السماء فوزنت بأبي بكر فرجحت بأبي بكر ثم وزن أبو بكر بعمر فرجح أبو بكر ثم وزن عمر بعثمان فرجح عمر ثم رفع الميزان. فقال النبي ﷺ: «خلافة نبوة ثم يؤتي الله الملك من يشاء» رواه أحمد في مسنده. قال: وأخرج أبو داود عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: «رأى الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله ﷺ ونيط عمر بأبي بكر ونيط عثمان بعمر» قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله ﷺ قلنا: أما الصالح فرسول الله ﷺ وأما نوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه. قال: ومن ذلك حديث صالح بن كيسان عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت على رسول الله ﷺ اليوم الذي بدأ به وجعه فقال: «ادعي لي أباك واخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا» ثم قال: «يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر» وهذا في الصحيحين. وعن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما ثقل برسول الله ﷺ قال: «ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر لأكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه» ثم قال: «معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر». ثم أورد أحاديث تقديمه في الصلاة وأحاديث أخرى لا تصح.

قال ابن حزم: اختلفوا في الإمامة. فقالت طائفة إن النبي ﷺ لم يستخلف. وقالت طائفة لما استخلف أبا بكر على الصلاة كان دليلا على أنه أولاهم بالإمامة والخلافة. وقال بعضهم لا ولكن كان أثبتهم فضلا فقدموه. وقالت طائفة بل نص الرسول ﷺ على استخلاف أبي بكر بعده نصا جليا؛ وبه نقول لبراهين أحدها إطباق الناس كلهم الذين قال الله تعالى فيهم: {أولئك هم الصادقون} فقد اتفق المشهود لهم بالصدق على تسميته خليفة رسول الله ومعنى الخليفة في اللغة هو الذي استخلفه المرء لا الذي يخلفه بدون استخلاف لا يجوز غير هذا البتة في اللغة، يقال: استخلف فلان فلانا فهو خليفته ومستخلفه. فإن قام مكانه دون أن يستخلفه لم يقل إلا خلف فلان فلانا يخلفه فهو خالف. ومحال أن يعنوا بذلك الاستخلاف على الصلاة لأن أبا بكر لم يستحق هذا الاسم على الإطلاق في حياة النبي ﷺ فتبين أنها غير خلافة الصلاة. الثاني أن كل من استخلفه الرسول ﷺ كعلي في غزوة تبوك وابن أم مكتوم في غزوة الخندق وعثمان في غزوة ذات الرقاع وسائر من استخلفه على اليمن أو البحرين وغير ذلك لم يستحق أحد منهم هذا الإطلاق، فصح يقينا أنها الخلافة بعده على الأمة ومن المحال أن يجمعوا على ذلك وهو لم يستخلفه نصا. وأيضا فإن الرواية صحت أن امرأة قالت: يا رسول الله إن رجعت فلم أجدك كأنها تعني الموت، قال: فأتي أبا بكر. قال ابن حزم: وهذا نص جلي على استخلاف أبي بكر. وثبت أن رسول الله ﷺ قال لعائشة رضي الله عنها في مرضه: «لقد هممت أن أبعث إلى أبيك وأخيك وأكتب كتابا وأعهد عهدا لكيلا يقول قائل أنا أحق أو يتمنى متمنٍ ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر». فهذا نص على استخلاف أبي بكر على الأمة بعده. قلت: بل هو نص على عدم استخلافه إياه وإنما يدل على أنه رضي بأن يكون الخليفة من بعده وعلم أن الأمة تجتمع عليه من بعده فسكت عن النص الجلي واكتفى بما يَجمع الله عليه أمته. قال: وحجة من قال لم يستخلفه قول عمر إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني أبا بكر- وإن أترك فقد ترك من هو خير مني -يعني رسول الله ﷺ- وبما روي عن عائشة رضي الله عنها إذا سئلت من كان رسول الله ﷺ مستخلفا لو استخلف قالت: أبو بكر. قال ابن حزم: لا يعارض قول عمر وعائشة إجماع الصحابة والحديثين المسندين، وقد خفي على عمر وعائشة ذلك وأرادا استخلافا بعهد مكتوب.

إلى أن قال شيخنا ابن تيمية: ولا حجة للشيعة في القول بالنص. فالرواندية تقول بالنص على العباس كما قالت الإمامية بالنص على علي رضي الله عنه. قال القاضي أبو يعلى: ذهب جماعة من الرواندية إلى أن النبي ﷺ نص على العباس بعينه وأعلن ذلك وأن الأمة كفرت بهذا النص وارتدت وعاندت، ومنهم من قال بالنص على العباس وولده إلى أن تقوم الساعة. وروى ابن بطة بإسناده عن المبارك بن فضالة قال: سمعت الحسن يحلف بالله أن رسول الله ﷺ استخلف أبا بكر. وعمدة القائلين بالنص الجلي على أبي بكر تسمية الصحابة له خليفة رسول الله ﷺ، قالوا: إنما يقال ذلك لمن استخلفه غيره. واعتقدوا أن الفعيل بمعنى المفعول وليس كذلك، بل يقال لمن استخلفه غيره خليفة فلان ولمن خلف غيره أيضا. قال رسول الله ﷺ: «من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا». هذا صحيح، وصح قوله ﷺ: «اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل». وقال تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} وقال: {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم} وقال: {إني جاعل في الأرض خليفة} وقال: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض} أي خليفة عمن قبلك لا أنه خليفة عن الله كما يقوله بعض الاتحادية وأنه من الله كإنسان العين من العين وأنه الجامع لأسماء الله الحسنى وذكروا قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} وأنه مثل الله - تعالى الله عن المثلية فإن الله لا يخلفه غيره، فإن الخلافة إنما تكون عن غائب وهو سبحانه شهيد مدبر لخلقه وهو سبحانه يخلف عبده إذا غاب عن أهله. ويروى أن أبا بكر قيل له: يا خليفة الله، قال: بل أنا خليفة رسول الله ﷺ وحسبي ذلك.

ومما احتج به من قال إن خلافة أبي بكر بنص خفي قول النبي ﷺ الثابت عنه: «رأيت كأني على قليب أنزع منها فأخذها ابن أبي قحافة فنزع ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له ثم أخذها ابن الخطاب فاستحالت غربا فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه حتى صدر الناس بعطن» وقوله ﷺ: «مروا أبا بكر يصلي بالناس». فصلى بالناس مدة مرضه حتى أنه ﷺ كشف ستر الباب يوم مات وهم يصلون خلف أبي بكر فسُرّ بذلك. وقال ﷺ: «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر». وفي سنن أبي داود من حديث الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي ﷺ قال ذات يوم: «من رأى منكم؟» رؤيا فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت ثم وزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر، الحديث ورواه أيضا من حديث حماد بن سلمة عن ابن جدعان عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه نحوه وفيه فقال: «خلافة نبوة ثم يؤتي الله الملك من يشاء». ورواه أبو داود من حديث الزهري عن عمرو بن أبان عن جابر أنه كان يحدث أن رسول الله ﷺ قال: «أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط -يعني علق- برسول الله ﷺ ونيط عمر بأبي بكر ونيط عثمان بعمر» قال فلما قمنا من عند رسول الله ﷺ قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله ﷺ وأما نوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه. وأخرج من حديث حماد بن سلعة عن الأشعث بن عبد الرحمن عن أبيه عن سمرة أن رجلا قال: يا رسول الله رأيت كأن دلوا دلي من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها فشرب شربا ضعيفا ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها حتى تضلع ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع ثم جاء علي فأخذ بعراقيها فانتشطت فانتضح عليه منه شيء. وعن سعيد بن جمهان عن سفينة قال: قال رسول الله ﷺ: «خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله ملكه من يشاء أو الملك» قلت لسفينة: إن هؤلاء -يعني بني مروان- يزعمون أن عليا لم يكن بخليفة. فقال: كذبت أستاهُ بني الزرقاء.

فلا ريب أن قول هؤلاء من أهل السنة أوجه من قول من يقول إن خلافة علي أو العباس ثبتت بالنص، فإن هؤلاء ليس معهم حجة إلا مجرد الكذب المعلوم بالضرورة أنه باطل -علم ذلك من عرف أحوال الإسلام وأيام الرسول ﷺ- أو معهم استدلال بألفاظ لا تدل كحديث استنابة علي على المدينة نوبة تبوك.

والتحقيق أن النبي ﷺ لم يستخلف وإنما دل المسلمين وأرشدهم إلى أبي بكر بعدة أمور ورضي به وعزم أن يكتب له بالخلافة عهدا ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه. فلو كان اليقين مما يشتبه على الأمة لبيّنه بيانا قاطعا للعذر كما قال: يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر. على أن اتفاق الأمة مع رضا رسول الله ﷺ أبلغ من العهد.

وأما قولك: "يقولون إن الإمام بعده أبو بكر بمبايعة عمر برضى أربعة"؛ قلنا: بل بمبايعة الكل ورضاهم على رغم أنفك. ولا يرد علينا شذوذ سعد وحده. فهذه بيعة علي امتنع منها خلق من الصحابة والتابعين ممن لا يحصيهم إلا الله تعالى، أفذلك قادح في إمامته؟ ومذهب أهل السنة أن الإمامة تنعقد عندهم بموافقة أهل الشوكة الذين يحصل بهم مقصود الإمامة وهو القدرة والتمكين. ولهذا يقولون من صار له قدرة وسلطان يفعل به مقصود الولاية فهو من أولى الأمر المأمور بطاعتهم ما لم يأمروا بمعصية الله. فالإمامة ملك وسلطان برة كانت أو فاجرة، والملك لا يصير ملكا بموافقة ثلاثة ولا أربعة. ولهذا لما بويع علي وصار معه شوكة صار إماما. قال أحمد بن حنبل في رسالة عبدوس العطار: ومن ولي الخلافة فأجمع عليه الناس ورضوا به ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين فدفع الصدقات إليه جائز برا كان أو فاجرا. وقال أحمد وقد سئل عن قول النبي ﷺ: من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية، تدري ما الإمام هو الذي يجمع عليه المسلمون كلهم. فالصديق مستحق الإمامة لإجماعهم عليه وإمامته مما رضي الله بها ورسوله ثم أنه صار إماما بمبايعة أهل القدرة. وكذلك عمر صار إماما لما بايعوه وأطاعوه. ولو قدر أنهم لم ينفذوا عهد أبي بكر في عمر لم يصر إماما سواء كان ذلك جائزا أو غير جائز. فالحل والحرمة متعلق بالأفعال وأما نفس الولاية والسلطنة فعبارة عن القدرة الحاصلة. فقد تحصل على وجه يحبه الله ورسوله كسلطان الخلفاء الراشدين وقد تحصل على غير ذلك كسلطان الظالمين. ولو قدر أن أبا بكر بايعه عمر وطائفة وامتنع سائر الصحابة من بيعته لم يصر إماما بذلك وإنما صار إماما بمبايعة جمهور الناس. ولهذا لم يضر تخلف سعد لأنه لم يقدح في مقصود الولاية. وأما كون عمر بادر إلى بيعته فلا بد في كل بيعة من سابق ولو قدر أن آحاد الناس كان كارها للبيعة لم يقدح ذلك فيها إذ الاستحقاق لها ثابت بالأدلة الشرعية. وأما عهده إلى عمر فتم بمبايعة المسلمين له بعد موت أبي بكر فصار إماما.

وقولك: "ثم عثمان فاختاره بعضهم"؛ قلنا: بل اجتمعوا على بيعته وما تخلف عنها أحد. قال أحمد بن حنبل في رواية حمدان بن علي: ما كان في القوم أوكد بيعة من عثمان كانت بإجماعهم. وصدق أحمد فلو قُدر أن عبد الرحمن بايعه ولم يبايعه علي وطلحة والزبير وأهل الشوكة لم يصر إماما. وقد جعل عمر الأمر شورى بين ستة ثم إنه خرج منهم ثلاثة باختيارهم طلحة والزبير وسعد، وبقي عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف، فاتفق هؤلاء باختيار منهم على أن عبد الرحمن لا يتولى ويولي أحد الرجلين، فأقام عبد الرحمن ثلاثا يحلف إنه لم يغتمض فيها بنوم يشاور السابقين الأولين والأنصار فيشيرون عليه بعثمان ثم بايعوه لا عن رغبة أعطاهم إياها ولا عن رهبة أخافهم بها.

وقولك: "ثم علي بمايعة الخلق له" فتخصيص بلا مخصص، فكذلك جرى للثلاثة قبله وأعظم وأبلغ. فإن عليا بويع عقيب قتل عثمان والقلوب مضطربة مختلفة، وأحضر طلحة إحضارا حتى قيل إنهم جاءوا به مكرها واضطهدوه للبيعة. وأهل الفتنة لهم بالمدينة شوكة ومنعة وكثير من الصحابة لم يبايع كابن عمر وغيره، فكيف تقول في علي بمبايعة الخلق له ولا تقول مثل ذلك فيمن قبله؟ ثم إن عليا اضطرب عليه الذين بايعوه ونابذه طائفة منهم وامتنع أهل الشام وغيرها من بيعته حتى ينصف من قتلة عثمان حتى قالت طائفة بصحة إمامة علي ومعاوية معا. وقالت طائفة لم يكن للناس إذ ذاك إمام عام بل كان زمان فتنة، وهو قول طائفة من أهل الحديث البصريين. وقالت طائفة ثالثة بل علي هو الإمام وهو مصيب في قتال من قاتله كطلحة والزبير [وهم] مصيبون بناء على أن كل مجتهد مصيب كقول أبي الهذيل والجبائي وابنه وابن الباقلاني وأحد قولي الأشعري، وهؤلاء يجعلون معاوية مجتهدا مصيبا أيضا. وطائفة رابعة تجعل عليا إماما وأنه المصيب وأن من قاتله مجتهد مخطئ، وهذا قول خلق من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية. وطائفة خامسة تقول علي الخليفة وهو أقرب إلى الحق من معاوية وكان ترك القتال منهما أولى لقول النبي ﷺ: ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم. ولقوله في الحسن: «إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين». فأثنى عليه بالإصلاح فلو كان القتال واجبا أو مستحبا لما مدح تاركه. قالوا: وقتال أهل البغي لم يأمر الله به ابتداء ولم يأمر بقتال كل باغ؛ قال تعالى: {وإن طائفتين من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا} فأمر أولا بالإصلاح فإن بغت إحداهما قوتلت حتى ترجع إلى أمر الله، ولهذا لم يصح للطائفتين بالقتال مصلحة؛ وما أمر الله به لا بد أن تكون مصلحته راجحة على المفسدة. ولهذا قال ابن سيرين: قال حذيفة: ما أحد تدركه الفتنة إلا وأنا أخافها عليه إلا محمد بن مسلمة فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا تضره الفتنة». وقال شعبة عن أشعث بن سليم عن أبي بردة عن ثعلبة بن ضبيعة قال: دخلت على حذيفة فقال: إني لأعرف رجلا لا تضره الفتنة شيئا. فخرجنا فإذا قال فسطاط مضروب فيه محمد بن مسلمة فسألناه عن ذلك فقال: ما أريد أن يشتمل علي شيء من أمصارهم حتى تنجلي عما انجلت. فابن مسلمة اعتزل القتال جملة فما ضرته الفتنة كما أخبر النبي ﷺ. ولذلك اعتزل الفريقين سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وابن عمر وأبو بكرة وعمران بن حصين وأكثر من بقي من السابقين. وهذا يدل على أنه ليس هناك قتال واجب ولا مستحب. وهذا قول جمهور أهل السنة والحديث ومالك وسفيان الثوري وأحمد وغيرهم. ووراء هذه المقالات مقالة الخوارج التي تكفر عثمان وعليا وذويهما؛ ومقال الروافض التي تكفر جمهور السابقين الأولين أو تفسقهم ويكفرون كل من قاتل عليا؛ ومقالة النواصب والأموية التي تفسق عليا وذويه ويقولون هو ظالم معتد؛ وطائفة من المعتزلة تفسق إحدى الطائفتين من أهل وقعة الجمل لا بعينها. فكيف تكون مبايعة الخلق له أعظم من مبايعتهم لمن قبله؟

ثم أنت تزعم أن إمامته منعقدة بالنص والآن تقول انعقدت بمبايعة الخلق له!

وقولك: "ثم اختلفوا فقال بعضهم إن الإمام بعده الحسن وبعضهم قال معاوية" فيقال أهل السنة لم يتنازعوا في هذا بل يعلمون أن الحسن بايعه أهل العراق مكان أبيه ثم إن الحسن سلمها طوعا إلى معاوية.

وقولك: "ثم ساقوا الإمامة في بني أمية" فيقال ما قال أهل السنة إن الواحد من هؤلاء كان هو الذي تجب توليته وطاعته في كل ما أمر به، بل كذا وقع، فيقولون تولى هؤلاء وكان لهم سلطان وقدرة فانتظم لهم الأمر وأقاموا مقاصد الإمامة من الجهاد وإقامة الحج والجمع والأعياد وأمن السبل. ولكن لا طاعة لهم في معصية الله بل يعاونون على البر والتقوى ولا يعاونون على الإثم والعدوان. ومن المعلوم أن الناس لا يصلحون إلا بولاة وأن الإمام الظلوم خير من عدمه. ويروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة. قيل: البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة؟ قال: تأمن بها السبل وتقام بها الحدود ويجاهد بها العدو ويقسم بها الفيء. ذكره علي بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية. فكل من تولى كان أنفع من معدومكم المنتظر الذي انطوت معه السنون والأعمار وأنتم في الأماني الكاذبة والانتظار. وآباؤه سوى علي فما كان لهم سلطان ولا تمكين ولا منعة بل كانوا عاجزين عن الإمامة لا لهم حل ولا عقد رضي الله عنهم ولا حصل بهم مقصود الإمامة. وفي الصحيحين عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من خرج عن السلطان شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية». ولمسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات مات ميتة جاهلية، ومن قتل تحت راية عمية يغضب للعصبية ويقاتل للعصبية فليس مني». وفي الصحيح عن ابن عمر عن النبي ﷺ: «من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية». وقال ﷺ: «لا طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف». وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا: «على المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة».

===============

الفصل الثاني

(في المذهب الواجب الاتباع)

قال: "الفصل الثاني إن مذهب الإمامية واجب الاتباع لأنه أحق المذاهب وأصدقها ولأنهم باينوا جميع الفرق في أصول العقائد ولأنهم جازمون بالنجاة أخذوا دينهم عن المعصومين. وغيرهم اختلفوا وتعددت آراؤهم وأهواؤهم فمنهم من طلب الأمر لنفسه بغير حق وتابعه أكثر الناس طلبا للدنيا كما اختار عمر بن [سعد بن] مالك الذي لما خير بينه وبين قتال الحسين مع علمه بأن قتلته في النار فإنه قال:فوالله ما أدري وإني لصادق ** أفكر في أمري على خطرينأأترك ملك الري والري منيتي ** أو أصبح مأثوما بقتل حسينوفي قتله النار التي ليس دونها ** حجاب ولي في الري قرة عينوبعضهم اشتبه عليه الأمر ورأى طالب الدنيا فقلده وقصر في النظر فخفي عليه الحق فاستحق المؤاخذة من الله تعالى. وبعضهم قلد لقصور فطنته ورأى الجم الفقير فبايعهم وتوهم أن الكثرة تستلزم الصواب وغفل عن قوله تعالى: {وقليل ما هم}. وبعضهم طلب الأمر لنفسه بحق وبايعه الأقلون الذين أعرضوا عن زينة الدنيا وأخلصوا واتبعوا ما أمروا به من طاعة من يستحق التقديم فوجب النظر في الحق واعتماد الإنصاف وأن يقر الحق بمستقره فقد قال تعالى: {ألا لعنة الله على الظالمين}"

فجعل المصنف الناسَ بعد نبيهم أربعة أصناف فكذب. فإنه لم يكن في الصحابة المعروفين أحد من هذه الأصناف. أما طالب الأمر بغير حق كأبي بكر في زعمه وأما طالب الأمر بحق علي في زعمه؛ فهذا كذب عليهما فلا علي طلب الأمر لنفسه ولا أبو بكر. وجعل القسمين الآخرين إما مقلدا للدنيا وإما مقلدا لقصوره في النظر. فالإنسان يجب عليه أن يعرف الحق ويتبعه. فإن اليهود عرفوا الحق وما تبعوه فهم مغضوب عليهم وأما النصارى فجهلوا الحق وضلوا. وهذه الأمة خير الأمم فقال تعالى: {كنتم خير أمة} فخيرها القرن الأول الذي يليه بقوله ﷺ: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم. وهؤلاء الرافضة يقولون فيهم ما قد علمتم ويجعلونهم أقل الناس علما وأتبعهم للهوى، فلزم من قولهم أن الأمة ضلت بعد نبيها. فإذا كان في هذا حكايتك لما جرى عقيب نبيك فكيف سائر ما تنقله وتحتج به؟

وقولك: "تعددت آراؤهم بعدد أهوائهم" فحاشاهم من ذلك. أتدري من تعني يا جويهل؟ عنيت الذين قال الله فيهم: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} وقال: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} والثناء على المهاجرين والأنصار في غير آية وعلى الذين يجيئون من بعدهم فيقولون: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} ويسألونه أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم. والرافضة لم يستغفروا لهم وفي قلوبهم الغل لهم. وروى الحسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: أمر الله بالاستغفار لأصحاب محمد ﷺ وهو يعلم أنهم يقتتلون. وقال عروة عن عائشة: أمروا أن يستغفروا لأصحاب محمد ﷺ فسبوهم. وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه». وفي مسلم عن أبي هريرة نحوه مرفوعا. وفي مسلم عن جابر قال: قيل لعائشة رضي الله عنها إن ناسا يتناولون أصحاب رسول الله ﷺ حتى أبا بكر وعمر فقالت: وما تعجبون من هذا انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر. وروى الثوري عن نسير بن ذعلوق: سمعت ابن عمر يقول: لا تسبوا أصحاب محمد فلمقام أحدهم ساعة -يعني مع رسول الله ﷺ- خير من عمل أحدكم أربعين سنة. وقال تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا} أخبر سبحانه برضاه عنهم وبأنه علم ما في قلوبهم وكانوا ألفا وأربعمائة، فهم أعيان من بايع أبا بكر. وقال ﷺ [فيما ثبت عنه في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله]: «لا يدخل أحد ممن بايع تحت الشجرة النار». 1 وقال تعالى: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة} يعني غزوة تبوك. وقال: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} وقال: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} فأمر بموالاتهم والرافضة تبرأ منهم.

وقد قال بعض الجهلة إن قوله تعالى: {الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} نزلت في علي رضي الله عنه وذكر في ذلك خبرا موضوعا وأنه تصدق بخاتمه في الصلاة فنزلت؛ قيل: لا لأن الآية صيغة جمع وعلي واحد. ومن ذلك أن الواو ليست في {وهم راكعون} واو الحال إذ لو كان كذلك لتعين بالبء إعطاءُ الزكاة في الصلاة حال الركوع. ومنها أن المدح إنما يكون بعمل واجب أو مستحب وإيتاء الزكاة في نفس الصلاة ليس كذلك بالاتفاق و«إن في الصلاة شغلا» ومنها أن عليا لم يكن عليه زكاة زمن النبي ﷺ ولا كان له خاتم أو كان له فالخاتم زكاة ماذا لأن أكثر الفقهاء لا يجوزون إخراج الخاتم في الزكاة. وفي حديثهم أنه أعطاه سائلا والمدح في الزكاة أن يخرجها ابتداء وعلى الفور. ومنها أن الكلام في سياق النهي عن موالاة الكفار والأمر بموالاة المؤمنين؛ والرافضة يعادون المؤمنين ويوالون المنافقين مشركي التتار كما شاهدنا. وقال الله تعالى لنبيه: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم} والرافضة تريد أن تفرق بين قلوب خيار الأمة بالأكاذيب. وقال تعالى: {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون} إلى قوله: {ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا} فهذا الصنف هم أشرف الأمة وقد وعدهم بأنه يكفر عنهم أسوأ أعمالهم، وعلي فعندهم معصوم فقولوا لم يدخل في الآية. وقال: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض} الآية فوعدهم الاستخلاف وأخبر برضاه عنهم وبأنهم متقون وبأنه أنزل السكينة عليهم وهذه النعوت منطبقة على الصحابة الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان فإنه إذ ذاك الزمان حصل لهم الاستخلاف وتمكين الدين والأمن بعد الخوف إلى أن قهروا فارس والروم وافتتحوا الشام والعراق ومصر والمغرب وخراسان وأذربيجان وغير ذلك. فلما قتل عثمان وحصلت الفتنة لم يفتحوا شيئا بل طمع فيهم الروم وغيرهم، وحدثت البدع من الخوارج والروافض والنواصب وأريقت الدماء. فأين ما بعد قتله مما قبله.

فإن قيل: فالمنافقون كانوا مسلمين في الظاهر؛ قلنا: ما كانوا متصفين بخير ولا كانوا مع الرسول ﷺ ولا كانوا مع المؤمنين. قال الله فيهم: {ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين} وقال: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون} وقال: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} أخبر تعالى أن المنافقين ليسوا من المؤمنين ولا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء بل مذبذبين وكذا ترى الرافضة. وقال: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين} فلما لم يغره الله بهم ولم يقتلهم تقتيلا دل على أنهم انتهوا. وما كان معه يوم الشجرة منهم إلا الجد بن قيس فإنه اختبأ خلف بعيره.

فبالجملة كان المنافقون مغمورين مقهورين مع الصحابة ولا سيما في آخر أيام النبي ﷺ وبعد تبوك لأن الله تعالى قال فيهم: {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} ثم قال الله: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} فتبين أن العزة للمؤمنين لا للمنافقين، فعلم أن العزة والقوة كانت لأصحاب محمد ﷺ وأن المنافقين كانوا أذلة بينهم. قال تعالى: {يحلفون بالله لكم ليرضوكم} {يحلفون لكم لترضوا عنهم} وقال: {ولكنهم قوم يفرقون} هذه صفات الذليل المقهور. وأما السابقون الأولون من المهاجرون والأنصار فما زالوا أعز الناس بعد نبيهم وقبل موته، فلا يجوز أن يكون الأعزاء من خاصة أصحاب محمد ﷺ منافقين ولا أذلاء؛ بل هذه صفة الرافضة فشعارهم الذل ودثارهم النفاق والتقية ورأس مالهم الكذب والأيمان الفاجرة إن لم يقعوا في الغلو والزندقة يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ويكذبون على جعفر الصادق أنه قال: التقية ديني ودين آبائي. وقد نزه الله أهل البيت عن ذلك ولم يحوجهم إليه فكانوا من أصدق الناس وأعظمهم إيمانا، فدينهم التقوى لا التقية.

فأما قوله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة} فهذا أمر بالاتقاء من الكفار لا أمر بالكذب والتقية؛ والله قد أباح لمن أكره على الكفر التكلم به فأهل البيت ما أكرههم أحد على شيء. حتى إن أبا بكر لم يكره أحدا منهم على بيعته بل بايعوه لما أرادوا طوعا منهم ولا كان علي ولا غيره يذكرون فضل الصحابة والثناء عليهم خوفا من أحد ولا أكرههم أحد باتفاق الناس. وقد كان في زمن بني أمية وبني العباس خلق كثير دون علي في الإيمان والتقوى يَكرهون من الخلفاء أشياء فلا يمدحونهم ولا يثنون عليهم ولا يحبونهم ولا كان أولئك يُكرهونهم. ثم إن الخلفاء الراشدين كانوا أبعد عن قهر الناس وعقوبتهم على طاعتهم من سائر الخلفاء. ثم هؤلاء أسرى المسلمين ملء أيدي النصارى وسائرهم يظهرون دينهم، فكيف يظن بعلي وبنيه أنهم كانوا أضعف دينا من الأسرى ومن رعية ملوك الجور، وقد علمنا بالتواتر أن عليا وبنيه ما أكرههم أحد على ذكر فضل الخلفاء الثلاثة وقد كانوا يقولون ذلك ويترحمون عليهم ويتكلمون بذلك مع خاصتهم.

فقولك: "فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق وبايعه أكثر الناس للدنيا" يشير إلى أبي بكر. ومن المعلوم أن أبا بكر لم يطلب الأمر لنفسه بل قال: قد رضيت لكم إما عمر وإما عبد الرحمن وإما أبا عبيدة. قال عمر: فوالله لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر. وإنما اختاره عمر وأبو عبيدة وسائر المسلمين وبايعوه لعلمهم بأنه خيرهم وقد قال النبي ﷺ: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر.

ثم هب أنه طلبها وبايعوه فزعمك أنه طلبها وبايعوه للدنيا كذب ظاهر. فإنه ما أعطاهم دنيا وقد كان أنفق في حياة الرسول ﷺ وقلَّ ما بيده. والذين بايعوه فأزهد الناس في الدنيا قد علم القاصي والداني زهد عمر وأبي عبيدة وأسيد بن حضير وأمثالهم. ثم لم يكن عند موت النبي ﷺ بيت مال يبذله لهم. ثم كانت سيرته ومذهبه التسوية في قسم الفيء؛ وكذلك سيرة علي. فلو بايعوا عليا أعطاهم كعطاء أبي بكر مع كون قبيلته أشرف من بني تيم وله عشيرة وبنو عم هم أشرف الصحابة من حيث النسب كالعباس وأبي سفيان والزبير وعثمان ابني عمته وأمثالهم. وقد كلم أبو سفيان عليا في ذلك ومتَّ بشرفه فلم يجبه علي لعلمه ودينه. فأي رياسة وأي فائدة دنيوية حصلت لجمهور الأمة بمبايعة أبي بكر لا سيما وهو يسوي بين كبار السابقين وبين آحاد المسلمين في العطاء ويقول إنما أسلموا لله وأجورهم على الله وإنما هذا المتاع بلاغ.

فأهل السنة مع الرافضة كالمسلمين مع النصارى؛ فإن المسلمين يؤمنون بنبوة عيسى ولا يغلون فيه ولا ينالون منه نيل اليهود. والنصارى تغلو فيه حتى تجعله إلها وتفضله على نبينا بل تفضل الحواريين على المرسلين. فكذا الروافض تفضل من قاتل مع علي كالأشتر ومحمد بن أبي بكر على أبي بكر وعمر والسابقين. فالمسلم إذا ناظر النصراني لا يمكنه أن يقول في عيسى إلا الحق بخلاف النصراني. فدع اليهودي يناظره فإنه لا يقدر أن يجيب اليهودي عن شبهته إلا بما يجيب به المسلم وينقطع. فإنه إذا أمر بالإيمان بمحمد ثم قدح في نبوته بأمر لم يمكنه أن يقول شيئا إلا قال له اليهودي في المسيح ما هو أعظم من ذلك؛ فإن البينات لمحمد أعظم من البينات لعيسى وبعده عن الشبهة أعظم من بعد عيسى عن الشبهة. ومن هذا أمر السني مع الرافضي في أبي بكر وعلي. فإن الرافضي لا يمكنه أن يثبت إيمان علي وعدالته ودخوله الجنة إن لم يثبت ذلك لأبي بكر وعمر. وإلا فمتى أثبت ذلك لعلي وحده خذلته الأدلة. كما أن النصراني إذا أراد إثبات نبوة المسيح دون محمد عليهما السلام لم تساعده الأدلة. فإذا قالت له الخوارج الذين يكفرون عليا والنواصب الذين يفسقونه إنه كان ظالما طالبا للدنيا والخلافة وقاتل بالسيف عليها وقَتل في ذلك ألوفا مؤلفة من المسلمين حتى عجز عن انفراده بالخلافة وتفرق عليه أصحابه وكفروا به وقاتلوه يوم النهروان؛ فهذا الكلام إن كان فاسدا ففساد كلام الرافضي في أبي بكر أعظم فسادا؛ فإن كان كلامكم في أبي بكر وعمر متوجها فهذا مثله وأولى.

ولما ذهب أبو بكر بن الباقلاني في الرسلية بالقسطنطينية عرفوا قدره وخافوا أن يمتنع من السجود للملك فأدخلوه من باب صغير ليدخل محنيا، ففطن لها فدخل مستدبرا بعجزه. ولما أراد بعضهم القدح في المسلمين فقال: ما قيل في امرأة نبيكم؟ يريد شأن الإفك، فقال: نعم ثنتان رميتا بالزنا إفكا وكذبا مريم وعائشة، فأما مريم فجاءت بولد وهي عذراء وأما عائشة فلم تأت بولد مع أنه كان لها زوج. فبُهت النصراني وظهر أن براءة عائشة أظهر من براءة مريم.

فإذا قلت يا رافضي إن أبا بكر ومبايعيه طلبوا الدنيا والرياسة مع كونه بويع باختيارهم بلا سيف ولا عصا واستوثق له الأمر فلم يول أحدا من أقاربه ولا خلف لورثته مالا وأنفق مالا كثيرا في سبيل الله وأوصى إلى بيت مالهم ما كان لهم عنده -وهو جرد قطيفة وأمة وبَكر ونحو ذلك- حتى قيل: يرحمك الله أبا بكر لقد أتعبت الأمراء بعدك. وما قتل مسلم على إمارته بل قاتل بالمسلمين المرتدين والكفار. فلما احتضر استخلف على الأمة القوي الأمين العبقري عمر لا لقرابة ولا لنسابة ولا لدنيا بل اجتهد للمسلمين فحمدت فراسته وشكر نظره بالذي افتتح الأمصار ونصب الديوان وملأ بيت المال وعمّ الناس بالعدل مع ملازمته لهدي صاحبه وخشونة عيشه وعدم توليته أقاربه ثم ختم الله له بالشهادة. فإن ساغ للرافضي أن يقول كل ذا طلبٌ للرياسة والدنيا ساغ للناصبي نظير قوله في علي إنه كان طالبا للرياسة والدنيا فقاتل على الإمرة ولم يقاتل الكفار ولا افتتح مدينة. فإن قلت كان مريدا لوجه الله غير مداهن في أمر الله مجتهدا مصيبا وغيره كان مخطئا قلنا وكذلك من قبله كان أبلغ وأبعد عن شبهة طلب الرياسة. وأين شبهة أبي موسى الذي وافق عمرا على عزل علي ومعاوية ورد الأمر شورى من شبهة عبد الله بن سبأ وأمثاله الذين يدعون عصمته [أو ألوهيته] أو نبوته. وكل هذا مما يبين عجز الرافضي عن إثبات إيمان علي وعدالته مع نفي ذلك عمن قبله. فإن احتج بما تواتر من إسلامه وهجرته وجهاده فقد تواتر مثل ذلك عن أبي بكر. وإن قلت كانوا منافقين في الباطن معادين مفسدين للدين بحسب إمكانهم أمكن الخارجي أن يقول في علي ذلك ويقول كان يحسد ابن عمه والعداوة في الأهل وأنه كان يريد فساد دينه فلما تمكن أراق الدماء وسلك التقية والنفاق، ولهذا قالت الباطنية من أتباعه عنه أشياء قد أعاذه الله منها كما أعاذ الشيخين. ثم ما من آية يدعون أنها مختصة بعلي إلا أمكن اختصاصها بصاحبيه؛ فباب الدعوى مفتوح. وإن ادعوا ثبوت فضله بالآثار فثبوت فضلهما أكثر وأصح. وهذا كمن أراد أن يثبت فقه ابن عباس دون علي أو فقه عمر دون ابن مسعود، فما له طريق إلا بالظلم والجهل كدأب الرافضة.

ثم تمثيلك ذلك بقصة عمر بن سعد لما خيره عبيد الله بن زياد بين حرب الحسين وبين عزله من أقبح القياس. فإن عمر بن سعد كان طالبا للرياسة مقدما على المحرم معروفا بذلك. أفيلزم من تمثيلك به أن يكون السابقون بمثابته؟

وهذا أبوه سعد بن أبي وقاص كان من أزهد الناس في الإمارة والولاية بعد ما فتح الله على يديه الأمصار. ولما وقعت الفتنة اعتزل الناس بالعقيق في قصره وجاءه ابنه هذا فلامه وقال له: الناس يتنازعون الملك وأنت هنا! فقال: اذهب فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الله يحب العبد التقي الخفي الغني». [هذا ولم يكن قد بقي أحد من أهل الشورى غيره وغير علي رضي الله عنهما، وهو الذي فتح العراق وأذل جنود كسرى، وهو أخر العشرة موتا. فإذا لم يحسن أن يُشبه بابنه عمر أيشبه به أبو بكر وعمر وعثمان؟ هذا وهم لا يجعلون محمد بن أبي بكر بمنزلة أبيه بل يفضلون محمدا ويعظمونه ويتولونه لكونه آذى عثمان وكان من خواص أصحاب علي لأنه كان ربيبه ويسبون أباه أبا بكر ويلعنونه. فلو أن النواصب فعلوا بعمر بن سعد مثل ذلك فمدحوه على قتل الحسين لكونه كان من شيعة عثمان ومن المنتصرين له وسبوا أباه سعدا لكونه تخلف عن القتال مع معاوية والانتصار لعثمان، هل كانت النواصب لو فعلت ذلك إلا من جنس الرافضة؟ بل الرافضة شر منهم فإن أبا بكر أفضل من سعد، وعثمان كان أبعد عن استحقاق القتل من الحسين، كلاهما مظلوم شهيد رضي الله تعالى عنهما. ولهذا كان الفساد الذي حصل في الأمة بقتل عثمان أعظم من الفساد الذي حصل في الأمة بقتل الحسين. وعثمان من السابقين الأولين وهو خليفة مظلوم طُلب منه أن يعزل بغير حق فلم ينعزل ولم يقاتل عن نفسه حتى قتل. والحسين رضي الله عنه لم يكن متوليا وإنما كان طالبا للولاية حتى رأى أنها متعذرة وطلب منه أن يُستأسر ليحمل إلى يزيد مأسورا فلم يجب إلى ذلك وقاتل حتى قتل مظلوما شهيدا. فظلم عثمان كان أعظم وصبره وحلمه كان أكمل؛ وكلاهما مظلوم شهيد. ولو مثل ممثل طلب علي والحسين الأمر بطلب الإسماعيلية كالحاكم وأمثاله وقال إن عليا والحسين كانا ظالمين طالبين للرياسة بغير حق بمنزلة الحاكم وأمثاله من ملوك بني عبيد، أمَا كان يكون كاذبا مفتريا في ذلك لصحة إيمان علي والحسين ودينهما ولنفاق هؤلاء وإلحادهم؟ وكذلك من شبّه عليا والحسين ببعض من قام من الطالبيين أو غيرهم بالحجاز أو الشرق أو الغرب يطلب الولاية بغير حق ويظلم الناس في أموالهم وأنفسهم، أمَا كان يكون ظالما كاذبا؟ فالمشبه لأبي بكر وعمر بعمر بن سعد أولى بالكذب والظلم.]

ثم إن عمر بن سعد على بعده من الخير اعترف بكبير ذنبه وباء بمعصيته، وهو خير من المختار الكذاب الذي ادعى أن جبريل يأتيه بالوحي وأظهر الانتصار للحسين وتتبع قاتليه. فهذا الشيعي شر من عمر بن سعد ومن الحجاج الناصبي لأن الشيعي كذب على الله ورسوله. [وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: «سيكون في ثقيف كذاب ومبير». فكان الكذاب هو المختار بن أبي عبيد وكان المبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي. ومن المعلوم أن عمر بن سعد أمير السرية التي قتلت الحسين مع ظلمه وتقديمه الدنيا على الدين لم يصل في المعصية إلى فعل المختار بن أبي عبيد الذي أظهر الانتصار للحسين وقتل قاتله، بل كان هذا أكذب وأعظم ذنبا من عمر بن سعد، فهذا الشيعي شر من ذلك الناصبي، بل والحجاج بن يوسف خير من المختار بن أبي عبيد. فإن الحجاج كان مبيرا كما سماه النبي ﷺ يسفك الدماء بغير حق، والمختار كان كذابا يدعي الوحي وإتيان جبريل إليه. وهذا الذنب أعظم من قتل النفوس فإن هذا كفر وإن كان لم يتب منه كان مرتدا والفتنة أعظم من القتل. وهذا باب مطرد لا تجد أحدا ممن تذمه الشيعة بحق أو باطل إلا وفيهم من هو شر منه ولا تجد أحدا ممن تمدحه الشيعة إلا وفيمن تمدحه الخوارج من هو خير منه. فإن الروافض شر من النواصب؛ والذين تكفرهم أو تفسقهم الروافض هم أفضل من الذين تكفرهم أو تفسقهم النواصب. وأما أهل السنة فيتولون جميع المؤمنين ويتكلمون بعلم وعدل؛ ليسوا من أهل الجهل ولا من أهل الأهواء؛ ويتبرأون من طريقة الروافض والنواصب جميعا ويتولون السابقين الأولين كلهم ويعرفون قدر الصحابة وفضلهم ومناقبهم ويرعون حقوق أهل البيت التي شرعها الله لهم، ولا يرضون بما فعله المختار ونحوه من الكذابين ولا ما فعل الحجاج ونحوه من الظالمين؛ ويعلمون مع هذا مراتب السابقين الأولين فيعلمون أن لأبي بكر وعمر من التقدم والفضائل ما لم يشاركهما فيه أحد من الصحابة لا عثمان ولا علي ولا غيرهما؛ وهذا كان متفقا عليه في الصدر الأول إلا أن يكون خلاف شاذ لا يعبأ به حتى إن الشيعة الأولى أصحاب علي لم يكونوا يرتابون في تقديم أبي بكر وعمر عليه، كيف وقد ثبت عنه من وجوه متواترة أنه كان يقول: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر. ولكن كانت طائفة من شيعة علي تقدمه على عثمان وهذه مسألة أخفى من تلك. ولهذا كان أئمة أهل السنة متفقين على تقديم أبي بكر وعمر كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسائر أئمة المسلمين من أهل الفقه والحديث والزهد والتفسير من المتقدمين والمتأخرين. وأما عثمان وعلي فكان طائفة من أهل المدينة يتوقفون فيهما وهي إحدى الروايتين عن مالك. وكان طائفة من الكوفيين يقدمون عليا وهي إحدى الروايتين عن سفيان الثوري، ثم قيل إنه رجع عن ذلك لما اجتمع به أيوب السختياني وقال: من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار. وسائر أئمة السنة على تقديم عثمان. وهو مذهب جماهير أهل الحديث وعليه يدل النص والإجماع والاعتبار. وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من تقديم جعفر أو تقديم طلحة أو نحو ذلك فذلك في أمور مخصوصة لا تقديما عاما وكذلك ما ينقل عن بعضهم في علي. وأما قوله: "وبعضهم اشتبه الأمر عليه ورأى لطالب الدنيا مبايعا فقلده وبايعه وقصر في نظره فخفي عليه الحق فاستحق المؤاخذة من الله تعالى بإعطاء الحق لغير مستحقه" قال: "وبعضهم قلد لقصور فطنته ورأى الجم الغفير فتابعهم وتوهم أن الكثرة تستلزم الصواب وغفل عن قوله تعالى: {وقليل ما هم} {وقليل من عبادي الشكور}"

فيقال لهذا المفتري الذي جعل الصحابة الذين بايعوا أبا بكر ثلاثة أصناف: أكثرهم طلبوا الدنيا وصنف قصروا في النظر وصنف عجزوا عنه؛ لأن الشر إما أن يكون لفساد القصد وإما أن يكون للجهل، والجهل إما أن يكون لتفريط في النظر وإما أن يكون لعجز عنه. وذكر أنه كان في الصحابة وغيرهم من قصر في النظر حين بايع أبا بكر ولو نظر لعرف الحق وهذا يؤاخذ على تفريطه بترك النظر الواجب. وفيهم من عجز عن النظر فقلد الجم الغفير يشير بذلك إلى سبب مبايعة أبي بكر. فيقال له: هذا من الكذب الذي لا يعجز عنه أحد. والرافضة قوم بهت. فلو طلب من هذا المفتري دليل على ذلك لم يكن له على ذلك دليل. والله تعالى قد حرم القول بغير علم؛ فكيف إذا كان المعروف ضد ما قاله. فلو لم نكن نحن عالمين بأحوال الصحابة لم يجز أن نشهد عليهم بما لا نعلم من فساد القصد والجهل بالمستحق قال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} وقال تعالى: {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} فكيف إذا كنا نعلم أنهم كانوا أكمل هذه الأمة عقلا وعلما ودينا.]

وقد قال ابن مسعود: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد ﷺ خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه ثم نظر في قلوب العباد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون سيئا فهو عند الله سيء، وقد رأى أصحاب محمد أن يستخلفوا أبا بكر. وعن ابن مسعود قال: من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد ﷺ كانوا والله أفضل هذه الأمة وأبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. رواه ابن بطة بإسناد عن قتادة، وروى هو وغيره عن زر بن حبيش.

فهذا بضد ما ادعاه هذا الجاهل عليهم من طلب الدنيا والجهل والعجز والتفريط، بل لهم كمال العلم وحسن القصد وهم خير القرون. ولكن يا ما فعل الجهل والرفض بأهله، فنحمد الله على العافية، فإن الرفض مأوى شر الطوائف كالنصيرية والإسماعيلية والملاحدة الطرقية وأهل الجبل والبوادي والقرامطة الذين ما بينهم وبين العلم معاملة. قال ابن القاسم: سئل مالك عن أبي بكر وعمر فقال: ما رأيت أحدا ممن أهتدي به يشك في تقديمهما.

ثم قلتَ: "وبعضهم -تعني عليا- طلب الأمر لنفسه بحق وبايعه الأقلون" فهذا باطل بلا ريب. اتفقت السنة والشيعة على أن عليا لم يدع إلى مبايعته إلا بعد مقتل عثمان ولا بايعه أحد إلا ذلك الوقت. أكثر ما يقال كان فيهم من يختار مبايعته. قال: "وإنما كان مذهبنا واجب الاتباع لأنه أحق المذاهب وأصدقها وأخلصها عن شوائب الباطل وأعظمها تنزيها لله ولرسوله وأوصيائه. اعتقدنا أن الله هو المخصوص بالقدم وأنه ليس بجسم ولا في مكان وإلا لكان محدثا -إلى أن قال- وأنه غير مرئي بالحواس ولا في جهة وأن أمره ونهيه حادث لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وأن الأئمة معصومون كالأنبياء من الصغائر والكبائر أخذوا الأحكام عن جدهم رسول الله ﷺ ولم يلتفتوا إلى الرأي والقياس والاستحسان".

فيقال: ما ذكرته لا تعلق له بالإمامة. بل نقول في مذهب الإمامية من ينكر هذا فإن هذا طريقه العقل وتعين الإمام طريقه السمع. ثم ما في هذا من حق فأهل السنة يقولون به وما فيه من باطل فمردود، وغالبه قواعد الجهمية والمعتزلة ومضمونه أن الله ليس له علم ولا قدرة ولا حياة وأنه لا يتكلم ولا يرضى ولا يسخط ولا يحب ولا يبغض.

وأما أهل السنة فيثبتون لله ما أثبته لنفسه من الصفات وينفون عنه مماثلة المخلوقات، إثباتٌ بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل {ليس كمثله شيء} ردا على المشبهة {وهو السميع البصير} ردا على المعطلة. والله منزه عن مشاركة العبد في خصائصه، وإذا اتفقا في مسمى الوجود والعلم والقدرة فهذا المشترك مطلق كلي في الذهن لا وجود له في الخارج، والموجود في الأعيان مختص لا اشتراك فيه. وهنا زلَّ خلق حيث توهموا أن الاتفاق في مسمى هذه الأشياء يوجب أن يكون الوجود الذي للرب هو الوجود الذي للعبد، فظنت طائفة أن لفظ الوجود يقال للاشتراك اللفظي وكابروا عقولهم، فإن هذه الأسماء عامة قابلة للتقسيم كما يقال الوجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم وحادث، واللفظ المشترك كلفظ المشتري الواقع على الكوكب وعلى المبتاع لا ينقسم معناه، ولكن يقال لفظ المشتري يقال على كذا وعلى كذا. وطائفة ظنت أنها إذا سمت هذا اللفظ ونحوه مشككا لكون الوجود بالواجب أولى منه بالممكن نجت من هذه الشبهة؛ وليس كذلك فإن تفاضل المعنى المشترك الكلي لا يمنع أن يكون مشتركا بين اثنين. وطائفة ظنت أن من قال الوجود متواطئ عام فإنه يقول وجود الخالق زائد على حقيقته ومن قال حقيقته هي وجوده قال إنه مشترك اشتراكا لفظيا.

فأصل خطأ الناس توهمهم أن هذه الأسماء العامة يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتا في هذا المعين وهذا المعين؛ وليس كذلك فإن ما لا يوجد في الخارج لا يوجد مطلقا كليا ولا يوجد إلا معينا مختصا، [وهذه الأسماء إذا سمي الله تعالى بها كان مسماها مختصا] به وإذا سمي بها العبد كان مسماها مختصا به. فإذا قيل قد اشتركا في مسمى الوجود فلا بد أن يتميز أحدهما عن الآخر بما يخصه وهو الماهية والحقيقة؟ [قيل: اشتراكا في الوجود المطلق الذهني لا اشتراكا في مسمى] الماهية والحقيقة والذات والنفس، فالغلط نشأ من جهة أخذ الوجود مطلقا وأخذ الحقيقة مختصة، وكل واحد منهما يمكن أخذه مطلقا ومختصا. فالمطلق مساو للمطلق والمختص مساو للمختص فالوجود المطلق مطابق للحقيقة المطلقة والوجود المختص مطابق لحقيقتة المختصة والمسمى بهذا وهذا واحد وإن تعددت جهة التسمية كما يقال هذا هو ذاك فالمشار إليه واحد لكن بوجهين مختلفين.

والمقصود أن إثبات الصفات والأسماء لله لا يستلزم أن يكون الخالق مماثلا لخلقه ولا مشبها لهم فهو تعالى موصوف بصفات الكمال اللازمة لذاته وهي قديمة أزلية واجبة بقدم الموصوف ووجوبه، وهذا حق لا محذور فيه [فإثبات الأسماء دون الصفات سفسطة في العقليات وقرمطة في السمعيات.] قال الجمهور: هذا خطأ وبدعة أعني هذا التقسيم فالذي عليه أهل الحق من السنة أنه تعالى لا يوصف بالجسمية أصلا بل ولا في فطرة العرب العرباء جاهليتها وإسلاميتها أن الله جسم أبدا تعالى الله عن ذلك.

وقولك: "ليس بجسم" فالجسم فيه إجمال قد يراد به المركب الذي كانت أجزاؤه مفرقة فجمعت أو ما يقبل التفريق والانفصال أو المركب من مادة وصورة والله منزه عن ذلك كله. وقد يراد بالجسم ما يشار إليه أو ما يرى أو ما تقوم به الصفات فالله يشار إليه في الدعاء وبالقلوب والعيون ويرى في الآخرة عيانا وتقوم به الصفات، فإن أردت ليس بجسم هذا المعنى قيل لك هذا المعنى الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول وأنت لم تقم دليلا على نفيه. وأما اللفظ فبدعة نفيا وإثباتا فما في النصوص ولا في قول السلف إطلاق لفظ الجسم على الله ولا نفيه، وكذلك لفظ الجوهر والمتحيز.

وكذلك قولك: "لا في مكان" قد يراد بالمكان ما يحوي الشيء ويحيط به ويحتاج إليه وقد يراد به ما فوق العالم وإن يكن أمرا موجودا فالأول الله [منزه] عنه، والثاني فنعم الله فوق خلقه. وإذا لم يكن إلا خالق أو مخلوق فالخالق بائن من المخلوق. فهو الظاهر ليس فوقه شيء وهو فوق سماواته فوق عرشه بائن من خلقه كما دل عليه الكتاب والسنة واتفقت عليه الأئمة.

وقولك: "وإلا لكان محدثا" أي لو كان جسما أو في مكان لكان محدثا، فما الدليل على ما ادعيت فكأنك اكتفيت بالدليل المشهور لسلفك المعتزلة من أنه لو كان جسما لم يخل عن الحركة والسكون وما لم يخل عن الحوادث فحادث لامتناع حوادث لا أول لها. ويقولون لو قام به علم وحياة وقدرة وكلام لكان جسما. والجواب إنه عندك حي عليم قدير ومع هذا فليس بجسم مع أنك لا تعقل حيا عالما قادرا إلا جسما. فإن كان قولك حقا أمكن أن يكون له حياة وعلم وقدرة وأن يكون مباينا للعالم عاليا عليه وليس بجسم. فإن قلت لا أعقل مباينا عاليا إلا جسما، قيل لك: ولا يعقل حي عليم قدير إلا جسم. وأيضا فإنه ليس إذا كان هذا الحادث ليس بدائم وهذا ليس بدائم باق يجب أن يكون نوع الحوادث ليس دائمة باقية. وأيضا فإن ذلك يستلزم حدوث الحوادث بلا سبب وذلك ممتنع في صريح العقل.

ولكن على الناس أن يؤمنوا بالله ورسوله ويصدقوه ويطيعوه فهذا أصل السعادة كلها. قال الله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد} فالله سبحانه بعث الرسل بما يقتضي الكمال من إثبات أسمائه وصفاته المقدسة على وجه التفصيل والنفي على طريق الإجمال للنقص والتمثيل. فالرب تعالى موصوف بنعوت الكمال التي لا غاية فوقها منزه عن النقص بكل وجه ممتنع أن يكون له مثل في شيء من صفات الكمال. وقد أخبر النبي ﷺ أن في الجنة ما لم يخطر على قلب بشر. فإذا كان هذا في المخلوق فما الظن بالخالق. وقال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء. فإذا كان هذان المخلوقان متفقين في الاسم مع أن بينهما في الحقيقة تباينا لا يعرف قدره في الدنيا فمن المعلوم أن ما يتصف به الرب من صفات الكمال أعظم مباينة لما يتصف به العبد.

إلى أن قال شيخنا: فما ثبت عن الرسول وجب الإيمان به وما لم يثبت عنه فلا يجب الحكم فيه بنفي ولا إثبات حتى يعلم مراد المتكلم وتعلم صحة نفيه وإثباته. فالكلام في الألفاظ المجملة بالنفي والإثبات دون الاستفصال يوقع في الجهل والضلال والقيل والقال. وقد قيل: أكثر اختلاف العقلاء من جهة الاشتراك في الأسماء.

ومثبتو الجسم ونفاته موجودون في الشيعة وفي السنة. وأول ما ظهر إطلاق لفظ الجسم من متكلم الرافضة هشام بن الحكم، كذلك نقل ابن حزم وغيره. قال الأشعري في مقالات الإسلاميين: اختلف الروافض في التجسيم وهم ست فرق فالأولى الهشامية أصحاب هشام بن الحكم يزعمون أن معبودهم جسم وله نهاية وحد طوله كعرضه وعمقه وأنه نور ساطع كالسبيكة يتلألأ كاللؤلؤة المدروة ذو لون وطعم وريح ومجسّة. الفرقة الثانية زعموا أنه ليس بصورة ولا كالأجسام وإنما يذهبون في قولهم إنه جسم إلى أنه موجود وينفون عنه الأجزاء والأبعاض ويزعمون أنه على العرش بلا مماسة ولا كيف. الفرقة الثالثة من الرافضة يزعمون أنه على صورة الإنسان ويمنعون أن يكون جسما. الفرقة الرابعة أصحاب هشام بن سالم الجواليقي يزعمون أنه على صورة الإنسان وينكرون أن يكون لحما ودما ويقولون هو نور يتلألأ وأنه ذو حواس خمس وله يد ورجل وأنف وفم وعين وسائر حواسه متغايرة. وحكى أبو عيسى الوراق أن هشام بن سالم كان يزعم أن لربه وفرة سوداء وأن ذلك نور أسود. الفرقة الخامسة يزعمون أن له ضياء خالصا ونورا كالمصباح من حيث ما جئته يلقاك بأمر واحد وليس بذي صورة ولا اختلاف في الأجزاء. الفرقة السادسة من الرافضة يزعمون أنه ليس بجسم ولا صورة ولا يتحرك ولا يسكن ولا يماس وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة. قال الأشعري: وهؤلاء قوم من متأخريهم [فأما أوائلهم فإنهم كانوا يقولون بما حكيناه عنهم من التشبيه.] ولقد طول شيخنا هنا إلى الغاية وأطنب وأسهب واحتج بمسألة القدر والرؤية والكلام إلى أن قال:

وأما قوله: "إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الخطأ والسهو والصغائر من أول العمر إلى آخره" فيقال: الإمامية متنازعون في هذا. قال الأشعري في المقالات: اختلف الروافض في الرسول هل يجوز أن يعصي ففرقة قالت يجوز ذلك وأن النبي ﷺ عصى في أخذ الفداء يوم بدر. قالوا والأئمة لا يجوز عليهم ذلك فإن الرسول إذا عصى جاءه الوحي ورجع والأئمة لا يوحى إليهم فلا يجوز عليهم سهو ولا غلط. قال بهذا هشام بن الحكم. فنقول: اتفق المسلمون على أنهم معصومون فيما يبغلونه فلا يقرون على سهو فيه وبهذا يحصل المقصود من البعثة. أما وجوب كونه قبل النبوة لا يذنب ولا يخطئ فليس في النبوة ما يستلزم هذا فمن اعتقد أن كل من لم يكفر ولم يقتل ولم يذنب أفضل من كل من آمن بعد كفره واهتدى بعد ضلاله وتاب بعد ذنوبه فهو مخالف لما علم بالاضطرار من الدين. فمن المعلوم أن السابقين أفضل من أولادهم الذين ولدوا في الإسلام. وهل يشبه أبناء المهاجرين والأنصار بآبائهم عاقل، وأين المنتقل بنفسه من الكفر إلى الإيمان ومن السيئات إلى الحسنات بنظره واستدلاله وصبره وتوبته ومفارقته عاداته ومعاداته لرفاقه إلى من وجد أبويه وأقاربه وأهل بلده على دين الإسلام ونشأ في العافية؟ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما ينقض عرى الإسلام من لم يعرف الجاهلية. وقد وعد الله من تاب من الموبقات وآمن وعمل صالحا بأن يبدل سيئاتهم حسنات. وجمهور الأمة ممن يقول بجواز الصغائر على الأنبياء عليهم السلام يقولون: هم معصومون من الإقرار عليها فما يزدادون بالتوبة إلا كمالا. فالنصوص والآثار وإجماع السلف مع الجمهور. والمنكرون لذلك يقولون في تحريف القرآن ما هو من جنس قول أهل البهتان، كقولهم في {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك} أي ذنب آدم {وما تأخر} ذنب أمتك، فأما آدم فنبي كريم فوقعوا فيما فروا منه فنفوا الذنب عن نبينا وألصقوه بآدم. ثم إن آدم تاب الله عليه قبل أن يهبط إلى الأرض وقبل أن يولد نوح وإبراهيم والله يقول: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} فكيف يضاف ذنب هذا إلى ذنب هذا؟ ثم إن هذه الآية لما نزلت قال أصحابه: يا رسول الله هذا لك فما لنا؟ فأنزل الله {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم} ثم كيف يقول من له مسكة عقل إن الله غفر ذنوب أمته جميعها وقد علم أن منهم من يدخل النار بذنوبه فأين المغفرة.

وأما قولك: "إن هذا ينفي الوثوق بهم ويوجب التنفير" فليس بصحيح، بل إذا اعترف الكبير بما هو عليه من الحاجة إلى توبته ومغفرة الله ورحمته دل ذلك على صدقه وتواضعه وبعده من الكبر والكذب. بخلاف من يقول ما لي حاجة إلى شيء من هذا فما صدر مني ما يحوجني إلى مغفرة ولا توبة، فإن مثل هذا إذا عرف من رجل نسبه الناس إلى الكبر والجهل والكذب. وثبت أن النبي ﷺ قال: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» وثبت عنه ﷺ أنه قال: «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطأي وعمدي وكل ذلك عندي» متفق عليه، وقال ﷺ: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون»

وما ذكرتَه من عدم الوثوق والتنفير يحصل مع الإصرار والإكثار لا مع ندور الذنوب المتبوعة بكثرة الاستغفار والتوبة. أما من ادعى البراءة والسلامة فما أحوجه إلى الرجوع إلى الله والتوبة والإنابة. وما علمنا أن بني إسرائيل ولا غيرهم قدحوا في نبي من الأنبياء بتوبته في أمر من الأمور.

إلى أن قال: فأما ما تقوله الرافضة من أن النبي قبل النبوة وبعدها لا يقع منه خطأ ولا ذنب صغير وكذلك الاثني عشر؛ فهذا مما انفردوا به عن الأمة كلها. وقد كان داود عليه السلام بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة. وقال بعض المشايخ لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه ما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه. ولهذا تجد التائب الصادق أثبت على الطاعة وأشد حذرا من الذنوب من كثير ممن لم يبتل بذنب. فمن جعل التائب الذي اجتباه الله وهداه منقوصا فهو جاهل.

وقولك: "والأئمة معصومون كالأنبياء" فهذه خاصة الرافضة الإمامية التي ما شركهم فيها أحد إلا من هو شر منهم كالإسماعيلية القائلين بعصمة بني عبيد المنتسبين إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، قالوا بأن الإمامة بعد جعفر في محمد بن إسماعيل دون موسى بن جعفر وهم ملاحدة زنادقة.

وأما قولك: "لا يجوز على الأنبياء سهو" فما علمت أحدا قاله.

وأما أخذ المعصومين عن جدهم فيقال أولا القوم إنما تعلموا حديث جدهم من العلماء، وهذا متواتر، فعلي بن الحسين يروي عن أبان بن عثمان عن أسامة بن زيد ومحمد بن علي يروي عن جابر وغيره. وثانيا فما فيهم من أدرك النبي ﷺ إلا علي وولداه. وهذا علي يقول إذا حدثتكم عن رسول الله ﷺ فوالله لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أكذب عليه وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة. ولهذا كان يقول القول ويرجع عنه. وكتب الشيعة مملوءة بالروايات المختلفة عن الأئمة.

وقولك: "إنكم تتناقلون ذلك خلفا عن سلف إلى أن تتصل الرواية بأحد المعصومين"؛ فإن كان ما تقول حقا فالنقل عن المعصوم الواحد كاف فأي حاجة في كل زمان إلى معصوم، وإذا كان النقل كافيا موجودا فأي فائدة في المنتظر الذي لا ينقل عنه كلمة، وإن لم يكن النقل كافيا فأنتم في نقصان وجهل من أربعمائة وستين سنة. ثم الكذب من الرافضة على هؤلاء يتجاوزون [به] الحد لا سيما على جعفر الصادق حتى كذبوا عليه كتاب الجفر والبطاقة وكتاب اختلاج الأعضاء وأحكام الرعود والبروق ومنافع القرآن وصارت هذه معايش للطرقية. فكيف يثق القلب بنقل [من كثر منهم الكذب] إن لم يعلم صدق الناقل واتصال السند. [وقد تعدى شرهم إلى غيرهم من أهل الكوفة وأهل العراق حتى كان أهل المدينة يتَوقون أحاديثهم. وكان مالك يقول: نزلوا أحاديث أهل العراق منزلة أحاديث أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم. وقال له عبد الرحمن ابن مهدي: يا أبا عبد الله سمعنا في بلدكم أربعمائة حديث في أربعين يوما ونحن في يوم واحد نسمع هذا كله، فقال له: يا عبد الرحمن من أين لنا دار الضرب التي عندكم دار الضرب تضربون بالليل وتنفقون بالنهار. ومع هذا إنه كان في الكوفة وغيرها من الثقات الأكابر كثير. ومن كثرة الكذب الذي كان أكثره في الشيعة صار الأمر يشتبه على من لا يميز بين هذا. وهذا بمنزلة الرجل الغريب إذا دخل إلى بلد نصف أهله كذابون خوانون فإنه يحترس منهم حتى يعرف الصدوق الثقة، وبمنزلة الدراهم التي كثر فيها الغش يحترس عن المعاملة بها من لا يكون نقادا. ولهذا كُره لمن لا يكون له نقد وتمييز النظر في الكتب التي يكثر فيها الكذب في الرواية والضلال في الآراء ككتب البدع. وكره تلقي العلم من القصاص وأمثالهم الذين يكثر الكذب في كلامهم وإن كانوا يقولون صدقا كثيرا. فالرافضة أكذب من كل طائفة باتفاق أهل المعرفة بأحوال الرجال.]

وقولك: "فلم يلتفتوا إلى القول بالرأي والاجتهاد وحرموا القياس" فالشيعة في ذا كالسنة فيهم أهل رأي وأهل قياس، وفي السنة من لا يرى ذلك، والمعتزلة البغداديون لا يقولون بالقياس وخلق من المحدثين يذمون القياس. وأيضا فالقول بالرأي والقياس خير من الأخذ بما ينقله من عرف بالكذب نقلَ غير مصدق عن قائل غير معصوم. ولا ريب أن الاجتهاد في تحقيق الأئمة الكبار لمناط الأحكام وتنقيحها وتخريجها خير من التمسك بنقل الرافضة عن العسكريين؛ فإن مالكا والليث والأوزاعي والثوري وأبا حنيفة والشافعي وأحمد وأمثالهم رضي الله عنهم أعلم من العسكريين بدين الله، [والواجب على مثل العسكريين أن يتعلموا من الواحد من هؤلاء. ومن المعلوم أن علي بن الحسين وأبا جعفر وجعفر بن محمد كانوا هم العلماء الفضلاء وأن من بعدهم لم يعرف عنه من العلم ما عُرف عن هؤلاء ومع هذا فكانوا يتعلمون من علماء زمانهم ويرجعون إليهم.]

قال: "أما باقي المسلمين فقد ذهبوا كل مذهب فقال [بعضهم وهم جماعة من] الأشاعرة إن القدماء [كثيرون] مع الله وهي المعاني التي يثبتونها موجودة في الخارج كالقدرة والعلم وغير ذلك، فجعلوه مفتقرا في كونه عالما إلى ثبوت معنى هو العلم وفي كونه قادرا إلى ثبوت معنى هو القدرة وغير ذلك ولم يجعلوه قادرا لذاته ولا عالما لذاته ولا حيا لذاته بل لمعان قديمة يفتقر في هذه الصفات إليها. واعترض شيخهم فخر الدين الرازي عليهم بأن قال النصارى كفروا بأن قالوا القدماء ثلاثة والأشاعرة أثبتوا قدماء تسعة".

فيقال: الكلام على هذا من وجوه:

أحدها أن هذا كذب على الأشعرية، ليس فيهم من يقول إن الله كامل بغيره ولا قال الرازي ما ذكرته بل ذكره الرازي عمن اعترض به واستهجن الرازي ذكره. وهو اعتراض قديم من اعتراضات نفاة الصفات الجهمية ذكره الإمام أحمد في الرد على الجهمية ثم قال: لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره بل نقول لم يزل الله بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر. فقالوا: لا تكونون موحدين حتى تقولوا كان الله ولا شيء. فقلنا: نحن نقول قد كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما تصف إلها واحدا بجميع صفاته؟ وضربنا لهم في ذلك مثلا فقلنا أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار واسمها اسم واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد، لا نقول إنه كان في وقت من الأوقات ولا يقدر حتى خلق قدرة ولا كان ولا يعلم حتى خلق لنفسه علما؛ والذي لا يقدر ولا يعلم عاجز جاهل، ولكن نقول لم يزل الله عالما قدارا مالكا لا متى ولا كيف.

الثاني أن يقال هذا القول المذكور ليس قول الأشعرية كلهم وإنما هو قول مثبتي الحال منهم الذين يقولون إن العالِمية حال معطلة بالعلم فيجعلون العلم يوجب حالا آخر ليس هو العلم بل هو كونه عالما. وهذا قول الباقلاني والقاضي أبي يعلى وأول قولي أبي المعالي. وأما جمهور مثبتة الصفات فيقولون إن العلم هو كونه [عالما] ويقولون لا يكون عالما إلا بعلم ولا قادرا إلا بقدرة أي يمتنع أن يكون عالما من لا علم له أو قادرا من لا قدرة له أو حيا من لا حياة له، فإن وجود اسم الفاعل بدون المصدر ممتنع وهذا كما لو قيل مصل بلا صلاة وصائم بلا صيام وناطق بلا نطق، فإذا قيل لا يكون مصل إلا بصلاة لم يكن المراد أن هنا شيئين أحدهما الصلاة والثاني حال معلل بالصلاة بل المصلي لا بد أن يكون له صلاة. وهم أنكروا قول نفاة الصفات الذين يقولون هو حي لا حياة له وعالم علم له وقادر لا قدرة له. فمن قال هو حي عليم قدير بذاته وأراد بذلك أن ذاته مستلزمة لحياته وعلمه وقدرته لم يحتج في ذلك إلى غيره. ومن تدبر كلام هؤلاء وجدهم مضطرين إلى إثبات الصفات وأنهم لا يمكنهم أن يفرقوا بين قولهم وقول المثبتة بفرق محقق لأنهم أثبتوا كونه تعالى حيا وكونه عالما وكونه قادرا ولا يجعلون هذا هو هذا ولا هذا هو هذا ولا هذه الأمور هذه الذات، فقد أثبتوا معاني زائدة على الذات المجردة. فقولك أثبتوا قدماء كثيرة لفظ مجمل يوهم أنهم أثبتوا آلهة غير الله في الأزل وأثبتوا مع الله غيره وهذا بهتان عليهم؛ وإنما أثبتوا صفات قائمة به قديمة بقدمه. فهل ينكر هذا إلا مخذول مسفسط. واسم الله يتناول الذات المتصفة بالصفات ليس هو اسما للذات المجردة.

وقولك: "يجعلونه مفتقرا في كونه عالما إلى ثبوت معنى هو العلم" فهذا يرد على مثبتة الحال وأما الجمهور فعندهم كونه عالما هو العلم، وبتقدير أن يقال كونه عالما مفتقر إلى العلم الذي هو لازم لذاته ليس في هذا إثبات فقر له إلى غير ذاته فإن ذاته مستلزمة للعلم والعلم مستلزم لكونه عالما فذاته هي الموجبة لهذا فالعلم كمال وكونه عالما كمال فإذا أوجبت ذاته هذا وهذا كان كما لو أوجبت الحياة والقدرة.

وقولك: "لم يجعلوه عالما لذاته [قادرا لذاته]" إن أردت أنهم لم يجعلوه عالما قادرا لذات مجردة عن العلم والقدرة كما يقول نفاة الصفات إنه ذات مجردة عن الصفات فهذا حق لأن الذات المجردة عن العلم والقدرة لا حقيقة لها في الخارج ولا هي الله. وإن أردت أنهم لم يجعلوه عالما قادرا لذاته المستلزمة للعلم والقدرة فهذا غلط عليهم بل نفس ذاته الموجبة لعلمه وقدرته هي التي أوجبت كونه عالما قادرا وأوجبت علمه وقدرته فإن هذه الأمور متلازمة.

وقولك: "فجعلوه محتاجا ناقصا في ذاته كاملا بغيره" كلام باطل فإنه هو الذات الموصوفة بالصفات اللازمة لها. وما في الخارج ذات مجردة عن صفات. وليست صفات الله غير الله.

[وقول القائل: إن النصارى قد كفروا بأن قالوا القدماء ثلاثة والأشاعرة أثبتوا قدماء تسعة.] والنصارى لم يكفرهم الله بقولهم القدماء ثلاثة بل بقولهم: {إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد} فبين تعالى أنهم كفروا بأن قالوا الله ثالث ثلاثة آلهة ولم يقل وما من قديم إلا قديم واحد، ثم أتبع ذلك بكشف حال الآخرين فقال: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام} والإله يطعم ولا يطعم. وقال: {يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك} فليس في الكتاب والسنة ذكر لفظ القديم في أسماء الله وإن كان المعنى صحيحا. ثم النصارى معترفون بأن مريم وعيسى عليهما السلام ولدا وحدثا فكيف يقولون قديمان.

ثم إن الذين أثبتوا الصفات لا يقولون إن الله تاسع تسعة قدماء بل اسم الله عندهم يتضمن الذات والصفات، ولا أطلقوا على الصفات أنها غير الله. وقال النبي ﷺ: «من حلف بغير الله فقد أشرك» وثبت في الصحيح الحلف بعزة الله وعمر الله. فالحلف بذلك ليس حلفا بغير الله. والصواب أن الصفات لا تنحصر في ثمانية كما قال بعض الأشعرية بل ولا تنحصر بعدد.

ثم إن النصارى أثبتوا ثلاثة أقانيم وقالوا إنها ثلاثة جواهر يجمعها جوهر واحد وإن كل واحد منها [إله] يخلق ويرزق، والمتحد بالمسيح هو أقنوم الكلمة والعلم. وهذا متناقض فإن المتحد إن كان صفة فالصفة لا تخلق ولا ترزق ولا تفارق الموصوف وإن كان الصفة هو الموصوف فهو الجوهر الواحد وهو الأب فيكون المسيح هو الأب. وليس هذا قولهم فأين هذا ممن يقول الإله واحد وله الأسماء الحسنى الدالة على صفاته العلى ولا خالق غيره ولا معبود سواه.

ومما افترته الجهمية على ابن كُلّاب لما صنف كتابا في الرد عليهم [أنهم] وضعوا على أخته حكاية أنها نصرانية وأنه لما أسلم هجرته فقال لها يا أختي إني أريد أفسد دين المسلمين، فرضيت عنه بذلك. ومقصود المفتري لهذه الحكاية أن يجعل قوله بإثبات الصفات هو قول النصارى، وبين القولين من الفرق كما بين القدم والفرق.

قال الرافضي: "وقالت الحشوية المشبهة إن لله جسما له طول وعرض وعمق ويجوز عليه المصافحة وأن الصلحاء يعاينونه في الدنيا. وحكي عن داود أنه قال: اعفوني عن الفرج واللحية وسلوني عما وراء ذلك. وقال: معبودي جسم ولحم ودم وله جوارح، حتى قالوا: اشتكت عيناه فعادته الملائكة وبكى على الطوفان حتى رمد".

فيقال هذا بعينه قول هشام بن الحكم الرافضي كما قدمنا، نقله الناقلون للمقالات عنه مثل أبي عيسى الوراق وزرقان وابن النوبختي والأشعري وابن حزم والشهرستاني وطائفة وقالوا أول من قال إنه جسم هشام بن الحكم. ونقلوا عن بيان بن سمعان التميمي أحد غلاة الشيعة أن الله على صورة الإنسان وأنه يهلك كله إلا وجهه، فقتله خالد بن عبد الله القسري. ونقلوا عن المغيرة بن سعيد أن معبوده رجل من نور على رأسه تاج من نور وله أعضاء كالرجل وله جوف وقلب وأن حروف أبي جاد على عدد أعضائه، وزعم أنه يحيي الموتى وأراهم نيرنجيات ومخاريق فادعوا نبوته فقتله خالد بن عبد الله. وذكروا عن المنصورية أصحاب أبي منصور أنه قال: آل محمد هم السماء والشيعة هم الأرض وأنه عرج به إلى السماء فمسح معبوده رأسه ثم قال اذهب فبلغ عني، ويمين أصحابه إذا حلفوا لا والكلمة، وزعم أن عيسى أول من خلق الله ثم علي وأن الرسل لا تنقطع، وزعم أن الجنة اسم رجل والنار كذلك، واستحل المحارم والدم والميتة والخمر وأن هذه أسماء أقوام حرم الله ولايتهم، وأسقط الفرائض وقال هي أسماء رجال تجب ولايتهم. قتله يوسف بن عمر. والنصيرية يشبهون المنصورية. وذكروا عن الخطابية أصحاب أبي الخطاب بن أبي زينب أنهم يزعمون أن الأئمة أنبياء مرسلون لا يزال منهم رسولان واحد ناطق وآخر صامت؛ فالناطق محمد والصامت علي وعبدوا أبا الخطاب ثم خرج أبو الخطاب على المنصور فقتله عيسى بن موسى بأرض الكوفة وهم يدينون بشهادة الزور لمن وافقهم، وذكروا عن البزيعية أنهم يقولون إن جعفر بن محمد هو الله وأن كل مؤمن يوحى إليه. قال الأشعري: وقد قال قوم بإلهية سلمان الفارسي. قال: وفي النساك من الصوفية من يقول بالحلول وأن الباري يحل في الأشخاص وأنهم إذا رأوا ما يعجبهم قالوا ما ندري لعل الله حل فيه. ومالوا إلى إطراح الفرائض وزعموا أن العبد إذا وصل إلى معبوده سقطت عنه الواجبات. قال: ومن الغالية من يزعم أن روح القدس هو الله كانت في النبي ثم في علي ثم في الحسن إلى أن ذكر المنتظر. قال: وهؤلاء آلهة عندهم كل واحد إله على التناسخ. ومنهم صنف يزعمون أن عليا هو الله ويشتمون النبي ﷺ ويقولون إن عليا وجه به ليبين أمره فادعى الأمر لنفسه. ومنهم من يقول إن الله [حلَّ] في خمسة في النبي ﷺ وعلي والحسن والحسين وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين، ولهم خمسة أضداد أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية وعمرو. ومنهم السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ يزعمون أن عليا لم يمت وأنه يرجع إلى الدنيا فيملأ الأرض عدلا. وكان السيد الحميري يقول برجعة الأموات وهو القائل:

إلى يوم يؤوب الناس فيه ** إلى دنياهم قبل الحساب

ومنهم من يزعم أن الله وكل الأمور إلى محمد ﷺ فخلق الدنيا ودبرها ويزعمون [أن] الأئمة ينسخون الشرائع وتهبط عليهم الملائكة بالوحي، ومنهم من يسلم على السحاب ويقول إذا مرت سحابة إن عليا فيها. وذكر الأشعري أشياء سوى ذلك، ولم تكن حدثت النصيرية ولا الإسماعيلية بعد. ومن قول النصيرية:

أشهد ألا إله إلا ** حيدرة الأنزع البطين

ولا حجاب عليه إلا ** محمد الصادق الأمين

ولا طريق إليه إلا ** سلمان ذو القوة المتين

ويقولون إن رمضان أسماء ثلاثين رجلا. وهذه المصائب أبوجادها الرفض.

وأما ما نقلتَ فلا يعرف عن إمام معروف بالسنة ولا من الفقهاء ولا حفاظ الحديث ولا مشايخ الطرق. فما علمنا من قال فيهم بالجسم والطول والعمق. واتفقوا على أن الله لا يرى في الدنيا بل في الآخرة كما ثبت في الصحاح قال النبي ﷺ: «واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت» ومن أراد أن ينقل مقالة عن طائفة [فليسم القائل]، وإلا فكل أحد يمكنه الكذب.

وأما لفظ الحشوية فليس فيه ما يدل على شخص معين، فلا يدرى من هم هؤلاء. وإن أردت بالحشوية أهل الحديث فاعتقادهم هو السنة المحضة وما ثبت نقله. وما فيهم من يعتقد وله الحمد ما قلت. فبان كذبك في هذا وغيره.

وأما لفظ المشبهة فلا ريب أن أهل السنة متفقون على تنزيه الله عن مماثلة الخلق فالمشبهة هم الذين يمثلون صفاته بصفات خلقه وأهل السنة يصفون الله بما وصف به نفسه أو رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل؛ بل إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل. قال الله تعالى: {ليس كمثله شيء} يرد على الممثلة {وهو السميع البصير} يرد على المعطلة. وينزهون الله عن صفات النقص مطلقا كالنوم والسنة والنسيان والعجز والجهل ونحو ذلك. ويصفونه بصفات الكمال الواردة في الكتاب والسنة. ولكن نفاة الصفات يسمون كل من أثبت صفة مشبها حتى إن الباطنية يقولون من سمى الله بأسمائه الحسنى فهو مشبه ويقولون من قال حي عليم فقد شبهه بالأحياء العالمين ومن وصفه بأنه سميع بصير فقد شبهه بالآدمي وإذا قال هو رؤوف رحيم فقد شبهه بالنبي ﷺ حتى قالوا لا نقول هو موجود حتى لا نشبهه بسائر الموجودات لاشتراكها في مسمى الوجود، وقالوا لا نقول معدوم ولا حي ولا ميت. فقيل لهم: فقد شبهوه بالممتنع بل جعلوه في نفسه ممتنعا، فإنه كما يمتنع اجتماع النقيضين يمتنع ارتفاعهما، فرجع الواجب الوجود إلى أنه ممتنع الوجود. ويقال للذين يقولون لا نقول هذا ولا هذا: عدم قولكم لا يبطل الحقائق في أنفسها بل هذا نوع من السفسطة. ومن قال لا موجود ولا معدوم فقد جزم بعد الجزم. فالسفسطة أنواع ثلاثة نفي الحقائق أو الوقف فيها أو جعلها تابعة لظنون الناس. وقد قيل بنوع رابع وهو القول بأن العالم في سيلان فلا يثبت.

[وأصل ضلال هؤلاء أن] لفظ التشبيه فيه إجمال، فما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك يتفق فيه الشيئان في الذهن ولا يجب تماثلهما فيه، بل الغالب تفاضل الأشياء في ذلك القدر المشترك، فإذا قيل في المخلوقات حي وحي وعليم وعليم لم يلزم تماثلهما في الحياة والعلم ولا أن يكون نفس حياة هذا وعلمه حياة الآخر وعلمه ولا يكونا مشتركين في موجود في الخارج عن الذهن. وكان جهم لا يسمي الله باسم يتسمّى به الخلق إلا بالقادر والخالق لأنه كان جبريا يرى أن العبد لا قدرة له. وربما قالوا ليس بشيء كالأشياء فقصدوا أن حقيقة التشبيه منتفية عنه.

[وتحقيق هذا الموضع بالكلام في معنى التشبيه والتمثيل. والتمثيل] قد نطق الكتاب بنفيه في غير موضع كقوله: {ليس كمثله شيء} {هل تعلم له سميا} {ولم يكن له كفوا أحد} {فلا تجعلوا لله أندادا} {فلا تضربوا لله الأمثال} وأما الجسم والجوهر والتحيز والجهة فلا نطق بها كتاب ولا سنة نفيا ولا إثباتا ولا الصحابة والتابعون. فأول من تكلم بذلك نفيا وإثباتا الجهمية والمعتزلة ومجسمة الرافضة والمبتدعة. فالنفاة نفوا هذه الأسماء وأدخلوا في النفي ما أثبته الله ورسوله من صفاته كعلمه وقدرته ومشيئته ومحبته ورضاه وغضبه وعلوه وقالوا إنه لا يرى ولا يتكلم بالقرآن ولا غيره؛ والمثبتة أدخلوا في ذاك ما نفاه الله ورسوله حتى أثبتوا رؤيته في الدنيا بالأبصار وأنه يصافح ويعانق وينزل عشية عرفة على جمل وقال بعضهم إنه يندم ويبكي ويحزن. وذلك وصف للرب بصفات يختص بها الآدميون فكل ما اختص به المخلوق فهو صفة نقص تعالى الله عن النقص أحد صمد فالأحد يتضمن نفي المثل والصمد يتضمن جميع صفات الكمال. فالجسم في اللغة الجسد كما ذكره الأصمعي وأبو زيد وغيرهما وهو البدن. قال الله تعالى: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} وقال: {وزاده بسطة في العلم والجسم} وقال: {عجلا جسدا له خوار} وقد يراد به الكثافة تقول هذا أجسم من هذا. ثم صار الجسم في اصطلاح أهل الكلام أعم من ذلك فسموا الهواء جسما وإن كانت العرب لا تسمي ذلك جسما. ثم بينهم نزاع فيما يسمى جسما وهو مركب من جواهر منفردة متناهية كما يقوله أكثر القائلين بالجوهر الفرد وإما متناهية كما يقوله النظام والتزم "الطفرة" المعروفة به أو هو مركب من مادة وصورة كقول بعض المتفلسفة أو ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا كما يقوله الهشامية والكلابية والنجارية والضرارية وكثير من الكرامية وكثير من الكتب ليس فيها هذا القول الثالث والصواب [أنه ليس مركبا من هذا ولا من هذا. وينبني على هذا أن ما] يحدثه الله من الحيوان والنبات والمعادن فهي أعيان مخلوقة على قول نفاة الجوهر الفرد. فأما على قول من يثبته فإنما يحدث أعراضا وصفات. وإلا فالجواهر باقية [ولكن] اختلف تركيبها ويقولون لا تستحيل حقيقة إلى حقيقة أخرى ولا تنقلب الأجناس بل الجواهر يغير الله تركيبها وهي باقية. والأكثرون يقولون باستحالة بعض الأجسام إلى بعض وانقلاب جنس إلى جنس كما تنقلب النطفة إلى علقة والعلقة إلى مضغة ثم إلى عظام، وهذا قول الفقهاء والأطباء. فالنظار كلهم متفقون فيما أعلم على أن الجسم يشار إليه وإن اختلفوا في كونه مركبا من الأجزاء المنفردة أو من المادة والصورة أو لا من هذا ولا من هذا. وقد تنازع العقلاء أيضا هل يمكن وجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يمكن أن يرى على ثلاثة أقوال فقيل لا يمكن ذلك بل هو ممتنع، وقيل هو ممتنع في المحدثات [الممكنة] التي تقبل الوجود والعدم، وقيل بل ذلك ممكن في الممكن والواجب، وهذا قول بعض الفلاسفة ما علمت قاله أحد من أهل الملل. ومثبتو ذلك يسمونها المجردات والمفارقات. وأكثر العقلاء يقولون وجود هذه في الأذهان لا في الأعيان وإنما يثبت ذلك من وجود نفس الإنسان التي تفارق بدنه. أما الملائكة فالمتفلسفة يقولون هي العقول والنفوس المجردات وهي الجواهر العقلية. وأما المسلمون وغيرهم من أهل الملل فيثبتون الملائكة وأنهم مخلوقون من نور كما صح عن النبي ﷺ [في الحديث] و[هم] كما قال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون} وقد ذكر الملائكة في غير موضع. وهؤلاء يقولون إن جبريل هو العقل الفعال أو هو ما يتخيل في نفس النبي من الصور الخيالية وكلام الله كما يوجد في نفس النائم. ومن عرف ما جاء به الرسول عَلِمَ ضلال هؤلاء وأنهم أبعد عن الإيمان من المشركين.

فإذا عرف تنازع النظام في حقيقة الجسم فلا ريب أن الله سبحانه ليس مركبا من الأجزاء المنفردة ولا من المادة والصورة ولا يقبل الانقسام ولا التفريق ولا الانفصال ولا كان مفرقا فاجتمع بل هو أحد صمد. والمعاني المعقولة من التركيب كلها منتفية عن الله تعالى. لكن المتفلسفة ومن وافقهم يزيدون على ذلك ويقولون إذا كان موصوفا بالصفات كان مركبا وإذا كانت له حقيقة ليست هي مجرد الوجود كان مركبا فقال لهم المسلمون المثبتون للصفات النزاع ليس في لفظ المركب فإن هذا اللفظ يقتضي أن غيره ركبه ولا يقول عاقل إن الله مركب لهذا الاعتبار، أما كونه ذاتا مستلزمة لصفات الكمال من العلم والقدرة والحياة فهذا لا يسمى مركبا فيما نعلم ولا عرف ذلك في اللغة، وإنما المركب ما كانت أجزاؤه متفرقة فجمع جمع امتزاج أو غير جمع امتزاج كتركيب الأطعمة والأشربة والأدوية والأبنية واللباس والحلية، ثم إن جميع العقلاء مضطرون إلى إثبات معاني متعددة لله [فالمعتزلي يسلم] أنه حي عالم قادر، فكونه حيا غير كونه قادرا، والفلسفي يقول إنه عاقل ومعقول وعقل ولذيذ ومتلذذ ولذة. وقال الطوسي في شرح الإشارات: "العلم هو المعلوم" ومعلوم فساد هذا بصريح العقل وبمجرد تصوره التام. وليس فرارهم إلا من معنى التركيب. وليس لهم قط حجة على نفي مسمى التركيب بجميع هذه المعاني بل عمدتهم أن المركب يفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه بل يكون معلولا. وهذه الحجة جميع ألفاظها معلولة. فلفظ الواجب بنفسه يراد به الذي لا فاعل له ولا له علة فاعلة ويراد به الذي لا يحتاج إلى شيء مباين له ويراد به القائم بنفسه الذي لا يحتاج إلى مباين له، فعلى الأول والثاني فالصفات واجبة الوجود وعلى الثالث فالذات الموصوفة هي الواجبة والصفة وحدها لا يقال إنها واجبة الوجود ولا تنفك عن الذات. فقولهم إذا كان له ذات وصفات كان مركبا والمركب مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره فلفظ الغير مجمل يراد به المباين. فالغيران ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان [أو مكان] أو وجود، ويراد بالغيرين ما ليس أحدهما الآخر أو ما جاز العلم بأحدهما مع الجهل بالآخر. وهذا اصطلاح أكثر المعتزلة وغيرهم. وأما السلف كالإمام أحمد وغيره فلفظ الغير عندهم يراد به هذا ويراد به هذا. ولهذا لم يطلقوا القول بأن علم [الله] غيره ولا أنه ليس بغيره فلا يقولون هو هو ولا هو غيره، لأن الجهمية يقولون ما سوى الله مخلوق وكلامه سواه فيكون مخلوقا. وقد ثبت في السنة جواز الحلف بالصفات كعزته وعظمته مع قول النبي ﷺ: «من حلف بغير الله فقد أشرك» فعلم أن الصفات لا تدخل في مسمى الغير عند الإطلاق. وإذا أريد بالغير أنه ليس هو إياه فلا ريب أن العلم غير العالم والكلام غير المتكلم. ويراد بالافتقار التلازم بمعنى أنه لا يوجد أحدهما إلا مع الآخر وإن لم يكن أحدهما [مؤثرا] في الآخر مثل الأبوة والبنوة. والمركب قد عرف ما فيه من الاشتراك فإذا قيل لو كان عالما لكان مركبا من ذات وعلم فليس المراد به أن الذات والعلم كانا مفترقين فاجتمعا وتركبا ولا أنه يجوز مفارقة أحدهما الآخر، بل المراد أنه إذا كان عالما فهناك ذات وعلم قائم بها.

وقوله: "والمركب مفتقر إلى أجزائه" فمعلوم أن افتقار المجموع إلى أبعاضه ليس بمعنى أن أبعاضه فعلته أو وجدت دونه أو أثرت فيه بل بمعنى أنه لا يوجد إلا بوجود المجموع، فإذا قيل الشيء مفتقر إلى نفسه بهذا المعنى لم يكن هذا ممتنعا بل هذا هو الحق فإن نفس الواجب لا يستغني عن نفسه. وإذا قيل هو واجب بنفسه فليس المراد أن نفسه أبدعت وجوبه بل المراد أن نفسه موجودة بنفسها لم تفتقر إلى غير. وإذا قيل العشرة مفتقرة إلى العشرة لم يكن في هذا افتقار لها إلى غيرها. وإذا قيل هي مفتقرة إلى الواحد الذي هو جزؤها لم يكن افتقارها إلى بعضها بأعظم من افتقارها إلى المجموع الذي هو هي. فكون المبدع مستلزما لصفاته. فهذا لم ينف حجة أصلا ولا هذا التلازم ينبغي أن يسمى فقرا.

وأيضا فتسمية الصفات القائمة بالموصوف جزءا ليس هو من اللغة المعروفة، إنما ذا اصطلاح لهم، ولو تنزلنا وسميناه باصطلاحهم لم يكن فيه محذور فلا عبرة بتهويل الفلاسفة وأتباعهم. فالذين نفوا علمه بالأشياء قالوا لئلا يلزم التكثير، والذين نفوا علمه بالجزئيات قالوا لئلا يلزم التغير؛ فيهولون بلفظ التكثير والتغير وهما لفظان مجملان منكران يوهمان أنه يتكثر الآلهة و[أن] الرب يتغير كما يتغير الإنسان وكما تتغير الشمس إذا اصفر لونها ولا يدري السامع أنه عندهم إذا أحدث ما لم يكن [محدثا] سموه تغيرا وإذا سمع دعاء عباده سموه تغيرا وإذا رأى ما خلقه سموه تغيرا وإذا كلم موسى سموه تغيرا وإذا رضي عن الطائع سموه تغيرا. ثم إنهم ينفون ذلك بغير دليل أصلا كما اعترف به غير واحد والأدلة الشرعية والعقلية توجب ثبوت ذلك. فدعوى المدعي على اللغة أن ما يشار إليه جسم مركب غير صحيح. وجمهور المسلمين القائلين ليس بجسم يقولون من قال إنه جسم وأراد بذلك أنه موجود أو قائم بنفسه ونحو ذلك أو قال إنه جوهر وأراد بذلك أنه قائم بنفسه فهو مخطئ في اللفظ لا المعنى. أما إذا قال إنه مركب من جواهر منفردة ففي كفره تردد. ثم القائلون بأن الجسم مركب من جواهر قد تنازعوا في مسماه فقيل الجوهر الواحد بشرط انضمام غيره إليه يكون جسما، كقول ابن الباقلاني وأبي يعلى وغيرهما؛ وقيل بل الجوهران فصاعدا وقيل بل أربعة فصاعدا وقيل بل ستة فصاعدا وقيل بل ثمانية فصاعدا وقيل ستة عشر وقيل بل اثنان وثلاثون.

فقد تبين أن في هذا اللفظ من المنازعات اللغوية والاصطلاحية والعقلية والشرعية ما يبين أن الواجب الاعتصام بالكتاب والسنة. قال الله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} وقال تعالى: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} وقال تعالى: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل به أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} الآيات. فما أثبته الله ورسوله أثبتناه وما نفاه الله ورسوله نفيناه. فالنصوص نعتصم بها في الإثبات والنفي لفظا ومعنى. أما ألفاظ تنازع فيها من ابتدعها كالجسم والجوهر والتحيز والجهة والتركيب والتعين فلا تطلق نفيا ولا إثباتا حتى ينظر في مقصود قائلها؛ فإن أراد بالنفي أو الإثبات معنى صحيحا موافقا للنصوص صوب المعنى الذي قصده بلفظه وزجر عن اللفظ المبتدع المجمل إلا عند الحاجة في محاورة الخصم مع قرائن تبين المراد بها، مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها. وأما أن يراد بها معنى باطل فهذا ضلال. وإن أريد بها حق وباطل عرف الخصم وفسر له هذا من هذا. وإن اتفق شخصان على معنى وتنازعا في دلائله فأقربهما إلى الصواب من وافق اللغة المنقولة.

وأما المتحيز ففي اللغة ما تحيز إلى غيره كقوله تعالى: {أو متحيزا إلى فئة} وهذا لا بد أن يحيط به حيز وجودي. فالباري تعالى لا يحيط به شيء من مخلوقاته فلا يكون متحيزا في اللغة. وأما أهل الكلام فاصطلاحهم في المتحيز أعم من هذا يجعلون كل جسم متحيزا والجسم عندهم ما يشار إليه فتكون السماوات والأرض وما فيهما متحيزا على اصطلاحهم لا في اللغة؛ ويريدون بالحيز أمرا معدوما والمكان أمرا موجودا يخالف الحيز العدمي. فمجموع الأجسام ليست في شيء موجود فليست في مكان. والفخر الرازي يجعل الحيز تارة موجودا وتارة معدوما. وقد علم بالعقل والنقل أن الله بائن من خلقه لأنه كان قبل خلق السماوات والأرض فلما خلقها إما أن يكون قد دخل فيها أو دخلت فيه وكلاهما ممتنع فتعين أنه بائن عنها، والنفاة يدعون أنه [ليس مباينا] لخلقه ولا مداخلا له، وهذا ممتنع في العقول لكن يدعون أن القول بامتناع ذلك هو من حكم الوهم لا من حكم العقل. ثم إنهم تناقضوا فقالوا لو كان فوق العرش لكان جسما لأنه لا بد أن يتميز مما يلي هذا الجانب. فقيل لهم: معلوم بضرورة العقل أن إثبات موجود فوق العالم ليس بجسم أقرب إلى العقل من إثبات قائم بنفسه ليس بمباين للعالم ولا بمداخل له.

وكذلك لفظ الجهة يراد به أمر موجود كالفلك الأعلى ويراد به أمر عدمي كما وراء العالم. فإذا أريد به الثاني أمكن أن يقال كل جسم في جهة وإذا أريد الأول امتنع أن يكون كل جسم في جسم آخر. فمن قال الباري في جهة وأراد بها أمرا موجودا فكل ما سواه مخلوق له [في جهة بهذا التفسير] فهذا مخطئ. وإن أراد بالجهة أمرا عدميا وهو ما فوق العالم وقال إن الله فوق العالم فقد أصاب. [وليس فوق العالم موجود غيره، فلا يكون سبحانه في شيء من الموجودات.]

وقد تنازع المتكلمون في الأسماء التي تَسمّى الله بها وتُسمى بها عباده كالموجود والحي والعليم والقدير. فقال بعضهم هي مقولة بالاشتراك اللفظي حذرا من إثبات قدر مشترك بينهما، لأنهما إذا اشتركا في مسمى الوجود لزم أن يمتاز الواجب عن الممكن بشيء آخر فيكون مركبا، وهذا قول بعض المتأخرين كالشهرستاني والرازي في أحد قوليهما وكالآمدي مع توقفه أحيانا، ونقل ذلك عن الأشعري وأبي الحسين البصري وهو غلط عليهما وإنما ذكروا ذلك عنهما لأنهما لا يقولان بالأحوال ويقولان وجود الشيء عين حقيقته فظنوا أن من قال ذلك يلزمه أن يقول إن لفظ المشترك الموجود يقال بالاشتراك اللفظي عليهما لأنه لو كان متواطئا لكان بينهما قدر مشترك فيمتاز أحدهما عن الآخر بخصوص حقيقته والمشترك ليس هو المميز فلا يكون الوجود المشترك هو الحقيقة المميزة. والرازي والآمدي ونحوهما ظنوا أنه ليس في المسألة إلا هذا القول وقول من يقول بأن اللفظ متواطئ ويقول وجوده زائد على حقيقته، كما هو قول أبي هاشم وأتباعه من المعتزلة والشيعة أو قول ابن سينا بأنه متواطئ مع أنه الوجود المفيد لسلب الأمور الثبوتية. وذهب بعض الباطنية و[غلاة] الجهمية إلى أن هذه الأسماء حقيقة في العبد مجاز في الرب. قالوا هذا في الحي ونحوه. وذهب أبو العباس الناشئ إلى ضد ذلك. وزعم ابن حزم أن أسماء الله لا تدل على المعاني فلا يدل عليم على علم ولا قدير على قدرة، بل هي أعلام محضة. وكل هذا غلو في [نفي] التشبيه لزم منه نفي صفات الرب وظنوا أن ثبوت الكليات المشتركة بني في الخارج، كما غلط الرازي فظن أنه إذا كان هذا موجودا وهذا موجودا والوجود شامل لهما كان بينهما موجود مشترك كلي في الخارج فلا بد من مميز يميز هذا عن هذا والمميز إنما هو الحقيقة فيجب أن يكون هناك وجود مشترك وحقيقة مميزة. ثم إن هؤلاء يتناقضون فيجعلون الوجود ينقسم إلى واجب وممكن كما تنقسم سائر الأسماء العامة الكلية لا كما تنقسم الألفاظ المشتركة كلفظ سهيل المقول على الكوكب وعلى ابن عمرو إذ لا يقال فيها تنقسم إلى كذا وكذا لكن يقال إن هذا اللفظ يطلق على هذا وهذا على هذا، وهذا أمر لغوي لا تقسيم عقلي. وهناك تقسيم عقلي تقسيم المعنى الذي هو مدلول اللفظ العام. وظن بعض الناس أنه يخلص من هذا بأن جعل لفظ الوجود مشككا لكون الوجود الواجب أكمل كما يقال في لفظ السواد والبياض المقول على سواد القار وسواد الحدقة وبياض الثلج وبياض العاج. ولا ريب أن المعاني الكلية قد تكون متفاضلة في مواردها وتخصيص هذا القسم بلفظ المشكك أمر اصطلاحي ولهذا كان من الناس من قال هو نوع من المتواطئ لأن واضع اللغة لم يضع اللفظ بإزاء التفاوت الحاصل لأحدهما بل بإزاء القدر المشترك.

وبالجملة فالنزاع في هذا لفظي فالمتواطئة العامة تتناول المشككة فأما المتواطئة التي تتساوى معانيها فهي قسيم المشككة. فالجمهور على أن هذه الأسماء عامة كلية سواء سميت متواطئة ومشككة، ليست ألفاظا مشتركة اشتراكا لفظيا فقط وهذا مذهب أهل السنة والمعتزلة والأشعرية والكرامية. ولقد طول شيخنا ابن تيمية هنا وما أبقى ممكنا، إلى أن قال:

[وإذا تبين هذا فقول هذا المصنف وأشباهه: "قول المشبهة" إن أراد بالمشبهة من أثبت من الأسماء ما يسمى به الرب والعبد فطائفتة وجميع الناس مشبهة، وإن أراد به من جعل صفات الرب مثل صفات العبد فهؤلاء مبطلون ضالون وهم فيهم أكثر منهم في غيرهم. وأنت تتكلم بألفاظ لا تفهم معانيها ولا موارد استعمالها وإنما تقوم بنفسك صورة تبنى عليها، وكأنك والله أعلم عنيت بالحشوية المشبهة من ببغداد والعراق من الحنبلية دون غيرهم، وهذا من جهلك فإنه ليس للحنبلية قول انفردوا به عن غيرهم من أهل السنة والجماعة، بل كل ما يقولونه قد قاله غيرهم من طوائف أهل السنة. ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد؛ فإنه مذهب الصحابة الذي تلقوه عن نبيهم ومن خالف ذلك كان مبتدعا عند أهل السنة والجماعة فإنهم متفقون على أن إجماع الصحابة حجة ومتنازعون في إجماع من بعدهم. وأحمد بن حنبل إن كان قد اشتهر بإمامة السنة والصبر في المحنة فليس ذلك لأنه انفرد بقول أو ابتدع قولا بل لأن السنة التي كانت موجودة معروفة قبله علمها ودعا إليها وصبر على ما امتحن به ليفارقها، وكان الأئمة قبل قد ماتوا قبل المحنة فلما وقعت محنة الجهمية نفاة الصفات في أوائل المائة الثالثة على عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم الواثق ودعوا الناس إلى التجهم وإبطال صفات الله وهو المذهب الذي ذهب إليه متأخرو الرافضة وكانوا قد أدخلوا معهم من أدخلوه من ولاة الأمر فلم يوافقهم أهل السنة والجماعة حتى هددوا بعضهم بالقتل وقيدوا بعضهم وعاقبوهم بالرهبة والرغبة. وثبت أحمد بن حنبل على ذلك الأمر حتى حبسوه مدة ثم طلبوا أصحابهم لمناظرته فانقطعوا معه في المناظرة يوما بعد يوم. ولما لم يأتوا بما يوجب موافقته لهم وبين خطأهم فيما ذكروا من الأدلة وكانوا قد طلبوا أئمة الكلام من أهل البصرة وغيرهم مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث صاحب حسين النجار وأمثاله ولم تكن المناظرة مع المعتزلة فقط بل كانت مع جنس الجهمية من المعتزلة والنجارية والضرارية وأنواع المرجئة.] فكل معتزلي جهمي وليس كل جهمي معتزليا. لكن جهم أشد تعطيلا لأنه ينفي الأسماء والصفات، والمعتزلة تنفي الصفات. وبشر المريسي كان من كبار الجهمية وكان مرجئا لم يكن معتزليا. وبسبب محنة الإمام أحمد كثر الكلام والتدقيق والبحث في هذه الأشياء ورفع الله قدر الإمام أحمد وأتباعه. ولكن الرافضي أخذ ينكت على كل طائفة بما ظن أنه يخرجها به من الأصول والفروع وظن أن طائفته هي السليمة من القدح. [وقد اتفق عقلاء المسلمين على أنه ليس في طوائف أهل القبلة أكثر جهلا وضلالا وكذبا وبدعا وأقرب إلى كل شر وأبعد من كل خير من طائفته. ولهذا لما صنف الأشعري كتابه في المقالات ذكر أولا مقالتهم وختم بمقالة أهل السنة والحديث وذكر أنه بكل ما ذكر من أقوال أهل السنة والحديث يقول وإليه يذهب.]

فتسميته لأهل الآثار والإثبات مشبهة كتسميتهم لمن أثبت خلافة الثلاثة ناصبيا بناء على اعتقادهم أنه لا ولاية لعلي إلا بالبراءة من الثلاثة. وإنما النصب هو بغض أهل البيت ومعاداتهم. والتشبيه هو جعل صفات الرب مثل صفات العبد. ومن أراد أن يمدح أو يذم فعليه أن يبين دخول الممدوح والمذموم في تلك الأسماء التي علق الله ورسوله بها المدح والذم. أما إذا كان الاسم ليس له أصل في الشرع ودخول الداخل فيه مما ينازع فيه المدخل بطلت كل من المقدمتين. والكتاب والسنة ليس فيهما لفظة ناصبة ولا مشبهة ولا حشوية بل ولا فيهما لفظ رافضي. فنحن إذا قلنا رافضة نذكره للتعريف لدخول أنواع مذمومة بالنص فيه، فبقي علما على هؤلاء الجهلة الذين عدموا الصدق والتوفيق.

وقولك: "داود الطائي" فجهل وإنما هو الجواربي، فقد قال الأشعري: وقال داود الجواربي ومقاتل بن سليمان إن الله جسم وإنه جثة وأعضاء على صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم له جوارح وأعضاء، وهو مع هذا لا يشبهه شيء. وقال هشام بن سالم الجواليقي إنه على صورة الإنسان، وأنكر أن يكون لحما ودما وأنه نور يتلألأ وأنه ذو حواس خمس سمعه غير بصره وكذلك سائر حواسه وله يد ورجل وعين وفم وأنف وأن له وفرة سوداء.

قلت: الأشعري ينقل هذه المقالات من كتب المعتزلة وفيهم انحراف عن مقاتل فلعلهم زادوا عليه، وإلا فما أظنه يصل إلى هذا الحد. وقد قال الشافعي: من أراد التفسير فهو عيال على مقاتل ومن أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة. وأما داود الطائي فكان فقيها زاهد عابدا ما قال شيئا من هذا الباطل ولا دخل في هذا. قال: "وذهب بعضهم إلى أن الله ينزل كل ليلة جمعة بشكل أمرد راكبا على حمار حتى أن بعضهم ببغداد وضع على سطحه معلفا يضع فيه شعيرا كل ليلة جمعة الجواز أن ينزل الله على سطحه فيشتغل الحمار بالأكل ويشتغل الرب بالنداء هل من تائب"

قلنا: هذا وأمثاله إما كذب أو وقع لجاهل مغمور ليس بقول عالم ولا معروف. وقد صان الله علماء السنة بل وعامتهم من قول هذا الهذيان الذي لا ينطلي على الصبيان. ثم لم يرو في ذلك شيء لا بإسناد ضعيف ولا بإسناد مكذوب. ولا قال أحد إنه تعالى ينزل ليلة الجمعة إلى الأرض ولا أنه في شكل أمرد. وهذا مثل حديث الجمل الأورق وأنه تعالى ينزل عشية عرفة فيعانق المشاة ويصافح الركبان؛ قبح الله من وضعه. وما أكثر الكذب في العالم ولكن تسعة أعشاره أو أقل أو أكثر بأيدي الرافضة. وأما أحاديث النزول إلى سماء الدنيا فمتواترة، وحديث دنوه عشية عرفة فأخرجه مسلم. ولا نعلم كيف ينزل ولا كيف استوى. قال: "وقالت الكرامية إن الله في جهة فوق ولم يعلموا أن كل ما هو في جهة فهو محدث محتاج إلى تلك الجهة"

فيقال له: نعم هذا مذهبهم ومذهب كبار الشيعة المتقدمين وأنت لم تذكر حجة على إبطاله. وجمهور الخلق على أن الله فوق العالم وإن كان أحدهم لا يلفظ بلفظ الجهة فهم مفطورون مجبولون على أن معبودهم فوق. كما قال أبو جعفر الهمداني لأبي المعالي [ما معناه: إن الاستواء علم بالسمع ولو لم يرد به لم نعرفه وأنت قد تتأوله فدعنا من هذا و] أخبرنا عن هذه الضرورة [التي نجدها في قلوبنا فإنه ما قال عارف قط يا الله إلا وقبل أن ينطق لسانه يجد في قلبه معنى يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فهل عندك من حيلة في دفع هذه الضرورة [عن قلوبنا؟ فلطم المتكلم رأسه وقال: حيرني الهمداني] يعني أن الدليل على نفي الفوقية نظري فكيف يعارض ضرورة الفطر، بل وتواتر النصوص، فإن دفع الضروريات بالنظريات غير ممكن. ولو قدح في الضروريات لكان ذلك قدحا في أساس النظريات وهو من باب قدح الفرع في أصله فتبطل الضروريات والنظريات. وأيضا فإن هؤلاء قرروا ذلك بأدلة عقلية كقولهم كل موجودين إما متباينان وإما متداخلان وقالوا إن العلم بذلك بضروري وقالوا إثبات موجود لا يشار إليه مكابرة للحس والعقل. وهذا القرآن ينطق بالعلو [في مواضع كثيرة جدا] حتى قيل إنها نحو ثلاثمائة موضع. والسنن ملأى بذلك وكلام السلف يقتضي اتفاقهم على ذلك. فمن يريد التشنيع على الناس ودفع الدلائل القاطعة لا بد أن يذكر حجة. فقولكَ: "إن كل ما هو في جهة فهو محدث ومحتاج إليها" إنما يستقيم إذا كانت الجهة أمرا ثبوتيا وجوديا وكانت لازمة له. فلا ريب أن من قال إن الباري لا يقوم إلا بمحل يحل فيه لا يستغني عنه فقد جعله محتاجا. وهذا لم يقله أحد ولا علمنا أحدا قال إنه محتاج إلى شيء من مخلوقاته لأنه خلق العرش فدل على أنه غني عنه قبل وبعد وإذا كان فوقه لم يجب أن يكون محتاجا إليه. بل الله قد خلق العالم بعضه فوق بعض ولم يجعل عاليه محتاجا إلى سافله فالأرض فوقها الهواء والسحاب ثم السماوات ثم العرش. ونحن نعلم أنه لا قوة إلا بالله وأن القوة التي في حملة العرش هو خالقها. ولو احتج عليك سلفك مثل علي بن يونس القمي الرافضي القائل بأن العرش يحمله، لم يكن عندك حجة فإنهم يقولون لم نقل إنه محتاج إليه ولكن قلنا إنه على كل شيء قدير وإذا جعلناه قادرا على أن خلق شيئا يحمله كان ذلك وصفا له بكمال الاقتدار لا بالحاجة.

وقد قدمنا أن لفظ الجهة يراد به أمر موجود مخلوق وأمر معدوم. فمن قال إنه تعالى فوق العالم جميعه لم يقل إنه في جهة موجودة إلا أن يراد بالجهة العرش ويراد بكونه فيها أنه عليها كما جاء أنه في السماء أي على السماء. وهؤلاء أخذوا لفظ الجهة بالاشتراك وأوهموا أنه إذا كان في جهة كان في شيء غيره كما يكون الإنسان في بيته، ثم رتبوا على ذلك أن يكون محتاجا إلى غيره وهذه مقدمات باطلة. وقالوا إنه لو كان في جهة لكان جسما وكل جسم محدث لأن الجسم لا يخلو من الحوادث فهو حادث. وكل هذه مقدمات متنازع فيها. فمن الناس من يقول قد يكون في الجهة من ليس بجسم. فإذا قيل له هذا خلاف المعقول قال هذا أقرب إلى العقول من موجود لا داخل العالم ولا خارجه. ومن الناس من لا يسلم أن كل جسم محدث كالكرامية وقدماء الشيعة ولا يسلمون أن الجسم لا يخلو من الحوادث، وكثير من أهل الحديث والكلام والفلسفة ينازعون في قولهم إن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. قال: "وذهب الأكثر منهم إلى أن الرب يفعل القبائح والكفر وأن جميع ذلك واقع بقضاء الله وقدره وأن العبد لا تأثير له في ذلك وأن الله يريد المعاصي من الكافر ولا يريد منه طاعة".

قلنا: قد تقدم أن مسائل القدر والتعديل والتجوير ليست ملزومة لمسائل الإمامة ولا لازمة لها وأنت تعيدها وتبدئها. فإن خلقا ممن يقر بإمامة أبي بكر وعمر قدرية وخلقا من الرافضة بعكس ذلك. فليس أحد البابين مرتبطا بالآخر أصلا. والمنقول عن أهل البيت في إثبات القدر والصفات لا ينحصر؛ ولكن متأخرو الرافضة جمعوا إلى رفضهم التجهم والقدر [كصاحب هذا الكتاب].

وقولك عنهم: "إن العبد لا تأثير له في الكفر والمعاصي" فنقل باطل، بل جمهور من أثبت القدر يقول إن العبد فاعل لفعله حقيقة وإن له قدرة واستطاعة، ولا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دل عليه الشرع والعقل من أن الله يخلق السحاب بالرياح وينزل الماء بالسحاب وينبت النبات بالماء والله خالق السبب والمسبب، ومع أنه خالق السبب فلا بد له من سبب آخر يشاركه ولا بد له من معارض يمانعه فلا يتم أثره مع خلق الله له إلا بأن يخلق الله السبب الآخر ويزيل الموانع. ولكن ما قلته هو قول الأشعري ومن وافقه لا يثبتون في المخلوقات قوى ولا طبائع ويقولون إن الله فعل عندها لا بها ويقولون قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل. وأبلغ من ذلك قول الأشعري إن الله فاعل فعل العبد وإن فعل العبد ليس فعله بل كسب له وإنما هو فعل الله فقط. وجمهور الناس والسنة على خلاف قوله وعلى أن العبد فاعل لفعله حقيقة.

وقولك: "يريد المعاصي من الكافر" هو قول طائفة، وهم الذين يجعلون الإرادة نوعا واحدا ويجعلون المحنة والرضا والغضب بمعنى الإرادة وهو أشهر قولي الأشعري وقول أكثر أصحابه. وأما جمهور السنة فيفرقون بين الإرادة والمحبة والرضا ويقولون إنه وإن كان يريد المعاصي فهو لا يحبها ولا يرضاها بل يبغضها. والمحققون يقولون الإرادة في القرآن نوعان: إرادة قدرية كونية وإرادة شرعية دينية. فالشرعية هي المتضمنة للمحبة والرضا. والقدرية هي الشاملة لجميع الحوادث. فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. قال الله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} وقال: {إن كان الله يريد أن يغويكم} فهذه الإرادة تعلقت بالإضلال والإغواء. وأما الشرعية فكقوله: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم} وقوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} فهذه غير تيك. قال: "وهذا يستلزم أشياء شنيعة منها أن يكون الله أظلم من كل ظالم لأنه يعاقب الكافر على كفره وهو قدره عليه ولم يخلق فيه قدرة على الإيمان فكما أنه يلزم الظلم لو عذبه على كونه طوله وقصره يلزم أن يكون ظالما لو عذبه على المعصية التي جعلها فيه".

فيقال: قد مر أن الجمهور في تفسير الظلم على قولين. أحدهما أن الظلم ممتنع لذاته غير مقدور كما صرح به الأشعري والقاضي أبو بكر وأبو المعالي والقاضي أبو يعلى وابن الزاغوني، ويقولون إنه غير قادر على الكذب والظلم والقبيح ولا يصح وصفه بشيء من ذلك، ودلالتهم على استحالة وقوع ذلك منه أن الظلم والقبيح ما شرع الله وجوب ذم فاعله وذم الفاعل لما ليس له فعله، ولن يكون كذلك حتى يكون متصرفا فيما غيره أملك به وبالتصرف فيه منه، فوجب استحالة ذلك في حقه من حيث لم يكن أمر الناس بذمه ولا كان ممن يجوز دخول أفعاله تحت تكليف من نفسه لنفسه ولا يكون فعله تصرفا في شيء غيره أملك به، فثبت بذلك استحالة تصوره في حقه. وحقيقة قول هؤلاء أن الذم إنما يكون لمن تصرف في ملك غيره ومن عصى الأمر، والله يمتنع أن يأمره أحد ويمتنع أن يتصرف في ملك غيره فإن الأشياء له. وهذا القول يروى عن إياس بن معاوية قال: ما خاصمت بعقلي كله إلا القدرية قلت: أخبروني ما الظلم؟ قالوا أن يتصرف الإنسان فيما ليس له، قلت: فلله كل شيء. ثم هؤلاء يجوزون التعذيب لا لجرم، فلا يرد عليه المعارضة بتعذيب القصير لقصره ولا الأسود للونه لأنهم يجوزون ذلك لمحض المشيئة.

القول الثاني أن الظلم مقدور لله منزه عنه كتعذيب الإنسان بذنب غيره، كما قال تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما} وهؤلاء يقولون الفرق بين تعذيب الإنسان على فعله الاختياري وغير فعله الاختياري مستقر في فطر العقول. ويقولون الاحتجاج بالقدر على الذنوب مما يعلم بطلانه بالعقل فإن الظالم لغيره لو احتج بالقدر لاحتج ظالمه بالقدر أيضا، فالاحتجاج على فعل المعاصي بالقدر باطل باتفاق الملل والعقلاء، وإنما يحتج به من اتبع هواه كما قيل أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به. ولو كان القدر حجة لفاعل الفواحش لم يحسن أن يلوم أحد أحدا ولا أن يعاقب أحد أحدا. وقد يعرض ذلك لكثير من المدعين الحقيقة [من الفقراء والصوفية والعامة وغيرهم] فيُشهدون القدر ويعرضون عن الأمر والنهي. فلا عذر لأحد في ترك مأمور ولا فعل محظور بكون ذلك مقدرا عليه بل لله الحجة البالغة على خلقه. فالمحتجون بالقدر على المعاصي شر من القدرية المكذبين بالقدر. ومن ثم اتُّهم بالقدر جماعة لم يكونوا قدرية لكن كانوا لا يقبلون الاحتجاج على المعاصي بالقدر، كما قيل للإمام أحمد: كان ابن أبي ذئب قدريا؟ فقال: الناس كل من شدد عليهم المعاصي قالوا هو قدري. ولهذا تجد الذين يُشهدون القدر ينكرون على من أنكر المنكر ويقولون هؤلاء قُدِّر عليهم. فيقال لهذا: وإنكار المنكر أيضا بقدر الله فنقضت قولك بقولك. ومن جهلة مشايخهم من يقول أنا كافر برب يعصى، ولو قتلت سبعين [نبيا] ما كنت مخطئا. ويقول آخر:

أصبحت منفعلا لما يختاره ** مني ففعلي كله طاعات

ومن الناس من يظن أن احتجاج آدم على موسى بالقدر كان من هذا الباب؛ وهذا جهل فإن الأنبياء من أعظم الناس أمرا بما أمر الله به ونهيا عما نهى عنه، فكيف يسوغ لأحد منهم أن يعصي الله بالقدر. وأيضا فإن آدم كان قد تاب من الذنب وتيب عليه. ولو كان القدر حجة لكان حجة لإبليس وفرعون وغيرهما. ولكن كان ملام موسى لآدم لأجل المصيبة التي لحقتهم بسبب أكله ولهذا قال له لماذا أخرجتنا وبنيك من الجنة. والعبد مأمور أن يرجع إلى القدر عند المصائب لا عند الذنوب والمعايب؛ فيصبر على المصائب ويتوب من الذنوب. قال الله تعالى: {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك} ومعلوم أن الأفعال الاختيارية تكسب نفس الإنسان صفات محمودة وصفات مذمومة بخلاف لونه وقصره فإنها لا تكسبه ذلك. قال ابن عباس: إن للحسنة نورا في القلب وضياء في الوجه وسعة في الرزق وقوة في البدن ومحبة في قلوب الخلق. فالله تعالى جعل أفعال العبد سببا لهذا وهذا كما جعل أكل السم سببا للمرض والموت، لكن قد يدفع ذلك بالترياق كما أن السيئات قد يدفع مقتضاها بالتوبة والأعمال الصالحة الماحية والمصائب المكفرة.

وإذا قيل خلقُ الفعل مع حصول العقوبة عليه ظلم كان بمنزلة قولك خلق السم ثم حصول التلف به ظلم، وقد دلت الدلائل اليقينية على أن كل حادث فالله خالقه، وفعل العبد من جملة الحوادث فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وإذا قيل حدث الفعل بإرادة العبد، قلنا: الإرادة أيضا حادثة فلا بد لها من سبب. وإن شئت قلت: الفعل ممكن فلا ترجيح لوجوده على عدمه إلا بمرجح، وكون العبد فاعلا له [حادث] ممكن، فلا بد له من محدث مرجح، ولا فرق في ذلك بين حادث وحادث، ومن المخلوقات ما قد يحصل به ضرر للبعض كالأمراض والآلام، وفي ذلك حكمة لله. فإذا كان العقاب على فعل العبد الاختياري لم يكن ظلما فالحادث بالنسبة إلى الرب له فيه حكمة يحسن لأجل تلك الحكمة وذلك بالنسبة إلى العبد عدل لأنه عوقب على فعله فما ظلمه الله ولكن هو الظالم. ولو عاقبه الوالي وقطع يده ورد إلى رب المال سرقته لعد حاكما بالعدل. ولو قال له السارق: "أنا قُدِّر عليَّ" لم يكن هذا حجة له ولا مانعا لحكم الوالي. فإذا اقتص الله من الظالم يوم القيامة كان عادلا ولا ينفع الظالم قوله أنت قدرت علي وليس القدر بعذر له. وإذا كان الله هو الخالق لكل شيء فذاك لحكمة أخرى له في الفعل، فخلقه حسن بالنسبة لما فيه من الحكمة.

ولقد أنكر الأئمة على من قال: "جبر الله العباد" كالثوري والأوزاعي والزبيدي وأحمد بن حنبل وقالوا: الجبر لا يكون إلا من عاجز كما يجبر الأب ابنته على خلاف مرادها، والله تعالى خالق الإرادة والمراد فيقال: جبل الله العباد، كما جاءت به السنة، ولا يقال جبر. قال النبي ﷺ لأشج عبد القيس: «إن فيك لخلتين يحبهما الله الحلم والأناة» فقال: أخلقين تخلقت بهما أم جُبلتُ عليهما؟ قال: «بل جبلت عليهما» فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله.

فجهة خلق الله وتقديره غير جهة أمره وتشريعه، فإن أمره وتشريعه مقصوده بيان ما ينفع العباد إذا فعلوه وما يضرهم بمنزلة أمر الطبيب المريض بما ينفعه وحميته مما يضره. فأخبر الله على ألسن رسله بمصير السعداء والأشقياء وأمر بما يوصل إلى السعادة ونهى عما يوصل إلى الشقاوة. وأما خلقه وتقديره فيتعلق به وبجملة المخلوقات، فيفعل ما له فيه حكمة متعلقة بعموم خلقه وإن كان في ضمن ذلك مضرة للبعض، كما أنه ينزل الغيث رحمة وحكمة وإن كان في ضمن ذلك ضرر للبعض بسقوط منزله أو انقطاعه عن سفره أو تعطيل معيشته، ويرسل الرسل رحمة وحكمة وإن كان في ضمن ذلك أذى قوم وسقوط رياستهم. فإذا قَدَّرَ على الكافر كفره قدره لما في ذلك من الحكمة والمصلحة العامة وعاقبه لاستحقاقه ذلك بفعله الاختياري ولما في عقوبته من الحكمة والمصلحة العامة. وقياس أفعاله تعالى على أفعالنا خطأ ظاهر لأن السيد يأمر عبده بأمر لحاجته إليه ولغرضه، فإذا أثابه على ذلك كان من باب المعاوضة وليس هو الخالق لفعل المأمور، والله غني عن العباد إنما أمرهم بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم أمرَ إرشاد وتعليم، فإن أعانهم على فعل المأمور فقد تمت نعمته وإن خذل ولم يعن العبد حتى فعل الذنب كان له في ذلك حكمة أخرى وإن كانت مستلزمة تألم هذا فإنما يألم بأفعاله التي من شأنها أن تورثه نعيما أو عذابا وإن ذلك الإيراث بقضاء الله وقدره. فلا منافاة بين هذا وهذا.

بقي الكلام في نفس تلك الحكمة الكلية فهذه ليس على الناس معرفتها ويكفيهم التسليم لمن قد عرفوا حكمته ورحمته وقدرته، فمن المعلوم ما لو علمه كثير من الناس لضرهم علمه فحكمته أكبر من العقول. قال تعالى: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} وهذه المسألة مسألة غايات أفعال الله تعالى ونهاية حكمته و[لعلها] أجل المسائل الإلهية، وما ضلت القدرية إلا من جهة قياس الله بخلقه في عدلهم وظلمهم كما ضلت الجبرية الذين لا يجعلون لأفعال الله حكمة ولا ينزهونه عن ظلم. ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه.

وقولكَ عنهم: "ولم يخلق فيه قدرة على الإيمان" فهذا قاله من يقول إن القدرة لا تكون إلا مع الفعل فمن لم يفعل شيئا لم يكن قادرا عليه ولكن لا يكون عاجزا عنه. وليس ذا قول جمهور السنة بل يثبتون للعبد قدرة هي مناط الأمر والنهي غير القدرة المقارنة للفعل، وتلك القدرة تكون متقدمة على الفعل بحيث تكون لمن [لم] يطع كما قال الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من تستطاع إليه سبيلا} فأوجب الحج على المستطيع فلو لم يستطع إلا من حج لم يكن الحج إلا على من حج ولا عوقب أحد على ترك الحج. وقال: {فاتقوا الله ما استطعتم} فأوجب التقوى بحسب الاستطاعة فلو كان من لم يتق الله لم يستطع التقوى لم يكن قد أوجب التقوى إلا على من اتقى. وأهل السنة متفقون على أن لله على عبده المطيع نعمة دينية خصه بها دون الكافر وأنه أعانه على الطاعة. قال تعالى: {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} وعند القدرية هذا التحبب والتزين عام في كل الخلق والآية تقتضي أنه خاص بالمؤمنين. وقال تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} الآية وقال: {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس} وقال: {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان} وقد أمرنا الله أن نقول: {اهدنا الصراط المستقيم} والدعاء إنما يكون لمستقبل غير حاصل وهذه الهداية غير الهدى الذي هو بيان الرسول وتبليغه. قال الله: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء} وقال تعالى: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا} وقال: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} وهذا كثير جدا.

ومما ورد في الاستطاعة قوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات} وقال: {وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم} وقال: {فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا} وقال ﷺ [لعمران بن حصين]: «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب» فإنما نفى استطاعة لا فعل معها، فالاستطاعة المشروطة في الشرع أخص من الاستطاعة المعلومة بالعقل. فإن الشارع ييسر على عباده ويريد بهم اليسر فالمريض يستطيع القيام مع تأخر برئه، فهذا في الشرع غير مستطيع لأجل حصول الضرر عليه وإن كان قد تسمى مستطيعا. فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد الإمكان بل يراعي لوازم ذلك فإذا كان [الشارع قد اعتبر في المكنة عدم المفسدة الراجحة] فكيف يكلف مع العجز. ولكن هذه الاستطاعة مع بقائها إلى حين الفعل لا تكفي [في وجود الفعل] إذ لو كفت لكان التارك كالفاعل، بل لا بد من إحداث إعانة أخرى تقارن هذه مثل جعل الفاعل مريدا، فإن الفعل لا يتم إلا بقدرة وإرادة، والاستطاعة المقارنة للفعل تدخل فيها الإرادة الجازمة بخلاف المشروطة في التكليف فإنه لا يشترط فيها الإرادة. فالله يأمر بالفعل من لا يريده لكن لا يأمر به من يعجز عنه، كما أن السيد يأمر عبده بما لا يريده ولا يأمره بما يعجز عنه. وإذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقوة التامة لزم وجود الفعل. ومن قال القدرة لا تكون إلا مع الفعل يقول كل كافر وفاسق قد كلف ما لا يطاق. وليس هذا الإطلاق قول جمهور أئمة السنة بل يقولون أوجب الله الحج على المستطيع حج أو لم يحج، وأوجب صيام الشهرين في الكفارة كفّر أو لم يكفر، وأوجب العبادة على القادر دون العاجز فعل أو لم يفعل. وما لا يطاق يفسر بشيئين: بما لا يطاق للعجز عنه فهذا ما كلفه أحد، أو بما لا يطاق للاشتغال بضده، فهذا الذي وقع به التكليف كما في أمر العباد بعضهم لبعض، فإنهم يفرقون بين هذا وهذا فلا يأمر السيد عبده الأعمى بنقط المصاحف ويأمر عبده القاعد أن يقوم. والفرق بينهما ضروري. قال: ومنها إفحام الأنبياء وانقطاع حجتهم لأن النبي إذا قال للكافر آمن بي وصدقني يقول له قل لربك يخلق فيَّ الإيمان والقدرة المؤثرة حتى أفعل وإلا فكيف تكلفني الإيمان ولا قدرة لي عليه بل خلق في الكفر وأنا لا أتمكن من مقاهرته فينقطع النبي [ولا يتمكن من جوابه.]

فيقال: هذا مقام يكثر الخوض فيه، وكثير من البطالين إذا أمر بما يجب عليه تعلل بالقدر وقال حتى يقدرني الله على ذلك، وكذا إذا نهي قال قد قضي علي بذلك، أي جبلة فيَّ. والاحتجاج بالقدر حجة داحضة لا يعذر بها العبد. ولهذا لما قال المشركون: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} قال الله تعالى: {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} فإن هؤلاء علموا بفطرهم أن حجتهم داحضة؛ فإن أحدهم لو ظلم الآخر في ماله أو فجر بامرأته أو قتل ولده [أو كان مصرا على الظلم] فنهاه الناس فقال: "لو شاء الله لم أفعل" لم يقبلوا منه هذه الحجة ولا هو يقبلها من غيره ولوجبت عقوبته؛ وإنما يحتج بها المحتج دفعا للوم بلا وجه. ولو كان الاحتجاج بالقدر عذرا لما حصل فرق بين الطائع والعاصي. فأثبت الله عليهم الحجة بقوله: {قل فلله الحجة البالغة} ثم أثبت القدر بقوله: {فلو شاء لهداكم أجمعين} وكلاهما حق. قال: "ومنها تجويز أن يعذب الله سيد المرسلين على طاعته ويثيب إبليس على معصيته لأنه يفعل لا لغرض فيكون فاعل الطاعة سفيها لأنه يتعجل بالتعب في الاجتهاد [في العبادة] وإخراج ماله في عمارة المساجد والربط والصدقات من غير نفع يحصل له لأنه قد يعاقبه على ذلك ولو فعل عوض ذلك ما يتلذذ به من المعاصي قد يثيبه وهذا يؤدي إلى خراب العالم واضطراب الدين".

فيقال: هذا باطل، لم ينقل أحد منهم أن الله يعذب أنبياءه ولا أنه قد يعذبهم؛ بل اتفقوا على أنه يثيبهم لا محالة لأنه وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد. بل من الناس من يقول علمت إثابتهم بالسمع ومنهم من قال بالعقل. وقال تعالى: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات} وهذا استفهام إنكار على من يظن ذلك. فعلم أن التسوية بين أهل الطاعة وأهل الكفر مما يعلم بطلانه وإن ذلك من الحكم السيء الذي تنزه الله عنه. وقال تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} {أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون}

وقولك: "منها تجويز تعذيب الأنبياء" إن أردت أنهم يقولون إنه قادر على ذلك فأنت لا تنازع في القدرة، وإن أردت أنا نشك هل يفعله أو لا يفعله فمعلوم أنا لا نشك بل نقطع بدخول أنبياء الله وأوليائه جنته وبدخول إبليس وحزبه النار، وإن أردت أن من قال يفعل لا لحكمة يلزمه تجويز هذا، فهذا قول لبعض المتكلمين لكن أكثر أهل السنة لا يقولون ذلك/ ثم الكل متفقون على أن وجود الطاعة نافع وعدمها مضر. قال: "ومنها أنه لا يتمكن أحد من تصديق نبي لأن التوصل إلى ذلك إنما يتم بمقدمتين: إحداهما أن الله فعل المعجز على يد النبي لأجل التصديق. والثانية أن كل من صدقه الله فهو صادق. فكلا المقدمتين لا تتم على قولهم، لأنه إذا استحال أن يفعل لغرض استحال أن تظهر المعجزات لأجل التصديق وإذا كان فاعلا للقبيح ولأنواع الضلال والمعاصي والكذب جاز أن يصدق الكذاب فلا يصح الاستدلال على صدق نبي ولا نذير".

قلنا: قد تقدم أن أكثر أهل السنة المثبتين للقدر وغيرهم يقولون إن الله يفعل لحكمة، فهذا القول وضده لا يخرج عن أقوال السنة. وأيضا فلا نسلم أن تصديق النبي لا يمكن إلا بطريق الاستدلال بالمعجزات، بل الطرق الدالة على صدقه متعددة غير المعجزات. ومن قال لا طريق إلا ذلك فعلى النافي الدليل. ثم إن دلالة المعجزة على الصدق دلالة ضرورية لا تحتاج إلى نظر، فإن اقتران المعجزة بدعوى النبوة يوجب علما ضروريا أن الله أظهرها لصدقه، كما أن من قال لملك من الملوك إن كنت أرسلتني إلى هؤلاء فانقض عادتك وقم واقعد ثلاث مرات ففعل ذلك الملك علمنا بالضرورة أنه فعل ذلك لأجل تصديقه.

وقولك: "إذا كان فاعلا للقبيح جاز أن يصدق الكذاب" قلنا: ما في المسلمين من يقول إن الله يفعل قبيحا. ومن قال إنه خالق أفعال العباد يقول ذلك الفعل قبيح منهم لا منه كما أنه ضار لهم لا له. ثم الآخرون يقولون إن ذلك الفعل مفعول له وهو فعل للعبد. وأما نفس خرق العادة فليست فعلا للعباد حتى يقال إنها قبيحة منهم. وتصديق الكذاب إنما يكون بإخباره أنه صادق سواء كان ذلك بقول أو فعل يجري مجرى القول، وذلك ممتنع منه لأنه صفة نقص والله منزه عن الناقص. قال: "ومنها أنه لا يصح أن يوصف الله أنه غفور حليم عفو لأن وصفه بهذا إنما يثبت لو كان مستحقا لعقاب الفساق بحيث إذا أسقطه عنهم كان غفورا عفوا وإنما يستحق العقاب إذا كان العصيان من العبد لا من الله".

فنقول الجواب من وجوه:

أحدها أن كثيرا من أهل السنة يقول لا نسلم أن وصفه بهذه إنما يثبت لو كان مستحقا بل الوصف بها يثبت إذا كان قادرا على العقاب مع قطع النظر عن الاستحقاق فيفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

الثاني أن قول القائل يستحق العقاب يعني به أن عقابه للعصاة عدل منه أو يعني به أنه محتاج إلى ذلك. أما الأول فمتفق عليه، فعفوه ومغفرته بفضل وإحسان منه [وهذا يقول به من يقول إنه خالق أفعالهم والقائلون بأنها أفعال له كسب لهم متفقون على أن العقاب عدل منه.]

الثالث أن يقال المغفرة والعفو والرحمة إما أن يوصف بها مع كون العقاب قبيحا على قول من يقول بذلك، وإما أن لا يوصف بها إلا إذا كان العقاب سائغا. فإن كان الأول لزم أن لا يكون غفارا لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى لأن عقاب هؤلاء قبيح والمغفرة لهم واجبة عند أهل هذا القول، ويلزم أن لا يكون رحيما ولا غفورا للأنبياء ويلزم أن لا يكون رحيما غفورا لمن ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء. وقد ثبت أنه غفار للتوابين رحيم بالمؤمنين فعلم أنه موصوف بالمغفرة والرحمة مطلقا.

الرابع أن العصيان من العبد بمعنى أنه فاعله عند الأكثر وبمعنى أنه كاسبه عند البعض، وبهذا القول يستحق الآدمي أن يعاقب الظالم فاستحقاق الله عقاب الظالم أولى بذلك. وأما كونه خالقا لذلك فذاك أمر يعود إليه وله فيه حكمة [عند الجمهور القائلين بالحكمة] أو لمحض المشيئة عند من لا يعلل بالحكمة. قال: "ومنها أنه يلزم تكليف ما لا يطاق لأنه تكليف الكافر بالإيمان ولا قدرة له عليه وهو قبيح عقلا وقال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}"

فالجواب أن المثبتين للقدر لهم في قدرة العبد قولان. أحدهما أن قدرته لا تكون إلا مع الفعل، وعلى هذا فالكافر الذي قد سبق في علم الله أنه لا يؤمن لا يقدر على الإيمان أبدا. الثاني أن القدرة المشروطة في التكليف تكون قبل الفعل وبدونه وإلى حين وقوعه، والقدرة المستلزمة للفعل فلا بد أن تكون معه. وأصل قولهم أن الله خص المؤمن بنعمة يهتدي بها لم يعطها الكافر وأن العبد لا بد أن يكون قادرا حين الفعل خلافا لمن زعم أنه لا يكون قادرا إلا قبل الفعل وأن النعمة على الكافر والمؤمن سواء. إلى أن قال: وعلى قول جمهور السنة القائلين بأن الكافر يقدر على الإيمان يبطل هذا الإيراد وعلى قول الآخرين فيلتزمونه. وأي القولين كان الصواب فهو غير خارج عن أقوال أهل السنة. وأيضا فتكليف ما لا يطاق كتكليف الزمن المشي وتكليف الآدمي الطيران فغير واقع في الشريعة [عند جماهير أهل السنة المثبتين للقدر وليس فيما ذكره ما يقتضي لزوم وقوع هذا]. وأما ما لا يطاق للاشتغال بضده كاشتغال الكافر بالكفر الصاد عن الإيمان وكالقاعد في حال قعوده، فإن اشتغاله بالقعود يمنع أن يكون قائما والإرادة الجازمة لأحد الضدين تنافي إرادة الآخر، وتكليف الكافر الإيمان من هذا الباب. ومثل هذا لا نسلم أنه قبيح عقلا بل العقلاء متفقون على [أن] أمر الإنسان ونهيه بما لا يقدر عليه حال الأمر والنهي لاشتغاله بضده إذا أمكن أن يترك ذلك الضد ويفعل المأمور به ممكن سائغ.

الخامس أن تكليف ما لا يطاق إذا فسر بأنه الفعل الذي ليس له قدرة عليه تقارن مقدورها كان دعوى امتناعه بهذا التفسير مورد نزاع فيحتاج نفيه إلى دليل. قال: "ومنها أن تكون أفعالنا الاختيارية الواقعة بحسب قصودنا ودواعينا مثل حركتنا يمنة ويسرة [كالأفعال الاضطرارية مثل] حركة النبض وحركة الواقع من شاهق والفرق بينهما ضروري".

قلنا: هذا يلزم من يقول العبد لا قدرة له على أفعاله الاختيارية وليس هذا قول إمام معروف ولا طائفة من السنة والمثبتة للقدر، إلا ما يحكى عن الجهم بن صفوان وغلاة المثبتة أنهم سلبوا العبد قدرته وقالوا حركته كحركة الأشجار. وأشد الطوائف قربا من هؤلاء الأشعري وهو مع هذا يثبت للعبد قدرة محدثة ويقول الفعل كسب العبد لكنه يقول لا تأثير لقدرته في إيجاد المقدور، فما أثبته من الكسب لا يعقل. ونحن لا ننكر أن بعض أهل السنة قد يخطئ، لكن لا يتفقون على الخطأ [كما تتفق الإمامية على الخطأ. بل كل مسألة خالفت فيها الإمامية أهل السنة فالصواب فيها مع أهل السنة.] فالجمهور على أن العبد له قدرة حقيقة وهو فاعل حقيقة والله خالق فعله لقوله تعالى: {خالق كل شيء} وقال تعالى عن إبراهيم: {ربنا واجعلنا مسلمين لك} وقال: {رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي} وقال تعالى: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا} وقال: {وجعلني مباركا أين ما كنت} وقال: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} وقال تعالى: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} أثبت مشيئة العبد وأخبر أنها لا تكون إلا بمشيئة الرب تعالى. وقد أخبر أن العباد يفعلون ويعملون ويؤمنون ويكفرون ويصدقون ويكذبون في مواضع جمة وأن لهم قوة واستطاعة. وشناعاته تلزم من لا يفرق بين فعل الرب ومفعوله أو يقول إن أفعال العباد فعل الله أو يقول ليس في المخلوقات قوى ولا طبائع. وقد دلت النصوص على ذلك والعقول. قال تعالى: {سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات} وقال: {فأحيا به الأرض بعد موتها} وقال تعالى: {يهدي به الله من اتبع رضوانه} وقال: {يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا} وقال: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} وقال: {خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة} وقال ﷺ لأشج عبد القيس: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة» إلى أن قال شيخنا: فأفعال العباد حادثة بعد أن لم تكن، فحكمها حكم سائر الحوادث، وهي ممكنة من الممكنات [فحكمها حكم سائر الممكنات] فما من دليل استدل به على أن بعض الحوادث الممكنات مخلوقة لله تعالى إلا وهو يدل على أن أفعالنا مخلوقة لله تعالى، فإنه قد علم أن المحدث لا بد له من محدث وهذه مقدمة ضرورية عند الجمهور وكذلك الممكن لا بد له من مرجح تام، فإذا كان فعل العبد حادثا فلا بد له من محدث وإذا قيل المحدِث هو العبد يكون العبد صار محدِثا له بعد أن لم يكن فهو أيضا أمر حادث فلا بد له من محدِث إذ لو كان العبد لم يزل محدِثا له لزم دوام ذلك الفعل الحادث وإذا كان إحداثه له حادثا من فلا بد له من محدِث وإذا قيل المحدث إرادة العبد قيل فإرادته أيضا حادثة لا بد لها من محدث، وإن قيل حدثت بإرادة من العبد قيل وتلك الإرادة لا بد لها أيضا من محدث. [فأي محدث] فرضته في العبد فالقول فيه كالقول في الحادث الأول؛ وإن جعلته قديما أزليا كان هذا ممتنعا لأن ما يقوم بالعبد لا يكون قديما. وإن قلت هو وصف العبد وهي قدرته المخلوقة فيه -والقول فيها كالقول في الإرادة- فلا بد أن يكون المرجح التام من الله تعالى. ودقق العلامة شيخنا النظر هنا واستوعب وساق تسلسل الحوادث. قال المصنف: "ومنها أنه لا يبقى فرق بين من أحسن غاية الإحسان عمره وبين من أساء غاية الإساءة عمره ولم يحسن منا شكر الأول وذم الثاني لأن الفعلين صادران من الله تعالى".

فيقال: هذا باطل، فإن اشتراك الفعلين في كون الرب خلقهما لا يستلزم اشتراكهما في الحكم، فإن جميع ما سوى الله مشترك في كون الله خلقه قال تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور} الآية والله خالق الجنة والنار وخالق العالم والجاهل وخالق العسل والسم واللذة والألم وخالق آدم وإبليس. وإذا كان الشرع والعقل متطابقين على أن ما جعل الله فيه منفعة ومصلحة يجب مدحه وإن كان جمادا فكيف لا يكون من جعله محسنا غاية الإحسان إلى الخلق أحق بالمدح؛ وكذلك في جانب الشر. والقدري يقول لا يكون العبد محمودا على إحسانه ولا مذموما على إساءته إلا بشرط ألا يكون الله جعله محسنا إلينا ولا منّ به علينا إذا فعل الخير ولا ابتلانا به إذا فعل الشر. وحقيقة قولهم إنه حيث يُشكر العبد لا يشكر الرب وحيث يشكر الرب لا يشكر العبد، وأنه لا منة لله علينا في تعليم الرسول وتبليغه إلينا/ والله تعالى يقول: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم} الآية، ويقول لا تكون لله نعمة على عباده باستغفار الملائكة لهم وتعليم العلماء وعدل الولاة عليهم ويقولون لا يقدر الله أن يجعل الملوك عادلين ولا جائرين ولا يقدر أن يصير أحدا محسنا إلى أحد ولا مسيئا إلى أحد. وعلى لازم قولهم لا يستحق الله أن يشكر بحال لأن الشكر إنما يكون على النعم الدينية أو الدنيوية [أو الأخروية]، فالدنيوية [عنده] واجبة على الله، والدينية فما فعلها بنا ولا يقدر أن يجعل أحدا مؤمنا ولا يهدي أحدا ولا يجعل برا ولا تقيا ولا يقدره على خير أصلا، وأما النعم الأخروية فالجزاء واجب عليه. فالحمد لله الذي هدانا للحق وجنبنا هذه الضلالات. فالمقرون بالقدر يمدحون المحسن ويذمون المسيء مع اتفاقهم على أن الله خالق الفعلين. فقوله: "يلزمهم أن لا يفرقوا بين هذه وهذا" لزوم ما لا يلزم، وغاية الأمر أن يكون الله جعل هذا مستحقا للمدح والثواب وهذا مستحقا للذم والعقاب فإذا كان كذلك لم يمتنع أن يمدح ذا ويذم ذا. قال: "ومنها التقسيم الذي ذكره مولاي الإمام موسى الكاظم وقد سأله أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- وموسى صبي فقال: المعصية ممن؟ فقال: إما من العبد أو من الله أو منهما، فإن كانت من الله فالله أنصف من أن يظلم عبده ويؤاخذه بما لا يفعل، وإن كانت منهما فهو شريكه والقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف، وإن كانت من العبد وحده فعليه وقع الأمر وإليه يتوجه الذم. فقال أبو حنيفة: ذرية بعضها من بعض".

فيقال: ما ذُكرت بسندها فنعلم صحتها، ولعلها كذب فإن أبا حنيفة مقر بالقدر وقد رد على القدرية في الفقه الأكبر، فكيف يستصوب قول من يقول إن الله لم يخلق أفعال العباد؟ ثم موسى بن جعفر وسائر علماء أهل البيت مثبتون القدر وكذلك قدماء الشيعة وإنما قالوا بالقدر في دولة بني بويه حين خالطوا المعتزلة. [وأيضا فهذا الكلام المحكي عن موسى بن جعفر يقوله أصاغر القدرية وصبيانهم، وهو معروف من حين حدثت القدرية قبل أن يولد موسى بن جعفر. والقدرية حدثوا زمن ابن الزبير وعبد الملك.] وقول القائل: "المعصية ممن؟" لفظ مجمل فإن المعصية والطاعة عمل وعرض قائم بغير فلا بد له من محل يقوم به وهي قائمة بالعبد لا محالة وليست قائمة بالله تبارك وتعالى بلا ريب. ومعلوم أن كل مخلوق يقال هو مِن الله بمعنى أنه خلقه بائنا عنه لا بمعنى أنه قام به واتصف به كما في قوله تعالى: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} وقوله تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله}

قال: "ومنها أنه يلزم أن يكون الكافر مطيعا بكفره لأنه فعل ما هو مراد الله" فهذا مبني على أن الطاعة هل هي موافقة للأمر أو موافقة للإرادة وهي مبنية على أن الأمر هل يستلزم الإرادة أم لا. وقد قدمنا أن الله خالق أفعال العباد بإرادته وقد يخلق ما لم يأمر به. وأجمع العلماء أن الرجل لو حلف ليقضينه حقه في غد إن شاء الله فخرج الغد ولم يقضه مع قدرته على القضاء لم يحنث، ولو كانت مشيئة الله بمعنى أمره لحنث لأنه مأمور بذلك. وكذلك سائر الحلف على فعل مأمور إذا علقه بالمشيئة. قال الله تعالى: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا} مع أنه قدر أمرهم بالإيمان فعلم أن الأمر غير المشيئة. كذلك قوله: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا} دليل على أنه أراد إضلاله وهو لم يأمره بالضلالة. وقد ذكرنا أن الإرادة وردت بمعنيين إرادة قدرية وإرادة شرعية فهذه متضمنة للمحبة والرضا لا الأولى. قال: "ومنها أنه يلزم نسبة السفه إليه [تعالى] لأنه يأمر الكافر بالإيمان ولا يريده منه"

قلنا: قد قررنا أن الإرادة نوعان: إرادة الخلق وإرادة الأمر. قال: "ومنها أنه يلزم أن نستعيذ بإبليس من الله ولا يحسن قوله تعالى: {فاستعذ بالله من الشيطان} لأنهم نزهوا إبليس والكافر عن المعاصي وأضافوها إلى الله فيكون شرا على عبده من إبليس تعالى الله عن ذلك".

فيقال: هذا كلام ساقط. فإما أن يكون لأبليس فعل أو لا. فإن لم يكن له فعل امتنع أن يستعاذ به فإنه لا يفعل شيئا فلا يعيذ [حينئذ] أحدا. وإن كان له فعل بطل تنزيهه عن المعاصي فسقط الاعتراض به على قول من أثبت القدر أو نفاه. ويقال: إنما تحسن الاستعاذة بإبليس لو كان يمكنه أن يعيذهم من الله، سواء كان الله خالقا لأفعال العباد أو لا. [وهؤلاء القدرية كالمصنف وأمثاله] مع قولهم إن إبليس يفعل ما لا يقدره [الله] ويفعل بغير إرادة الله وإن [الله] لا يقدر على أن يغير أحدا من عمل إلى عمل لا من خير إلى شر ولا من شر إلى خير. وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه كان يقول: «أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك» فاستعاذ ببعض صفاته وأفعاله من بعض، حتى استعاذ به منه، فكيف يمتنع أن يستعاذ به من بعض مخلوقاته. ثم أهل السنة لا ينكرون أن يكون دعاء العبد لربه واستعاذته به سببا لنيل المطلوب ودفع المرهوب، والله أرحم لعباده من الوالدة بولدها، فيستعاذ به من شر أسباب الشر التي قضاها بحكمته. فمن قال بالحكمة والعلة يقولون خلق إبليس كما خلق الحيات والعقارب والنار لما في خلقه ذلك من الحكمة وأمرنا أن ندفع الضرر عنا بكل ما نقدر عليه، ومن أعظم الأسباب استعاذتنا به حكمة ورحمة. ومن لا يقول بالعلة والحكمة فإنه يقول خلق إبليس الضار لعباده وجعل استعاذتنا طريقا إلى دفع ضرره كما جعل إطفاء النار طريقا إلى دفع حريقها والترياق طريقا إلى دفع السم، فهو خالق النافع والضار، وأمرنا بما ينفعنا ثم إن أعاننا كان محسنا وإلا فله أن يفعل ما شاء.

وقوله: "نزهوا إبليس والكافر من المعاصي" فهذا فرية. فإنهم متفقون على أن العاصي هو المتصف بالمعصية والمذموم عليها، وأن الأفعال يوصف بها من قامت به لا من خلقها، وأن إضافة الصفة إلى الموصوف بها الذي قامت به من إضافة المخلوق إلى خالقه.

ثم أخذ القدري يسهب في هذيانه وغيه فقال: "ومنها أنه لا يبقي وثوق بوعد الله ووعيده لأنهم جوزوا إسناد الكذب في العالم إليه فجاز أن يكذب في إخباراته كلها فتنتفي فائدة بعثة الرسل"

قلت: الفرق بين الخالق وبين الفاعل معلوم بين العقلاء، فإذا خلق الله لغيره حركة لم يكن هو المتحرك وإذا خلق للرعد صوتا لم يكن هو المصوت وإذا خلق الألوان في النبات والحيوان لم يكن هو المتصف بتلك الألوان وإذا خلق في غيره علما وحياة وقدرة لم تكن [تلك المخلوقات في غيره] صفات له وإذا خلق في غيره عمى وصمما لم يكن هو الموصوف بالعمى والصمم وإذا خلق في غيره صوما وطوافا وخشوعا لم يكن هو الصائم ولا الطائف ولا الخاشع.

أما قوله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} معناه ما أصبت إذ حذفت ولكن الله هو الذي أصاب، فمنه [ ﷺ ] الحذف باليد ومن الله الإيصال إلى العدو كلهم. و[ليس المراد بذلك ما يظنه بعض الناس أنه لما خلق الرامي والرمي كان هو الرامي في الحقيقة؛ فإن ذلك] لو صار في كل فعل لكنت تقول ما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى وما ركبت إذ ركبت ولكن الله ركب وما لا نهاية له، وبطلان ذلك معلوم بالضرورة. ولهذا يروى أن عثمان كانوا يرمونه بالحجارة [لما حصر] فقال: علام ترمونني؟ فقالوا: ما رميناك ولكن الله رماك، فقال: إن الله لو رماني لأصابني ولكن أنتم ترمونني فتخطئونني.

الوجه الآخر أنهم يجوزون أنه تعالى يخلق القدرة على الكذب مع علمه بأن صاحبها يكذب، وكذا القدرة على الظلم والفحش. ومعلوم أن الواحد منا يجري تمكينه من القبائح وإعانته عليها مجرى فعله لها، فمن أعان غيره على الكذب والظلم كان الفاعل قال تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} فإن قالوا: إنما أعطاه القدرة ليطيع لا ليعصي، قيل: إذا كان عالما بأنه يعصي كان بمنزلة من أعطى آخر سيفا ليقاتل به الكفار مع علمه بأنه يقتل نبيا [وهذا لا يجوز في حقنا] فتعالى الله عن ذلك.

الثالث أن يقال ليس كل ما كان قادرا عليه وهو ممكن نشك في وقوعه بل نعلم أنه لا يفعل أشياء مع أنه قادر عليها [وهي ممكنة] فلا يقلب البحر زئبقا والجبال ياقوتا وعلمنا بأنه [تعالى] منزه عن الكذب وأنه ممتنع عليه قطعا.

الرابع: نحن نعلم بأنه موصوف بصفات الكمال وأن كل كمال ثبت لموجود فهو أحق به وكل نقص منزه عنه. ونعلم أن الحياة والعلم والقدرة صفات كمال فهو أحق بها وكذلك الصدق. كما قال تعالى: {ومن أصدق من الله حديثا} وقال النبي ﷺ: «إن أصدق الكلام كلام الله».

الخامس أن كلامه قائم بذاته غير مخلوق عند أهل السنة، فإن الكلام صفة كمال فلا بد أن يتصف بها سواء قالوا إنه لا يتعلق بمشيئته وقدرته وهو معنى [قائم بالنفس] أو حروف أو أصوات قديمة أو قالوا إنه متعلق بمشيئته وأنه تكلم بعد أن لم يكن متكلما أو أنه لم يزل متكلما إذا شاء. والكذب صفة نقص كالصمم والبكم والعمى ومع أنه يخلق خلقه متصفين بذلك ولا يقوم به فكذلك يخلق الكذب في الكاذب ولا يقوم به.

السادس أن هذا السؤال وارد عليكم فإنكم تقولون يخلق في غيره كلاما يكون كلامه مع كونه قائما بغيره وهو مخلوق وأن الكلام الذي يتكلم به العباد ليس هو كلامه ولا مخلوقا له، فإذا كان هذا صدقا وهذا صدقا فلا بد أن يعترفوا أن هذا كلامه وهذا ليس بكلامه.

وقولك: "وجاز إرسال الكذاب" فنقول لا ريب أن [الله] يرسل الكذاب كقوله: {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا} وكقوله: {بعثنا عليكم عبادا لنا} لكن لا يكون ذا إلا مقرونا بما يبين كذبهم كما في مثل مسيلمة والأسود [العنسي] وليس في إرسالهم ما يمنع التمييز بين الصادق والكاذب. وإذا خلق من يدعي النبوة وهو كاذب فإن قالوا يجوز [إظهار] أعلام الصدق عليه كان [هذا] ممنوعا [وهو باطل بالاتفاق]، وإن قالوا لا لم يكن مجرد ادعاء النبوة بلا علم على الصدق ضارا فإن مدعي الطب أو [أنه] صانع بلا علم يدل [على صدقه] لم يلتفت إليه فكيف مدعي النبوة. وإن قالوا إذا جوزتم عليه أن يخلق الكذب في الكذاب فجوزوا عليه أن يظهر على يديه أعلام الصدق، قيل هذا ممتنع لأن أدلة الصدق تستلزم الصدق إذ الدليل مستلزم للمدلول وإظهار أعلام الصدق على الكذاب ممتنع لذاته. وإن قالوا جوزوا أن يظهر على يديه خارق، قلنا نعم فنحن نجوز ذلك لمدعي الإلهية كالدجال ويجوز الخارق لمدعي النبوة لكن على وجه لا يدل على صدقه كالساحر والكاهن.

السابع أن دلائل النبوة وما به يعرف صدق النبي لم يتخصص في الخوارق بل يتنوع كما تتنوع معرفة الكذب. قال: "ومنها أنه يلزم تعطيل الحدود والزواجر عن المعاصي فإن الزنا إذا كان واقعا بإرادة الله والسرقة [إذا صدرت عن الله وإرادته هي المؤثرة] لم يجز للسلطان المؤاخذة عليها لأنه يصد السارق عن مراد الله فلو صد أحدنا عن مراده لتألم ويلزم أن يكون الرب مريدا للنقيضين لأن المعصية مرادة له والزجر عنها مراد له".

قلنا: قد مر ما يبين هذا. ونقول: ما قدره وقضاه من ذلك هو ما وقع دون ما لم يكن، وما وقع لم يقدر أحد أن يرده، وإنما يرد بالحدود والزواجر ما لم يقع بعد. فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فقولك: "يصد السارق عن مراد الله" كذب، لأنه إنما يصده عما لم يقع، وما لم يقع يرده الله. ولهذا لو حلف ليسرقن هذا المال إن شاء الله ولم يسرقه لم يحنث بالإجماع، لأن الله لم يشأ سرقته. ولكن القدرية لا تكون عندهم الإرادة إلا بمعنى الأمر فيزعمون أن السرقة إذا كانت مرادة كانت مأمورا بها. وقد تيقنا أن الله لم يأمر بالسرقة ومن قال أمر بها فقد كفر. وأيضا فإن من المقدور بالاتفاق ما يحسن رده وزواله كالمرض، فإنه من فعل الله ويحسن بنا دفعه بالتداوي والاجتناب لأسبابه، ففي هذا إزالة لمراد الله، وكذا إطفاء النار التي تريد أن تحرق وإقامة الجدار الذي يريد أن يقع وكذا رد البرد بالدفء والحر بالظل؛ فيدفع مراد بمراد والكل من قدر الله. وقد قيل للنبي ﷺ: أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: «هي من قدر الله» وقال تعالى: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله}

وقولك: "يلزم أن يكون مريدا للنقيضين" [كلام ساقط، فإن النقيضين] ما لا يجتمعان ولا يرتفعان أو ما لا يجتمعان وهما المتضادان. والزجر ليس عما وقع [وأريد] بل عقوبة على الماضي وزجر عن المستقبل. والزجر الواقع [بإرادته] إن حصل مقصوده لم يحصل المزجور عنه [فلم يرده فيكون المراد الزجر فقط]، وإن لم يحصل مقصوده لم يكن زجرا تاما بل يكون المراد فعل هذا الزجر وفعل ذاك كما يراد ضرب هذا لهذا بالسيف وحياة هذا وكما يراد المرض المخوف الذي قد يكون سببا للموت ويراد معه الحياة. قال: "ومنها قد تقدم بالضرورة استناد أفعالنا إلينا ووقوعها بحسب إرادتنا فإذا أردنا الحركة يمنة لم تقع يسرة وبالعكس والشك في ذلك سفسطة".

فيقال: جمهور أهل السنة قائلون بهذا، فإن أفعالنا مستندة إلينا ونحن محدثون لها والنصوص بذلك كثيرة في القرآن. فاعلم أن كون العبد مريدا فاعلا بعد أن لم يكن مريدا فاعلا أمر حادث؛ فإما أن يكون له محدث أو لا فإن لم يكن له محدث لزم حدوث الحوادث بلا محدث وإن كان له محدث فإما أن يكون العبد أو الله فإن كان العبد، فالقول في إحداثه لتلك الفاعلية كالقول في إحداثها ويلزم التسلسل، وهو هنا باطل لأن العبد كان بعد أن لم يكن فيمتنع أن تقوم به حوادث لا أول لها فتعين أن يكون الله هو الخالق لكون العبد مريدا فاعلا. فأهل السنة يقولون بهذا العلم الضروري فيقولون العبد فاعل والله خلقه فاعلا وإنه مريد والله خلقه مريدا. قال تعالى: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} وقال: {رب اجعلني مقيم الصلاة} فإرادة العبد ثابتة لكن لا توجد إلا بمشيئة الله. ومن زعم أن الإرادة لا تعلل كان قوله لا حقيقة له لأن الإرادة أمر حادث فلا بد له من محدث. وقالوا: "إن الباري يحدث إرادة لا في محل بلا سبب اقتضى حدوثها ولا إرادة" فارتكبوا ثلاث محالات حدوث حادث بلا إرادة من الله، وحدوث حادث بلا سبب حدث، وقيام الصفة بنفسها لا في محل. فإن قيل: كيف يكون الله محدثا لها والعبد محدث لها؟ قيل: إحداث الله لها هو خلقها فيصير العبد فاعلا لها بقدرته ومشيئته التي خلقت فيه وكل من الإحداثين مستلزم للآخر، فخلق الرب لفعل العبد يستلزم وجود الفعل وكون العبد فاعلا له بعد أن لم يكن يستلزم كون الرب خالقا له. قال الإمامي: "والقرآن مملوء من إسناد أفعال البشر إليهم كقوله: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها}" وذكر آيات.

قلنا: هذا كله حق، والقرآن أيضا مشحون بما يدل على أن أفعالنا حادثة بمشيئة الله كقوله {ولو شاء الله ما اقتتلوا} {ولو شاء الله ما أشركوا} {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره} فلا يجوز أن تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض. ولو كانت المشيئة بمعنى الأمر لحنث من حلف وقال: إن شاء الله. وقال تعالى: {يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا} {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} قال الإمامي: "فقال الخصم القادر يمتنع أن يرجح [أحد مقدوريه] من غير مرجح، ومع الترجيح يجب الفعل، فلا قدرة، ولأنه يلزم أن يكون الإنسان شريكا لله، ولقوله: {والله خلقكم وما تعملون}"

فقلنا: الجواب عن [الأول] المعارضة بالله فإنه قادر، فإن افتقرت القدرة إلى المرجح وكان المرجح موجبا للأثر لزم أن يكون الله موجبا لا مختارا فليزم الكفر. والجواب عن الثاني: أي شركة هنا والله هو القادر على قهر العبد وإعدامه؟ والجواب عن قوله تعالى: {والله خلقكم} أنها إشارة إلى الأصنام التي كانوا ينحتونها فأنكر عليهم فقال: {أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون}

قال شيخنا ابن تيمية رحمه الله تعالى: لم يذكر [من أدلة أهل الإثبات] إلا يسيرا، ومع هذا فالأدلة الثلاثة ليس لهم عنها جواب صحيح. أما الأول فإن المستدل بذلك الدليل لا يقول إذا وجب الفعل فلا قدرة، فإن عامة أهل السنة يقولون إن العبد له قدرة حتى الجبرية لكن يقولون لا تأثير لها، وقد مر أن لها تأثيرا من جنس تأثير الأسباب في مسبباتها ليس لها تأثير الخلق والإبداع. [ويوجب هذا الدليل] أن القادر يمتنع أن يرجح مقدوره إلا بمرجح وذلك المرجح لا يكون من العبد، فتعين أن يكون من الرب. وعند وجود المرجح التام يجب وجود الفعل ويمتنع عدمه فإنه إذا كان بعد وجود المرجح يمكن وجود الفعل وعدمه كما كان قبل المرجح [كان] ممكنا والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام. وأما معارضة ذلك بفعل الله فالجواب أن هذا برهان عقلي يقيني واليقينيات لا تعارض ولا يوجد لها معارض. وأيضا فإن قدرة الرب تفتقر إلى مرجح لكن المرجح هو إرادة الله وإرادة الله لا يجوز أن تكون من غيره بخلاف إرادة العبد. وإذا كان المرجح إرادة الله كان فاعلا باختياره لا موجبا بذاته بدون اختياره وحينئذ فلا يلزم الكفر. ثم نقول ما تعني بقولك يلزم أن يكون الله موجبا بذاته؟ أتعني بذلك أن يكون موجبا للأثر بلا قدرة ولا إرادة أو تعني به أن يكون الأثر واجبا عند وجود المرجح الذي هو الإرادة مثلا مع القدرة؟ فإن عنيت الأول لم نسلم التلازم فإن الفرض أنه قادر وأنه مرجح بمرجح فهنا شيئان قدرة وأمر آخر، وقد فسرنا ذلك بالإرادة فكيف يقال إنه مرجح بلا قدرة ولا إرادة. وإن أردت أنه يجب وجود الأثر إذا حصلت الإرادة مع القدرة فهذا حق وهو مذهب المسلمين؛ فما شاء الله وجوده وجب وجوده بمشيئته وقدرته وما لم يشأ وجوده امتنع وجوده لعدم مشيئته وقدرته. فالأول واجب بالمشيئة والثاني ممتنع لعدمها. وأما ما يقوله القدرية من أن الله يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء فهذا ضلال. فإذا أراد حدوث مقدور فإما أن يجب وجوده أو لا، فإن وجب حصل المطلوب وتبين وجود الأثر عند المرجح، وسواء سميت ذا موجبا بالذات أو لم تسمه. وإن لم يجب وجوده كان ممكنا قابلا للوجود والعدم فلا بد له من مرجح وهكذا هلم جرا. ثم نقول ما ذكرته من الحجة العقلية [وهو استناد أفعالنا الاختيارية إلينا ووقوعها بحسب اختيارنا] معارض بما ليس من أفعالنا كاللون، فإن الإنسان يحصل اللون الذي يريد حصوله في الثوب بحسب اختياره وهو مستند إلى صنعته ومع هذا فليس اللون مفعولا له. وأيضا فما ينبت [من الزرع والشجر] قد يحصل بحسب اختياره وهو مستند إلى ازدراعه وليس الإنبات من فعله. فليس كل ما استند إلى العبد ووقع بحسب اختياره كان مفعولا له. وهذه معارضة عقلية.

وأما قوله: "أي شركة ها هنا؟" فيقال: إذا كانت الحوادث حادثة بغير فعل الله ولا قدرته فهذه مشاركة لله صريحة، [ولهذا شُبه هؤلاء بالمجوس الذين يجعلون فاعل الشر غير فاعل الخير فيجعلون لله شريكا آخر. ولهذا قال ابن عباس: الإيمان بالقدر نظام التوحيد. وقول القدرية يتضمن الإشراك والتعطيل، فإنه يتضمن إخراج بعض الحوادث عن أن يكون لها فاعل ويتضمن إثبات فاعل مستقل غير الله؛ وهاتان شعبتان من شعب الكفر. فإن أصل كل كفر التعطيل والشرك.] وهذا كما تقول الفلاسفة من أن الأفلاك تفعل بطريق الاستقلال وأنها هي المحدثة للحوادث التي في الأرض. والعجب إنكارهم على القدرية قولهم: ما زال الرب عاطلا عن الفعل حتى أحدث العالم، وهم يقولون: ما زال ولا يزال معطلا عن الإحداث بل عن الفعل، فإن ما لزم ذاته كالعقل والفلك ليس هو في الحقيقة فعلا له، إذ الفعل لا يعقل إلا شيئا بعد شيء، فأما ما لزم الذات فهو من باب الصفات كلون الإنسان وطوله فإنه يمتنع أن يكون فعلا له بخلاف حركاته فإنها فعل له، وإن قدر أنه لم يزل متحركا كما يقال في [نفس الإنسان] إنها لم تزل تتحرك من حال إلى حال وإن القلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا، فكون الفاعل الذي هو في نفسه يقوم به فعل يحدث شيئا بعد شيء مفعولا بخلاف ما لزمه لازم يقارنه في الأزل فهذا لا يعقل أن يكون مفعولا له. فتبين أنهم في الحقيقة لا يثبتون للرب فعلا أصلا فهم معطلة حقا. وأرسطو وأتباعه إنما أثبتوا العلة الأولى من جهة كونها علة غائية لحركة الفلك، فإن حركة الفلك عندهم بالاختيار كحركة الإنسان فلا بد لها من مراد فيكون هو مطلوبها فقالوا إن العلة الأولى هي التي يتحرك الفلك لأجلها أي للتشبيه بها، بل غاية ما يثبتونه أن يكون شرطا في وجود العالم فهي علة له تحركه كما يحرك المعشوق العاشق بمنزلة الرجل الذي اشتهى طعاما فمد يده إليه أو رأى من يحب فذلك المحبوب هو المحرك لكون المتحرك أحبه. وحيئنذ فلا يكونون قد أثبتوا لحركة الفلك محدثا أحدثها غير الفلك، كما لم تثبت القدرية لأفعال الحيوان محدثا غير الحيوان، فلهذا كان الفلك عندهم حيوانا كبيرا. فتبين أن الفلاسفة قدرية في جميع حوادث العالم وأنهم أصل الشر. ولهذا يضيفون الحوادث إلى الطبائع التي في الأجسام كما تقول القدرية في الحيوان ولا يثبتون محدث الحوادث، وغايتهم أن جعلوا الرب شرطا في وجود العالم ومنهم من قال الفلك واجب الوجود لكن أثبتوا علة إما غائية وإما فاعلية، وعند التحقيق لا حقيقة لما أثبتوه فهم أجهل الناس بالله. ومن دخل في أهل الملل منهم -كالفارابي وابن سينا وموسى بن ميمون اليهودي ويحيى بن عدي النصراني ومتّى- فهم مع إلحادهم أسد عقلا ونظرا من أرسطو وأتباعه المشائين. ودخل بعض المتكلمة معهم في الباطل وخرجوا عن الحق كتوحيد الإلهية وإثبات حقائق أسماء الله وصفاته ولم يعرفوا من التوحيد إلا توحيد الربوبية وهو الإقرار بأن الله خالق كل شيء وربه؛ وهذا توحيد أقر به المشركون، قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} وقال تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} وإنما التوحيد المطلوب توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية؛ وإن توحيد الله أن يُعبد وحده فلا يخاف إلا هو ولا يدعى إلا هو. والعبادة تجمع غاية الحب والذل. والتوحيد يتضمن إثبات نعوت الكمال لله والإخلاص له {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}

[وأصل الشرك إما تعطيل -مثل تعطيل فرعون موسى والذي حاج إبراهيم في ربه- وإما الإشراك، وهو كثير في الأمم أكثر من التعطيل، وأهله خصوم جميع الأنبياء. وفي خصوم إبراهيم ومحمد ﷺ معطلة ومشركة لكن التعطيل المحض للذات قليل، وأما الكثير فهو تعطيل صفات الكمال وهو مستلزم لتعطيل الذات، فإنهم يصفون واجب الوجود بما يجب أن يكون ممتنع الوجود. ثم إن كل من كان إلى الرسول ﷺ وأصحابه والتابعين لهم بإحسان أقرب كان أقرب إلى كمال التوحيد والإيمان والعقل والعرفان؛ وكل من كان عنهم أبعد كان عن ذلك أبعد. فمتأخرو متكلمة الإثبات الذين خلطوا الكلام بالفلسفة كالرازي والآمدي ونحوهما هم دون أبي المعالي الجويني وأمثاله في تقرير التوحيد وإثبات صفات الكمال؛ وأبو المعالي وأمثاله دون القاضي أبي بكر بن الطيب وأمثاله في ذلك؛ وهؤلاء دون أبي الحسن الأشعري في ذلك؛ والأشعري في ذلك دون أبي محمد بن كلاب؛ وابن كلاب دون السلف والأئمة في ذلك. ومتكلمة أهل الإثبات الذين يقرون بالقدر هم خير في التوحيد وإثبات صفات الكمال من القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرهم، لأن أهل الإثبات يثبتون لله كمال القدرة وكمال المشيئة وكمال الخلق وأنه منفرد بذلك فيقولون إنه وحده خالق كل شيء من الأعيان والأعراض، ولهذا جعلوا أخص صفات الرب تعالى القدرة على الاختراع. والتحقيق أن القدرة على الاختراع من جملة خصائصه ليس هي وحدها أخص صفاته. وأولئك يخرجون أحوال الحيوان عن أن تكون مخلوقة له؛ وحقيقة قولهم تعطيل هذه الحوادث عن خالق لها وإثبات شركاء لله يفعلونها. وكثير من متأخرة القدرية يقولون إن العباد خالقون لها ولكن سلفهم يحترزون عن ذلك.]

وطول الشيخ هنا بعبارات منطقية وبحوث دقيقة إلى أن ذكر دليل التمانع في قوله {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} فقال: إن دليل التمانع أنه لو كان للعالم صانعان لكان أحدهما إذا أراد أمرا وأراد الآخر خلافه مثل أن يريد أحدهما إطلاع الشمس من مشرقها ويريد الآخر إطلاعها من مغربها امتنع أن يحصل مرادهما إذ ذلك جمع بين الضدين فيلزم أن لا يحصل مراد واحد منهما فلا يكون ربا؛ وكذا إذا أراد أحدهما تحريك شيء وأراد الأخر تسكينه. فإن قيل يجوز أن تتفق الإرادتان فنقول إذا فرض ربان فإما أن يكون كل منهما قادرا بنفسه أو لا يكون قادرا إلا بالآخر؛ فإن لم يكن قادرا إلا بالآخر كان هذا ممتنعا لذاته مقتضيا للدور في العلل والفاعلين فإنه يستلزم أن يكون كل منهما جعل الآخر قادرا ولا يكون أحدهما فاعلا حتى يكون قادرا؛ فاذا كان كل منهما جعل الاخر قادرا فقد جعله فاعلا ويكون كل منهما جعل الآخر ربا وهذا ممتنع من ربين واجبين بأنفسهما قديمين لأن هذا لا يكون قادرا ربا فاعلا حتى يجعله الآخر كذلك وكذلك الآخر؛ وهذا ممتنع ضرورة؛ فالدور القبلي ممتنع لذاته كالدور في الفاعلين والعلل؛ فيمتنع أن يكون كل من الشيئين علة للآخر وفاعلا له أو جزءا من العلة. فإذا كان كل منهما لا يكون قادرا أو فاعلا إلا بالآخر لزم أن يكون كل منهما علة فاعلة وعلة لتمام ما به يصير الآخر قادرا فاعلا؛ وذلك ممتنع ضرورة؛ فلزم أن الرب لا بد أن يكون قادرا بنفسه، فإن أمكنه إرادة خلاف ما يريد الآخر أمكن اختلافهما وإن لم يمكنه أن يريد إلا ما يريد الآخر لزم العجز، فمتى فرض لزوم اتفاقهما أبدا كان ذلك ممتنعا لذاته، وقد يمكن هذا في مخلوقين بأن يجعلهما ثالث قادرين فيكونان متعاونين كاليدين فإنه تحدث لهما قوة باجتماعهما ويمتنع ذلك في حالتين فإنه إن كان أحدهما قادرا على الاستقلال والانفراد ولم يشترط في فعله معاونة الآخر أمكن أحدهما أن يفعل ما لا يريده الآخر أو ما يريد خلافه وإن لم يكن قادرا على الانفراد امتنع أن يحصل لهما عند الاجتماع قوة لما في ذلك من الدور، لأن هذا لا يقدر حتى يقدر ذاك ولا يقدر ذاك حتى يقدر هذا. وإذا قيل أحدهما يقدر على ما يوافقه عليه الآخر لم يكن قادرا إلا بموافقته. وإذا قيل يقدر على ما يخالفه الآخر فيه كان كل منهما مانعا الآخر من مقدوره فلا يكون واحد منهما قادرا. وإذا كان كل منهما مانعا ممنوعا لزم منه الجمع بين النقيضين. فيتبين امتناع ربين سواء. وامتنع وقوع مؤثرين تامين مستقلين يجتمعان على أثر واحد بأن يقول كل منهما [إنه] خاط هذا الثوب وحده. وهذا بخلاف المشتركين على عمل فعل واحد قال تعالى: {وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} فذكر سبحانه وجوب امتياز المفعولين ووجوب قهر أحدهما الآخر ولو اختلط مفعولهما لكانا كالحاملين خشبة كل منهما مفتقر إلى الآخر حال الاجتماع فإذا قدر أن إرادة هذا وفعله مقارن لإرادة الآخر وفعله فالتقدير أنه لا يمكنه أن يريد وأن يفعل إلا مع الآخر فتكون إرادته وفعله مشروطا بإرادة الآخر وفعله فيكون بدون ذلك عاجزا عن الإرادة والفعل فيكون كل منهما عاجزا حال الانفراد. قال الرافضي: "وذهبت الأشاعرة إلى أن الله يرى بالعين مع أنه مجرد عن الجهات وقد قال تعالى: {لا تدركه الأبصار} وخالفوا الضرورة من أن المدرك بالعين يكون مقابلا أو في حكمه، وقالوا يجوز أن يكون بين أيدينا جبال شاهقة مختلفة الألوان لا نراها وأصوات هائلة لا نسمعها وعساكر متحاربة بحيث نمسهم ويمسوننا ولا نشاهد صورهم وحركاتهم ويجوز أن نشاهد أصغر شيء كالذرة في المشرق ونحن في المغرب. وهذه سفسطة".

قلنا: أما رؤيته في الآخرة بالأبصار فهو قول السلف والأئمة وتواترت به الأحاديث. ثم جمهور القائلين بالرؤية يقولون يرى عيانا مواجهة كما هو المعروف بالعقل. قال عليه السلام: «إنكم سترون ربكم عز وجل يوم القيامة كما ترون الشمس لا تضامون في رؤيته» وفي لفظ: «كما ترون الشمس والقمر صحوًا» وفي لفظ: «هل تضارون في رؤية الشمس صحوا ليس دونها سحاب؟» قالوا: لا، قال: «فهل تضارون في رؤية القمر صحوا ليس دونه سحاب؟» قالوا: لا، قال: «فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر»

والذين قالوا يرى بلا مقابلة هم الذين يقولون إنه ليس فوق العالم، فلما كانوا مثبتين للرؤية نافين للعلو احتاجوا إلى الجمع بين هاتين المسألتين، وهو قول طائفة من الأشعرية وأئمتهم يقولون بأن الله فوق العرش. والمعتزلة نفت الفوقية والرؤية. فإذا عرضنا وجود موجود لا يشار إليه ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه أمر ولا هو داخل العالم ولا خارجه ولا ترفع الأيدي إليه على أي الفطر والعقول أنكرت ذلك جدا. وأما قول الأشعرية فقالوا إنه تعالى قادر على أن يخلق بحضرتنا ما لا نراه ولا نسمعه]من الأجسام والأصوات] وأن يرينا ما بعد منا من الذر؛ فلا يقولون هذا واقع، وتجويز وقوع الشيء غير الشك في الوقوع. قال: "وذهبت الأشعرية إلى أن الله أمرنا ونهانا في الأزل ولا مخلوق عنده قائلا: [{يا أيها الناس اتقوا ربكم}] {يا أيها النبي اتق الله} [{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله}] ولو جلس شخص وحده ولا غلام عنده فقال: يا غانم قم، يا نجاح كل، قيل: لمن تنادي فيقول لعبيد أشتريهم بعد سنة؛ لنُسِب إلى الحمق والسفه".

قلنا: هذا قول الكلابية [وهم طائفة من الذين يقولون القرآن مخلوق كالمعتزلة؛ لا من يقول هو كلام الله غير مخلوق كالكرامية والسالمية والسلف وأهل الحديث من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم. فليس في ذكر مثل هؤلاء حصول مقصود الرافضي.] ثم كثير من الرافضة يقول به وهو الثابت عن أئمة أهل البيت. ثم إن الكلابية والأشعرية قالوا هذا لموافقتهم للمعتزلة في الأصل لاتفاقهم على صحة دليل حدوث الأجسام فلزمهم القول بحدوث ما لا يخلو عن الحوادث ثم قالوا وما تقوم به الحوادث لا يخلو منها فإذا قيل الجسم لم يخل من الحركة والسكون قالوا والسكون الأزلي يمتنع زواله لأنه موجود [أزلي وكل موجود أزلي يمتنع زواله،] وكل جسم يجوز عليه الحركة فإذا جاز عليه الحركة وهو أزلي وجب أن تكون حركته أزلية لامتناع زوال السكون الأزلي ولو جاز عليه الحركة الأزلية لزم حوادث لا أول لها وذاك ممتنع فلزم أنه تعالى لا تقوم به الحوادث. وقد علموا قطعا أن الكلام يقوم بالمتكلم كما يقوم العلم بالعالم والحركة بالمتحرك، وأن الكلام الذي يخلقه الله في غيره ليس كلاما له بل لذلك المحل. فلما ثبت عندهم أن الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم وقد وافقوا المعتزلة على أن الحوادث لا تقوم بالقديم لزم من الأصلين أن يكون الكلام قديما. قالوا: وقدم الأصوات ممتنع لأن الصوت لا يبقى زمانين فتعين أن يكون الكلام القديم معنى ليس بحرف ولا صوت وإذا كان كذلك كان معنى واحدا لأنه لو زاد على واحد لم يكن له حد محدود ويمتنع وجود معاني لا نهاية لها. فهم يقولون نحن وافقناكم على امتناع أن يقوم بالرب ما هو مراد له مقدور وخالفناكم في كون كلامه مخلوقا منفصلا عنه فلزمت المناقضة، فإن كان الجمع بين هذين ممكنا لم نتناقض وإن تعذر لزم خطأنا في إحدى المسألتين ولم يتعين الخطأ فيما خالفناكم فيه بل قد نكون أخطأنا فيما وافقناكم عليه من كونه لا يتكلم بمشيئته وقدرته بكلام يقوم به -مع أن إثبات هذا القول هو قول جمهور أهل الحديث وطوائف من المتكلمين والكرامية والشيعة بل لعله قول أكثر الطوائف- وإذا اضطررنا إلى موافقة إحدى الطائفتين كانت موافقتنا لمن يقول إن الرب يتكلم إذا شاء خير من موافقتنا لمن يقول إن كلامه إنما هو ما يخلقه في غيره لظهور فساده عقلا وشرعا.

ووجه آخر أن يقال: الخطاب لمعدوم لم يوجد بعد بشرط وجوده أقرب إلى العقل من متكلم لا يقوم به كلامه ومن كون الرب مسلوبا صفات الكمال، فما خلق الله عرضا في جسم إلا كان صفة للجسم لا للخالق. وأما خطاب من لم يوجد بشرط وجوده فإن الموصي قد يوصي بأشياء ويقول أنا آمر الوصي بعد موتي أن يعمل كذا ويعمل كذا وإذا بلغ [ولدي فلان] يكون هو الوصي وأنا آمره بكذا وكذا؛ بل يقف وقفا يبقى دهرا ويأمر الناظر الذي لم يخلق بعد بأشياء.

وأما القائل: يا غانم، يا نجاح؛ فإن قصد به خطاب حاضر فهذا قبيح، وإن قصد به خطاب من سيكون مثل أن يقول قد أخبرني الصادق أن أمتي تلد غلاما ويسمى غانما فإذا ولدته فهو حر وقد جعلته وصيا على أولادي وأنا آمرك يا غانم بكذا وكذا لم يكن هذا ممتنعا لأنه خطاب لحاضر في العلم وإن كان مفقودا في العين. والإنسان يخاطب من يستحضره في نفسه ويذكر أشياء له ويقول يا فلان أما قلت لك كذا. وروى عن علي كرم الله وجهه ورضي عنه أنه لما مر بكربلاء قال صبرا أبا عبد الله - يعني الحسين رضي الله عنه. والنبي ﷺ ذكر الدجال وخروجه وقال: «يا عباد الله اثبتوا» ولم يوجد بعد عباد الله أولئك.

قلتُ: وذا كثيرٌ في القرآن من إخباره تعالى عن نفسه وعن عباده وملائكته بصيغة الماضي بما سيكون بعد الساعة. كقوله تعالى: {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار} {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} {وقال الذين في النار لخزنة جهنم} قال الرافضي: "وذهب من عدا الإمامية والإسماعيلية إلى أن الأنبياء والأئمة غير معصومين فجوزوا بعثة من يجوز عليه الكذب والسهو والسرقة".

فيقال: ما ذكرته عن الجمهور في تجويز ذلك على الأنبياء كذب، فإنهم متفقون على عصمة الأنبياء عليهم السلام في تبليغ الرسالة، وطاعتهم واجبة إلا عند الخوارج. والجمهور يجوزون عليهم الصغائر وأنهم لا يقرون عليها. وأما عصمة الأئمة فنعم كما قال لم يقل بها إلا من ذكر وناهيك بقول عري عن الحجة.

قالوا: إن الله لم يخل العالم من أئمة معصومين لما في ذلك من المصلحة واللطف. قلنا: فهذا الغائب المنتظر المفقود لم يحصل به شيء من المصلحة واللطف، سواء كان ميتا كما نقول أو حيا كما تزعمه الإمامية. وكذلك أجداده لم يحصل بهم ذلك كما حصل بالنبي ﷺ. ثم لم يحصل بعده أحد من الاثني عشر له سلطان إلا علي كرم الله وجهه. ومن المعلوم بالضرورة أن حال اللطف والمصلحة التي كان المؤمنون فيها زمن الخلفاء الثلاثة أعظم مما كان في زمانه من الفرقة والفتنة والقتال. والله قد أمرنا بالرد عند التنازع إلى الله والرسول ولو كان للناس معصوم غير الرسول لوجَّه الرد إليه. وفي الصحيحين أن أبا ذر قال: أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف. ولمسلم عن أم الحصين أنها سمعت النبي ﷺ في حجة الوداع يقول: «ولو استعمل عليكم عبد أسود مجدع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا وأطيعوا» وللبخاري عن أنس بنحوه.

والإمامية وغيرهم يجوزون أن يكون نواب الإمام غير معصومين وأن لا يكون الإمام عالما بعصمتهم، بدليل أن النبي ﷺ قد ولّى الوليد بن عقبة ثم أخبر بمحاربة الذين أرسله إليهم. وعلي كرم الله وجهه ورضي عنه كان كثير من نوابه يخونونه وفيهم من هرب عنه. فاشتراط العصمة في الأئمة ليس بمقدور ولا مأمور ولم تحصل به منفعة. قال: "وهم يرون القول بالقياس والرأي فأدخلوا في دين الله ما ليس منه وحرفوا أحكام الشريعة وأحدثوا مذاهب أربعة لم تكن في زمن النبي ﷺ وأهملوا أقاويل الصحابة".

فالجواب: إن هذا وارد عليكم، فالزيدية تقول بالقياس. ثم القياس خير من تقليد من لم يبلغ في العلم مبلغ المجتهدين كمالك والثوري والشافعي وأحمد وأبي عبيد؛ وهم أعلم وأفقه من العسكريين وأمثالهما. ثم قوله: "أدخلوا في دين الله ما ليس منه وحرفوا" فهذا ليس في طائفة أكثر من الرافضة، فإنهم كذَبوا على الرسول ﷺ ما لم يكذُبه غيرهم، وردوا من الصدق ما لا يحصى، وحرفوا حيث قالوا: {مرج البحرين} علي وفاطمة {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} الحسن والحسين {في إمام مبين} علي {وآل عمران على العالمين} أل أبي طالب وسموا أبا طالب عمران {والشجرة الملعونة} بنو أمية {أن تذبحوا بقرة} عائشة {لئن أشركت ليحبطن عملك} لئن أشركت بين أبي بكر وعمر؛ ونحو ذلك مما وجدته في كتبهم. ومن ثم دخلت الإسماعيلية في تأويلات الواجبات والمحرمات؛ فهم أئمة التحريف.

وأما قوله: "وأحدثوا مذاهب أربعة [وأهملوا أقاويل الصحابة]" فيقال له: متى كانت مخالفة الصحابة منكرا عندكم، ومن الذي يخالف إجماع الصحابة نحن أو أنتم، ومن الذي كفرهم وضللهم؟ [إن أهل السنة لا يتصور أن يتفقوا على مخالفة إجماع الصحابة. وأما الإمامية فلا ريب أنهم متفقون على مخالفة إجماع العترة النبوية مع مخالفة إجماع الصحابة، فإنه لم يكن في العترة النبوية -بني هاشم- على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم من يقول بإمامة اثني عشر ولا بعصمة أحد بعد النبي ﷺ ولا بكفر الخلفاء الثلاثة بل ولا من يطعن في إمامتهم بل ولا من ينكر الصفات ولا من يكذب بالقدر. فالإمامية بلا ريب متفقون على مخالفة العترة النبوية مع مخالفتهم لإجماع الصحابة. فكيف ينكرون على من لا يخالف إجماع الصحابة ولا إجماع العترة.]

وأما المذاهب فإن أراد أنهم اتفقوا على إحداثها مع مخالفة الصحابة فهذا كذب عليهم، فإن الأربعة لم يكونوا في وقت واحد ولا كان فيهم من يقلد الآخر ولا من أمر الناس اتباعه، بل كل منهم يدعو إلى متابعة الكتاب والسنة ويرد على صاحبه. وإن قلت إن الناس اتبعوا الأربعة فهذا أمر اتفاقي. وأما الشيعة فكل ما خالفوا فيه الجمهور فهم مخطئون فيه. والأربعة لم يخترعوا علما لم يكن بل جمعوا العلم فأضيف ذلك إلى الواحد منهم كما تضاف كتب الحديث إلى من جمعها كالبخاري ومسلم وأبي داود وكما تضاف القراءات إلى من اختارها كنافع وعاصم. ثم لم يقل أهل السنة إن إجماع الأربعة حجة معصومة ولا إن الحق منحصر في قولهم وإن ما خرج عنه باطل. والمجتهدون يتنازعون ويختلفون في فهم كلام الرسول. ثم الصحابة قد ثبت عنهم القول بالرأي والقياس كما ثبت عنهم ذم ما ذموه من القياس. فالمذموم منه ما عارض النص وكذلك القياس الذي لا يكون فيه الفرع مشاركا للأصل في مناط الحكم، ولا شك أن القياس فيه فاسد وليس ذلك يوجب بطلان جميعه، كما أن وجود الموضوعات في المرويات لا يوجب بطلان جميع الحديث.

قال: "وذهبوا بسبب ذلك إلى أمور شنيعة كإباحة البنت من الزنا، وسقوط الحد عمن نكح أمه وأخته عالما بالتحريم وعن اللائط، وإلحاق نسب المشرقية بالمغربي فإذا زوج الرجل بنته وهي في المشرق برجل هو وأبوها في المغرب ولم يفارقه لحظة حتى مضت له ستة أشهر فولدت البنت ألحق المولود بالرجل، وإباحة النبيذ والوضوء به مع مشاركته الخمر في الإسكار، والصلاة في جلد الكلب وعلى العذرة اليابسة، وأباحوا الغصوب فقالوا لو دخل سارق طاحونا فطحن القمح ملك ذلك فلو جاء الملك فنازعه كان ظالما فلو تقاتلا فقتل السارق كان شهيدا ولو قتل اللص المالك [كان هدرا]. وأوجبوا الحد على الزاني إذا كذب الشهود وأسقطوه إذا صدقهم فأسقطوا الحد مع اجتماع الإقرار والبينة. وأباحوا [أكل] الكلب واللواط بالعبيد وأباحوا الملاهي".

والجواب: ما من مسألة من هذه المسائل إلا وجمهور السنة على خلافها. ثم يقال: وأنتم يوجد فيكم معشر الرافضة إما اتفاقا وإما اختلافا أضعاف ذلك كترك الجمعة والجماعة وتعطلون المساجد وتعمرون المشاهد التي على القبور، كما صنف منكم المفيد كتابا سماه مناسك حج المشاهد وفيه الكذب والشرك، ومنها تأخير صلاة المغرب، وتحريم ذبائح الكتابيين، وتحريم نوع من السمك، وتحريم بعضهم لحوم الإبل، وجعلهم الميراث كله للبنت دون العم، وصوم بعضهم بالعدد لا بالأهلة، وإحلال المتعة، وأن الطلاق المعلق بشرط لا يقع مع قصد إيقاعه عند الشرط، وأنه لا يقع بكتابة ويشترط فيه الإشهاد.

فأما المخلوقة من الزنا فمردة للشافعي رضي الله عنه، ولم يكن أحمد بن حنبل رضي الله عنه يظن فيها خلافا بحيث أنه أفتى بقتل من يفعل ذلك. وأما عقده على ذوات المحارم فأبو حنيفة رضي الله عنه جعل ذلك شبهة لدرء الحد لوجود صورة العقد؛ وأكثر السلف يقتلون اللائط وقيل ذلك إجماع الصحابة وهو مذهب مالك رضي الله عنه وأصح الروايتين عن أحمد وأحد قولي الشافعي رضي الله عنه، والآخر هو زنا وهو قول أبي يوسف ومحمد؛ وسقوط الحد من مفردات أبي حنيفة رضي الله عنه. وكذا إلحاق ولد المشرقية بالذي بالمغرب، وعنده أن النسب يقصد به الميراث. وهذه الشناعات إن كانت باطلا فجمهور الأئمة على خلافها، وإن كانت حقا لم تخرج عن قول أهل السنة. وأبو حنيفة لم يجعل الأبوة لكونه خلق من مائه.

ثم يا رافضي، منذ ساعة [كنت] تنكر القياس وهنا تحتج به على أبي حنيفة وتقول في النبيذ: "مع مشاركته للخمر في الإسكار"، فهلا احتججت بالنص: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام».

وأما جلد الكلب المدبوغ فقالت طائفة من العلماء بعموم الحديث: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» فلو قيل لك هات دليل التحريم لوقفت. واما ما قلت من مقاتلة الغاصب والمالك فكذب، بل إذا تنازعا رفعا إلى الحاكم. وأما الحد مع الشهود فمأخذ أبي حنيفة أنه إذا أقر سقط حكم الشهادة ولا يؤخذ بالإقرار إلا بأربع مرات؛ وأما الجمهور فيقولون الإقرار يؤكد حكم الشهادة. وأما اللواط بالعبيد فكذب ما قاله، وكأنه قصد التشنيع فإن بعض الجهلة يرويه عن مالك اشتبه عليه بمسألة الحشوش، ولا يختلف مذهب مالك والأئمة رضي الله عنهم أجمعين أن من استحل المماليك يكفر. قال: "الوجه الثاني في الدلالة على وجوب اتباع مذهب الإمامية: ما قاله شيخنا الأعظم خواجه نصير الدين محمد بن حسن الطوسي وقد سألته عن المذاهب فقال: بحثنا عنها وعن حديث ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فوجدنا الفرقة الناجية الإمامية لأنهم باينوا جميع المذاهب".

فيقال: لا تنس أنك قد كفّرت من قال إن الله موجب بالذات؛ وشيخك هذا ممن يقول بأن الله موجب بالذات، ويقول بقدم العالم، قرره في شرح الإشارات له. وقد كان وزير الملاحدة الإسماعيلية بالألموت، ثم صار منجما مسيرا لهولاكو فأشار عليه بقتل الخليفة والعلماء - إلى غير ذلك من الطامات. وأمر النصير وأتباعه أشهر عند المسلمين. وقد قيل إنه انصلح في أواخر عمره وكان يحافظ على الصلوات ويشتغل بتفسير البغوي وبالفقه.

وأما قوله: "باينوا جميع المذاهب" فهذيان، وكذا الخوارج باينوا جميع المذاهب وكذا المعتزلة وغيرهم. وإن عنى أنهم اختصوا بجميع أقوالهم فليس كذلك، فقد وافقوا في التوحيد المعتزلة وفي القدر، ووافقوا الجهمية؛ ثم بينهم من الاختلاف ما لا يوصف.

[ومن العجب أن هذا المصنف الرافضي الكذاب المفتري يذكر أبا بكر وعمر وعثمان وسائر السابقين والتابعين وسائر أئمة المسلمين من أهل العلم والدين بالعظائم التي يفتريها عليهم هو وإخوانه ويجيء إلى من اشتهرت عند المسلمين محاربته لله ورسوله يقول عنه: "قال شيخنا الأعظم" ويقول "قدس الله روحه" مع شهادته له بالكفر، ومع لعنه طائفةَ خيار المؤمنين من الأولين والآخرين. وهؤلاء داخلون في معنى قوله تعالى: {ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا * أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا}

ويقال: مباينتهم لجميع المذاهب هو على فساد قولهم أدلُّ منه على صحة قولهم، فإن مجرد انفراد طائفة عن جميع الطوائف بقول لا يدل على أنه هو الصواب واشتراك أولئك في قول لا يدل على أنه باطل.] قال الرافضي: "الثالث أن الإمامية جازمون بحصول النجاة لهم [ولأئمتهم] قاطعون [بذلك]، وأهل السنة لا يجزمون بذلك" وضرب لذلك مثلا ثم قال: "فمتابعة هؤلاء أولى"

[والجواب أن يقال: إن كان أتباع أئمته الذين تدعى لهم الطاعة المطلقة [صوابا] وأن ذلك يوجب لهم النجاة، كان أتباع خلفاء بني أمية -الذين كانوا يوجبون طاعة أئمتهم مطلقا ويقولون إن ذلك يوجب النجاة- مصيبين، لأنهم كانوا يعتقدون أن طاعة الأئمة واجبة في كل شيء وأن الإمام لا يؤاخذه الله بذنب وأنهم لا ذنب لهم فيما أطاعوا فيه الإمام. بل أولئك أولى بالحجة من الشيعة لأنهم كانوا مطيعين أئمة أقامهم الله ونصبهم وأيدهم وملّكهم. فإذا كان من مذهب القدرية أن الله لايفعل إلا ما هو الأصلح لعباده كان تولية أولئك مصلحة لعباده. ومعلوم أن اللطف والمصلحة التي حصلت بهم أعظم من اللطف والمصلحة التي حصلت بإمام معدوم أو عاجز. ولهذا حصل لأتباع خلفاء بني أمية من المصلحة في دينهم ودنياهم أعظم مما حصل لأتباع المنتظر؛ فإن هؤلاء لم يحصل لهم إمام يأمرهم بشيء معروف ولا ينهاهم عن شيء من المنكر ولا يعينهم على شيء من مصلحة دينهم ولا دنياهم، بخلاف أولئك فإنهم انتفعوا بأئمتهم منافع كثيرة في دينهم ودنياهم أعظم مما انتفع هؤلاء بأئمتهم. فتبين أنه إن كان حجة هؤلاء المنتسبين إلى مشايعة علي رضي الله عنه صحيحة فحجة أولئك المنتسبين إلى مشايعة عثمان رضي الله عنه أولى بالصحة وإن كانت باطلة فهذا أبطل منها. فإذا كان هؤلاء الشيعة متفقين مع سائر أهل السنة على أن جزم أولئك بنجاتهم إذا ادعوا لتلك الأئمة طاعة مطلقة خطأ وضلال، فخطأ هؤلاء وضلالهم إذا جزموا بطاعتهم لمن يدعي أنه نائب المعصوم -والمعصوم لا عين له ولا أثر- أعظم وأعظم. فإن الشيعة ليس لهم أئمة يباشرونهم بالخطاب إلا شيوخهم الذين يأكلون أموالهم بالباطل ويصدون عن سبيل الله.

ويقال: قوله "إنهم جازمون بحصول النجاة لهم دون أهل السنة" فإنه إن أراد بذلك أن كل واحد ممن اعتقد اعتقادهم يدخل الجنة وإن ترك الواجبات وفعل المحرمات فليس هذا قول الإمامية ولا يقوله عاقل. وإن أراد أن حب علي حسنة لا يضر معها سيئة فلا يضره ترك الصلوات ولا الفجور بالعلويات ولا نيل أغراضهم بسفك دم بني هاشم إذا كان يحب عليا. فإن قالوا: المحبة الصادقة تستلزم الموافقة عاد الأمر إلى أنه لا بد من أداء الواجبات وترك المحرمات. وإن أراد بذلك أنهم يعتقدون أن كل من اعتقد الاعتقاد الصحيح وأدى الواجبات وترك المحرمات دخل الجنة، فهذا اعتقاد أهل السنة، فإنهم جزموا بالنجاة لكل من اتقى الله تعالى كما نطق به القرآن، وإنما توقفوا في شخص معين لعدم العلم بدخوله في المتقين. فإذا علم أنه مات على التقوى علم أنه من أهل الجنة. ولهذا يشهدون بالجنة لمن شهد له الرسول ﷺ. ولهم فيمن استفاض في الناس حسن الثناء عليه قولان. فتبين أنه ليس في الإمامية جزم محمود اختصوا به عن أهل السنة والجماعة. فإن قالوا إنما نجزم لكل شخص رأيناه ملتزما للواجبات عندنا تاركا للمحرمات بأنه من أهل الجنة من غير أن يخبرنا بباطنه معصوم؛ قيل هذه المسألة لا تتعلق بالإمامية، بل إن كان إلى هذا طريق صحيح فهو طريق أهل السنة وهم بسلوكه أحذق، وإن لم يكن هناك طريق صحيح إلى ذلك كان ذلك قولا بلا علم ولا فضيلة فيه، بل في عدمه. ففي الجملة لا يدعون علما صحيحا إلا واهل السنة أحق به وما ادعوه من الجهل فهو نقص وأهل السنة أبعد عنه.

والقول بكون الرجل المعين من أهل الجنة قد يكون سببه إخبار المعصوم، وقد يكون سببه تواطؤ شهادة المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض، كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال: «وجبت وجبت» ومر عليه بجنازة فأثنوا شرا فقال: «وجبت وجبت» فقالوا: يا رسول الله ما قولك وجبت وجبت؟ قال: «هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت وجبت لها الجنة وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض»

وإن أهل السنة يجزمون بحصول النجاة لأئمتهم أعظم من جزم الرافضة. وذلك أن أئمتهم بعد النبي ﷺ هم {السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار} وهم جازمون بحصول النجاة لهؤلاء. فإنهم يشهدون أن العشرة المبشرة في الجنة. ويشهدون أن الله تعالى قال لأهل بدر: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» بل يقولون إنه: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي ﷺ، فهؤلاء أكثر من ألف وأربعمائة إمام لأهل السنة يشهدون أنه لا يدخل النار منهم أحد، وهي شهادة بعلم كما دل على ذلك الكتاب والسنة. وأهل السنة يشهدون بالنجاة إما مطلقا وإما معينا شهادة مستندة إلى علم. وأما الرافضة فإنهم إن شهدوا شهدوا بما لا يعلمون وشهدوا بالزور الذي يعلمون أنه كذب، فهم كما قال الشافعي رحمه الله تعالى: ما رأيت قوما أشهد بالزور من الرافضة.

وإن الإمام الذي شُهد له بالنجاة إما أن يكون هو المطاع في كل شيء وإن نازعه غيره من المؤمنين، أو هو مطاع فيما يأمر به طاعة الله ورسوله وفيما يقوله باجتهاد إذا لم يعلم أن غيره أولى منه ونحو ذلك.

فإن كان الإمام هو الأول فلا إمام لأهل السنة بهذا الاعتبار إلا رسول الله ﷺ، فإنه ليس عندهم من يجب أن يطاع في كل شيء إلا رسول الله ﷺ وهم يقولون كما قال مجاهد والحكم ومالك وغيرهم: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ. ويشهدون لإمامهم أنه خير الخلائق، ويشهدون بأن كل من ائتم به ففعل ما أمر به وترك ما نهى عنه دخل الجنة. وهذه الشهادة بهذا وهذا هي أتم من شهادة الرافضة للعسكريين وأمثالهما بأن من أطاعهما دخل الجنة. فثبت أن إمام أهل السنة أكمل وشهاداتهم له إذا أطاعوه أكمل، ولا سواء.

وإن أرادوا بالإمام الإمام المقيد فذاك لا يوجب أهل السنة طاعته إن لم يكن ما أمر به موافقا لأمر الإمام المطلق رسول الله ﷺ، وهم إذا أطاعوه فيما أمر الله بطاعته فيه فإنما هم مطيعون لله ورسوله فلا يضرهم توقفهم في الإمام المقيد هل هو في الجنة أم لا، كما لا يضر أتباع المعصوم إذا أطاعوا نوابه، مع أن نوابه قد يكونون من أهل النار لا سيما ونواب المعصوم عندهم لا يعلمون أنهم يأمرون بما يأمر به المعصوم لعدم العلم بما يقوله معصوم. وأما أقوال الرسول ﷺ فهي معلومة، فمن أمر بها فقد علم أنه وافقها ومن أمر بخلافها علم أنه خالفها. وما اختلف فيه منها فاجتهد فيه نائبه فهذا خير من طاعة نائب لمن يدعى [له] العصمة ولا أحد يعلم بشيء مما أمر به هذا الغائب المنتظر، فضلا عن العلم بكون نائبه موافقا أو مخالفا.

فإن ادعوا أن النواب عاملون بأمر من قبلهم، فعلم علماء الأمة بأمر رسول الله ﷺ أتم وأكمل من علم هؤلاء بقول من يدعون عصمته. ولو طولب أحدهم بنقل صحيح ثابت بما يقولونه عن علي أو عن غيره لما وجدوا إلى ذلك سبيلا. وليس لهم من الإسناد والعلم بالرجال الناقلين ما لأهل السنة.] قال الرافضي: "الرابع أنهم أخذوا مذهبهم عن المعصومين وقد كان كرم الله وجهه يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة مع شدة ابتلائه بالحروب، وكان زين العابدين وكان الباقر.." وعدد لهم مناقب بعضها مكذوب.

فيقال: لا نسلم أنكم أخذتم مذهبكم عن أهل البيت؛ فإنكم تخالفون عليا وأئمة أهل بيته في الأصول والفروع، فإنهم يثبتون الصفات والقدر وخلافة الثلاثة وفضلهم إلى غير ذلك. وليس لكم أسانيد متصلة حتى ننظر فيها. والكذب فمتوفر عندكم. فإن ادعوا تواتر نص هذا على هذا ونص هذا على هذا كان هذا معارضا بدعوى [غيرهم] مثل هذا التواتر، فإن سائر القائلين بالنص إذا ادعوا مثل هذه الدعوى لم يكن بين الدعويين فرق.

ثم هم محتاجون في مذهبهم إلى مقدمتين: إحداهما عصمة من يضيفون المذهب إليه والثاني ثبوت ذلك النقل عنه. وكلاهما لا دليل لهم عليهما.

وقد ثبت لعلي وبنيه من المناقب ما لم يذكره المصنف. وذكر أشياء كذبا وجهلا مثل قوله نزل في حقهم {هل أتى} وهي مكية باتفاق، وعلي لم يدخل بفاطمة إلا بعد بدر وولد له الحسن في السنة الثانية من الهجرة والحسين في السنة الرابعة من الهجرة بعد نزول {هل أتى} بسنين كثيرة. فقول القائل إنها نزلت فيهم من الكذب الذي لا يخفى على من له علم بنزول القرآن وأحوال هذه السادة الأخيار.

وأما آية {ويطهركم تطهيرا} فليس فيها إخبار بذهاب الرجس وبالطهارة بل فيها الأمر لهم بما يوجبهما وذلك كقوله تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} {يريد الله ليبين لكم ويهديكم} {يريد الله أن يخفف عنكم} فالإرادة هنا متضمنة للأمر والمحبة والرضا، ليست هي الملتزمة لوقوع المراد ولو كان كذلك لتطهر كل من أراد الله طهارته وهذا على قول شيعة زماننا أوجه فإنهم معتزلة يقولون إن الله يريد ما لا يكون. فقوله تعالى: {يريد الله ليذهب عنكم الرجس} إذا كان بفعل المأمور وترك المحظور كان ذلك متعلقا بإرادتهم وبأفعالهم فإن فعلوا ما أمروا به طهروا. ومما يبين أن ذلك مما أمروا به مما أخبر بوقوعه أن النبي ﷺ أدار الكساء على علي وفاطمة والحسن والحسين ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهركم تطهيرا» رواه مسلم من حديث عائشة ورواه أهل السنن من حديث أم سلمة. وفيه دليل على أنه تعالى قادرا على إذهاب الرجس والتطهير وأنه خالق أفعال العباد ردا على المعتزلي. وما يبين أن الآية متضمنة للأمر والنهي قوله في سياق الكلام: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة إلى قوله ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركهم تطهيرا واذكرن ما يتلى في بيوتكن} فهذا السياق يدل على أن ذلك أمر ونهي وأن الزوجات من أهل البيت، فإن السياق إنما هو في مخاطبتهن. ويدل الضمير المذكر على أنه عمَّ غير زوجاته كعلي وفاطمة وابنيهما. كما أن مسجد قبا أسس على التقوى ومسجده أيضا أسس على التقوى وهو أكمل في ذلك فلما نزلت {لمسجد أسس على التقوى} تناول اللفظ مسجد قبا ولمسجده بطريق الأولى. وأصح الروايتين عن أحمد أنهن من أهل بيته. وفي الصحيحين: «اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته»

وأما إيجاب المودة فثبت أن ابن عباس سئل عن الآية فقال إنه لم يكن بطن من قريش إلا فيه لرسول الله ﷺ منهم قرابة فقال تعالى: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في القرابة التي بيني وبينكم.

ويدل على ذلك أنه لم يقل إلا المودة لذي القربى بل قال في القربى. ألا ترى أنه لما أراد ذوي قرابة قال: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى} وليست موالاتنا لأهل البيت من أجر النبي ﷺ في شيء. وهو عليه السلام لا يسألنا أجرا وإنما أجره على الله تعالى: {قل لا أسألكم عليه من أجر}. ثم إن الآية مكية ولم يكن علي تزوج بفاطمة بعد ولا ولد لهما.

وزعم أن عليا كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة ولم يصح ذلك. ونبينا ﷺ كان لا يزيد في الليل على ثلاث عشرة ركعة. ولا يُستحب قيام كل الليل بل يكره. قال النبي ﷺ لعبد الله بن عمرو [بن العاص]: «إن لجسدك عليك حقا» وقد كان عليه السلام يصلي في اليوم والليلة نحو أربعين ركعة؛ وعلي كان أعلم بسننه وأتبع لهديه من أن يخالفه هذه المخالفة لو كان ذلك ممكنا؛ فكيف وصلاة ألف ركعة مع القيام بسائر الواجبات غير ممكن، إذ عليه حقوق نفسه من مصالحها ونومها وأكلها وشربها وحاجتها ووضوئها ومباشرته أهله وسراريه والنظر لأولاده وأهله ورعيته مما يستوعب نصف الزمان تقريبا. فالساعة الواحدة لا تتسع لثمانين ركعة إلا أن تكون بالفاتحة فقط وبلا طمأنينة. وعلي كرم الله وجهه أجل من أن يصلي صلاة المنافقين التي هي نقر ولا يذكر الله فيها إلا قليلا كما في الصحيحين.

وأما قوله "وواخاه" فموضوع. فإنه عليه السلام لم يواخ أحدا، ولا آخى بين المهاجرين بعضهم من بعض بل مع الأنصار.

وأما قوله: "وجعله الله نفس رسوله حيث قال: {وأنفسنا وأنفسكم}" فهذا خطأ وإنما هذا مثل قوله {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} وكقوله تعالى: {فاقتلوا أنفسكم} {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} فالمراد بالأنفس الإخوان نسبا أو دينا. وقد قال النبي ﷺ لعلي: «أنت مني وأنا منك» وقال: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو جمعوا ما كان معهم في ثوب ثم قسموه بالسوية فهم مني وأنا منهم» وقال في جليبيب: «هذا مني وأنا منه» والخبران في الصحيح.

وأما تزويج علي بفاطمة ففضيلة له، وكذلك تزويج عثمان بأختيها فضيلة له، وكذلك تزويج النبي ﷺ بابنة أبي بكر وابنة عمر فضيلة لهما، فالخلفاء الأربعة أصهاره ﷺ ورضي عنهم أجمعين.

قال: "وله معجزات كثيرة" فإن عنى الكرامات فعلي أفضل من كثير من ذوي الكرامات.

ثم قال: "حتى ادعى قوم فيه الربوبية وقَتَلَهم"

قلنا: معجزات النبي ﷺ أعظم وما ادعيت فيه ولله الحمد الربوبية. ثم مدعو ربوبية علي عدد يسير فحرَّقهم ومكفروه ألوف من الخوارج فما فيهما خير. والخوارج متقيدون بالإسلام ولهم تعبد؛ والذين عبدوه زنادقة.

قال: "وأخذ النبي ﷺ يوما بيد الحسين وولده إبراهيم على فخده فنزل جبريل فقال إن الله لم يكن ليجمع لك بينهما فاختر فقال إذا مات الحسين بكيت أنا وعلي وفاطمة وإذا مات إبراهيم بكيت أنا فأختار موت إبراهيم. فمات بعد ثلاث"

قلت: هذا لا يعرف له إسناد وهو كذب ركيك [من أحاديث الجهال، فليس في جمع الله بين إبراهيم والحسين أعظم مما في جمعه بين الحسن والحسين].

ثم ذكر تسمية النبي ﷺ علي بن الحسين بزين العابدين.

قلنا: هذا لا أصل له ولا رواه عالم.

وأما ذكره أبا جعفر وأنه أعلم أهل زمانه فهذه دعوى. فالزهري كان في عصره وهو أعلم عند الناس منه. ونقل تسمية النبي ﷺ إياه الباقر كذب. وكذلك حديث تبليغ جابر له السلام [هو من الموضوعات عند أهل الحديث].

ثم قال: "وجعفر بن محمد نشر فقه الإمامية والمعارف والعقائد" فهذا الكلام يستلزم إما أنه ابتدع ما لم يعلمه من قبله وإما أن يكون من قبله قصَّر. بل الآفة وقعت من الكذابين على جعفر ونسبوا إليه كتاب البطاقة وكتاب الجفر وكتاب الهفت واختلاج الأعضاء وفي النجوم وغير ذلك. حتى أن قوما زعموا أن رسائل إخوان الصفا مأخوذة عنه، وهي معمولة بعده بنحو مائتي سنة عند ظهور دولة الباطنية الذين ملكوا مصر فأظهروا اتباع الشريعة وأن لها باطنا مخالفا وباطن أمرهم الفلسفة، وعلى هذا وضعت هذه الرسائل وضعها جماعة، وقد ذكروا فيها ما استولى عليه النصارى من الشام.

وأما موسى بن جعفر فقد قال فيه أبو حاتم: ثقة إمام من أئمة المسلمين. وقال ابن سعد: ليس له كبير رواية. وأما من بعده فلم يؤخذ عنهم من العلم ما يذكر في أخبارهم ولا لهم فتاوى، بل لهم من الفضائل والمحاسن ما هم له أهل.

وذَكَرَ أن بشرا الحافي تاب على يد موسى. وهذا من كذب من لم يعرف الأمور، فإن موسى أقدمه الرشيد العراق وحبسه.

قال: "وكان علي بن موسى أزهد الناس وأعلمهم"

فيقال: من المصائب التي ابتلى بها ولد الحسين انتحال الرافضة إياهم وتعظيمهم لهم وإطراؤهم بالدعاوى والغلو. وكان علي كبير القدر، وقد كان في زمانه الشافعي وغيره ممن هو أعلم منه ومعروف [الكرخي] وأبو سليمان الداراني ممن هو أزهد منه. وقد وضعوا عليه نسخا عن آبائه.

ثم قال: "أخذ عنه فقهاء الجمهور كثيرا"

فهذا بهت ما أخذ عنه إلا آحاد الناس كأبي الصلت الهروي.

ثم قال في أثناء كلامه: "إن النبي ﷺ قال إن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار"

وهذا كذب؛ واللاتي أحصن فروجهن لا يحصيهن إلا الله تعالى ومن ذريتهن البر والفاجر. ففضل فاطمة ليس بمجرد إحصان فرجها. ثم الرافضة تشهد على كثير من أولادها بالكفر والفسوق -وهم أهل السنة- كما رفضت الرافضة زيد بن علي ونابذوه.

ثم ذكر المهدي وأنه محمد المنتظر.

قلنا: ذكر ابن جرير وابن قانع وغيرهما أن الحسن بن علي العسكري لم يعقب. والإمامية تزعم أنه كان له ولد دخل سرداب سامرا وهو صغير له سنتان أو ثلاث أو خمس؛ وهذا لو كان موجودا معلوما لكان الواجب في حكم الله تعالى أن يكون في حضانة أمه ونحوها من أهل الحضانة وأن يكون ماله عند من يحفظه. فكيف يكون من يستحق الحجر والحضانة معصوما إماما للأمة. ثم هذا إن قدر وجوده أو عدمه لا ينتفعون به في دين ولا علم ولا دنيا؛ ولا حصل به لطف ولا مصلحة. فإن قيل بسبب ظلم الناس احتجب عنهم؛ قيل كان الظلم في زمن آبائه وما احتجبوا. ثم المؤمنون به قد طبقوا الأرض فهلا اجتمع بهم في وقت. وكان يمكنه أن يأوي إلى بقعة فيها شيعته. فما حصل بهذا المعلوم مصلحة أصلا غير الانتظار الطويل ودوام الحسرة والألم والدعاء بالمستحيل، لأنهم يدعون له بالخروج والظهور من نحو أربعمائة وخمسين سنة ولا يجابون.

ثم ذكر حديث ابن عمر: يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي الحديث.

قلنا: ذا حجة عليكم فإن لفظه: «يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي» يعني اسمه محمد بن عبد الله لا محمد بن الحسن. ثم قد روي عن علي رضي الله عنه أنه من ذرية الحسن لا الحسين. ثم قال: فهؤلاء الأئمة المعصومون الذين بلغوا الغاية في الكمال [ولم يتخذوا ما اتخذه غيرهم من الأئمة المشتغلين بالملك وأنواع المعاصي والملاهي وشرب الخمور والفجور. قالت الإمامية فالله يحكم بيننا وبين هؤلاء وهو خير الحاكمين]. وما أحسن قول بعض الناس:إذا شئت أن ترضي لنفسك مذهبا ** وتعلم أن الناس في نقل أخبارفدع عنك قول الشافعي ومالك ** وأحمد والمروي عن كعب أحبارووال أناسا قولهم وحديثهم ** روى جدنا عن جبرئيل عن الباري

[والجواب من وجوه.

أحدها أن دعوى العصمة في هؤلاء لم يذكر عليها حجة إلا ما ادعاه من أنه يجب على الله أن يجعل للناس إماما معصوما ليكون لطفا ومصلحة في التكليف. وقد تبين فساد هذه الحجة من وجوه أدناها أن هذا -أي اللطف والمصلحة- مفقود لا موجود، فإنه لم يوجد إمام معصوم حصل به لطف ولا مصلحة. ولو لم يكن في الدليل على انتفاء ذلك إلا المنتظر الذي قد علم بصريح العقل أنه لم ينتفع به أحد لا في دين ولا دنيا ولا حصل لأحد من المكلفين به مصلحة ولا لطف لكان هذا دليلا على بطلان قولهم؛ فكيف مع كثرة الدلائل على ذلك.

الثاني أن قوله: "كل واحد من هؤلاء قد بلغ الغاية في الكمال" هو قول مجرد عن الدليل. والقول بلا علم يمكن كل أحد أن يقابله بمثله. وإذا ادعى هذا الكمال فيمن هو أشهر في العلم والدين من العسكريين وأمثالهما من الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين كان ذلك أولى بالقبول. ومن طالع أخبار الناس علم أن الفضائل العلمية والدينية المتواترة عن غير واحد من الأئمة أكثر مما ينقل عن العسكريين وأمثالهما من الصدق.

الثالث أن قوله هؤلاء الأئمة إن أراد به أنهم كانوا ذوي سلطان وقدره معهم السيف فهذا كذب ظاهر وهم لا يدعون ذلك بل يقولون إنهم عاجزون ممنوعون مغلوبون مع الظالمين لم يتمكن أحد منهم من الإمامة إلا علي بن أبي طالب، مع أن أمورا استصعبت عليه ونصف الأمة أو أقل أو أكثر لم يبايعوه، بل كثير منهم قاتلوه وقاتلهم وكثير منهم لم يقاتلوه ولم يقاتلوا معه وكان فيهم من فضلاء المسلمين من لم يكن مع علي؛ بل الذين تخلفوا عن القتال معه وله كانوا أفضل ممن قاتل معه.

وإن أراد به أنهم كان لهم علم ودين يستحقون به أن يكونوا أئمة فهذه الدعوى إن صحت لا توجب كونهم أئمة يجب على الناس طاعتهم، كما أن استحقاق الرجل أن يكون إمام مسجد لا يجعله إماما، واستحقاقه أن يكون قاضيا لا يصيره قاضيا واستحقاقه أن يكون أمير حرب لا يجعله أمير حرب. والصلاة لا تصح إلا خلف من يكون إماما بالفعل، لا خلف من ينبغي أن يكون إماما. وكذلك الحكم بين الناس إنما يفصله ذو سلطان وقدرة لا من يستحق أن يولى القضاء. وكذلك الجند إنما يقاتلون مع أمير عليهم لا مع من لم يؤمر وإن كان يستحق أن يؤمَّر. وفي الجملة الفعل مشروط بالقدرة، وكل من ليس له قدرة وسلطان على الولاية والإمارة لم يكن إماما وإن كان استحق أن يجعل له قدرة حتى يتمكن. فكونه يشرع أن يمكن أو يجب أن يمكن ليس هو نفس التمكن. والإمام هو المتمكن القادر. وليس في هؤلاء من هو كذلك إلا علي كما تقدم.

الرابع أن يقال ما تعنون بالاستحقاق؟ أتعنون أن الواحد من هؤلاء كان يجب أن يولى الإمامة دون سائر قريش أم تريدون أن الواحد منهم من جملة من يصلح للخلافة؟ فإن أردتم الأول فهو ممنوع مردود. وإن أردتم الثاني فذلك قدر مشترك بينه وبين خلق كثير من قريش.

الخامس أن يقال الإمام هو من يقتدى به. وذلك على وجهين أحدهما أن يرجع إليه في العلم والدين بحيث يطاع باختيار المطيع لكونه عالما بأمر الله عز وجل آمرا به، فيطيعه المطيع لذلك وإن كان عاجزا عن إلزامهم الطاعة. والثاني أن يكون صاحب يد وسيف بحيث يطاع طوعا وكرها قادرا على إلزام المطيع بالطاعة. وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} قد فسر أولو الأمر بذوي القدرة كأمراء الحرب وفسر بأهل العلم والدين. وكلاهما حق. وهذان الوصفان كانا كاملين في الخلفاء الراشدين فإنهم كانوا كاملين في العلم والعدل والسياسة والسلطان وإن كان بعضهم أكمل في ذلك من بعض، فأبو بكر وعمر أكمل في ذلك من عثمان وعلي. وبعدهم لم يكمل أحد في هذه الأمور إلا عمر بن عبد العزيز. بل قد يكون الرجل أكمل في العلم والدين ممن يكون له سلطان، وقد يكون أكمل في السلطان ممن هو أعلم منه وأدين. وهؤلاء إن أريد بكونهم أئمة أنهم ذوو سلطان فباطل وهم لا يقولونه. وإن أريد بذلك أنهم أئمة في العلم والدين يطاعون مع عجزهم عن إلزام غيرهم بالطاعة فهذا قدر مشترك بين كل من كان متصفا بهذه الصفات.

ثم إما أن يقال قد كان في أعصارهم من هو أعلم منهم وأدين، إذ العلم المنقول عن غيرهم أضعاف العلم المنقول عنهم وظهور آثار غيرهم في الأمة أعظم من ظهور آثارهم في الأمة، والمتقدمون منهم كعلي بن الحسين وابنه أبي جعفر وابنه جعفر بن محمد قد أخذ عنهم من العلم قطعة معروفة وأخذ عن غيرهم أكثر من ذلك بكثير كثير. وأما من بعدهم فالعلم المأخوذ عنهم قليل جدا ولا ذكر لأحد منهم في رجال أهل العلم المشاهير بالرواية والحديث والفتيا ولا غيرهم من المشاهير بالعلم، وما يذكر لهم من المناقب والمحاسن فمثله يوجد لكثير غيرهم من الأمة. وإما أن يقال إنهم أفضل الأمة في العلم والدين. فعلى التقديرين فإمامتهم على هذا الاعتبار لا ينازع فيها أهل السنة فإنهم متفقون على أنه يؤتم بكل أحد فيما يأمر به من طاعة الله ويدعو إليه من دين الله ويفعله مما يحبه الله. فما فعله هؤلاء من الخير ودعوا إليه من الخير فإنهم أئمة فيه يقتدى بهم في ذلك. قال تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} وقد قال تعالى لإبراهيم: {إني جاعلك للناس إماما} ولم يكن ذلك أن جعله ذا سيف يقاتل به جميع الناس، بل جعله بحيث يجب على الناس اتباعه سواء أطاعوه أم عصوه. فهؤلاء الأئمة في الدين أسوة أمثالهم. فأهل السنة مقرون بإمامة هؤلاء فيما دلت الشريعة على الائتمام بهم فيه، كما أن هذا الحكم ثابت لأمثالهم مثل أبي بكر وعمر وعثمان وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ وأبي الدرداء وأمثالهم من السابقين الأولين ومثل سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعبيد الله بن عبد الله وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبي بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد وهؤلاء فقهاء المدينة ومثل علقمة والأسود بن زيد وأسامة ومحمد بن سيرين والحسن البصري ومثل سالم بن عبد الله ابن عمر ومثل هشام بن عروة وعبد الرحمن بن القاسم والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري وأبي الزناد ومثل مالك والأوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق بن إبراهيم وغيرهم. لكن المنقول الثابت عن بعض هؤلاء من الحديث والفتيا قد يكون أكثر من المنقول الثابت عن الآخر فتكون شهرته لكثرة علمه أو لقوة حجته أو نحو ذلك. وإلا فلا يقول أهل السنة إن يحيى بن سعيد وهشام بن عروة وأبا الزناد أولى بالاتباع من جعفر بن محمد ولا يقولون إن الزهري ويحيى بن أبي كثير وحماد بن أبي سلمة وسليمان بن يسار ومنصور بن المعتمر أولى بالاتباع من أبيه أبي جعفر الباقر ولا يقولون إن القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله أولى بالاتباع من علي بن الحسين بل كل واحد من هؤلاء ثقة فيما ينقله مصدق في ذلك، وما بينه من دلالة الكتاب والسنة على أمر من الأمور هو من العلم الذي يستفاد منه فهو مصدق في الرواية والإسناد، وإذا أفتى بفتيا وعارضه غيره رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله كما أمر الله بذلك، وهذا حكم الله ورسوله بين هؤلاء جميعهم، وكذا كان المسلمون على عهد رسول الله ﷺ وعهد خلفائه الراشدين رضي الله عنهم.

السادس أن يقال قوله "لم يتخذوا ما اتخذه غيرهم من الأئمة المشتغلين بالملك والمعاصي" كلام باطل. وذلك أنه إن أراد أن أهل السنة يقولون إنه يؤتم بهؤلاء الملوك فيما يفعلونه من معصية الله فهذا كذب عليهم. فإن علماء أهل السنة المعروفين بالعلم عند أهل السنة متفقون على أنه لا يقتدى بأحد في معصية الله ولا يتخذ إماما في ذلك. وإن أراد أن أهل السنة يستعينون بهؤلاء الملوك فيما يحتاج إليه في طاعة الله ويعاونونهم على ما يفعلونه من طاعة الله فيقال له: إن كان اتخاذهم أئمة بهذا الاعتبار محذورا فالرافضة أدخل منهم في ذلك، فإنهم دائما يستعينون بالكفار والفجار على مطالبهم ويعاونون الكفار والفجار على كثير من مآربهم، وهذا أمر مشهود في كل زمان ومكان. ولو لم يكن إلا صاحب هذا الكتاب منهاج الندامة وإخوانه فإنهم يتخذون المغل والكفار والفساق والجهال أئمة بهذا الاعتبار.

السابع أن يقال الأئمة الذين هم مثل هؤلاء الذين ذكرهم في كتابه وادعى عصمتهم ليس لهم سلطان تحصل به مقاصد الإمامة ولا يكفي الائتمام بهم في طاعة الله ولا في تحصيل ما لا بد منه مما يعين على طاعة الله. فإذا لم يكن لهم ملك ولا سلطان لم يمكن أن تصلى خلفهم جمعة ولا جماعة ولا يكونون أئمة في الجهاد ولا في الحج ولا تقام بهم الحدود ولا تفصل بهم الخصومات ولا يستوفي الرجل بهم حقوقه التي عند الناس والتي في بيت المال ولا يؤمّن بهم السبيل. فإن هذه الأمور كلها تحتاج إلى قادر يقوم بها ولا يكون قادرا إلا من له أعوان على ذلك؛ وهؤلاء لم يكونوا قادرين على ذلك بل القادر على ذلك كان غيرهم. فمن طلب هذه الأمور من إمام عاجز كان جاهلا ظالما ومن استعان عليها بمن هو قادر عليها كان مهتديا مسددا. فهذا يحصل مصلحة دينه ودنياه والأول تفوته مصلحة دينه ودنياه.

الثامن أن يقال دعوى كون جميع الخلفاء كانوا مشتغلين بما ذكره من الخمور والفجور كذب عليهم، والحكايات المنقولة في ذلك فيها ما هو كذب. وقد علم أن فيهم العدل والزاهد كعمر بن عبد العزيز والمهتدي بالله. وأكثرهم لم يكن مظهرا لهذه المنكرات من خلفاء بني أمية وبني العباس. وإن كان أحدهم قد يبتلى ببعض الذنوب وقد يكون تاب منها وقد تكون له حسنات كثيرة تمحو تلك السيئات وقد يبتلى بمصائب تكفرها عنه. ففي الجملة الملوك حسناتهم كثيرة وسيئاتهم، والواحد من هؤلاء وإن كان له ذنوب ومعاص لا تكون لآحاد المؤمنين فلهم من الحسنات ما ليس لآحاد المسلمين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود وجهاد العدو وإيصال كثير من الحقوق إلى مستحقيها ومنع كثير من الظلم وإقامة كثير من العدل. ونحن لا نقول إنهم كانوا سالمين من ذلك لكن نقول وجود الظلم والمعاصي من بعض المسلمين ولاة الأمور وعامتهم لا يمنع أن يشارك فيما يعمله من طاعة الله. وأهل السنة لا يأمرون بموافقة ولاة الأمور إلا في طاعة الله لا في معصيته. ولا ضرر على من وافق [أحدا] في طاعة الله إذا انفرد عنه بمعصية لم يشركه فيها. كما أن الرجل إذا حج مع الناس فوقف معهم وطاف لم يضره كون بعض الحجاج له مظالم وذنوب ينفرد بها. وكذلك إذا شهد مع الناس الجمعة والجماعة ومجالس العلم وغزا معهم لم يضره كون بعض المشاركين له في ذلك له ذنوب يختص بها. فولاة الأمور بمنزلة غيرهم يشاركون فيما يفعلونه من طاعة الله ولا يشاركون فيما يفعلونه من معصية الله. وهذه كانت سيرة أهل البيت مع غيرهم. فمن اتبعهم في ذلك فهو المقتدي بهم دون من تبرأ من السابقين الأولين وجمهور أهل العلم والدين وظاهَرَ على عداوتهم الكفار والمنافقين كما يفعله من يفعله من الرافضة الضالين.

التاسع أن يقال إمام قادر ينتظم به أمر الناس في أكثر مصالحهم بحيث يؤمّن به السبيل ويقام به ما يقام من الحدود ويدفع به ما يدفع من الظلم ويحصل به ما يحصل من جهاد العدو ويستوفى به ما يستوفى من الحقوق خير من إمام معدوم لا حقيقة له. والرافضة يدعون إلى إمام معصوم وليس عندهم في الباطن إلا إمام معدوم وفي الظاهر إمام كفور أو ظلوم. فأئمة أهل السنة ولو فرض ما فرض فيهم من الظلم والذنوب خير من الأئمة الظاهرين الذين تعتمدهم الرافضة وخير من إمام معدوم لا حقيقة له. وأما الأئمة الباقون الذين كانوا موجودين فأولئك يأتم بهم أهل السنة كما يأتمون بأمثالهم فهم وأمثالهم أئمة. ومن ائتم بهؤلاء وأمثالهم من سائر المسلمين كان خيرا ممن ائتم بهم وحدهم، فإن العلم رواية ودراية كلما كثر فيه العلماء واتفقوا عليه كان أقوى وأولى بالاتباع. فليس عند الشيعة خير إلا وأهل السنة يشركونهم فيه، والخير الذي اختص به أهل السنة لا يشركهم فيه الشيعة.

العاشر أن يقال ما ذكره هذا الإمامي يمكن كل واحد من أهل السنة أن يعارضه بما هو أقوى منه، فإنه [يقال] عن مثل سعيد بن المسيب وعلقمة والأسود والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح ومحمد بن سيرين ومطرف بن الشخير ومكحول والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله وما شاء الله من التابعين وتابعيهم هؤلاء أئمة فيما يمكن الائتمام فيه بهم من الدين، وعلي بن الحسين وابنه وجعفر بن محمد وغيرهم هم أيضا أئمة أهل السنة والجماعة بهذا الاعتبار، فلم تأتم الشيعة بإمام ذي علم وزهد إلا وأهل السنة يأتمون به وبجماعة آخرين يشاركونهم في العلم والزهد بل هم أعلم منه وأزهد. وما اتخذ أهل السنة إماما من أهل المعاصي إلا وقد اتخذت الشيعة إماما من أهل المعاصي شرا منه. فأهل السنة أولى بالائتمام بأئمة الظلم في غير ما هم ظالمون فيه، فهم خير من الشيعة في الطرفين.

الحادي عشر قوله "قالت الإمامية فالله يحكم بيننا وبين هؤلاء وهو خير الحاكمين" فيقال للإمامية إن الله حكم بينهم في الدنيا بما أظهره من الدلائل والبينات وبما يظهر أهل الحق عليكم، فهم ظاهرون عليكم بالحجة والبيان وباليد واللسان كما أظهر دين نبيه على سائر الأديان. قال تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} ومن كان دينه قول أهل السنة الذي خالفتموهم فيه فإنه ظاهر عليكم بالحجة واللسان كظهور دين محمد ﷺ على سائر الأديان. ولم يظهر دين محمد ﷺ قط على غيره من الأديان إلا بأهل السنة، كما ظهر في خلافه أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ظهورا لم يحصل لشيء من الأديان. وعلي رضي الله عنه مع أنه من الخلفاء الراشدين ومن سادات السابقين الأولين لم يظهر في خلافته دين الإسلام بل وقعت الفتنة بين أهله وطمع فيهم عدوهم من الكفار والنصارى والمجوس بالشام والمشرق. وأما بعد علي فلم يعرف أهل علم ودين ولا أهل يد وسيف نصر الله بهم الإسلام إلا أهل السنة؛ وأما الرافضة فإما أن تعاون أعداء الإسلام وإما أن تمسك عن نصر الطائفتين. ولا ريب أن الله تعالى يحكم يوم القيامة بين السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وبين من عاداهم من الأولين والآخرين كما يحكم بين المسلمين والكفار.

الثاني عشر أن يقال هذا التظلم ممن هو؟ إن قلتم ممن ظلم عليا كأبي بكر وعمر على زعمكم؛ فيقال لكم الخصم في ذلك علي، وقد مات كما مات أبو بكر وعمر. وهذا أمر لا يتعلق بنا ولا بكم إلا بطريق بيان الحق وموالاة أهله ونحن نبين بالحجج الباهرة أن أبا بكر وعمر أولى بالعدل من كل أحد سواهما من هذه الأمة وأبعد عن الظلم من كل من سواهما، وأن عليا لم يكن يعتقد أنه إمام الأمة دونهما كما نذكر هذا في موضعه إن شاء الله. وإن قلتم نتظلم من الملوك الذين منعوا هؤلاء حقوقهم من الإمامة فهذا فرع على كون هؤلاء الاثني عشر كانوا يطلبون الإمامة أو كانوا يعتقدون أنهم أئمة الأمة المعصومون، وهذا كذب على القوم. وسواء كان صدقا أو كذبا فالله يحكم بين الطائفتين إن كانوا مختصمين: {قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون} وإن كان التظلم من بعض الملوك الذين بينهم وبين هؤلاء منازعة في ولاية أو مال فلا ريب أن الله يحكم بين الجميع، كما يحكم بين سائر المختصمين. فإن نفس الشيعة بينهم من المخاصمات أكثر مما بين سائر طوائف أهل السنة. وبنو هاشم قد جرى بينهم نوع من الحروب، وجرى بين بني حسن وبني حسين من الحروب ما يجري بين أمثالهم في هذه الأزمان. والحروب في الأزمان المتأخرة بين بعض بني هاشم وبين غيرهم من الطوائف أكثر من الحروب التي كانت في أول الزمان بين بعض بني أمية وبعض بني هاشم، لا لشرف نسب أولئك فإن نسب بني هاشم أشرف لكن لأن خير القرون هو القرن الذي بعث فيه النبي ﷺ ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم؛ فالخير في تلك القرون أكثر والشر فيما بعدها أكثر.

وإن كان التظلم من أهل العلم والدين الذين لم يظلموا أحدا ولم يعاونوا ظالما ولكن يذكرون ما يجب من القول علما وعملا بالدلائل الكاشفة للحق، فلا يشك من له أدنى عقل أنه من شبه مثل مالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وأمثالهم بمثل هشام بن الحكم وهشام بن سالم وأمثالهما من شيوخ الرافضة إنه لمن أظلم الظالمين. وكذلك من شبه القدريين النغمي [والكراجكي] وأمثالهما بمثل أبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري إنه لمن أظلم الظالمين. وهؤلاء شيوخ المعتزلة دع محمد هيضم وأمثاله والقاضي أبا بكر بن الطيب وأمثاله من متكلمة أهل الإثبات. دع أهل الفقه والحديث والتصوف كأبي حامد الاسفرايني وأبي زيد المروزي وأبي عبد الله بن بطة وأبي بكر عبد العزيز وأبي بكر الرازي وأبي الحسن القزويني وأبي محمد بن أبي زيد وأبي بكر الأبهري وأبي الحسن الدارقطني وأبي عبد الله بن منده وأبي الحسين بن ميمون وأبي طالب المكي وأبي عبد الرحمن السلمي وأمثال هؤلاء. فما من طائفة من طوائف أهل السنة على تنوعهم إذا اعتبرتها إلا وتحققتها أعلم وأعدل وأبعد عن الجهل والظلم من طائفة الروافض. فلا يوجد في أحد منهم معاونة ظالم إلا وهو في الرافضة أكثر، ولا يوجد في الشيعة عدل عن ظلم ظالم إلا وهو في هؤلاء أكثر. وهذا أمر يشهد به العيان والسماع لمن له اعتبار ونظر. ولا يوجد في جميع الطوائف أكذب منهم ولا أظلم منهم ولا أجهل منهم. وشيوخهم يقرون بألسنتهم يقولون: يا أهل السنة أنتم فيكم فتوة لو قدرنا عليكم ما عاملناكم بما تعاملونا به عند القدرة علينا.

الثالث عشر أن يقال هذا الشعر الذي استشهد به واستحسنه هو قول جاهل، فإن أهل السنة متفقون على ما روى جدهم عن جبريل عن الباري، بل هم يقبلون مجرد قول الرسول ﷺ ويؤمنون به ولا يسألونه من أين علمت هذا لعلمهم بأنه معصوم: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} وإنما سموا أهل السنة لاتباعهم سنته ﷺ، لكن الشأن في معرفة ما رواه جدهم. فهم يطلبون ذلك من الثقات الأثبات. فإن كان عند العلويين علم شيء من ذلك استفادوه منهم، وإن كان عند غيرهم علم شيء من ذلك استفادوه منه. وأما مجرد كون جدهم روى عن جبريل عن الباري إذا لم يكونوا عالمين به فما يصنع لهم. والناس لم يأخذوا قول مالك والشافعي وأحمد وغيرهم إلا لكونهم يسندون أقوالهم إلى ما جاء به النبي ﷺ، فإن هؤلاء من أعلم الناس بما جاء به وأتبعهم لذلك وأسد اجتهادا في معرفة ذلك واتباعه. وإلا فأي غرض للناس في تعظيم هؤلاء، وعامة الأحاديث التي يرويها هؤلاء يرويها أمثالهم وكذلك عامة ما يجيبون به من المسائل كقول أمثالهم. ولا يجعل أهل السنة قول واحد من هؤلاء معصوما يجب اتباعه، بل إذا تنازعوا في شيء ردوه إلى الله والرسول. واعتبر ذلك بما تشاهده في زمانك من أهل العلم بالقرآن والحديث والفقه، فإنك تجد كثيرا من بني هاشم لا يحفظ القرآن ولا يعرف من حديث النبي ﷺ إلا ما شاء الله ولا يعرف معاني ذلك، فإذا قال هذا: روى جدنا عن جبرئيل عن الباري؛ قيل نعم، وهؤلاء أعلم منكم بما روى جدكم عن جبرائيل وأنتم ترجعون في ذلك إليهم. وإذا كان كل من الأولين والآخرين من بني هاشم قد يتعلم بعض ما جاء به [الرسول ﷺ من غير بني هاشم كان هذا من إمارة أنه لا علم عندهم بذلك] إلا كعلم أمثالهم، فبمن يأتم الناس وعمن يأخذون؟ أيأخذون عمن يعرف ما جاء به جدهم أو عمن لا يعرف ذلك؟ و«العلماء هم ورثة الأنبياء فإن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بخط وافر».

وإن قال مرادي بهؤلاء الأئمة الاثنا عشر؛ قيل له: ما رواه علي بن الحسين وأبو جعفر وأمثالهما من حديث جدهم فمقبول منهم كما يرويه أمثالهم، ولولا أن الناس وجدوا عند مالك والشافعي وأحمد أكثر مما وجدوه عند موسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي لما عدلوا عن هؤلاء إلى هؤلاء. وإلا فأي غرض لأهل العلم والدين أن يعدلوا عن موسى بن جعفر إلى مالك بن أنس وكلاهما من بلد واحد في عصر واحد لو وجدوا عند موسى بن جعفر من علم الرسول ما وجدوه عند مالك، مع كمال رغبة المسلمين في معرفة علم الرسول. ونفس بني هاشم كانوا يستفيدون علم الرسول من مالك بن أنس أكثر مما يستفيدونه من ابن عمهم موسى بن جعفر. ثم الشافعي جاء بعد مالك وقد خالفه في أشياء وردها عليه حتى وقع بينه وبين أصحاب مالك ما وقع، وهو أقرب نسبا من بني هاشم من مالك ومن أحرص الناس على ما يستفيده من علم الرسول من بني عمه وغير بني عمه، ولو وجد عند أحد من بني هاشم أعظم من العلم الذي وجده عند مالك لكان أشد الناس مسارعة إلى ذلك. فلما كان يعترف بأنه لم يأخذ عن أحد أعلم من مالك وسفيان بن عيينة وكانت كتبه مشحونة بالأخذ عن هذين الاثنين وغيرهما وليس فيها شيء عن موسى بن جعفر وأمثاله من بني هاشم عُلم أن مطلوبه من علم الرسول ﷺ كان عند مالك أكثر مما هو عند هؤلاء. وكذلك أحمد بن حنبل قد علم كمال محبته لرسول الله ﷺ ولحديثه ومعرفته بأقواله وأفعاله وموالاته لمن يوافقه ومعاداته لمن يخالفه ومحبته لبني هاشم وتصنيفه في فضائلهم حتى صنف فضائل علي والحسن والحسين كما صنف فضائل الصحابة. ومع هذا فكتبه مملوءة عن مثل مالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد ووكيع بن الجراح ويحيى بن سعيد القطان وهشيم بن بشير وعبد الرحمن بن مهدي وأمثالهم، دون موسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وأمثالهم. فلو وجد مطلوبه عند مثل هؤلاء لكان أشد الناس رغبة في ذلك.

فإن زعم زاعم أنه كان عندهم من العلم المخزون ما ليس عند أولئك لكن كانوا يكتمونه؛ فأي فائدة للناس من علم مكتوم؟ فـ"علم لا يقال به ككنز لا ينفق منه". فكيف يأتم الناس بمن لا يبين لهم؟ والعلم المكتوم كالإمام المعدوم، وكلاهما لا ينتفع به ولا يحصل به لطف ولا مصلحة.

وإن قالوا بل كانوا يثبتون ذلك لخواصهم دون هؤلاء الأئمة؛ قيل: أولا هذا كذب عليهم، فإن جعفر بن محمد لم يجئ بعده مثله وقد أخذ العلم عن هؤلاء الأئمة كمالك وابن عيينة وشعبة والثوري وابن جريج ويحيى بن سعيد وأمثالهم من العلماء والمشاهير الأعيان. ثم من ظن بهؤلاء السادة أنهم يكتمون العلم عن مثل هؤلاء ويخصون به قوما مجهولين ليس لهم في الأمة لسان صدق فقد أساء الظن بهم. فإن في هؤلاء من المحبة لله ولرسوله والطاعة له والرغبة في حفظ دينه وتبليغه وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه وصيانته عن الزيادة والنقصان ما لا يوجد قريب منه لأحد من شيوخ الشيعة. وهذا أمر معلوم بالضرورة لمن عرف وهؤلاء هؤلاء. واعتبر هذا مما تجده في كل زمان من شيوخ السنة وشيوخ الرافضة كمصنف هذا الكتاب، فإنه عند الإمامية أفضلهم في زمانه بل يقول بعض الناس ليس في بلاد المشرق أفضل منه في جنس العلوم مطلقا. ومع هذا فكلامه يدل على أنه من أجهل خلق الله تعالى بحال النبي ﷺ وأقواله وأعماله؛ فيروي الكذب الذي يظهر أنه كذب من وجوه كثيرة. فإن كان عالما بأنه كذب فقد ثبت عنه ﷺ أنه قال: «من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين» وإن كان جاهلا بذلك دلَّ على أنه من أجهل الناس بأحوال النبي ﷺ كما قيل:

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ** وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

وأما الأبيات التي أنشدها فقد قيل في معارضتها:

إذا شئت أن ترضى لنفسك مذهبا ** تنال به الزلفى وتنجو من النار

فدِنْ بكتاب الله والسنة التي ** أتت عن رسول الله من نقل أخيار

ودع عنك داعي الرفض والبدع التي ** يقودك داعيها إلى النار والعار

وسر خلف أصحاب الرسول فإنهم ** نجوم هدى في ضوئها يهتدي الساري

وعُجْ عن طريق الرفض فهو مؤسس ** على الكفر تأسيسا على جرف هار

هما خطتان إما هدى وسعادة ** وإما شقاء مع ضلالة كفار

فأي فريقينا أحق بأمنه ** وأهدى سبيلا عندما يحكم الباري

أمَنْ سب أصحاب الرسول وخالف الكتاب ولم يعبأ بثابت الأخبار

أم المقتدي بالوحي يسلك منهج الصحابة مع حب القرابة الأطهار] إلى أن قال: ومنع أبو بكر فاطمة إرثها والتجأ إلى رواية انفرد بها وكان هو الغريم لها [لأن الصدقة تحل له لأن النبي ﷺ قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» على ما رووه عنه.] والقرآن يخالف ذلك لأنه تعالى قال: {يوصيكم الله في أولادكم} وهذا عام. وكذّب روايتهم فقال: {وورث سليمان داود} وقال: {فهب لي من لدنك وليا يرثني}

والجواب عن قوله "رواية انفرد بها" بأنه كذب. رواه عن النبي ﷺ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعيد وعبد الرحمن بن عوف والعباس وأزواج النبي ﷺ وأبو هريرة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

وقوله "كان الغريم لها" كذب فإن أبا بكر لم يدع التركة لنفسه وإنما هي صدقة لمستحقها. وأيضا فتيقن الصحابة وأولهم علي رضي الله عنه أن النبي ﷺ لا يورث، ولهذا لما ولي علي الخلافة لم يقسم تركة النبي ﷺ ولا غيرها عن مصرفها. وعموم آية الميراث قد خص منه هذا وأنه لا يرث الكافر ولا القاتل عمدا ولا العبد وغير ذلك. ثم إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد أعطيا عليا وبنيه رضي الله عنهم من المال أضعاف ما خلفه النبي ﷺ. وما خلفه النبي ﷺ فقد سلمه عمر إلى علي والعباس رضي الله عنهم يليانه ويفعلان فيه ما كان النبي ﷺ يفعله. وهذا مما ينفي التهمة عن أبي بكر وعمر.

ثم لو قدر أن أبا بكر وعمر متغلبان متوثبان على الأمر لكانت العادة تقضي بأن لا يزاحما الورثة المستحقين للولاية والتركة في ذلك المال [بل يعطيانهم ذلك وأضعافه ليكفوا عن المنازعة في الولاية.]

ثم قوله تعالى: {وورث سليمان داود} لا يدل، إذ الإرث اسم جنس تحته أنواع، والدال على ما به الاشتراك لا يدل على ما به الامتياز. فإذا قيل: هنا حيوان، لم يدل على إنسان أو فرس. فإن لفظ الإرث يستعمل في لفظ إرث العلم والملك وغير ذلك. قال تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا} وقال تعالى: {وتلك الجنة التي أورثتموها} {وأورثكم أرضهم} {إن الأرض لله يورثها من يشاء} {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون} وأخرج أبو داود أن النبي ﷺ قال: «إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا ودرهما وإنما ورثوا العلم» ثم يقال بل المراد إرث العلم والنبوة لا المال، إذ معلوم أنه كان لداود أولاد كثيرون غير سليمان فلا يختص سليمان بماله. وليس في كونه ورث ماله صفة مدح لهما فإن البر والفاجر يرث أباه؛ والآية سيقت في بيان مدح سليمان وما خص به؛ وإرث المال من الأمور العادية المشتركة بين الناس ومثل ذلك لا يقص علينا لعدم فائدته. وكذلك قوله: {يرثني ويرث من آل يعقوب} لأنه لا يرث من آل يعقوب أموالهم إنما يرثهم أولادهم وذريتهم. ثم زكريا لم يكن ذا مال إنما كان نجارا ويحيى كان من أزهد الناس. قال: ولما ذكرت أن أباها وهبها فدك قال هاتي شاهدا فجاءت بأم أيمن فقال امرأة لا يقبل قولها. [وقد رووا جميعا أن رسول الله ﷺ قال: أم أيمن امرأة من أهل الجنة.] فجاءت بعلي فشهد لها، فقال: هذا بعلك يجره إلى نفسه. وقد رووا جميعا أن رسول الله ﷺ قال: علي مع الحق والحق معه يدور حيثما دار لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. فغضبت فاطمة وانصرفت وحلفت أن لا تكلمه حتى تلقى أباها وتشكو إليه. وقد رووا جميعا أن النبي ﷺ قال يا فاطمة إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك. ورووا: «إن فاطمة بضعة مني» الحديث. ولو كان حديث: «لا نورث» صحيحا لما جاز له ترك البغلة التي خلفها النبي ﷺ وسيفه وعمامته عند علي ولما حكم له بها إذا ادعاها العباس. وبعد ذلك جاء مال البحرين وعنده جابر فأعطاه بقوله: "عدة النبي ﷺ" بلا بينة.

والجواب أنْ ما هذا بأول افتراء الرافضة ولا بهتهم. ثم إن فاطمة إن كانت طلبت فدك بالإرث بطلت الهبة، وإن كانت هبة بطل الإرث. [ثم إذا كانت هذه هبة في مرض الموت فرسول الله ﷺ منزه إن كان يورث كما يورث غيره أن يوصي لوارث أو يخصه في مرض موته بأكثر من حقه. وإن كان في صحته فلا بد أن تكون هذه هبة مقبوضة، وإلا فإذا وهب الواهب بكلام ولم يقبض الموهوب إليه شيئا حتى مات كان ذلك باطلا عند جماهير العلماء. فكيف يهب النبي ﷺ فدك لفاطمة ولا يكون ذلك أمرا مشهورا عند أهل بيته والمسلمين حتى تختص بمعرفته أم أيمن أو علي رضي الله عنهما.] بل ذلك كذب على فاطمة [في ادعائها ذلك. وإن كان النبي ﷺ يورث، فالخصم في ذلك أزواجه وعمه، ولا تقبل عليهم شهادة امرأة واحدة ولا رجل واحد بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ واتفاق المسلمين. وإن كان لا يورث فالخصم في ذلك المسلمون فكذلك لا تقبل عليهم شهادة امرأة واحدة ولا رجل واحد باتفاق المسلمين ولا رجل وامرأة. نعم يحكم في مثل ذلك بشهادة ويمين الطالب عند فقهاء الحجاز وفقهاء أهل الحديث. وشهادة الزوج لزوجته فيها قولان مشهوران للعلماء هما روايتان عن أحمد: إحداهما لا تقبل وهي مذهب أبي حنيفة ومالك والليث بن سعد والأوزاعي وإسحاق وغيرهم رضي الله عنهم، والثانية تقبل وهي مذهب الشافعي وأبي ثور وابن المنذر.] فعلى هذا لو قدر صحة هذه القضية لما جاز للإمام أن يحكم بشهادة رجل واحد أو امرأة بالاتفاق، لا سيما وأكثرهم لا يجيزون شهادة الزوج.

[وقوله: "وقد رووا جميعا أن رسول الله ﷺ قال: أم أيمن امرأة من أهل الجنة" فهذا احتجاج جاهل يريد أن يحتج لنفسه فيحتج عليها. فإن هذا القول لو قاله الحجاج بن يوسف أو المختار بن أبي عبيد وأمثالهما لكان قد قال حقا، فإن امرأة واحدة لا يقبل قولها في الحكم بالمال لمدع يريد أن يأخذ ما هو في الظاهر لغيره، فكيف إذا حكي مثل هذا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.. وأما الحديث الذي ذكره وزعم أنهم روو. ه جميعا فهذا الخبر لا يعرف في شيء من دواوين الإسلام ولا نعرف عالما من العلماء رواه. وأم أيمن هي أم أسامة بن زيد، وهي حاضنة النبي ﷺ وهي من المهاجرات، ولها حق حرمة. لكن الرواية عن النبي ﷺ لا تكون بالكذب عليه وعلى أهل العلم. وقول القائل رووا جميعا لا يكون إلا في خبر متواتر، فمن ينكر حديث النبي ﷺ أنه لا يورث وقد رواه أكابر الصحابة ثم يقول إنهم جميعا رووا هذا الحديث إنما يكون من أجهل الناس وأعظمهم جحدا للحق. وبتقدير أن يكون النبي ﷺ قد أخبر أنها من أهل الجنة فهو كإخباره عن غيرها أنه من أهل الجنة، وقد أخبر عن كل واحد من العشرة أنه في الجنة وقال: «لا يدخل أحد النار ممن بايع تحت الشجرة» وهذا الحديث في الصحيح ثابت عند أهل العلم بالحديث. وحديث الشهادة لهم بالجنة رواه أهل السنن من غير وجه من حديث عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد. فهذه الأحاديث هي المعروفة عند أهل العلم بالحديث. ثم هؤلاء يكذّبون من علم أن الرسول شهد لهم بالجنة وينكرون عليهم كونهم لم يقبلوا شهادة امرأة زعموا أنه شهد لها بالجنة؛ فهل يكون أعظم من جهل هؤلاء وعنادهم. ثم يقال: كون الرجل من أهل الجنة لا يوجب قبول شهادته لجواز أن يغلط في الشهادة، ولهذا لو شهدت خديجة وفاطمة وعائشة ونحوهن ممن يعلم أنهن من أهل الجنة لكانت شهادة إحداهن نصف شهادة رجل كما حكم بذلك القرآن؛ كما أن ميراث إحداهن نصف ميراث رجل وديتها نصف دية رجل. وهذا كله باتفاق المسلمين. فكون المرأة من أهل الجنة لا يوجب قبول شهادتها لجواز الغلط عليها. فكيف وقد يكون الإنسان ممن يكذب ويتوب من الكذب ثم يدخل الجنة.

وقوله: "إن عليا شهد لها فرد شهادته لكونه زوجها"؛ فهذا مع كونه كذبا لو صح لم يقدح، إذ كانت شهادة الزوج مردودة عند أكثر العلماء، ومن قبلها منهم لم يقبلها حتى يتم النصاب إما برجل آخر أو بإمرأة مع امرأة. وأما الحكم بشهادة رجل وامرأة مع عدم يمين المدعي فهذا لا يسوغ.

وقوله: "إنهم رووا جميعا أن رسول الله ﷺ قال علي مع الحق والحق يدور معه حيث دار ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض" من أعظم الكلام كذبا وجهلا. فإن هذا الحديث لم يروه أحد عن النبي ﷺ لا بإسناد صحيح ولا ضعيف؛ فكيف يقال إنهم جميعا رووا هذا الحديث، وهل يكون أكذب ممن يروي عن الصحابة والعلماء أنهم رووا حديثا والحديث لا يعرف عن أحد منهم أصلا، بل هذا من أظهر الكذب. ولو قيل رواه بعضهم وكان يمكن صحته لكان ممكنا. وهو كذب قطعا على النبي ﷺ وينزه عنه رسول الله ﷺ. أما أولا فلأن الحوض إنما يرده عليه أشخاص؛ أما الحق فليس من الأشخاص الذين يردون الحوض والحق الذي يدور مع الشخص ويدور الشخص معه فهو صفة لذلك الشخص لا يتعداه. وأيضا فالحق لا يدور مع شخص غير النبي ﷺ ولو دار الحق مع علي حيثما دار لوجب أن يكون معصوما كالنبي ﷺ وهم من جهلهم يدعون ذلك ولكن من علم أنه لم يكن بأولى بالعصمة من أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم -وليس فيهم من هو معصوم- علم كذبهم. وفتاويه من جنس فتاوى أبي بكر وعمر وعثمان، ليس هو أولى بالصواب منهم ولا في أقوالهم من الأقوال المرجوحة أكثر مما قاله. ولا كان ثناء النبي ﷺ ورضاه عنه بأعظم من ثنائه عليهم ورضائه عنهم.

بل لو قال القائل إنه لا يعرف من النبي ﷺ أنه عتب على عثمان في شيء وقد عتب على علي في غير موضع لما أبعد. فإنه لما أراد أن يتزوج بنت أبي جهل واشتكته فاطمة لأبيها وقالت: إن الناس يقولون إنك لا تغضب لبناتك، فقام خطيبا وقال: «إن بني [هشام بن] المغيرة استأذنوني أن يزوجوا بنتهم علي بن أبي طالب وإني لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم فإنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها» ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فقال: «حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي» وهو حديث صحيح أخرجاه في الصحيحين.

وكذلك لما طرقه وفاطمة ليلا فقال: «ألا تصليان» فقال له علي: إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا فانطلق وهو يضرب فخذه ويقول: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا}.

وأما الفتاوى قد أفتى أن المتوفى عنها زوجها وهي حامل تعتد أبعد الأجلين. وهذه الفتيا كان قد أفتى بها أبو السنابل بن بعكك على عهد النبي ﷺ فقال النبي ﷺ: «كذب أبو السنابل». وأمثال ذلك كثيرة.

ثم بكل حال لا يجوز أن يحكم بشهادته وحده كما لا يجوز له أن يحكم لنفسه.

وإن ما ذكره عن فاطمة أمر لا يليق بها ولا يحتج بذلك إلا رجل جاهل يحسب أنه يمدحها وهو يجرحها. فإنه ليس فيما ذكر ما يوجب الغضب عليه إذ لم يحكم لو كان ذلك صحيحا إلا بالحق الذي لا يحل لمسلم أن يحكم بخلافه. ومن طلب أن يحكم له بغير حكم الله ورسوله فامتنع فغضب وحلف أن لا يكلم الحاكم ولا صاحب الحاكم لم يكن هذا مما يحمد عليه ولا مما يذم به الحاكم بل هذا إلى أن يكون جرحا أقرب منه إلى أن يكون مدحا. ونحن نعلم أن ما يحكى عن فاطمة وغيرها من الصحابة من القوادح كثير منها كذب وبعضها كانوا فيه متأولين. وإذا كان بعضها ذنبا فليس القوم معصومين بل هم مع كونهم أولياء الله من أهل الجنة لهم ذنوب يغفرها الله لهم. وكذلك ما ذكره من حلفها أنها لا تكلمه ولا صاحبه حتى تلقى أباها وتشتكي إليه أمر لا يليق أن يذكر عن فاطمة رضي الله عنها، فإن الشكوى إنما تكون إلى الله تعالى كما قال العبد الصالح: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} وفي دعاء موسى عليه السلام: "اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان" وقال النبي ﷺ لابن عباس: «إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله» ولم يقل: سلني واستعن بي. وقد قال تعالى: {فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب}

ومن المعلوم أن طالبا إذا طلب مالا من ولي الأمر فلم يعطه إياه لكونه لا يستحقه عنده وهو بأخذه لم يعطه لأحد من أهله ولا أصدقائه بل أعطاه لجميع المسلمين وقيل إن الطالب غضب على الحاكم كان غاية ذلك أنه غضب لكونه لم يعطه مالا وقال الحاكم إنه لغيرك لا لك، فأي مدح للطالب في هذا الغضب ولو كان مظلوما محضا لم يكن غضبه إلا للدنيا؟ وكيف والتهمة عند الحاكم الذي لا يأخذ لنفسه أبعد من التهمة عند الطالب الذي [يريد أن] يأخذ لنفسه، فكيف تحال التهمة على من لا يأخذ لنفسه مالا ولا تحال على من يطلب لنفسه المال. وكذلك الحاكم يقول إنما أمنع لله لأني لا يحل لي أن آخذ المال من مستحقه فأدفعه إلى غير مستحقه، والطالب يقول إنما أغضب لحظ قليل من المال. أليس من يذكر مثل هذا عن فاطمة ويجعله من مناقبها جاهلا؟ أوليس الله قد ذم المنافقين الذين قال فيهم: {ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون * ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون} فذكر قوما رضوا أن أعطوا وغضبوا أن لم يعطوا فذمهم بذلك. فمن مدح فاطمة بما فيه شبه من هؤلاء أفلا يكون قادحا فيها؟ فقاتل الله الرافضة وانتصف لأهل البيت منهم فإنهم ألصقوا فيهم من العيب والشين ما لا يخفى على ذي عين.

ولو قال قائل فاطمة لا تطلب إلا حقها لم يكن هذا بأولى من قول القائل أبو بكر لا يمنع يهوديا ولا نصرانيا حقه فكيف يمنع سيدة نساء العالمين حقها، فإن الله تعالى ورسوله ﷺ قد شهد لأبي بكر أنه ينفق ماله لله، فكيف يمنع الناس أموالهم وفاطمة رضي الله عنها قد طلبت من النبي ﷺ مالا فلم يعطها إياه كما ثبت في الصحيحين عن علي رضي الله عنه في حديث الخادم: لما ذهبت فاطمة إلى النبي ﷺ تسأله خادما فلم يعطها خادما وعلمها التسبيح. وإذا جاز أن تطلب من النبي ﷺ ما يمنعها النبي ﷺ إياه ولا يجب أن يعطيها إياه جاز أن تطلب ذلك من أبي بكر خليفة رسول الله ﷺ وعلم أنها ليست معصومة أن تطلب مالا يجب إعطاؤها إياه. وإذا لم يجب عليه الإعطاء لم يكن مذموما بترك ما ليس بواجب وإن كان مباحا. أما إذا قدرنا أن الإعطاء ليس بمباح فإنه يستحق أن يحمد على المنع. وأما أبو بكر فلم يعلم أنه منع أحدا حقه لا في حياة رسول الله ﷺ ولا بعد موته.

وكذلك ما ذكره من إيصائها أن تدفن ليلا ولا يصلى عليها أحد منهم: لا يحكيه عن فاطمة ويحتج به إلا رجل جاهل يطرق على فاطمة ما لا يليق بها. وهذا لو صح لكان بالذنب المغفور أولى منه بالسعي المشكور، فإن صلاة المسلم على غيره زيادة خير يصل إليه. ولا يضر أفضل الخلق أن يصلى عليه شر الخلق. وهذا رسول الله ﷺ يصلي عليه الأبرار والفجار والمنافقون وهذا إن لم ينفعه لم يضره. وهو يعلم أن في أمته منافقين ولم ينه أحدا من أمته عن الصلاة عليه. بل قال وأمر الناس كلهم بالصلاة والسلام عليه مع أن فيهم المؤمن والمنافق. فكيف يذكر في معرض الثناء عليها والاحتجاج لها مثل هذا الذي لا يحكيه ولا يحتج به إلا مفرط في الجهل. ولو أوصى موص بأن المسلمين لا يصلون عليه لم تنفذ وصيته فإن صلاتهم عليه خير له بكل حال. ومن المعلوم أن إنسانا لو ظلمه ظالم فأوصى بأن لا يصلى عليه ذلك الظالم لمن يكن هذا من الحسنات التي يحمد عليها ولا ذلك مما أمر الله به رسوله. فمن يقصد مدح فاطمة وتعظيمها كيف يذكر مثل هذا الذي لا مدح فيه بل المدح في خلافه كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع.

وأما قوله: "رووا جميعا أن النبي ﷺ قال: يا فاطمة إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك" فهذا كذب منه، ما رووا هذا عن النبي ﷺ ولا يعرف هذا في شيء من كتب الحديث المعروفة، ولا الإسناد معروف عن النبي ﷺ لا صحيح ولا حسن. ونحن إذا شهدنا لفاطمة بالجنة وبأن الله يرضى عنها فنحن لأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعيد وعبد الرحمن بن عوف بذلك نشهد، ونشهد بأن الله تعالى أخبر برضاه عنهم في غير موضع كقوله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} وقوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} وقد ثبت أن النبي ﷺ توفي وهو عنهم راض. ومن رضي الله عنه ورسوله لا يضره غضب أحد من خلقه كائنا من كان. ولأن من رضي الله عنه يكون رضاه موافقا لرضا الله فهو راض عن الله بحكم الله [وحكم الله] موافق لرضاه، وإذا رضوا بحكمه غضبوا لغضبه، فإن من رضي برضى غيره لزم أن يغضب لغضبه، فإن الغضب إذا كان مرضيا لك فعلت ما هو مرضي لك، وكذلك الرب تعالى -وله المثل الأعلى- إذا رضي عنهم غضب لغضبهم إذ هو راض عنهم. 2

وأما قوله: "رووا جميعا أن فاطمة بضعة مني من آذاها آذاني ومن آذاني آذى الله" فإن هذا الحديث لم يرو بهذا اللفظ بل روي بغيره كما ذكر في حديث خطبة علي لابنة أبي جهل لما قام النبي ﷺ خطيبا فقال: «إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب وإني لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم» وفي رواية: «إني أخاف أن تفتتن في دينها» ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه فقال: «حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي وإني لست أحل حراما ولا أحرم حلالا ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدا» رواه البخاري ومسلم في الصحيحين من رواية علي بن الحسين [زين العابدين] والمسور بن مخرمة.

فسبب الحديث خطبة علي رضي الله عنه لابنة أبي جهل والسبب داخل في اللفظ قطعا، إذ اللفظ الوارد على السبب لا يجوز إخراج سببه بل السبب يجب دخوله بالاتفاق. وقد قال في الحديث: «يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها» ومعلوم قطعا أن خطبة ابنة أبي جهل عليها رابها وآذاها، والنبي ﷺ رابه ذلك وآذاه، فإن كان هذا وعيدا لاحقا بفاعله لزم أن يلحق هذا الوعيد علي بن أبي طالب؛ وإن لم يكن وعيدا لاحقا بفاعله كان أبو بكر أبعد عن الوعيد من علي. وإن قيل إن عليا تاب من تلك الخطبة ورجع عنها قيل فهذا يقتضي أنه غير معصوم. وإذا جاز أن من راب فاطمة وآذاها يذهب ذلك بتوبته جاز أن يذهب بغير ذلك من الحسنات الماحية. فإن ما هو أعظم من ذلك الذنب تذهب به الحسنات الماحية والتوبة والمصائب المكفرة. وذلك أن هذا الذنب ليس من الكفر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة. ولو كان كذلك لكان علي والعياذ بالله قد ارتد عن الإسلام في حياة النبي ﷺ، ومعلوم أن الله تعالى نزه عليا من ذلك. والخوارج الذين قالوا إنه ارتد بعد موت النبي ﷺ لم يقولوا إنه ارتد في حياته، إذ من ارتد في حياة النبي ﷺ فلا بد أن يعود إلى الإسلام أو يقتله النبي ﷺ وهذا لم يقع. وإذا كان هذا الذنب هو مما دون الشرك فقد قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وإن قالوا بجهلهم إن هذا الذنب كفر ليكفروا بذلك أبا بكر لزمهم تكفير علي. واللازم باطل فالملزوم مثله. وهم دائما يعيبون أبا بكر وعمر وعثمان ويكفرونهم بأمور قد صدر من علي ما هو مثلها أو أبعد عن العذر منها، فإن كان مأجورا أو معذورا فهم أولى بالأجر والعذر. وإن قيل بإستلزام الأمر الأخف فسقا أو كفرا كان إستلزام الأغلظ لذلك أولى.

وأيضا فيقال إن فاطمة رضي الله عنها إنما عظم أذاها لما في ذلك من أذى أبيها، فإذا دار الأمر بين أذى أبيها وأذاها كان الاحتراز عن أذى أبيها أوجب. وهذا حال أبي بكر وعمر، فإنهما احترزا أن يؤذيا أباها أو يريباه بشيء فإنه عهد عهدا وأمر أمرا فخافا إن غيرا عهده وأمره أن يغضب لمخالفة أمره وعهده ويتأذى بذلك. وكل عاقل يعلم أن رسول الله ﷺ إذا حكم بحكم وطلبت فاطمة أو غيرها ما يخالف ذلك الحكم كان مراعاة حكم النبي ﷺ أولى؛ فإن طاعته واجبة ومعصيته محرمة ومن تأذى لطاعته كان مخطئا لتأذيه بذلك، وكان الموافق لطاعته مصيبا في طاعته. وهذا بخلاف من آذاها لغرض بعينه لا لأجل طاعة الله ورسوله. ومن تدبر حال أبي بكر في رعايته لأمر النبي ﷺ وأنه إنما قصد طاعة الرسول ﷺ لا لأمر آخر علم أن حاله أكمل وأفضل وأعلى من حال علي رضي الله عنه، وكلاهما سيد كبير من أكابر أولياء الله المتقين وحزب الله المفلحين وعباد الله الصالحين ومن السابقين الأولين ومن أكابر المقربين الذين يشربون بالتسنيم. ولهذا كان أبو بكر رضي الله عنه يقول: "والله لقرابة رسول الله ﷺ أحب إلي من أن أصل من قرابتي" وقال: "ارقبوا محمدا ﷺ في أهل بيته" رواه البخاري عنه. لكن المقصود أنه لو قدر أن أبا بكر آذاها فلم يؤذها لغرض نفسه بل ليطيع الله ورسوله ويوصل الحق إلى مستحقه، وعلي رضي الله عنه كان قصده أن يتزوج عليها فله في أذاها غرض بخلاف أبي بكر؛ فعلم أن أبا بكر كان أبعد أن يذم بأذاها من علي، وأنه إنما قصد طاعة الله ورسوله بما لا حظ له فيه، بخلاف علي فإنه كان له حظ فيما رابها به. وأبو بكر كان من جنس من هاجر إلى الله ورسوله وهذا لا يشبه من كان مقصوده امرأة يتزوجها. والنبي ﷺ يؤذيه ما يؤذي فاطمة إذا لم يعارض ذلك أمر الله تعالى، فإذا أمر الله تعالى بشيء فعله وإن تأذى من تأذى من أهله وغيرهم، فهو في حال طاعة الله يؤذي ما يعارض طاعة الله ورسوله. وهذا الإطلاق كقوله: «من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني» ثم قد بيّن ذلك بقوله ﷺ: «إنما الطاعة الأولى في المعروف» فقوله: "من آذاها فقد آذاني" يُحمل على الأذى في المعروف بطريق الأولى والأحرى لأن طاعة أمرائه فرض وضدها معصية كبيرة. وأما فعل ما يؤذي فاطمة فليس هو بمنزلة معصية أمر رسول الله ﷺ، وإلا لزم أن يكون علي فعل ما هو من معصية الله ورسوله، فإن معصية أمرائه معصيته ومعصيته معصية الله.

أما قوله: "لو كان هذا الخبر صحيحا لما جاز له أن يترك البغلة والسيف والعمامة عند علي حين حكم له بها لما ادعاها العباس"

فيقال: ومن نقل أن أبا بكر وعمر حكما بذلك لأحد أو تركا ذلك عند أحد على أن يكون ملكا له؟ فهذا من أبين الكذب عليهما بل غاية هذا أن يترك عند من ترك عنده، كما تركا صدقته عند علي والعباس ليصرفاها في مصارفها الشرعية.

وأما قوله: "ولكان أهل البيت الذين طهرهم الله في كتابه مرتكبين ما لا يجوز"

فيقال له أولا: إن الله تعالى لم يخبر أنه طهر جميع أهل البيت وأذهب عنهم الرجس، فإن هذا كذب على الله كيف ونحن نعلم أن من بني هاشم من ليس بمطهر من الذنوب ولا أذهب عنهم الرجس لا سيما عند الرافضة، لأن عندهم كل من كان من بني هاشم يحب أبا بكر وعمر رضي الله عنهم ليس بمطهر. ولأنه إنما قال فيها: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} وقد تقدم أن هذا مثل قوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ويتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} وقوله: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم} ونحو ذلك مما فيه أن الله يحب ذلك لكم ويرضاه لكم ويأمركم به، فمن فعله حصل له هذا المراد المحبوب، ومن لم يفعله لم يحصل له ذلك. وقد بسط هذا في غير الموضع وبين أن هذا ألزم لهؤلاء الرافضة القدرية فإن عندهم أن إرداة الله بمعنى أمره لا بمعنى أنه يفعل ما أراد، فلا يلزم إذا أراد الله تطهير أحد أن يكون ذلك قد تطهر ولا يجوز عندهم أن يطهر أحد أحدا بل من أراد الله تطهيره فإن شاء طهر نفسه وإن شاء لم يطهرها ولا يقدر الله عندهم على تطهير أحد.

وأما قوله: "إن الصدقة محرمة عليهم" فيقال له أولا: المحرم عليهم صدقة الفرض، وأما صدقة التطوع فقد كانوا يشربون من المياه المسبلة بين مكة والمدينة ويقولون إنما حرم علينا الفرض ولم يحرم علينا التطوع. وإذا جاز أن ينتفعوا بصدقات الأجانب التي هي تطوع فانتفاعهم بصدقة النبي ﷺ أولى وأحرى، فإن هذه الأموال لم تكن زكاة مفروضة على النبي ﷺ -وهي أوساخ الناس التي حرمت عليهم- وإنما هي من الفيء الذي أفاءه الله على رسوله، والفيء لهم، والنبي ﷺ جعل ما جعله الله له من الفيء صدقة، وغايته أن يكون ملكا للنبي ﷺ تصدق به على المسلمين، وأهل بيته أحق بصدقته، فإن الصدقة على المسلمين صدقة والصدقة على القرابة صدقة وصلة.

وأما معارضته لحديث جابر رضي الله عنه فيقال جابر لم يدع حقا لغير يُنتزع من ذلك الغير ويجعل له، وإنما طلب شيئا من بيت المال يجوز للإمام أن يعطيه إياه ولو لم يعده به النبي ﷺ، فإذا وعده به كان أولى بالجواز، فلهذا لم يفتقر إلى بينة] ولهذا كان أبو بكر وعمر يعطيان عليا والعباس وبني هاشم كما أعطى جابرا من بيت المال. قال الرافضي: وسموه خليفة رسول الله ﷺ وما استخلفه [في حياته ولا بعد وفاته] ولم يسموا عليا خليفة رسول الله ﷺ مع أنه استخلفه على المدينة وقال له: إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك. وأمر أسامة على جيش فيه أبو بكر وعمر ولم يعزله، ولم يسموه خليفة رسول الله ﷺ. ولما تولى أبو بكر غضب أسامة وقال: إني أمرت عليك فمن استخلفك علي؟ فمشى إليه هو وعمر حتى استرضياه.

والجواب أن الخليفة معناه الذي يخلف غيره كما هو المعروف في اللغة أو أن يكون من استخلفه غيره كقول الشيعة وبعض الظاهرية. فعلى الأول أبو بكر خليفة رسول الله ﷺ خلفه بعد موته وقام مقامه وكان أحق بها وأهلها [فكان هو الخليفة دون غيره ضرورة فإن الشيعة وغيرهم لا ينازعون في أنه هو صار ولي الأمر بعده وصار خليفة له يصلي بالمسلمين ويقيم فيهم الحدود ويقسم عليهم الفيء ويغزو بهم ويولي عليهم العمال والأمراء وغير ذلك من الأمور التي يفعلها ولاة الأمور. فهذه باتفاق إنما باشرها بعد موته ﷺ أبو بكر فكان هو الخليفة للرسول ﷺ فيها قطعا.]

وعلى الثاني إن بعض أهل السنة يقولون استخلفه النبي ﷺ بنص جلي أو خفي. [ودعوى أولئك للنص الجلي أو الخفي على أبي بكر أقوى وأظهر بكثير من دعوى الشيعة للنص على علي لكثرة النصوص الثابتة الدالة على خلافة أبي بكر. وإن عليا لم يدل على خلافته إلا ما يعلم أنه كذب أو يعلم أنه لا دلالة فيه. وعلى هذا التقدير فلم يستخلف بعد موته أحدا إلا أبا بكر فلهذا كان هو الخليفة. فإن الخليفة المطلق هو من خلفه بعد موته أو استخلفه بعد موته؛ وهذان الوصفان لم يثبتا إلا لأبي بكر فلهذا كان الخليفة.]

وأما استخلافه عليا على المدينة فليس خاصا به فقد استخلف عليها ابن أم مكتوم و[عثمان بن عفان] وأبا لبابة بن عبد المنذر، وهذا ليس هو استخلافا مطلقا ولهذا لم يُقل في أحد من هؤلاء إنه خليفة رسول الله ﷺ إلا مع التقييد.

والنبي ﷺ إنما شبه عليا بهارون في أصل الاستخلاف لا في كماله، وإلا فاستخلاف موسى لهارون كان على بني إسرائيل إذ ذهب إلى المناجاة بخلاف النبي ﷺ، وعلى أنه كان مع النبي ﷺ غالب الناس.

وأما قوله: "إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك" فهذا كذب موضوع. فقد كان علي معه في بدر وخيبر وحنين وغير ذلك، واستعمل غيره عليها.

ولم يكن أبو بكر في جيش أسامة بل كان النبي ﷺ استخلفه في الصلاة من أول مرضه. وأمراء السرايا كأسامة وغيره لم يسموا خلفاء لأنهم لا خلفوا الرسول بعد موته ولا خلفوه في كل شيء في حياته.

وأما غضب أسامة فكذب بارد، لأن أسامة كان أبعد شيء عن الفرقة والخلاف، وقد اعتزل القتال مع علي ومع معاوية ثم لم يكن قرشيا ولا ممن يصلح للخلافة بوجه. ثم لو قدر أن النبي ﷺ أمره على أبي بكر ثم مات واستخلف أبو بكر، فإلى الخليفة إنفاذ الجيش وحبسه وتأمير أسامة وعزله؛ وهذا لا ينكره إلا جاهل.

والعجب من هؤلاء [المفترين] ومن قولهم إن أبا بكر وعمر مشيا إليه واسترضياه مع قولهم إنهما قهرا عليا والعباس وبني هاشم وبني عبد مناف ولم يسترضوهم! وأي حاجة بمن قهروا أشراف قريش أن يسترضوا [ضعيفا] ابن تسع عشرة سنة لا مال له ولا رجال؟ [فإن] قالوا: استرضياه لحب رسول الله ﷺ إياه وتوليته له، قيل: فأنتم تدعون أنهما بدلا عهده ووصيته. قال: "وسموا عمر الفاروق ولم يسموا عليا بذلك مع قول النبي ﷺ فيه: هذا فاروق أمتي".

قلنا: ما هذا بأول حديث كذبتموه ولا نعرف له إسنادا البتة. فما محبتكم عليا إلا من جنس محبة النصارى عيسى بن مريم: أطروه وبالغوا، ولم يرضوا له بالمنزلة التي جعلها الله له. وبهذا يتبين الحديث الذي رواه مسلم عن علي أنه [قال]: «لعهد النبي الأمي إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق» فإن الرافضة لا تحبه على ما هو عليه وتبغض نعته من وجه، كما كان النصارى واليهود يبغضون من صدق بالنبي ﷺ وأقر به. فموسى وعيسى عليهما السلام مقران بذلك، وكما أن عليا يحب أبا بكر وعمر قطعا. والرافضة يبغضون من أحبهما فهم داخلون في قوله ﷺ: «لا يبغضك إلا منافق» وهكذا نجد كل من أحب شيخا على صفة ما هو قائم بهما في نفس الأمر. كمن اعتقد أن شيخه يشفع في كل مريديه وأنه يرزقه وينصره ويفرج كربته ويعينه في الضرورات أو أنه يعلم المغيبات. وقد قال النبي ﷺ: «لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله اليوم الآخر» ودعا لأبي هريرة وأمه أن يحببهما الله إلى عباده المؤمنين. وقال: "روى ابن عمر قال: ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغضهم عليا".

فهذا يعلم كل عالم أنه كذب، إذ للنفاق علامات كثيرة. وقد قال عليه السلام: «آية النفاق بغض الأنصار» وقال: «آية المنافق ثلاث..» وقد قال تعالى [في القرآن في صفة المنافقين: {ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا} {ومنهم الذين يؤذون النبي} ﷺ {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني} ومنهم من يقول: {أيكم زادته هذه إيمانا} وذكر لهم سبحانه وتعالى في سورة براءة وغيرها من العلامات والصفات ما لا يسع هذا الموضع بسطه. بل لو قال: كنا نعرف المنافقين ببغض علي لكان متجها كما أنهم يُعرفون أيضا ببغض الأنصار، بل وببغض أبي بكر وعمر وببغض غير هؤلاء؛ فإن كل من أبغض ما يعلم أن النبي ﷺ يحبه ويواليه وأنه كان يحب النبي ﷺ ويواليه كان بغضه شعبة من شعب النفاق والدليل يطرد ولا ينعكس. ولهذا كان أعظم الطوائف نفاقا المبغضين لأبي بكر لأنه لم يكن في الصحابة أحب إلى النبي ﷺ منه ولا كان فيهم أعظم حبا للنبي ﷺ منه، فبغضه من أعظم آيات النفاق. ولهذا لا يوجد المنافقون في طائفة أعظم منها في مبغضيه كالنصيرية والإسماعيلية ونحوهم.] قال: "وعظموا أمر عائشة على باقي نسوانه ﷺ وقد كان يكثر من ذكر خديجة"

قلنا: أهل السنة لم يجمعوا على أن عائشة أفضلهن. وحجة من فضلها قوله عليه السلام: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد -يعني اللحم والخبز- على سائر الطعام» وقال عمرو [بن العاص رضي الله عنه قلت: يا رسول الله أي النساء أحب إليك؟ قال: «عائشة» قلت: ومن الرجال؟ قال: «أبوها» قلت: ثم من؟ قال: «عمر» وسمّى رجالا.

وهؤلاء يقولون: قوله لخديجة: ما أبدلني الله خيرا منها، إن صح فمعناه ما أبدلني خيرا لي منها. فإن خديجة نفعته في أول الإسلام نفعا لم يقم غيرها فيه مقامها، فكانت خيرا له من هذا الوجه لكونها نفعته وقت الحاجة. وعائشة صحبته في آخر النبوة وكمال الدين فحصل لها من العلم والإيمان ما لم يحصل لمن لم يدرك إلا أول النبوة. فكانت أفضل لهذه الزيادة، فإن الأمة انتفعت بها أكثر مما انتفعت بغيرها وبلغت من العلم والسن ما لم يبلغه غيرها. فخديجة كان خيرها مقصورا على نفس النبي ﷺ لم تبلّغ عنه شيئا ولم تنتفع بها الأمة كما انتفعت بعائشة، ولأن الدين لم يكن قد كمل حتى تعلمه ويحصل لها من كمالاته ما حصل لمن علم وآمن به بعد كماله. ومعلوم أن من اجتمع همه على شيء واحد كان أبلغ ممن تفرق همه في أعمال متنوعة، فخديجة رضي الله عنها خير له من هذا الوجه. لكن أنواع البر لم تنحصر في ذلك. ألا ترى أن من كان من الصحابة أعظم إيمانا وأكثر جهادا بنفسه وماله كحمزة وعلي وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وغيرهم وهم أفضل ممن كان يخدم النبي ﷺ وينفعه في نفسه أكثرَ منهم، كأبي رافع وأنس بن مالك وغيرهما.

وفي الجملة الكلام في تفضيل عائشة وخديجة ليس هذا موضع استقصائه. لكن المقصود هنا أن أهل السنة مجمعون على تعظيم عائشة ومحبتها، وأن نساءه أمهات المؤمنين اللواتي مات عنهن كانت عائشة أحبهن إليه وأعظمهن حرمة عند المسلمين. وقد ثبت في الصحيح أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة لما يعلمون من محبته إياها، حتى إن نساءه غرن من ذلك وأرسلن إليه فاطمة رضي الله عنها تقول له: نساؤك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، فقال لفاطمة: «أي بنية أما تحبين ما أحب؟» قالت: بلى، قال: «فأحبي هذه» الحديث في الصحيحين.

وفي الصحيحين أيضا أن النبي ﷺ قال: «يا عائشة هذا جبريل يقرأ عليك السلام» قالت: وعليه السلام ورحمة الله، ترى ما لا نرى.

ولما أراد فراق سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة رضي الله عنها بإذنه ﷺ. وكان في مرضه الذي مات فيه يقول: «أين أنا اليوم؟» استبطاءً ليوم عائشة ثم استأذن نساءه أن يمرّض في بيت عائشة رضي الله عنها فمُرّض فيه. وفي بيتها توفي بين سحرها ونحرها وفي حجرها وجمع بين ريقها وريقه.

وكانت رضي الله عنها مباركة على أمته حتى قال أسيد بن حضير لما أنزل الله آية التيمم بسببها: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله فيه للمسلمين بركة.

وقد كانت نزلت آية براءتها قبل ذلك لما رماها أهل الإفك فبرأها الله من فوق سبع سموات وجعلها من الصينات وبالله التوفيق.] قال: وأذاعت سر رسول الله ﷺ -يعني قوله تعالى: {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا}- وثبت في الصحيح أنهما عائشة وحفصة. قال: وقال لها النبي ﷺ: إنك تقاتلين عليا وأنت ظالمة له. فخالفت أمر الله: {وقرن في بيوتكن} وخرجت في ملأ تقاتل عليا لأن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان وكانت هي كل وقت تأمر بقتله وتقول: اقتلوا نعثلا. وكيف استجاز طلحة والزبير وعشرة آلاف من المسلمين مطاوعتها على قتال علي وبأي وجه يلقون رسول الله ﷺ، والواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره وأخرجها [من بيتها] وسافر بها كان أشد الناس عداوة له. وكيف طاوعوها ولم ينصر أحد منهم بنت رسول الله ﷺ على أبي بكر لما طلبت حقها.

قلنا: أما أهل السنة فإنهم قائمون بالقسط وقولهم عدل لا يتناقض. وأما الرافضة وأهل البدع فذوو أهواء وتناقض. فمن ذلك أن أهل السنة عندهم أن أهل بدر في الجنة وكذلك أمهات المؤمنين. ويقولون ليس من شرطهم سلامتهم عن الخطأ [بل ولا عن الذنب بل يجوّزون أن يذنب الرجل منهم ذنبا صغيرا أو كبيرا ويتوب منه. وهذا متفق عليه بين المسلمين. ولو لم يتب منه فالصغائر تمحى باجتباب الكبائر عند جماهيرهم. بل وعند الأكثرين منهم أن الكبائر تمحى بالحسنات التي هي أعظم منها وبالمصائب المكفرة وغير ذلك.

وإذ كان هذا أصلهم فيقولون: ما ذكر عن الصحابة من السيئات كثير منه كذب وكثير منه كانوا مجتهدين فيه، ولكن لا يعرف كثير من الناس وجه اجتهادهم. وما قدر أنه كان فيه ذنب من الذنوب لهم فهو مغفور لهم إما بتوبة وإما بحسنات ماحية وإما بمصائب مكفرة وإما بغير ذلك. فإنه قد قام الدليل الذي يجب القول بموجبه أنهم من أهل الجنة، فامتنع أن يفعلوا ما يوجب النار لا محالة. وإذا لم يمت أحدهم على موجب النار لم يقدح ذلك في استحقاقهم للجنة. ونحن قد علمنا أنهم من أهل الجنة. ولو لم يعلم أن أولئك المعينين في الجنة لم يجز لنا أن نقدح في استحقاقهم للجنة بأمور لا نعلم أنها توجب النار، فإن هذا لا يجوز في آحاد المؤمنين الذين لم يعلم أنهم يدخلون الجنة، وليس لنا أن نشهد لأحد منهم بالنار لأمور محتملة لا تدل على ذلك؛ فكيف يجوز ذلك في خيار المؤمنين، والعلم بتفاصيل أحوال كل واحد منهم باطنا وظاهرا وحسناته وسيئاته واجتهاداته أمر يتعذر علينا معرفته، فكان كلامنا في ذلك كلاما فيما لا نعلمه والكلام بلا علم حرام. فلهذا كان الإمساك عما شجر بين الصحابة خيرا من الخوض في ذلك بغير علم بحقيقة الأحوال، إذ كان كثير من الخوض في ذلك أو أكثره كلاما بلا علم وهذا حرام لو لم يكن فيه هوى ومعارضة الحق المعلوم، فكيف إذا كان كلاما لهوى يطلب فيه دفع الحق المعلوم. وقد قال النبي ﷺ: «القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» فإذا كان هذا في قضاء بين اثنين في قليل المال أو كثيره فكيف القضاء بين الصحابة في أمور كثيرة، فمن تكلم في هذا الباب بجهل أو بخلاف ما يعلم كان مستوجبا للوعيد ولو تكلم بحق بقصد الهوى لا لوجه الله تعالى أو يعارض به حقا آخر لكان أيضا مستوجبا للذم والعقاب.

ومن علم ما دل عليه القرآن والسنة من الثناء على القوم ورضا الله عنهم واستحقاقهم الجنة وأنهم خير هذه الأمة التي هي {خير أمة أخرجت للناس} لم يعارض هذا المتيقن المعلوم بأمور مشتبهة منها ما لا يعلم صحته ومنها ما يتبين كذبه ومنها ما لا يعلم كيف وقع ومنها ما يعلم عذر القوم فيه ومنها ما يعلم توبتهم منه ومنها ما يعلم أن لهم من الحسنات ما يغمره. فمن سلك سبيل أهل السنة استقام قوله وكان من أهل الحق والاستقامة والاعتدال، وإلا حصل في جهل ونقص وتناقض كحال هؤلاء الضلال.

وأما قوله: "وأذاعت سر رسول الله ﷺ" فلا ريب أن الله تعالى يقول: {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير} وقد ثبت في الصحيح عن عمر أنهما عائشة وحفصة.

فيقال أولا: هؤلاء عمدوا إلى نصوص القرآن التي فيها ذكر ذنوب يتأولون النصوص بأنواع التأويلات، وأهل السنة يقولون بل أصحاب الذنوب تابوا منها ورفع الله درجاتهم بالتوبة. وهذه الآية ليست بأولى في دلالتها على الذنب من تلك الآيات. فإن كان تأويل ذلك سائغا كان تأويل هذه كذلك وإن كان تاويل هذه باطلا فتأويل تلك أبطل.

ويقال ثانيا: بتقدير أن يكون هناك ذنب لعائشة وحفصة فتكونان قد تابتا منه وهذا ظاهر لقوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} فدعاهما الله تعالى إلى التوبة فلا يظن بهما أنهما لم تتوبا مع ما ثبت من علو درجتها وأنهما زوجتا نبينا في الجنة وأن الله خيرهن بين الحياة الدنيا وزينتها وبين الله ورسوله والدار الآخرة فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة؛ ولذلك حرم عليه أن يستبدل بهن غيرهن وحرم عليه أن يتزوج عليهن، واختلف في إباحة ذلك له بعد ذلك، ومات عنهن وهن أمهات المؤمنين بنص القرآن. ثم قد تقدم أن الذنب يزول عقابه بالتوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة.

ويقال ثالثا: المذكور عن أزواجه كالمذكور عمن شهد له بالجنة من أهل بيته وغيرهم من أصحابه. فإن عليا لما خطب ابنة أبي جهل على فاطمة وقام النبي ﷺ خطيبا فقال: «إن بني [هشام بن] المغيرة استأذنوني أن ينكحوا عليا ابنتهم وإني لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم فإن فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها» فلا يظن بعلي أنه ترك الخطبة في الظاهر فقط بل تركها بقلبه وتاب بقلبه عما كان طلبه وسعى فيه.

وكذلك لما صالح النبي ﷺ المشركين يوم الحديبية وقال لأصحابه: «انحروا واحلقوا رؤوسكم» فلم يقم أحد فدخل مغضبا على أم سلمة فقالت: من أغضبك أغضبه الله؟ فقال: «ما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا يطاع» فقالت: يا رسول الله ادع بهديك فانحره وأمر الحلاق فليحلق رأسك..

وأمر عليا أن يمحو اسمه فقال: والله لا أمحوك، فأخذ الكتاب من يده ومحاه.

ومعلوم أن تأخر علي وغيره من الصحابة عما أمروا به حتى غضب النبي ﷺ إذا قال القائل هذا ذنب كان جوابه كجواب القائل إن عائشة أذنبت في ذلك. فمن الناس من يتأول ويقول إنما تأخروا متأولين لكونهم كانوا يرجون تغيير الحال بأن يدخلوا مكة، وآخر يقول لو كان لهم تأويل مقبول لم يغضب النبي ﷺ بل تابوا من ذلك التأخر ورجعوا عنه. مع أن حسناتهم تمحو مثل هذا الذنب، وعلي داخل في هؤلاء رضي الله عنهم أجمعين.]

وأما قوله: "تقاتلين عليا" فكذب. [فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال وإنما خرجت بقصد الإصلاح بين المسلمين وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها. وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال فندم طلحة والزبير وعلي رضي الله عنهم أجمعين. ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في القتال ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم.

وأما قوله: "وخالفت أمر الله في قوله تعالى: {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى}" فهي رضي الله عنها لم تتبرج تبرج الجاهلية الأولى. والأمر بالاستقرار في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة مأمور بها كما لو خرجت للحج والعمرة أو خرجت مع زوجها في سفر. فإن هذه الآية نزلت في حياة النبي ﷺ وقد سافر النبي ﷺ بهن بعد ذلك، في حجة الوداع سافر بعائشة رضي الله عنها وغيرها وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها فأردفها خلفه وأعمرها من التنعيم. وحجة الوداع كانت قبل وفاة النبي ﷺ بأقل من ثلاثة أشهر بعد نزول هذه الآية. ولهذا كن أزواج النبي ﷺ يحججن كما حججن في خلافة عمر رضي الله عنه وكان عمر يوكل بقطارهن عثمان أو عبد الرحمن بن عوف. وإذا كان سفرهن لمصلحة جائزا فعائشة اعتقدت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين فتأولت في هذا. وهذا كما أن قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} وقوله: {ولا تقتلوا أنفسكم} يتضمن قتل المؤمنين بعضهم بعضا كما في قوله: {ولا تلمزوا أنفسكم} وقوله: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} وكذلك قول النبي ﷺ: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» وقوله ﷺ: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «كان حريصا على قتل صاحبه» فلو قال قائل إن عليا ومن قاتله قد التقيا بسيفيهما وقد استحلوا دماء المسلمين فيجب أن يلحقهم الوعيد؛ فجوابه أن الوعيد لا يتناول المجتهد المتأول، وإن كان مخطئا فإن الله تعالى يقول في دعاء المؤمنين {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}: قد فعلت. وقد عفا للمؤمنين عن النسيان والخطأ. والمجتهد المخطئ مغفور له خطأه، وإذا غفر خطأ هؤلاء في قتال المؤمنين فالمغفرة لعائشة لكونها لم تقر في بيتها إذ كانت مجتهدة أولى.

وأيضا لو قال قائل إن النبي ﷺ قال: «إن المدينة تنفي خبثها وتنصع طيبها» وقال: «لا يخرج أحد من المدينة رغبة عنها إلا أبدلها الله خيرا منه» أخرجه في الموطأ، وقال إن عليا خرج منها ولم يقم بها كما أقام الخلفاء قبله ولهذا لم تجتمع عليه الكلمة؛ لكان الجواب أن المجتهد إذا كان دون علي لم يتناوله الوعيد، فعلي أولى أن لا يتناوله الوعيد لاجتهاده. وبهذا يجاب عن خروج عائشة رضي الله عنها وإذا كان المجتهد مخطئا فالخطأ مغفور بالكتاب والسنة.]

وأما قوله: "خرجت تقاتل عليا على غير ذنب" فهذا افتراء عليها. ولو قدر أن الطائفتين قصدتا القتال لكان هو القتال المذكور في قوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينها بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} فجعلهم مؤمنين إخوة مع الاقتتال.

وأما قوله: "أجمعوا على قتل عثمان" فهذا كذب سمج. فإن الجمهور لم يأمروا بقتله ولا رضوه ولم يكن أكثر المسلمين بالمدينة بل كانوا بالأمصار من بلد المغرب إلى خراسان. ولم يدخل خيار المسلمين في ذلك وإنما قتله طائفة [من المفسدين في الأرض] من أوباش القبائل ورؤوس الشر. وعن علي قال: اللهم العن قتله عثمان [في البر والبحر والسهل والجبل]. غاية ما يقال إنهم لم ينصروه وفتروا عن إعانته بما رأوه وما ظنوا أن الأمر يبلغ إلى قتله. ومن المعلوم أن المسلمين أجمعوا على بيعة عثمان وما أجمعوا على قتله. فهلا كان الإجماع على بيعته يا معشر الرافضة حقا لتيقن الإجماع عليها؟ وأيضا فإجماع الناس على بيعة أبي بكر أعظم من إجماعهم على بيعة علي وعلى قتل عثمان، فإنه ما تخلف عن أبي بكر إلا جماعة كسعد [بن عبادة] والله يغفر له. وقد قدمنا أن الرجل المشهود له بالجنة قد يذنب لانتفاء العصمة. وما قولك يا جاهل: "إن عثمان قتل بالإجماع" إلا كما قال ناصبي: قتل الحسين بإجماع المسلمين، [لأن الذين قاتلوه وقتلوه لم يدفعهم أحد عن ذلك. فلم يكن كذبه بأظهر من كذب المدعي الإجماع على قتل عثمان. فإن الحسين لم يعظم إنكار الأمة لقتله كما عظم إنكارهم لقتل عثمان ولا انتصر له جيوش كالجيوش الذين انتصروا لعثمان ولا انتقم أعوانه من أعدائه كما انتقم أعوان عثمان من أعدائه ولا حصل بقتله من الفتنة والشر والفساد ما حصل بقتل عثمان ولا كان قتله أعظم إنكارا عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من قتل عثمان. فإن عثمان من أعيان السابقين الأولين من المهاجرين من طبقة علي وطلحة والزبير، وهو خليفة للمسلمين أجمعوا على بيعته. بل لم يشهر في الأمة سيفا ولا قتل على ولايته أحدا، وكان يغزو بالمسلمين الكفار بالسيف وكان السيف في خلافته كما كان في خلافة أبي بكر وعمر مسلولا على الكفار مكفوفا عن أهل القبلة. ثم إنه طُلِبَ قتله وهو خليفة فصبر ولم يقاتل دفعا عن نفسه حتى قُتل. ولا ريب أن هذا أعظم أجرا، وقَتَلَتُه أعظم إثما ممن لم يكن متوليا فخرج يطلب الولاية ولم يتمكن حتى قاتله أعوان الذين طَلب أخذ الأمر منهم فقاتل عن نفسه حتى قتل. ولا ريب أن قتال الدافع عن نفسه وولايته أقرب من قتال الطالب لأن يأخذ الأمر من غيره. وعثمان ترك القتال دفعا عن ولايته فكان حاله أفضل من حال الحسين وقتله أشنع من قتل الحسين. كما أن الحسن رضي الله عنه وهو لم يقاتل على الأمر بل أصلح بين الأمة بترك القتال مدحه النبي ﷺ على ذلك فقال: «إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» والمنتصرون لعثمان معاوية وأهل الشام. والمنتصرون من قتلة الحسين المختار بن أبي عبيد الثقفي وأعوانه. ولا يشك عاقل أن معاوية رضي الله عنه خير من المختار فإن المختار كذاب ادعى النبوة. وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «يكون في ثقيف كذاب ومبير» فالكذاب هو المختار والمبير هو الحجاج بن يوسف. وهذا المختار كان أبوه رجلا صالحا وهو أبو عبيد الثقفي الذي قتل شهيدا في حرب المجوس وأخته صفية بنت أبي عبيد امرأة عبد الله بن عمر امرأة صالحة وكان المختار رجل سوء. وأما قوله: "إن عائشة كانت في كل وقت تأمر بقتل عثمان وتقول في كل وقت اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا ولما بلغها قتله فرحت بذلك"

فيقال أولا: أين النقل الثابت عن عائشة بذلك؟ ويقال ثانيا: إن المنقول عن عائشة يكذب ذلك ويبين أنها أنكرت قتله وذمت من قتله ودعت على أخيها محمد وغيره لمشاركتهم في ذلك. ويقال ثالثا: هب أن واحدا من الصحابة عائشة أو غيرها قال في ذلك كلمة على وجه الغضب لإنكاره بعض ما ينكر، فليس قوله حجة ولا يقدح في إيمان القائل ولا المقول له، بل قد يكون كلاهما وليا لله تعالى من أهل الجنة ويظن أحدهما جواز قتل الآخر بل ويظن كفره وهو مخطئ في هذا الظن، كما ثبت في الصحيحين عن علي وغيره في قصة حاطب بن أبي بلتعة وكان من أهل بدر والحديبية، وفي حديث علي أن حاطبا كتب إلى المشركين [بمكة] يخبرهم ببعض أمر رسول الله ﷺ لما أراد غزوة الفتح فأطلع الله نبيه على ذلك فقال لعلي والزبير: «اذهبا حتى تأتيا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب» فلما أتيا بالكتاب قال: ما هذا يا حاطب؟ فقال: والله يا رسول الله ما فعلت هذا ارتدادا ولا رضا بالكفر ولكن كنت امرءا ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم بمكة قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي. فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: «إنه شهد بدرا وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وأنزل الله تعالى في أول سورة الممتحنة: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل} الآيات. وهذه القصة مما اتفق أهل العلم على صحتها وهي متواترة عندهم معروفة عند علماء التفسير وعلماء المغازي والسير والتواريخ وعلماء الفقه وغير هؤلاء. وكان علي رضي الله عنه يحدث بهذا الحديث في خلافته بعد الفتنة، وروى ذلك عنه كاتبه عبيد الله بن أبي رافع ليبين لهم أن السابقين مغفور لهم ولو جرى منهم ما جرى. وعثمان وطلحة والزبير أفضل باتفاق المسلمين من حاطب بن أبي بلتعة. وكان حاطب مسيئا إلى مماليكه وكان ذنبه في مكاتبة المشركين وإعانتهم على النبي ﷺ وأصحابه أعظم من الذنوب التي تضاف إلى هؤلاء، ومع هذا فالنبي ﷺ نهى عن قتله وكذّب من قال إنه يدخل النار لأنه شهد بدرا والحديبية وأخبر بمغفرة الله لأهل بدر. ومع هذا فقال عمر رضي الله عنه: "دعني أضرب عنق هذا المنافق" فسماه منافقا واستحل قتله؛ ولم يقدح ذلك في إيمان واحد منهما ولا في كونه من أهل الجنة.

وكذلك في الصحيحين وغيرهما في حديث الإفك لما قام النبي ﷺ خطيبا على المنبر يعتذر من رأس المنافقين عبد الله بن أبي [بن سلول] فقال: «من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا» فقام سعد بن معاذ سيد الأوس -وهو الذي اهتز لموته عرش الرحمن وهو الذي كان لا تأخذه في الله لومة لائم بل حكم في حلفائه من بني قريظة بأن يقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم وتغنم أموالهم حتى قال النبي ﷺ: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة»- فقال: يا رسول الله نحن نعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من أصحابنا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك. فقام سعد بن عبادة فقال: كذبت لعمرو الله لا تقتله ولا تقدر على قتله. فقال أسيد بن حضير فقال: كذبت لعمرو الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين. وكادت تثور فتنة بين الأوس والخزرج حتى نزل النبي ﷺ وخفّضهم.

وهؤلاء الثلاثة من خيار السابقين الأولين؛ وقد قال أسيد بن حضير لسعد بن عبادة إنك منافق تجادل عن المنافقين؛ وهذا مؤمن ولي لله من أهل الجنة وذاك مؤمن ولي لله من أهل الجنة. فدل على أن الرجل قد يكفر أخاه بالتأويل ولا يكون واحد منهما كافرا.]

وقول بعض الصحابة في مالك بن الدخشم [وودوا أن النبي ﷺ دعا عليه فيهلك، فقضى رسول الله ﷺ صلاته وقال: «أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله»]

وليس من شرط الرجل الكبير أن لا يذنب ولا يخطئ باجتهاد، ولا [نحن] ادعينا العصمة في عثمان. [والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل لا بجهل وظلم كحال أهل البدع. فإن الرافضة يعمدون إلى أقوام متقاربين في الفضيلة يريدون أن يجعلوا أحدهم معصوما من الذنوب والخطايا والآخر مأثوما فاسقا أو كافرا فيظهر جهلهم وتناقضهم؛ كاليهودي أو النصراني إذا أراد أن يثبت نبوة موسى أو عيسى مع قدحه في نبوة محمد ﷺ فإنه يظهر عجزه وجهله وتناقضه: فإنه ما من طريق يثبت بها نبوة موسى وعيسى إلا وتثبت نبوة محمد بمثلها أو بما هو أقوى منها، ولا من شبهة تعرض في نبوة محمد ﷺ إلا وتعرض في نبوة موسى وعيسى عليهما السلام بما هو مثلها أو أقوى منها، وكل من عمد إلى التفريق بين المتماثلين أو مدح الشيء وذم ما هو من جنسه أو ما هو أولى بالمدح منه أو بالعكس أصابه مثل هذا التناقض والعجز والجهل. وهكذا أتباع العلماء والمشايخ إذا أراد أحدهم أن يمدح متبوعه ويذم نظيره أو يفضل أحدهم على الآخر بمثل هذا الطريق. وأما قوله: "إنها سألت من تولى الخلافة فقالوا: علي، فخرجت لقتاله على دم عثمان. وأي ذنب كان لعلي في ذلك"

يقال له أولا: قول القائل إن عائشة وطلحة والزبير اتهموا عليا بأنه قتل عثمان وقاتلوه على ذلك كذب. بل إنما طلبوا القتلة الذين كانوا تحيزوا إلى علي وهم يعلمون أن براءة علي من دم عثمان كبراءتهم وأعظم؛ لكن القتلة كانوا قد آووا إليه، فطلبوا قتل القتلة ولكن كانوا عاجزين عن ذلك هم وعلي لأن القوم كانت لهم قبائل يذبون عنهم؛ والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء فصار الأكابر رضي الله عنهم عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها. وهذا شأن الفتن كما قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله. وأيضا فقوله: "أي ذنب كان لعلي في قتله" تناقض منه؛ فإنه يزعم أن عليا ممن يستحل قتله وقتاله وممن ألب عليه وقام بذلك، فإن عليا قد نسبه إلى قتل عثمان كثير من شيعته، وشيعة عثمان هؤلاء لتعصبهم لعثمان وهؤلاء لتعصبهم لعلي. وأما جماهير الإسلام فيعلمون كذب الطائفتين على علي. والرافضة تقول إن عليا كان ممن يستحل قتل عثمان بل وقتل أبي بكر وعمر وترى أن الإعانة على قتله من الطاعات والقربات. فكيف يقول من هذا اعتقاده "أي ذنب كان لعلي في ذلك" وإنما يليق هذا التنزيه لعلي بأقوال أهل السنة، لكن الرافضة من أعظم الناس تناقضا. وأما قوله: "وكيف استجاز طلحة والزبير وغيرهما مطاوعتها على ذلك وبأي وجه يلقون رسول الله ﷺ مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره أو أخرجها من منزلها أو سافر بها كان أشد الناس عداوة له"

فيقال: هذا من تناقض الرافضة وجهلهم؛ فإنهم يعظمون عائشة في هذا المقام طعنا في طلحة والزبير ولا يعلمون أن هذا إن كان متوجها فالطعن في علي بذلك أوجه. فإن طلحة والزبير كانا معظمين عائشة موافقين لها مؤتمرين بأمرها وهما وهي من أبعد الناس عن الفواحش والمعاونة عليها، فإن جاز للرافضي أن يقدح فيهما بقوله: "بأي وجه يلقون رسول الله ﷺ مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره حتى أخرجها من منزلها وسافر بها" إلخ كان للناصبي أن يقول: بأي وجه يلقى رسول الله ﷺ من قاتل امرأته وسلط عليها أعوانه حتى عقروا بها بعيرها وسقطت من هودجها وأعداؤها حولها يطوفون بها كالمسبية التي أحاط بها من يقصد سباءها؟ ومعلوم أن هذا في مظنة الإهانة لأهل الرجل وذلك أعظم من إخراجها من منزلها، وهي بمنزلة الملكة المبجلة المعظمة التي لا يأتي إليها أحد إلا بإذنها. ولم يكن طلحة والزبير ولا غيرهما من الأجانب يحملونها، بل كان في المعسكر من محارمها مثل عبد الله بن الزبير ابن أختها، وخلوته بها ومسه لها جائز بالكتاب والسنة والإجماع. وكذلك سفر المرأة مع ذي محرمها جائز بالكتاب والسنة والإجماع. وهي لم تسافر إلا مع ذي محرمها. وأما العسكر الذين قاتلوها فلولا أنه كان في العسكر محمد بن أبي بكر مد يده إليها لمد يده إليها الأجانب؛ ولهذا دعت عائشة رضي الله عنها على من مد يده إليها وقالت: يد من هذه أحرقها الله بالنار، فقال: أي أخت في الدنيا قبل الآخرة، فقالت: في الدنيا قبل الآخرة، فأحرق بالنار بمصر.

ولو قال المشنع: أنتم تقولون إن آل الحسين سُبوا لما قتل الحسين ولم يفعل بهم إلا من جنس ما فعل بعائشة حيث استولى عليها وردت إلى بيتها وأعطيت نفقتها؛ وكذلك آل الحسين استولى عليهم وردوا إلى أهليهم وأعطوا نفقتهم، فإن كان هذا سبيا واستحلالا للحرمة النبوية فعائشة قد سبيت واستحلت حرمة رسول الله ﷺ.

وهم يشنعون ويزعمون أن بعض أهل الشام طلب أن يسترق فاطمة بنت الحسين وأنها قالت: لاهالله حتى نكفر بديننا. وهذا إن كان وقع فالذين طلبوا من علي أن يسبوا من قاتلهم مَن أهل الجمل وصفين ويغنموا أموالهم أعظم جرما، وكان في ذلك لو سبوا عائشة وغيرها. ثم إن هؤلاء الذين طلبوا ذلك من علي كانوا متدينين به مصرين عليه إلى أن خرجوا على علي وقاتلهم على ذلك. وذلك الذي طلب استرقاق فاطمة بنت الحسين واحد مجهول لا شوكة له ولا حجة ولا فعل هذا تدينا؛ ولما منعه سلطانه من ذلك امتنع. فكان المستحلون لدماء المسلمين وحرمهم وأموالهم وحرمة رسول الله ﷺ في عسكر علي أعظم منهم في عسكر بني أمية. وهذا متفق عليه بين الناس. فإن الخوارج الذين مرقوا من عسكر علي رضي الله عنه هم شر من شرار عسكر معاوية رضي الله عنه. ولهذا أمر النبي ﷺ بقتالهم وأجمع الصحابة على قتالهم. والرافضة أكذب منهم وأظلم وأجهل وأقرب إلى الكفر والنفاق، لكنهم أعجز منهم وأذل. وكلا الطائفتين من عسكر علي. وبهذا وأمثاله ضعف علي وعجز عن مقاومة من كان بإزائه.

والمقصود هنا أن ما يذكرونه من القدح في طلحة والزبير ينقلب ما هو أعظم منه في حق علي. فإن أجابوا عن ذلك بأن عليا كان مجتهدا فيما فعل وأنه أولى بالحق من طلحة والزبير، قيل: نعم وطلحة والزبير كانا مجتهدين وعلي وإن كان أفضل منهما ولكن إن كان فعل طلحة والزبير معهما ذنبا ففعل علي أعظم ذنبا. فإن قالوا: هما أحوجا عليا إلى ذلك لأنهما أتيا بها، فما فعله علي مضاف إليهما لا إلى علي، قيل: وهكذا معاوية - قيل له: قتلت عمارا وقد قال النبي ﷺ: «تقتلك الفئة الباغية» قال: أونحن قتلناه؟ إنما قتله الذين جاءوا به حتى جعلوه تحت سيوفنا. فإن كانت هذه الحجة مردودة فحجة من احتج بأن طلحة والزبير فعلا بعائشة ما جرى عليها من إهانة عسكر علي لها وإستيلائهم عليها مردودة أيضا؛ وإن قبلت هذه الحجة قبلت حجة معاوية رضي الله عنه.

والرافضة وأمثالهم من أهل الجهل والظلم يحتجون بالحجة التي تستلزم فساد قولهم وتناقضهم، فإنه إن احتج بنظيرها عليهم فسد قولهم المنقوض بنظيرها، وإن لم تحتج بنظيرها بطلت هي في نفسها لأنه لا بد من التسوية بين المتماثلين. ولكن منتهاهم مجرد الهوى الذي لا علم معه {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين}]

وأما قوله: "كيف أطاعها عشرة آلاف من المسلمين وساعدوها على حرب أمير المؤمنين ولم ينصر أحد منهم فاطمة لما طلبت حقها من أبي بكر ولا شخص [واحد كلمه] بكلمة"

فهذا من أعظم الحجج عليه. فإنه لا يشك عاقل أن القوم كانوا يحبون رسول الله ﷺ ويعظمونه ويعظمون قرابته وبنته أكثر وأعظم مما يعظمون أبا بكر وعمر. ولا يرتاب عاقل أن العرب كانت تدين لبني عبد مناف في الجاهلية والإسلام أعظم مما تدين لبني تيم وبني عدي. ولهذا لما تولى أبو بكر قال أبوه أبو قحافة: أرضيت بنو مخزوم وبنو عبد شمس؟ قالوا: نعم، قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. ولهذا جاء أبو سفيان إلى علي فقال: أرضيتم أن يكون هذا الأمر في بني تيم؟ فقال [علي]: يا أبا سفيان إن الإسلام ليس كأمر الجاهلية، أو كما قال.

فإذا كان المسلمون كلهم ليس فيهم من قال إن فاطمة مظلومة ولا إن أبا بكر ظلمها ولو فرضنا أنهم عاجزون عن نصرها كما زعمت فلا أقل من المقال؛ فإذا لم يقع شيء من النصرة ولا القول قطعنا بأنها لم تظلم. هذا وأبو بكر لم يكن ممتنعا من سماع كلام أحد ولا كان معروفا بالجبروت. واتفاق الكل مع توفر دواعيهم على بغض فاطمة مع قيام الأسباب الموجبة لمحبتها مما يعلم امتناعه بالضرورة. وكذلك علي، ولا سيما وجمهور قريش والأنصار والعرب لم يكن إلى علي منهم ولا منه إليهم إساءة لا في الجاهلية ولا في الإسلام. وأما عمر فكان أشد على الأعراب وأكثر عداوة لهم من علي، وكلامهم فيه وفي حدته معروفة ومع هذا تولى عليهم فما مات إلا وكلهم يثني عليه وتوجع الكل لمصرعه. وهذا ما يبين أن الأمر على نقيض ما تقوله الرافضة [وأن القوم كانوا يعلمون أن فاطمة لم تكن مظلومة أصلا.]

ثم كيف يقتص القوم لعثمان حتى سفكت دماؤهم ولا ينتصرون للرسول ﷺ وأهل بيته، وكيف يقاتلون [مع معاوية حتى سفكت دماؤهم معه وقد اختلف عليه بنو عبد مناف ولا يقاتلون مع] علي رضي الله عنه حتى تسفك دماؤهم [وبنو عبد مناف معه. فالعباس بن عبد المطلب أكبر بني هاشم وأبو سفيان بن حرب أكبر بني أمية وكلاهما كانا يميلان إلى علي. فلم لا قاتل الناس معه إذ ذاك والأمر في أوله، والقتال إذ ذاك -لو كان حقا- مع علي أولى، وولاية علي أسهل.] فإنه لو عرض نفر قليل منهم وقالوا علي هو الوصي كما ادعت الرافضة ونحن لا نبايع إلا له ولا نعصي نبينا ﷺ ولا نقدم الظالمين أو المنافقين من بني تيم على بني هاشم لاستجاب جمهور الناس بل عامتهم لا سيما وأبو بكر ليس عنده رغبة [ولا رهبة]. ثم هب أن عمر وجماعة كانوا معه، فما هم بأكثر ولا أعز من الذين كانوا مع طلحة والزبير ومعاوية ومع هذا فقد قاتلهم علي. [إنه لو كان الحق كما تقوله الرافضة لكان أبو بكر وعمر والسابقون الأولون من شرار أهل الأرض وأعظمهم جهلا وظلما حيث عمدوا بعد موت نبيهم ﷺ فبدلوا وظلموا. وكل هذا مما يعلم بالاضطرار فساده من دين الإسلام، وهو مما يبين أن الذي ابتدع مذهب الرافضة كان زنديقا ملحدا عدوا لدين الإسلام وأهله، ولم يكن من أهل البدع المتأولين كالخوارج والقدرية، وإن كان قول الرافضة راج بعد ذلك على قوم فيهم إيمان لفرط جهلهم.]

ثم يقال: وأي داع كان للقوم حتى نصروا عائشة على علي ولا ينصرون فاطمة على أبي بكر، ولو كان قيامهم للرئاسة والدنيا لكان قيامهم مع أشرف العرب وهم بنو هاشم أولى؟ [ولهذا قال صفوان بن أمية الجمحي يوم حنين: والله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من ثقيف. فصفوان رأس الطلقاء لأن يربه رجل من بني عبد مناف أحب إليه من أن يربه رجل من بني تيم.] وهلا قدموا العباس فإنه كان أقرب إلى أغراضهم من أبي بكر إذا فرضتم أن قيامهم للدنيا؟ فدل ذلك على أنهم وضعوا الحق في نصابه وأقروه في إهابه وأتوا إليه من بابه. قال: "وسموها أم المؤمنين ولم يسموا غيرها بذلك"

قلنا: هذا بهتان واضح لكل أحد وجهل منك. بل ما زالت الأمة قديما وحديثا يسمون أزواج النبي ﷺ أمهات المؤمنين اتباعا لنص تسميتهن بالقرآن، 3 سوى الرافضة. وما ينكر هذا إلا من يقول الحسين ليس بابن فاطمة، كما قال بعض النصيرية: وما كان الحسن والحسين أولاد علي بل أولاد سليمان الفارسي. ومنهم من قال: ليس أبو بكر وعمر مدفونين عند النبي ﷺ، وإن ورقية وأم كلثوم ليستا بنتي النبي ﷺ بل بنتا خديجة من غيره. قال: "ولم يسموا أخاها محمد بن أبي بكر خال المؤمنين وسموا معاوية خال المؤمنين"

قلنا: هذا إنما يقوله جهلة السنة نكاية فيكم، وإلا فلا فرق. وقد تنازع العلماء في إخوتهن هل يقال لأحدهم خال المؤمنين؛ فجوز ذلك بعضهم ولو جوزنا ذلك لاتسع الخرق ولكثر أخوال المؤمنين وخالاتهم ولقيل في أبي بكر وعمر جد المؤمنين ولحرم التزوج بخالات المؤمنين وهذا لا يقوله بشر، وذلك أنه لم يثبت لأزواجه ﷺ أحكام النسب وإنما ثبت لهن الحرمة والاسم وتحريم نكاحهن دون المحرمية. وإنما قال هذا بعض السنة في معاوية خاصة لما رأوا من استحلال الرافضة لعنه وتكفيره. فهلا ذكرت من هو أفضل من معاوية ومحمد [بن أبي بكر] وهو عبد الله بن عمر. وكان سبب اختصاص محمد [بن أبي بكر] بعلي لأنه ربيبه وابن زوجته، فإن عليا تزوج بأمه أسماء بنت عميس بعد أبي بكر، ثم إنه جلده عثمان في حد فبقي في نفسه عليه حتى خرج عليه. ثم إنه ولي مصر من جهة علي فذهب إليها فحاربوه ثم قُتل وأحرق، فحصل [له] خير وتكفير رحمه الله تعالى. [والرافضة تغلو في تعظيمه على عادتهم الفاسدة في أنهم يمدحون رجال الفتنة الذين قاموا على عثمان ويبالغون في مدح من قاتل مع علي، حتى يفضلون محمد بن أبي بكر على أبيه أبي بكر - فيلعنون أفضل الأمة بعد نبيها ويمدحون ابنه الذي ليس له صحبة ولا سابقة ولا فضيلة. ويتناقضون بذلك في تعظيم الأنساب فإن كان الرجل لا يضره كفر أبيه أو فسقه لم يضر نبينا ولا إبراهيم ولا عليا كفر آبائهم، وإن ضرهم لزمهم أن يقدحوا في محمد بن أبي بكر بأبيه وهم يعظمونه. وابنه القاسم بن محمد وابن ابنه عبد الرحمن بن القاسم خير عند المسلمين منه؛ ولا يذكرونهما بخير لكونهما ليسا من رجال الفتنة.

وأما قوله: "وعظم شأنه" فإن أراد عظم نسبه فالنسب عندهم لا حرمة له لقدحهم في أبيه وأخته. وأما أهل السنة فإنما يعظمون [الناس] بالتقوى لا بمجرد النسب قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وإن أراد عظم شأنه بسابقيته وهجرته ونصرته، فهو ليس من الصحابة لا من المهاجرين ولا من الأنصار. وإن أراد بعظم شأنه أنه كان من أعظم الناس وأدينهم فليس الأمر كذلك وليس هو معدودا من أعيان العلماء والصالحين الذين في طبقته. وإن أراد بذلك شرفه في المنزلة لكونه كان له جاه ومنزلة ورياسة فمعاوية كان أعظم جاها ورياسة ومنزلة منه؛ بل معاوية خير منه وأدين وأحلم وأكرم، فإن معاوية رضي الله عنه روى الحديث وتكلم في الفقه وقد روى أهل الحديث حديثه في الصحاح والمساند وغيرها وذكر بعض العلماء فتاويه وأقضيته. وأما محمد بن أبي بكر فليس له ذكر في الكتب المعتمدة في الحديث والفقه. وأما قوله: "وأخت محمد وأبوه أعظم من أخت معاوية وأبيها"

فيقال: هذه الحجة باطلة على الأصلين. وذلك أن أهل السنة لا يفضلون الرجل إلا بنفسه؛ فلا ينفع محمدا قربه من أبي بكر وعائشة، ولا يضر معاوية رضي الله عنه أن يكون ذلك أفضل نسبا منه. وهذا أصل معروف لأهل السنة. كما لا يضر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا كبلال وصهيب وخباب وأمثالهم أن يكون من تأخر عنهم من الطلقاء وغيرهم كأبي سفيان بن حرب وابنيه معاوية ويزيد وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب ونحوهم أعظم نسبا منهم. فإن هؤلاء من بني عبد مناف أشرف قريش بيتا وأولئك ليس لهم نسب شريف، ولكن فضلهم بما فضل الله به من أنفق من قبل الفتح وقاتل على الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، فكيف على من بعد هؤلاء. وأما الرافضة فإنهم إن اعتبروا النسب لزمهم أن يكون محمد بن أبي بكر عندهم شر الناس نسبا لقبح قولهم في أبيه وأخته؛ فعلى أصلهم لا يجوز تفضيله بقربه منهما. وإن ذكروا ذلك من طريق الإلزام لأهل السنة فهم يفضلون من فضله الله حيث قال: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}] ثم قال: "إن النبي ﷺ لعن معاوية الطليق ابن الطليق وقال: إذا رأيتموه على منبري فاقتلوه. وسموه كاتب الوحي ولم يكتب له كلمة من الوحي بل كان يكتب له رسائل".

قلنا: هذا الحديث ليس في شيء من كتب الإسلام، وهو عند الحفاظ كذب، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات. ثم قد صعد المنبر من هو شر من معاوية وما أمر بقتله.

وأما قولك: "الطليق ابن الطليق" فما هذا بصفة ذم، فإن الطلقاء غالبهم حسن إسلامهم كالحارث بن هشام و[ابن أخيه] عكرمة وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية ويزيد بن أبي سفيان وحكيم بن حزام وأمثالهم، وكانوا من خيار المسلمين ومعاوية ممن حسن إسلامه وولاه عمر بعد أخيه يزيد. ولم يكن عمر والله ممن يحابي ولا تأخذه في الله لومة لائم ولا كان يحب أبا سفيان وقد حرص على قتله لما جاء به العباس. ولو كان ممن يحابي لولّى أقاربه من بني عدي. ثم إن معاوية بقي على دمشق وغيرها عشرين سنة أميرا وعشرين سنة خليفة، ورعيته يحبونه لإحسانه وحسن سياسته وتأليفه لقلوبهم، حتى إنهم قاتلوا معه عليا، وعلي أفضل من أمثاله وأولى بالحق منه، وهذا يعترف به غالب جند معاوية، ولكنهم قاتلوا مع معاوية لظنهم أن عسكر علي فيه قتلة عثمان وفيه ظلمة، ولهذا لم يبدأوا بالقتال حتى بدأهم أولئك [فقاتلوهم دفعا لصيالهم عليهم وقتال الصائل جائز. ولهذا قال الأشتر النخعي: إنهم ينصرون علينا لأنا نحن بدأناهم بالقتال.] وعلي كان عاجزا عن قهر الظلمة من العسكرين ولم يكن أمراؤه وأعوانه يوافقونه على كثير مما يأمر به، وأعوان معاوية يوافقونه. قال: "وقاتل عليا، وعلي عندهم رابع الخلفاء إمام حق، وكل من قاتل إمام حق فهو باغ ظالم"

قلنا: نعم، والباغي قد يكون متأولا معتقدا أنه على حق وقد يكون بغيه مركبا من تأويل وشهوة وشبهة وهو الغالب. وعلى كل تقدير فهذا لا يرد. وإنا لا ننزه هذا الرجل ولا من هو أفضل منه عن الذنوب. والحكاية مشهورة عن المسور بن مخرمة أنه خلا بمعاوية فطلب منه معاوية أن يخبره بما ينقمه عليه، فذكر المسور أمورا فقال: يا مسور ألك سيئات؟ قال: نعم، قال: أترجو أن يغفرها الله؟ قال: نعم، قال: فما جعلك أرجى لرحمة الله مني، وإني مع ذلك والله ما خيرت بين الله وبين سواه إلا اخترت الله على ما سواه، ووالله لما أليه من الجهاد وإقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أفضل من عملك، وأنا على دين يقبل الله من أهله الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات.

ثم إن قالت لكم الخوارج والنواصب ما الدليل على عدالة علي وإيمانه ما لكم حجة إلا ما تواتر من إسلامه وعبادته، [فإن] قالوا لكم: فقد تواتر ذلك من أبي بكر وعمر أيضا وطائفة ممن تقدحون في إيمانهم فما الفرق بيننا وبينكم؟ فإن احتججتم بالظواهر القرآنية فهي متناولة لهؤلاء وهؤلاء، وأنتم أخرجتم جماعة كبيرة ونحن أخرجنا واحدا. وإن قالوا بما جاء عن الصحابة من فضائله، قلنا: فقد ورد أيضا فضائل أولئك فاقبلوا الكل، وإن طعنتم في الصحابة فردوا الكل. فإن احتججتم بمبايعة الناس له، قلنا: من المعلوم أن مبايعة الناس للثلاثة قبله أعظم وأكثر، فإن أهل الشام ما بايعوه ولا أكثر أهل مصر، ثم النواصب يقولون بل علي الباغي قاتل على الأمان وبدأ بالقتال وسفك دماء الأمة وكان السيف في دولته مسلولا على الأمة مكفوفا عن المشركين. ثم الخوارج تقدح في الطائفتين معا. وعمرو بن عبيد وجماعة من المعتزلة يقولون فسق أحدهما لا بعينه -قلت يعني يوم الجمل- وأما يوم صفين فقال عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وأبو الهذيل العلاف: أصاب في قتال معاوية. نقله ابن حزم. وخلق من الخوارج قالوا: كان الحق مع علي فلما حكم الحكمين كفر. فإن قيل هؤلاء بغاة لأن النبي ﷺ قال لعمار: «تقتلك الفئة الباغية» قلنا: الخير صحيح وقد تكلم فيه بعضهم، وبعضهم تأوله على أن الباغي الطالب وهذا لا شيء. وأما السلف [والأئمة] كأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم فيقولون: لم يوجد شرط قتال الطائفة الباغية، فإن الله لم يأمر بقتالها ابتداء بل أمر إذا اقتتلت طائفتان أن يصلح بينهما ثم إن بغت إحداهما قوتلت، ولهذا كان هذا القتال عند أحمد ومالك قتال فتنة. وأبو حنيفة يقول: لا يجوز قتال البغاة حتى يبدأوا بقتال الإمام وهؤلاء لم يبدأوه.

ثم أهل السنة تقول: الإمام الحق ليس معصوما ولا يجب على الإنسان أن يقاتل معه كل من خرج عن طاعته ولا أن يعطيه الإنسان فيما يعلم أنه معصية أو أن تركه أولى. وعلى هذا ترك جماعة من الصحابة القتال مع علي لأهل الشام. [والذين قاتلوه لا يخلو إما أن يكونوا عصاة أو مجتهدين مخطئين أو مصيبين. وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح في إيمانهم ولا يمنعهم الجنة] بقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} فسماهم إخوة.

وأما قولك: "لم يكتب له كلمة من الوحي" فدعوى كنظائرها. قال: "وكان باليمن يوم الفتح يطعن على رسول الله ﷺ وكتب إلى أبيه أبي سفيان يعيره بالإسلام ويقول: أصبوت [إلى دين محمد وكتب إليه هذه الأبيات]:يا صخر لا تسلمن طوعا فتفضحنا ** بعد الذين ببدر أصبحوا فرقاجدي وخالي وعم الأم يالهم ** قوما وحنظلة المهندي لنا أرقافالموت أهون من قول الوشاة لنا ** خلى ابن هند عن العزى لقد فرقاوأهدر النبي ﷺ دمه، فلما لم يجد مأوى صار إلى النبي ﷺ مضطربا فأظهر الإسلام قبل موت النبي ﷺ بخمسة أشهر وطرح نفسه على العباس -إلى أن قال- وعن ابن عمر عن النبي ﷺ: يطلع عليكم رجل يموت على غير سنتي. فطلع معاوية. وقام النبي ﷺ خطيبا فأخذ معاوية بيد ابنه يزيد وخرج فقال النبي ﷺ: لعن الله القائد والمقود -إلى أن قال- وبالغ في محاربة علي وقتل جمعا من خيار الصحابة، ولعن عليا على المنبر واستمر [سبه إلى سنة] ثمانين حتى قطعه عمر بن عبد العزيز. وسم الحسن وقتل ابنه مولاي الحسين ونهب وسبى وكسر أبوه ثنية النبي ﷺ وأكلت أمه كبد حمزة".

فيقال: سبحان من خلق الكذب وسلمه إلى الرافضة. فأما أبو سفيان فإنه [أسلم قبل دخول النبي ﷺ مكة بمر الظهران ليلة نزل بها وقال العباس: إن أبا سفيان يحب الشرف فقال النبي ﷺ: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن» وأبو سفيان كان] عنده من دلائل النبوة ما سمعه من هرقل قبل إسلامه بأشهر وما كان عنده من أمية بن أبي الصلت، لكن الحسد منعه [من الإيمان] حتى أدخله الله عليه وهو كاره. بخلاف معاوية فإنه لم يُعرف عنه شيء من ذلك ولا عن أخيه يزيد. وهذا الشعر كذب عليه قطعا.

ثم لا يجوز الطعن على من تأخر إسلامه كصفوان بن أمية والحارث بن هشام. ثم نفس هذا الشعر يدل على وضعه فإنه لا يشبه نفس الصحابة. وإسلام معاوية عام الفتح باتفاق الناس.

ثم قد تقدم قولك إنه من المؤلفة قلوبهم. والمؤلفة إنما أعطاهم النبي ﷺ من غنائم حنين وكانت بعد الفتح بأيام؛ فلو كان هاربا لم يكن من المؤلفة. وقد قال: قصّرتُ عن النبي ﷺ على المروة بمشقص. وهذا والله أعلم كان في عمرته عليه السلام من الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان.

[وأما قوله: "وقد روى عبد الله بن عمر قال أتيت النبي ﷺ فسمتعه يقول يطلع عليكم رجل يموت على غير سنتي. فطلع معاوية وقام النبي ﷺ خطيبا فأخذ معاوية بيد ابنه يزيد وخرج ولم يسمع الخطبة فقال النبي ﷺ: لعن الله القائد والمقود. أي يوم يكون للأمة مع معاوية ذي الإساءة".

فالجواب عليه أولا: نحن نطالب بصحة هذا الحديث فإن الاحتجاج بالحديث لا يجوز إلا بعد ثبوته. ويقال ثانيا: هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث. ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث التي يرجع إليها في معرفة الحديث ولا له إسناد معروف؛ وهذا المحتج به لم يذكر له إسنادا. ثم من جهله أن يروي مثل هذا عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمر من أبعد الناس عن ثلب الصحابة وأروى الناس لمناقبهم، وقوله في مدح معاوية معروف ثابت عنه حيث يقول: ما رأيت بعد رسول الله ﷺ أسود من معاوية. قيل له: ولا أبو بكر وعمر؟ فقال: كان أبو بكر وعمر خيرا منه وما رأيت بعد رسول الله ﷺ أسود من معاوية. قال أحمد بن حنبل: السيد الحليم، يعني معاوية. وكان معاوية كريما حليما.

ثم إن خُطب النبي ﷺ لم تكن واحدة، بل كان يخطب في الجمع والأعياد والحج وغير ذلك، ومعاوية وأبوه يشهدان الخطب كما يشهدها المسلمون كلهم. أفتراهما في كل خطبة كانا يقومان ويُمكّنان من ذلك؟ هذا قدح في النبي ﷺ وفي سائر المسلمين إذ يمكّنون اثنين دائما يقومان ولا يحضران الخطبة ولا الجمعة؛ وإن كانا يشهدان كل خطبة فما بالهما يمتنعان عن سماع خطية واحدة قبل أن يتكلم بها؟ ثم من المعلوم من سيرة معاوية أنه كان من أحلم الناس وأصبرهم على من يؤذيه وأعظم الناس تأليفا لمن يعاديه، فكيف ينفر عن رسول الله ﷺ مع أنه أعظم الخلق مرتبة في الدين والدنيا وهو محتاج إليه في كل أموره، فكيف لا يصبر على سماع كلامه وهو بعد الملك يسمع كلام من يشتمه في وجهه، فلماذا لم يسمع كلام النبي ﷺ وكيف يتخذ النبي ﷺ كاتبا من هو في هذه الحالة.

وقوله: "إنه أخذ بيد ابنه يزيد" فمعاوية لم يكن له [يومئذ] ابن اسمه يزيد. وأما ابنه يزيد الذي تولى الملك وجرى في خلافته ما جرى فإنما ولد في خلافة عثمان باتفاق أهل العلم. ولم يكن لمعاوية ولد على عهد رسول الله ﷺ. قال الحافظ أبو الفضل بن ناصر: خطب معاوية رضي الله عنه في زمن رسول الله ﷺ فلم يزوج لأنه كان فقيرا. وإنما تزوج في زمن عمر رضي الله عنه وولد له في يزيد في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة سبع وعشرين من الهجرة.

ثم نقول ثالثا: هذا الحديث يمكن معارضته بمثله من جنسه بما يدل على فضل معاوية رضي الله عنه. قال الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الموضوعات: قد تعصب قوم ممن يدعي السنة فوضعوا في فضل معاوية رضي الله عنه أحاديث ليغيظوا الرافضة، وتعصب قوم من الرافضة فوضعوا في ذمه أحاديث؛ وكلا الفريقين على الخطأ القبيح.]

وأما محاربته عليا فلأمور لا تخرجه عن الإسلام، وإن كان علي أقرب إلى الحق وأولى به منه كما في الصحيحين: «تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق» فهؤلاء المارقة هم الذين خرجوا على علي وقاتلوه يوم النهروان. [فدل] الحديث على أن عليا وطائفته أقرب إلى الحق من طائفة معاوية. وفي البخاري عن النبي ﷺ أنه قال في الحسن: «إن ابني هذا سيد وإن الله سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المؤمنين» فمدح الحسن بالإصلاح الذي جرى على الجماعة من الفئتين وسماهما مؤمنين، وهذا يدل أيضا على أن الإصلاح بينهما هو المحمود لا القتال الذي جرى. وقال ﷺ: «ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم الحديث» وقال: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن»

والذين رووا أحاديث القعود في الفتنة والتحذير منها كسعد [بن أبي وقاص] ومحمد بن مسلمة وأسامة لم يقاتلوا لا مع علي ولا مع معاوية. ثم الذين قاتلوا مع علي أخف جرما من الذين قتلوا عثمان صبرا؛ وأنت تمدحهم وترضى فعلهم يا جاهل. فإن قلت: إن عثمان فعل أشياء أُنكرت عليه، قيل: فعل علي أشياء أخرت هؤلاء عن مبايعته، فرضي الله عن الرجلين.

ثم إن عليا بادر بعزل معاوية وكان لا بأس به في ولايته محببا إلى رعيته. وقد استعمل علي من هو دون معاوية كزياد بن أبيه. وقد كان النبي ﷺ أفضل من علي واستعمل أبا سفيان [على نجران، ومات رسول الله ﷺ وأبو سفيان أمير عليها. وكان كثير من أمراء النبي ﷺ على الأعمال من بني أمية. فإنه استعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية واستعمل خالد بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد بن العاص، وولاه عمر رضي الله عنه ولا يتهم لا في دينه ولا في سياسته. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتعلنونهم ويلعنونكم» قالوا: ومعاوية كانت رعيته يحبونه وهو يحبهم ويصلون عليه وهو يصلي عليهم. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم» قال مالك بن يخامر سمعت معاذا يقول: هم بالشام. قالوا: وهؤلاء كانوا عسكر معاوية. وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: «لا يزال أهل الغرب ظاهرين حتى تقوم الساعة» قال أحمد: أهل الغرب هم أهل الشام. وقد بسطنا هذا في موضع آخر. وهذا النص يتناول عسكر معاوية. قالوا: ومعاوية أيضا كان خيرا من كثير ممن استنابه علي، فلم يكن يستحق أن يعزل ويولى من هو دونه في السياسة] فليت عليا تألف معاوية وأقره على الشام وحقن الدماء.

[فإذا قيل: إن عليا كان مجتهدا في ذلك، قيل: وعثمان كان مجتهدا فيما فعل، وأين الاجتهاد في تخصيص بعض الناس بولاية أو إمارة أو مال من الاجتهاد في سفك المسلمين بعضهم دماء بعض حتى ذل المؤمنون وعجزوا عن مقاومة الكفار حتى طمعوا فيهم وفي الاستيلاء عليهم. ولا ريب أنه لو لم يكن قتال بل كان معاوية مقيما على سياسة رعيته وعلي مقيما على سياسة رعيته لم يكن في ذلك من الشر أكثر مما حصل بالاقتتال، فإنه بالاقتتال لم تزل هذه الفرقة ولم يجتمعوا على إمام بل سفكت الدماء وقويت العداوة والبغضاء وضعفت الطائفة التي كانت أقرب إلى الحق وهي طائفة علي وصاروا يطلبون من الطائفة الأخرى من المسالمة ما كانت تلك تطلبه ابتداء. ومعلوم أن الفعل الذي تكون مصلحته راجحة على مفسدته يحصل به من الخير أعظم مما يحصل بعدمه. وهنا لم يحصل بالاقتتال مصلحة بل كان الأمر مع عدم القتال خيرا وأصلح منه بعد القتال؛ وكان علي وعسكره أكثر وأقوى ومعاوية وأصحابه أقرب إلى موافقته ومسالمته ومصالحته. فإذا كان مثل هذا الاجتهاد مغفورا لصاحبه فاجتهاد عثمان أن يكون مغفورا أولى وأحرى. وأما معاوية وأعوانه فيقولون إنما قاتلنا عليا قتال دفع عن أنفسنا وبلادنا، فإنه بدأنا بالقتال فدفعناه بالقتال ولم نبتدئه بذلك ولا اعتدينا عليه. فإذا قيل لهم: هو الإمام الذي كانت تجب طاعته عليكم ومبايعته وأن لا تشقوا عصا المسلمين، قالوا: ما نعلم أنه إمام تجب طاعته، لأن ذلك عند الشيعة إنما يعلم بالنص ولم يبلغنا عن النبي ﷺ نص بإمامته ووجوب طاعته. ولا ريب أن عذرهم في هذا ظاهر. فإنه لو قدر أن النص الجلي الذي تدعيه الإمامية حق، فإن هذا قد كتم وأخفي في زمن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلم يجب أن يعلم معاوية وأصحابه مثل ذلك لو كان حقا، فكيف إذا كان باطلا.]

[وأما قوله: "إن معاوية قتل جمعا كثيرا من خيار الصحابة" فيقال: الذين قتلوا من الطائفتين؛ قتل هؤلاء من هؤلاء وهؤلاء من هؤلاء. وأكثر الذين كانوا يختارون القتال من الطائفتين لم يكونوا يطيعون عليا ولا معاوية. وكان علي ومعاوية رضي الله عنهما أطلب لكف الدماء من أكثر المقتتلين لكن غُلبا فيما وقع؛ والفتنة إذا ثارت عجز الحكماء عن إطفاء نارها. وكان في العسكرين مثل الأشتر النخعي وهاشم بن عتبة المرقال وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد وأبي الأعور السلمي ونحوهم من المحرضين على القتال قوم ينتصرون لعثمان غاية الانتصار وقوم ينفرون عنه وقوم ينتصرون لعلي وقوم ينفرون عنه. ثم قتال أصحاب معاوية معه لم يكن لخصوص معاوية بل كان لأسباب أخرى، وقتال الفتنة مثل قتال الجاهلية لا تنضبط مقاصد أهله واعتقاداتهم كما قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله ﷺ متوافرون فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر، أنزلوهم منزلة الجاهلية.]

وأما ما وقع من لعن علي فإن التلاعن وقع من الطائفتين، فكان هؤلاء يلعنون رءوس هؤلاء في دعائهم وهؤلاء يلعنون رءوس هؤلاء. والقتال باليد أعظم من التلاعن. [وهذا كله سواء كان ذنبا أو اجتهادا مخطئا أو مصيبا فإن مغفرة الله ورحمته تتناول ذلك بالتوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة وغير ذلك.]

ومن العجيب أن الرافضة تنكر سب علي وتسب الثلاثة قبله [أبا بكر وعمر وعثمان] وتكفرهم. ومعاوية وحزبه ما كفروا عليا إنما كفرته الخوارج المارقون من الدين. وقال النبي ﷺ: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه».

قال: "وسم معاوية الحسن" فهذا قيل ولم يثبت. فيقال إن امرأته سمته وكان مطلاقا رضي الله عنه فلعلها سمته لغرض والله أعلم بحقيقة الحال. [وقد قيل إن أباها الأشعث بن قيس أمرها بذلك فإنه كان يتهم بالانحراف في الباطن عن علي وابنه الحسن. وإذا قيل إن معاوية أمر أباها كان هذا ظنا محضا. والنبي ﷺ قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» وبالجملة فمثل هذا لا يحكم به في الشرع باتفاق المسلمين فلا يترتب عليه أمر ظاهر لا مدح ولا ذم. ثم إن الأشعث بن قيس مات سنة أربعين وقيل سنة إحدى وأربعين، ولهذا لم يذكر في الصلح الذي كان بين معاوية والحسن بن علي في العام الذي كان يسمى عام الجماعة وهو عام أحد وأربعين، وكان الأشعث حما الحسنِ بن علي، فلو كان شاهدا لكان يكون له ذكر في ذلك، وإذا كان قد مات قبل الحسن بنحو عشر سنين فكيف يكون هو الذي أمر ابنته.]

وأما يزيد فلم يأمر بقتل الحسين [باتفاق أهل النقل ولكن كتب إلى ابن زياد أن يمنعه عن ولاية العراق، والحسين رضي الله عنه كان يظن أن أهل العراق ينصرونه ويوفون له بما كتبوا إليه، فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل فلما قتلوا مسلما وغدروا به وبايعوا ابن زياد أراد الرجوع فأدركته السرية الظالمة فطلب أن يذهب إلى يزيد أو يذهب إلى الثغر أو يرجع إلى بلده فلم يمكنوه من ذلك حتى يستأسر لهم] ولكن هو رضي الله عنه أبى أن يسلم نفسه وأن ينزل على حكم عبيد الله بن زياد وقاتل حتى قتل شهيدا مظلوما رضي الله عنه. ولما بلغ ذلك يزيد أظهر التوجع وظهر البكاء في داره ولم يسبِ لهم حريما أصلا، بل جهزهم وأعطاهم وبعثهم إلى وطنهم. وكان معاوية وصّى يزيد برعاية حق الحسين وإجلاله.

وقوله: "إن أبا سفيان كسر ثنية النبي ﷺ" فإنما كسرها عتبة بن أبي وقاص. ولاكت هند كبد حمزة ولفظتها، ثم منّ الله عليها بالإسلام، وكان النبي ﷺ يكرمها أنها حماته. قال الله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} وفي مسلم من حديث عمرو بن العاص [أن النبي ﷺ قال له]: «الإسلام يهدم ما كان قبله» [وفي صحيح البخاري لما أسلمت هند أم معاوية رضي الله عنهما قالت: والله يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلى أن يعزوا من أهل خبائك.] قال الرافضي: "وسموا خالدا سيف الله عنادا لأمير المؤمنين الذي هو أحق بهذا منه وقال فيه الرسول ﷺ: علي سيف الله وسهم الله. وقال علي على المنبر: أنا سيف الله على أعدائه. وخالد لم يزل عدوا للرسول مكذبا له وهو كان السبب في قتل المسلمين يوم أحد. ولما تظاهر بالإسلام بعثه النبي ﷺ إلى بني جذيمة فخانه وخالف أمره وقتل المسلمين فقال النبي ﷺ: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد".

فأما تسمية علي سيف الله فلم يصح ولا عرفناه في كتاب. وأما تسمية خالد سيف الله فليس هو مختصا به بل هو سيف من سيوف الله سله على الله المشركين كما صح عن النبي ﷺ قال فيه ذلك من حديث حميد بن هلال عن أنس أن النبي ﷺ نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة وعيناه تذرفان قال: «ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليه» وهذا لا يمنع أن يكون غيره سيفا لله بل هو يتضمن أن سيوف الله متعددة. ولا ريب أن خالدا قتل من الكفار أكثر مما قتل غيره، وكان سعيدا في حروبه، وأسلم قبل الفتح وهاجر، ومن حين أسلم كان النبي ﷺ يؤمره. ولقد انقطع في يده يوم مؤتة تسعة أسياف. أخرجه البخاري. ولا ريب أن النبي ﷺ تبرأ من فعله ببني جذيمة ولكن ما عزله. ولا ريب أن عليا من سيوف الله فمن نازعك في ذا؟ وهو أفضل من خالد فإن له من العلم والبيان والسابقة والإيمان والمشاهد ما لا يخفى. ثم السيف خاصيته القتال، وعلي كان القتال بعض فضائله، وخالد كان أخص نعوته القتال وبه تقدم، فلهذا عبر عنه بأنه سيف من سيوف الله. وهذا البراء بن مالك قتل مائة [رجل] مبارزة سوى من شرك في قتله. وقال النبي ﷺ: «صوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة» وقال: «إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير» والرافضة متناقضون فإنهم يقولون علي الناصر لرسول الله ﷺ الذي لولاه لما قام دينه، ثم يصفونه بالعجز والتقية المنافي لذلك.

وكان النبي ﷺ أرسل خالدا بعد الفتح إلى بني جذيمة فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فقالوا: "صبأنا صبأنا" فلم يقبل ذلك وقال ليس ذلك بإسلام فقتلهم، فأخطأ في اجتهاده. ثم أرسل النبي ﷺ عليا بمال فأعطاهم نصف الديات وضمن لهم ما تلف حتى ميلغة الكلب. وحاشا خالدا أن يكون معاندا للنبي ﷺ بل كان مطيعا له وإن أخطأ في هذه المرة، كما أخطأ أسامة بن زيد في قتل ذلك الرجل الذي قال لا إله إلا الله وقتل السرية لصاحب الغنيمة الذي قال أنا مسلم فنزلت فيهم: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا} الآية. قال: "ولما سار لقتال أهل اليمامة قتل منهم ألفا ومائتين مع تظاهرهم بالإسلام. وقتل مالك بن نويرة وهو مسلم وعرس بامرأته. وسموا بني حنيفة أهل الردة لأنهم منعوا الزكاة أبا بكر إذا لم يعتقدوا إمامته فسموا مانع الزكاة مرتدا ولم يسموا من استحل دماء المسلمين ومحاربة أمير المؤمنين مرتدا مع قول النبي ﷺ: يا علي حربك حربي. فمحارب الرسول كافر بالإجماع".

فيقال: الله أكبر على هؤلاء المرتدين المفترين أتباع أهل الردة [الذين برزوا بمعاداة الله ورسوله وكتابه ودينه ومرقوا من الإسلام ونبذوه وراء ظهورهم وشاقوا الله ورسوله وعباده المؤمنين وتولوا أهل الردة والشقاق.] فإن هذا الفصل وأمثاله مما يحقق أن الرافضة المتعصبين على أبي بكر كالمرتدين الذين قاتلهم الصديق، وذلك أن أهل اليمامة آمنوا بمسيلمة الكذاب الذي صنف قرآنا وفعل العظائم، فبعث أبو بكر الصديق -الذي من أفضل أعماله عند الله تعالى قتاله هؤلاء الكفرة- جيشا من أفضل الصحابة وعليهم خالد سيف الله على رغم أنفك يقاتلون مسيلمة بعد أن قاتلوا طليحة الأسدي الذي تنبأ أيضا واتبعه أهل نجد، ثم أسلم طليحة وصلح أمره واستشهد في حرب مسيلمة مثل زيد بن الخطاب وثابت بن قيس وأسيد بن حضير وسالم ومولاه أبو حذيفة وأبو دجانة.

وقرآن مسيلمة ضحكة مثل: "يا ضفدع بنت ضفدعين نقي كم تنقين لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين رأسك في الماء وذنبك في الطين، إن الأرض بيننا وبين قريش ولكن نصفين ولكن قريشا قوم لا يعدلون". ومثل قوله: "والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا واللاقمات لقما. ومثل: والفيل وما أدراك ما الفيل له زلوم طويل إن ذلك من خلق ربنا الجليل".

ولما سمع أبو بكر هذا الكلام قال: ويلكم أين يذهب بكم إن هذا كلام لم يخرج من إل.

[وفي الجملة فأمر مسيلمة الكذاب وادعاؤه النبوة واتباع بني حنيفة له باليمامة وقتال الصديق لهم على ذلك أمر متواتر مشهور قد علمه الخاص والعام كتواتر أمثاله. وليس هذا من العلم الذي تفرد به الخاصة بل علم الناس بذلك أظهر من علمهم بقتال الجمل وصفين، فقد ذكر عن بعض أهل الكلام أنه أنكر الجمل وصفين وهذا الإنكار وإن كان باطلا فلم نعلم أحدا أنكر قتال أهل اليمامة وأن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة وأنهم قاتلوه على ذلك. لكن هؤلاء الرافضة لجحدهم هذا وجهلهم به بمنزلة إنكارهم كون أبي بكر وعمر دفنا عند النبي ﷺ وإنكارهم موالاة أبي بكر وعمر للنبي ﷺ ودعواهم أنه نصّ على علي بالخلافة. بل منهم من ينكر أن تكون زينب ورقية وأم كلثوم من بنات النبي ﷺ، ومنهم من يقول] إن الصحابة بعجوا بطن فاطمة حتى طرحت، وهدموا سقف بيتها على من فيه. فهم يعمدون إلى الأمور الثابتة المتواترة فينكرونها وإلى الأمور المعدومة أو المختلقة فيثبتونها، فلهم أوفر نصيب من قوله تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه} فتراهم يؤمنون والله بالكذب ويكذبون بالحق، [وهذا حال المرتدين. وهم يدعون أن أبا بكر وعمر ومن اتبعهما ارتدوا عن الإسلام. وقد علم الخاص والعام أن أبا بكر هو الذي قاتل المرتدين.] فيالله كيف نخاطب من يزعم أن أهل اليمامة مظلومون مسلمون؟

[وقوله: "إنهم سموا بني حنيفة مرتدين لأنهم لم يحملوا الزكاة إلى أبي بكر" فهذا من أظهر الكذب وأبينه، فإنه إنما قاتل بني حنيفة لكونهم آمنوا بمسيلمة الكذاب واعتقدوا نبوته. وأما مانعو الزكاة فكانوا قوما آخرين غير بني حنيفة، وهؤلاء كان قد وقع لبعض الصحابة شبهة في جواز قتالهم.] وأما بنو حنيفة فلم يتوقف أحد في وجوب قتالهم.

وأما قولك: "ولم يسموا من استحل دماء المسلمين ومحاربة أمير المؤمنين مرتدا [مع أنهم سمعوا قول النبي ﷺ: يا علي حربي حربك وسلمي سلمك. ومحارب رسول الله ﷺ كافر بالإجماع" فيقال: دعواهم أنهم سمعوا هذا الحديث من النبي ﷺ أو عنه كذب عليهم، فمن الذي نقل عنهم أنهم سمعوا ذلك. وهذا الحديث ليس في شيء من كتب الحديث المعروفة ولا روي بإسناد معروف، بل هو كذب موضوع على النبي ﷺ باتفاق أهل العلم بالحديث.]

ثم علي لم يكن قتاله يوم الجمل وصفين بأمر من النبي ﷺ بل باجتهاده. قال يونس عن الحسن عن قيس بن عباد قال: قلت لعلي: أخبرنا عن مسيرك هذا أعهد عهد إليك رسول الله ﷺ أم رأي رأيته؟ قال: ما عهد إلي شيئا ولكن رأي رأيته.

فلو كان محارب علي محاربا لرسول الله ﷺ مرتدا لكان علي حكم فيهم بسيرة المرتدين. بل تواتر عنه يوم الجمل أنه ما اتبع مدبرهم ولم يجهز على جريحهم ولا غنم أموالهم ولا سبى ذراريهم. وهذا مما أنكره عليه الخوارج وقالوا: إن كانوا مؤمنين فلم قاتلتهم وإن كانوا كفارا فلم حرمت نساءهم وأموالهم؟ فبعث ابن عمه ابن العباس يناظرهم فقال لهم: قد كانت عائشة فيهم، فإن قلتم إنها ليست أمنا كذبتم القرآن، وإن قلتم هي أمنا واستحللتم سبيها ووطئها كفرتم. وكان يقول في أصحاب الجمل: إخواننا بغوا علينا طهرهم السيف. ونقل عنه أنه صلى على قتلى الطائفتين.

ثم إن كان أهل صفين مرتدين كيف جاز للإمام المعصوم عندكم وهو الحسن أن ينزل عن الخلافة ويسلمها إلى مرتد. ثم الله قد سماهم مؤمنين في قوله: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} وقال الرسول ﷺ: «إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» فلو قالت لهم النواصب أخزاهم الله: فعلي استحل الدماء وقاتل برأيه على رياسته، وقد قال النبي ﷺ: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» وقال: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» فماذا تردون عليهم؟

واعلم أن طائفة من الفقهاء الحنفية والشافعية والحنبلية جعلوا قتال مانعي الزكاة وقتال الخوارج من قتال البغاة، وجعلوا قتال الجمل وصفين من ذلك. وهذا القول خطأ وخلاف نص أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم ومخالف للسنة. فإن الخوارج أمر النبي ﷺ بقتالهم واتفق على ذلك الصحابة. وأما قتال الجمل وصفين فهو قتال فتنة ليس فيه أمر الرسول ولا إجماع من الصحابة. وأهل صفين لم يبدأوا عليا بقتال. ثم أبو حنيفة وغيره لا يجوزون قتال البغاة إلا أن يبدأوا الإمام. وأبو حنيفة وأحمد [ومالك] لا يجوزون للإمام قتال من قام بالواجب [إذا كانت طائفة ممتنعة وقالت لا نؤدي زكاتنا إلى فلان. فيجب الفرق بين قتال المرتدين وقتال الخوارج المارقين]. أما قتال مانعي الزكاة فآكد من قتال الخوارج إذا كانوا لم يخرجوها بالكلية ولم يقروا بها. وأما قتال البغاة المذكور في القرآن فنوع ثالث غير هذا وهذا. فإنه تعالى لم يأمرنا بقتال البغاة ابتداء بل بالإصلاح وليس هذا حكم المرتدين ولا الخوارج.

وقتال الجمل وصفين هل هو من قتال البغاة أو من قتال الفتنة التي القاعد فيها خير من القائم؟ فمن قعد من الصحابة وجمهور أهل الحديث يقولون هو قتال فتنة. وقوله تعالى: {فإن بغت إحداهما} يعني [إحدى] الطائفتين المقتتلتين لا طائفة مؤمنة لم تقاتل، فإن هذه ليس في الآية أمرٌ بقتالها. فإن كان قوله: {فإن بغت} بعد الإصلاح فهو أوكد، وإن كان بعد الاقتتال حصل المقصود. فأصحاب معاوية [إن كانوا قد] بغوا إذ لم يبايعوا عليا فما في الآية أمر بقتالهم. ولو قدرنا أنهم بغوا بعد القتال فما وجد أحد يصلح بين الطائفتين.

قلتُ: لكن سماهم النبي ﷺ بغاة في قوله لعمار: «تقتلك الفئة الباغية» وهذه مباحث لا ترجع إلى تفكيرهم بوجه.

ومما يبين كذب هذا القول أنه لو كان حرب علي حربا للرسول والله قد تكفل بنصر رسوله كما قال: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا} {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون} لوجب أن يغلب محاربَ الرسول. وما كان الأمر كذلك. بخلاف الخوارج فإنهم من جنس المحاربين لله ورسوله فاقتصر عليهم، وقد قال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} يعني قطاع الطريق ومع هذا فلا نكفرهم بذلك، ولو كفرناهم لقتلناهم ولا بد. قال: "وقد أحسن بعض الفضلاء حيث يقول: شر من إبليس من لم يسبقه في سالف طاعة، وجرى معه في ميدان معصية - قال - ولا شك بين العلماء أن إبليس كان أعبد الملائكة وكان يحمل العرش وحده ستة آلاف سنة ثم استكبر ولعن. ومعاوية لم يزل في الإشراك وعبادة الأصنام إلى أن أسلم ثم استكبر عن طاعة الله في نصب أمير المؤمنين علي إماما فكان شرا من إبليس".

فنقول: [هذا الكلام فيه من الجهل والضلال والخروج عن دين الإسلام وكل دين بل وعن العقل الذي يكون لكثير من الكفار ما لا يخفى على من تدبره. فإن] إبليس أكفر الكفرة، ومن كفر فإنما هو من أتباعه وقتلاه، فكيف يكون أحد شرا منه. وقول القائل: شر من إبليس من لم يسبقه إلى طاعة، هذا يقتضي أن كل من عصى الله فهو شر من إبليس. ثم نقول: إن أحدا من البشر لا يجري مع إبليس في ميدان معصيته كلها ولا يتصور أن بشرا يساويه في معصيته لأنه عاند ربه كفاحا ثم تفرغ لإغواء الخلق إلى يوم القيامة. ثم عبادته المتقدمة حبطت بكفره. وأيضا فمن الذين قال إن إبليس كان أعبد الملائكة وأنه حمل العرش وحده وأنه كان طاوس الملائكة وأنه ما ترك في السماء رقعة ولا في الأرض بقعة إلا وله فيها سجدة وركعة: هذا مبناه على النقل ولم تأت آية ولا حديث بذلك. ثم يفتري ويكذب ويقول: "لا شك بين العلماء" فهذا إن كان قاله بعض الوعاظ أو المصنفين في الرقائق أو بعض من ينقل في التفسير من الإسرائيليات ما لا أصل له، فمثل هذا لا يحتج به في جرزة بقل، فكيف يحتج به في جعل إبليس خيرا من كل من عصى الله من بني آدم ويجعل الصحابة من هؤلاء الذين إبليس خير منهم.] فما وصف الله ولا رسوله إبليس بخير قط ولا كان من حملة العرش فضلا عن أن يحمله وحده. هذه خرافة وهذيان. ثم إبليس حبط عمله ومعاوية محي كفره بإيمانه كغيره من الصحابة. فما خطأك في زعمك ارتداد معاوية وعثمان وصفوة الصحابة المشهود لهم بالجنة إلا [كخطأ] الخوارج في تكفيرهم عليا. وعلى زعمك يكون ما زال علي مغلوبا مع المرتدين ويكون الحسن قد خلع نفسه وسلم الأمر لمرتد، وعلى زعمك يكون نصر الله لخالد أعظم من نصره عليا. وما كل من عصى الله يكون مستكبرا عن طاعته. قال: "وتمادى بعضهم في التعصب حتى اعتقد إمامة يزيد، مع ما صدر عنه من قتل الحسين وسبي نسائه في البلاد على الجمال بغير قتب وزين العابدين مغلول".

فيقال: لم نعتقد أنه من الخلفاء الراشدين كما قاله بعض الجهلة من الأكراد وكما قيل هو نبي؛ فهؤلاء نظراء من ادعى نبوة علي أو إلهيته. وحكي عن بعض أتباع بني أمية أن الخليفة تقبل منه الحسنات ويتجاوز له عن السيئات. فهؤلاء مع ضلالهم أقل ضلالا ممن يعتقد عصمة المنتظر الذي يقولون إنه في السرداب من أربعمائة وخمسين سنة وهو معدوم. وقد ذهبت المرجئة وهم خلائق إلى أن التوحيد لا يضر معه شيء. ونحن نقول خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم صارت ملكا كما ورد في الحديث. وإن عنيت باعتقاد إمامة يزيد أنه كان ملك وقته وصاحب السيف كأمثاله من المروانية والعباسية فهذا أمر متيقن، وحكم يزيد على حوزة الإسلام سوى مكة فإنه غلب عليها ابن الزبير وامتنع عن بيعة يزيد، ولم يدع إلى نفسه حتى بلغه موت يزيد. [فكون الواحد من هؤلاء إماما بمعنى أنه كان سلطانا ومعه السيف يولي ويعزل ويعطي ويحرم ويحكم وينفذ ويقيم الحدود ويجاهد الكفار ويقسم الأموال أمر مشهور متواتر لا يمكن جحده. وهذا معنى كونه إماما وخليفة وسلطانا كما أن إمام الصلاة هو الذي يصلي بالناس. فإذا رأينا رجلا يصلي بالناس كان القول بأنه إمام أمرا مشهودا محسوسا لا تمكن المكابرة فيه. وأما كونه برا أو فاجرا مطيعا أو عاصيا فذاك أمر آخر. فأهل السنة إذا اعتقدوا إمامة الواحد من هؤلاء يزيد أو عبد الملك أو المنصور أو غيرهم كان بهذا الاعتبار. ومن نازع في هذا فهو شبيه بمن نازع في ولاية أبي بكر وعمر وعثمان وفي ملك كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم. وأما كون الواحد من هؤلاء معصوما فليس هذا اعتقاد أحد من العلماء. وكذلك كونه عادلا في كل أموره مطيعا في جميع أفعاله؛ ليس هذا اعتقاد أحد من المسلمين. وكذلك وجوب طاعته في كل ما يأمر به وإن كان معصية لله ليس هو اعتقاد أحد من المسلمين. ولكن مذهب أهل السنة والجماعة أن هؤلاء يُشاركون فيما يحتاج إليهم فيه من طاعة الله، فنصلي خلفهم الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات التي يقيمونها هم لأنها لو لم تصل خلفهم أفضى إلى تعطليها، ونجاهد معهم الكفار، ونحج معهم البيت العتيق، ويستعان بهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود. فإن الإنسان لو قدر أن يحج في رفقة لهم ذنوب وقد جاءوا يحجون لم يضره هذا شيئا. وكذلك الغزو وغيره من الأعمال الصالحة إذا فعلها البر وشاركه في ذلك الفاجر لم يضره ذلك شيئا. فكيف إذا لم يمكن فعلها إلا على هذا الوجه. ويستعان بهم أيضا في العدل في الحكم والقسم، فإنه لا يمكن عاقلا أن ينازع في أنهم كثيرا ما يعدلون في حكمهم وقسمهم. ويعاونون على البر والتقوى ولا يعاونون على الإثم والعدوان.] فإذا غلب على الأمر خليفة كيزيد وعبد الملك والمنصور فإما أن يقال يجب منعه من الأمر وقتاله وهذا رأي فاسد يؤدي إلى سفك الدماء، وإن كان الخارج ديّنا، [وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير، كالذين خرجوا على يزيد في المدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك في العراق، وكابن المهلب الذي خرج على أبيه بخراسان، وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضا، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة. وغاية هؤلاء إما أن يغلبوا وإما أن يغلبوا، ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة. فإن عبد الله بن علي [العباسي] وأبا مسلم قتلا خلقا كثيرا وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور. وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب فهزموا وهزم أصحابهم، فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا. والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين وصلاح الدنيا. وإن كان فاعل ذلك من عباد الله المتقين ومن أهل الجنة فليسوا أفضل من علي وطلحة والزبير وعائشة وغيرهم، ومع هذا لم يحمدوا ما فعلوه من القتال وهم أعظم قدرا عند الله وأحسن نية من غيرهم. وكذلك أهل الحرة كان فيهم من أهل العلم والدين خلق، وكذلك أصحاب ابن الأشعث كان فيهم خلق من أهل العلم والدين والله يغفر لهم كلهم. وقد قيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث: أين كنت يا عامر؟ قال: "كنت حيث يقول الشاعر:

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى ** وصوت إنسان فكدت أطير

أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء".

وكان الحسن البصري يقول: إن الحجاج عذاب الله فلا تدافعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع فإن الله يقول: {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} وكان طلق بن حبيب يقول: اتقوا الفتنة بالتقوى، فقيل له أجملْ لنا التقوى، فقال: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو رحمة الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عذاب الله. رواه أحمد وابن أبي الدنيا.

وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث. ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي ﷺ وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم، وإن كان قد قاتلهم في الفتنة خلق كثير من أهل العلم والدين. وباب قتال أهل البغي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشتبه بالقتال في الفتنة وليس هذا موضع بسطه. ومن تأمل الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي ﷺ في هذا الباب واعتبر أيضا أولي الأبصار علم أن الذي جاءت به النصوص النبوية خير الأمور.

ولهذا لما أراد الحسين رضي الله عنه أن يخرج إلى أهل العراق لما كاتبوه كتبا كثيرة أشار عليه أفاضل أهل العلم والدين كابن عمر وابن عباس وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن لا يخرج وغلب على ظنهم أنه يقتل حتى أن بعضهم قال: أستودعك الله من قتيل، وقال بعضهم: لولا الشناعة لأمسكتك ومنعتك من الخروج. وهم بذلك قاصدون نصيحته طالبون لمصلحته ومصلحة المسلمين. والله ورسوله إنما يأمر بالصلاح لا بالفساد. لكن الرأي يصيب تارة ويخطئ أخرى. فتبين أن الأمر على ما قاله أولئك إذ لم يكن في الخروج مصلحة لا في دين ولا في دنيا، بل تمكن أولئك الظلمة الطغاة من سبط رسول الله ﷺ حتى قتلوه مظلوما شهيدا، وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يحصل لو قعد في بلده. فإن ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء بل زاد الشر بخروجه وقتله ونقص الخير بذلك وصار سببا لشر عظيم. وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن كما كان قتل عثمان مما أوجب الفتن. وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي ﷺ من الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأن من خالف ذلك متعمدا أو مخطئا لم يحصل بفعله صلاح بل فساد. ولهذا أثنى النبي ﷺ على الحسن بقوله: «إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» ولم يثن على أحد لا بقتال في فتنة ولا بخروج على الأئمة ولا نزع يد من طاعة ولا بمفارقة الجماعة.]

وقد ثبت في البخاري من حديث ابن عمر عن النبي ﷺ: «أول جيش يغزون القسطنطينية مغفور لهم» فأول من غزا القسطنطينية جيش بعثهم معاوية وعليهم ابنه يزيد وفيهم من سادات الصحابة أبو أيوب الأنصاري فحاصروها. ثم الفتن كالجمل وصفين والحرة ومقتل الحسين ووقعة مرج راهط وقتلة التوابين بعين الورد وفتنة ابن الأشعث وأضعاف ذلك مما يطول ذكره، وأعظم من ذلك فتنة عثمان. ولهذا جاء في الحديث [المرفوع الذي رواه الإمام أحمد في المسند وغيره]: «ثلاث من نجا منهن فقد نجا موتى وقتل خليفة مضطهد بغير حق والدجال»

وأما قوله: "السبي والحمل على الجمال بلا أقتاب" فهذا من الكذب الواضح؛ ما استحلت أمة محمد ﷺ سبي هاشمية، وإنما قاتلوا الحسين خوفا منه ومن أن يزيل عنهم الملك، فلما استشهد فرغ الأمر وبعث بآله إلى المدينة. ولكن جهل الرافضة إليه المنتهى. ولا ريب أن قتل الحسين من أعظم الذنوب وفاعله والراضي به مستحق للعقاب. لكن ليس قتله بأعظم من قتل أبيه وقتل زوج أخته عمر وقتل زوج خالته عثمان. قال: "وأنزل في الحسن والحسين: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى}"

فهذا باطل. فإن الآية مكية بلا ريب [نزلت قبل أن يتزوج علي بفاطمة رضي الله عنهما وقبل أن يولد له الحسن والحسين. فإن عليا إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد الهجرة في العام الثاني، ولم يدخل بها إلا بعد غزوة بدر في شهر رمضان سنة اثنتين. وقد تقدم الكلام على الآية الكريمة وأن المراد بها ما بينه ابن عباس رضي الله عنها من أنه لم تكن قبيلة من قريش إلا وبينها وبين رسول الله ﷺ قرابة فقال: {لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} إلا أن تودوني في القرابة التي بيني وبينكم. رواه البخاري وغيره].

قال: "وتوقف جماعة في لعنته -يعني يزيد- مع أنه عندهم ظالم، وقد قال تعالى: {ألا لعنة الله على الظالمين} وقد سأل مهنا أحمد بن حنبل عن يزيد فقال: هو الذي فعل ما فعل. وقال له ولده صالح: إن قوما ينسبوننا إلى تولي يزيد، فقال: يا بني، وهل يوالي يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر، فقال: لم لا تلعنه؟ قال: وكيف لا ألعن من لعنه الله، قال تعالى: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} فهل يكون فساد أعظم من نهب المدينة وسبي أهلها وقتل سبعمائة من قريش والأنصار وقتل عشرة آلاف ممن لم يعرف من عبد أو حر حتى وصلت الدماء إلى قبر رسول الله ﷺ وامتلأت الروضة، ثم ضرب الكعبة بالمنجنيق وهدمها وأحرقها، وقال رسول الله ﷺ: إن قاتل الحسين في تابوت من نار عليه نصف عذاب أهل النار. وقد قال ﷺ: اشتد غضب الله وغضبي على من أراق دم أهلي وآذاني في عترتي".

فيقال: القول في لعنة يزيد كالقول في لعنة أمثاله من الملوك والخلفاء وغيرهم. ويزيد خير من غيره كالمختار الذي انتقم من قتلة الحسين، فإنه ادعى أن جبريل ينزل عليه، وخير من الحجاج. [ومع هذا فيقال: غاية يزيد وأمثاله من الملوك أن يكونوا فساقا.] فلعنة الفاسق المعين ليست مأمورا بها إنما جاءت السنة بلعنة الأنواع مثل: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده»، «لعن الله آكل الربا وموكله»، «لعن الله المحلل والمحلل له»، «لعن الله الخمر وعاصرها وغير ذلك» وذهب طائفة من الفقهاء إلى جواز لعنة المعين، [وقيل إنه لا يجوز كما قال ذلك طائفة أخرى. والمعروف عن أحمد كراهية لعن المعين وأنه يقول كما قال الله تعالى: {ألا لعنة الله على الظالمين}] وفي البخاري أن رجلا كان يدعي حمارا وكان يشرب الخمر وكان يؤتى به النبي ﷺ فيضربه، فقال: رجل لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي ﷺ: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» فنهى ﷺ عن لعنة هذا المعين مع كونه لعن شارب الخمر مطلقا. ومن المعلوم أن كل مسلم لا بد أن يحب الله ورسوله إلا أن يكون منافقا فذاك ملعون. ومن جوز لعنة المعين لفسقه يقول: ألعنه وأصلي عليه فإنه مستحق للعقاب فيلعن ومستحق للثواب من وجه الإسلام فيصلي عليه. وهذا مذهب الصحابة وسائر أهل السنة والكرامية والمرجئة ومذهب كثير من الشيعة الذين يقولون إن الفاسق لا يخلد في النار. وقالت الخوارج والمعتزلة وبعض الشيعة: يخلد. وأجمعوا على أنه إذا تاب لم يخلد. والذي يلعن يزيد ونحوه يحتاج إلى ثبوت أنه فاسق ظالم وأن لعنة الفاسق الظالم المعين جائزة وإلى أن يزيد مات ولم يتب مما اجترم. ثم العذاب قد يرتفع موجبه لمعارض راجح كحسنات ماحية ومصائب مكفرة. وقد قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وقد صح أن أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور لهم، وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد. [ونحن نعلم أن أكثر المسلمين لا بد لهم من ظلم، فإن فُتح هذا الباب ساغ أن يلعن أكثر موتى المسلمين، والله تعالى أمر بالصلاة على موتى المسلمين لم يأمر بلعنتهم. ثم الكلام في لعنة الأموات أعظم من لعنة الحي.] وقد صح عنه ﷺ أنه قال: «لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا»

وأما نقلك عن أحمد فالثابت عنه من رواية [ابنه] صالح أنه قال: ومتى رأيت أباك يلعن أحدا؟ ونُقل عنه لعنته من رواية منقطعة [ليست ثابتة عنه].

وقوله تعالى: {أولئك الذين لعنهم الله} [لا يدل على لعن معين. ولو كان كل ذنب لعن فاعله يلعن المعين الذي فعله للعن جمهور الناس. وهذا بمنزلة الوعيد المطلق لا يستلزم ثبوته في حق المعين إلا إذا وجدت شروطه وانتفت موانعه وهكذا اللعن. هذا بتقدير أن يكون يزيد فعل ما يقطع به الرحم. ثم إن هذا تحقق في كثير من بني هاشم الذين تقاتلوا من العباسيين والطالبيين؛ فهل يُلعن هؤلاء كلهم؟ وكذلك من ظلم قرابة له لا سيما وبينه وبينه عدة آباء أيلعنه بعينه؟ ثم إذا لعن هؤلاء لعن كل من شمله ألفاظه وحينئذ فيلعن جمهور المسلمين! وقوله تعالى: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم}] وعيدٌ عام في كل من فعل ذلك فقد فعل بنو هاشم بعضهم ببعض أعظم مما فعل يزيد فإن قلت بموجبه لعنت ما شاء الله من العباسيين والعلويين [وغيرهم من المؤمنين].

ولابن الجوزي كتاب في إباحة لعن يزيد يرد فيه على عبد المغيث الحربي [فإنه كان ينهى عن ذلك]. وقيل إن الخليفة الناصر لما بلغه نهي الشيخ عبد المغيث عن ذلك قصده وسأله عن ذلك [وعرف عبد المغيث أنه الخليفة ولم يظهر أنه يعلمه] فقال: أنا قصدي كف الألسنة عن لعن خلفاء المسلمين وولاتهم، وإلا لو فتحنا هذا الباب لكان خليفتنا أحق باللعن لفعله العظائم [وجعل يعدد مظالم الخليفة] حتى قال له: ادع لي يا شيخ، وذهب.

وأما فعله بأهل الحرة، فإنهم لما خلعوه وأخرجوا نوابه و[حاصروا] عشيرته أرسل إليهم مرة بعد مرة يطلب الطاعة فامتنعوا وصمموا، فجهز إليهم مسلم بن عقبة المري وأمره أن ينذرهم ويهددهم فإن أبوا قاتلهم فإذا ظهر عليهم أنهب المدينة ثلاثا، وهذه من كبائره. ولهذا قيل لأحمد: أنكتب الحديث عن يزيد؟ فقال: لا ولا كرامة أوليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل؟ لكن لم يقتل جميع الأشراف ولا بلغ القتلى عشرة آلاف ولا وصلت الدماء إلى المسجد بل ولا كان القتل في المسجد بل بظاهر المدينة. ولكن ديدنكم أنكم لا تنقلون صدقا وإن كان صدقا طرزتموه بكذب.

وأما الكعبة فلم تقصد بإهانة وإنما قصدوا ابن الزبير. ولم يهدم يزيد الكعبة ولا أحرقها باتفاق المسلمين، ولكن طارت إلى الأستار شرارة من نار من امرأة فاحترقت الكعبة فهدمها ابن الزبير وأعادها أحسن مما كانت على الوجه الذي وصفه النبي ﷺ.

وأما خبر: "قاتل الحسين في تابوت من نار" فهو من كذب من لا يستحي من المجازفة. فهل يكون على واحد نصف عذاب أهل النار؟ ما بقي لإبليس ولفرعون ولقتلة الأنبياء ولأبي جهل؟ فقاتل عمر وعثمان وعلي أعظم جرما من قاتل الحسين. بل هذا الغلو الزائد يقابل بغلو الناصبة الذين يزعمون أن الحسين من الخوارج الذين شقوا العصا وأنه يجوز قتله لقوله ﷺ: «من أتاكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه كائنا من كان» أخرجه مسلم. وأهل السنة يقولون: قتل مظلوما شهيدا وقاتلوه ظلمة معتدون، وأحاديث قتل الخارج لم تتناوله فإنه لم يفرق الجماعة ولم يقتل إلا وهو طالب للرجوع أو المضي إلى يزيد داخلا فيما دخل فيه سائر الناس معرضا عن تفريق الكلمة.

وكذلك الحديث لم يصح ولا ينسبه إلى النبي ﷺ إلا جاهل، فإن العاصم لدم الحسين من الإيمان والتقوى أعظم من مجرد القرابة. فقد قال ﷺ: «لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها» فقد أخبر عن أعز أهله عليه بحكم الله الذي لا فرق فيه بين الشريف والدني، فلو زنا العلوي المحصن رجم ولو قتل قتل. قال النبي ﷺ: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» وكذلك إيذاء الرسول في عترته وصحابته وسنته من العظائم. قال: "فلينظر العاقل أي الفريقين أحق بالأمن الذي نزه الله وملائكته وأنبياءه وأئمته ونزه الشرع عن المسائل الرديئة ومن يبطل الصلاة بإهمال الصلاة على أئمتهم ويذكر أئمة غيرهم أم الذي فعل ضد ذلك".

فنقول: ما ذكرته من التنزيه إنما هو تعطيل وتنقيص لله ولرسوله، وذلك قول نفاة الصفات، يتضمن وصفه تعالى بسلب صفات الكمال التي يشابه فيها الجمادات والمعدومات. فإذا قالوا لا تقوم به حياة ولا علم ولا قدرة ولا كلام [ولا مشيئة] ولا حب [ولا بغض] ولا رضا ولا سخط ولا يُرى [ولا يفعل بنفسه فعلا] ولا يقدر أن يتصرف بنفسه كانوا قد شبهوه بالجمادات المنقوصات فكان تنقصيا وتعطيلا. وإنما التنزيه أن ينزه عن النقائص المنافية للكمال، فينزه عن الموت والنوم والسِّنة والعجز والجهل والحاجة، كما نزه نفسه [في كتابه] وتنزه عن أن يكون له فيها مثل.

وأما الأنبياء فإنكم سلبتم ما لهم من الكمال [وعلو الدرجات بحقيقة التوبة والاستغفار والانتقال من كمال إلى ما هو أكمل منه] وكذبتم بما أخبر الله به [من ذلك] وحرفتم الآيات وظننتم أن انتقال الآدمي من الجهل إلى العلم ومن الضلال إلى الهدى ومن الغي إلى الرشد نقص، ولم تعلموا أن الذي يذوق الخير والشر ويعرفهما يكون حبه للخير وبغضه للشر أعظم ممن لا يعرف إلا الخير كما قال عمر: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية.

وأما تنزيه الأئمة فمن الفضائح التي يستحى من ذكرها لا سيما إمام لا ينتفع به في دين ولا دنيا أو هو شيء معدوم.

فأما تنزيه الشرع فقد مر أن أهل السنة ما اتفقوا على مسألة رديئة بخلاف الرافضة.

ثم بالضرورة يعلم أن النبي ﷺ لم يأمر بالصلاة على علي ولا على الاثني عشر لا في صلاة ولا في خارجها معينا، وأن الصحابة والتابعين ما فعلوا ذلك في صلاة قط. فمن أوجب الصلاة على الاثني عشر في صلاته أو أبطل الصلاة بإهمال الصلاة عليهم فقد بدل الدين. فإن قيل: المراد أن يصلي على آل محمد؛ قيل: فيدخل فيهم بنو هاشم وأمهات المؤمنين. والإمامية يذمون بني العباس.

والعجب من هؤلاء الرافضة يدعون تعظيم آل محمد وهم سعوا في مجيء التتار حتى قتلوا خلقا من آل محمد ﷺ من بني علي وبني العباس وسبوا نساءهم وأولادهم وقتلوا ألف ألف وثمانمائة ألف.

وفي الصحيح قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك قال: «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته..» الحديث.

واتفق المسلمون على أن آل العباس من ذوي القربى وكذا بني الحارث بن عبد المطلب، وأنهم من آل محمد الذين تحرم عليهم الصدقة. وعند بعض المالكية والحنبلية آل محمد أمته. وعند طائفة من الصوفية هم الأتقياء من أمته. ثم جمهور الفقهاء لا يوجبون الصلاة على النبي ﷺ وآله في الصلاة، ومن أوجب الصلاة على آل عموما لم يجوز الإقتصار على بعض الآل. وكذلك إبطال الصلاة بالصلاة على خليفة من الخلفاء معين قول باطل، فلو دعا لمعين أو عليه لم تبطل صلاته عند أكثر العلماء. فقد قنت النبي ﷺ يدعو لقوم ويلعن آخرين بأسمائهم.

هامش

=========

هذا اللفظ لأحمد وأبي داود والترمذي. وفي صحيح مسلم: «لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها».

في الأصل: "راض بغضبهم"

سورة الأحزاب 6: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم}

==========

الفصل الثالث

(في إمامة علي)

قال الرافضي: "إن الإمامية لما رأوا فضائل أمير المؤمنين وكمالاته لا تحصى قد رواها الموافق والمخالف ورأوا الجمهور قد نقلوا عن غيره مطاعن ولم ينقلوا في علي طعنا اتبعوه وجعلوه إماما لهم وتركوا غيره. فنذكر منها شيئا يسيرا مما هو صحيح عندهم ليكون حجة عليهم يوم القيامة. فمن ذلك ما رواه أبو الحسن الأندلسي في الجمع بين الصحاح الستة عن أم سلمة أن قوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} نزلت في بيتها وهي جالسة عند الباب فقلت: يا رسول الله ألست من أهل البيت؟ فقال: إنك إلى خير، إنك من أزواج النبي ﷺ. قالت: وفي البيت علي وفاطمة والحسن والحسين فجللهم [بكساء] وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. "

فنقول: الأحاديث الثابتة في الفضائل لأبي بكر وعمر أكثر وأعظم [من الفضائل الثابتة لعلي]. ثم أكثر الأحاديث التي أوردها [وذكر أنها] في معتمد قول الجمهور من أبين الكذب [على علماء الجمهور] وما صح منها ليس فيه ما يدل على فضل علي على أبي بكر، وغير علي فيها مشارك. وأما فضائل الشيخين فخصائص [لهما، ولا سيما فضائل أبي بكر فإن عامتها خصائص لم يشركه فيها غيره].

وأما [ما ذكره من] المطاعن فلا يمكنه أن يوجه على الثلاثة من مطعن إلا وجه الناصبي على علي مثله.

[وأما قوله: "إنهم جعلوه إماما لهم حيث نزهه المخالف والموافق وتركوا غيره حيث يروي فيه من يعتقد إمامته من المطاعن ما يطعن في إمامته"

فيقال: هذا كذب بين، فإن عليا رضي الله عنه لم ينزهه المخالفون بل القادحون في علي طوائف متعددة، وهم أفضل من القادحين في أبي بكر وعمر وعثمان. والقادحون فيه أفضل من الغلاة فيه. فإن الخوارج متفقون على كفره وهم عند المسلمين كلهم خير من الغلاة الذين يعتقدون إلهيته أو نبوته. بل هم والذين قاتلوه من الصحابة والتابعين خير عند جماهير المسلمين من الرافضة الاثني عشرية الذين اعتقدوه إماما معصوما. وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما ليس في الأمة من يقدح فيهما إلا الرافضة. والخوارج المكفرون لعلي يوالون أبا بكر وعمر ويترضون عنهما. والمروانية الذين ينسبون عليا إلى الظلم ويقولون إنه لم يكن خليفة يوالون أبا بكر وعمر مع أنهما ليسا من أقاربهما. فكيف يقال مع هذا "إن عليا نزهه الموافق والمخالف بخلاف الخلفاء الثلاثة" ومن المعلوم أن المنزهين لهؤلاء أعظم وأكثر وأفضل، وأن القادحين في علي حتى بالكفر والفسوق والعصيان طوائف معروفة وهم أعلم من الرافضة وأدين، والرافضة عاجزون معهم علما ويدا، فلا يمكن الرافضة أن تقيم عليهم حجة تقطعهم بها ولا كانوا معهم في القتال منصورين عليهم. والذين قدحوا في علي رضي الله عنه جعلوه كافرا وظالما ليس فيهم طائفة معروفة بالردة عن الإسلام، بخلاف الذين يمدحونه ويقدحون في الثلاثة كالغالية الذين يدعون إلهيته من النصيرية وغيرهم وكالإسماعيلية الملاحدة الذين هم شر من النصيرية وكالغالية الذين يدعون نبوته، فإن هؤلاء كفار مرتدون كفرهم بالله ورسوله ظاهر لا يخفى على عالم بدين الإسلام. فمن اعتقد في بشر الإلهية أو اعتقد بعد محمد ﷺ نبيا.. فهذه المقالات ونحوها مما يظهر كفر أهلها لمن يعرف الإسلام أدنى معرفة، بخلاف من يكفر عليا ويلعنه من الخوارج وممن قاتله ولعنه من أصحاب معاوية وبني مروان وغيرهم، فإن هؤلاء كانوا مقرين بالإسلام وشرائعه يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون البيت العتيق ويحرمون ما حرم الله ورسوله وليس فيهم كفر ظاهر، بل شعائر الإسلام وشرائعه ظاهرة فيهم معظمة عندهم. وهذا أمر يعرفه كل من عرف أحوال الإسلام. فكيف يدعي مع هذا أن جميع المخالفين نزهوه دون الثلاثة. بل إذا اعتبر الذين كانوا يبغضونه ويوالون عثمان والذين كانوا يبغضون عثمان ويحبون عليا وجد هؤلاء خيرا من أولئك من وجوه متعددة. ولو تخلى أهل السنة عن موالاة علي رضي الله عنه لم يكن في المتولين له من يقدر أن يقاوم المبغضين له من الخوارج والأموية والمروانية فإن هؤلاء طوائف كثيرة. ومعلوم أن شر الذين يبغضونه هم الخوارج الذين كفروه واعتقدوا أنه مرتد عن الإسلام واستحلوا قتله تقربا إلى الله تعالى حتى قال شاعرهم عمران بن حطان:

يا ضربة من تقي ما أراد بها ** إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره يوما فأحسبه ** أوفى البرية عند الله ميزانا

فعارضه شاعر أهل السنة فقال:

يا ضربة من شقي ما أراد بها ** إلا ليبلغ من ذي العرش خسرانا

إني لأذكره يوما فألعنه ** لعنا وألعن عمران بن حطانا

وهؤلاء الخوارج كانوا موجودين في زمن الصحابة والتابعين يناظرونهم ويقاتلونهم، والصحابة اتفقوا على وجوب قتالهم، ومع هذا فلم يكفروهم ولا كفرهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وأما الغالية في علي رضي الله عنه فقد اتفق الصحابة وسائر المسلمين على كفرهم وكفّرهم علي بن أبي طالب نفسه وحرقهم بالنار. وأما الخوارج فلم يقاتلهم علي حتى قتلوا واحدا من المسلمين وأغاروا على أموال الناس فأخذوها. فأولئك حكم فيهم علي وسائر الصحابة بحكم المرتدين وهؤلاء لم يحكموا فيهم المرتدين. وهذا مما يبين أن الذين زعموا أنهم والوه دون أبي بكر وعمر وعثمان يوجد فيهم من الشر والكفر باتفاق علي وجميع الصحابة ما لا يوجد في الذين عادوه وكفروه، وتبين أن جنس المبغضين لأبي بكر وعمر شر عند علي وجميع الصحابة من جنس المبغضين لعلي.]

وحديث الكساء صححه الترمذي. وأما مسلم فأخرجه من حديث عائشة قالت: خرج رسول الله ﷺ ذات غداة وعليه مرط [مرحّل] من شعر أسود فجاء الحسن والحسين فأدخلهما معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس} الآية. [وهذا الحديث قد شركه فيه فاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم فليس هو من خصائصه. ومعلوم أن المرأة لا تصلح للإمامة فعلم أن هذه الفضيلة لا تختص بالأئمة بل يشركهم فيها غيرهم.] ومضمونه الدعوة بأن يذهب الله عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا. والصديق قد أخبر الله عنه بأنه: {الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى} وما دخل علي في الأتقى حينئذ لأنه لم يكن له مال حينئذ بل دخل فيها إذ فتحت خيبر وصار ذا مال.

قال: "وفي قوله تعالى: {إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} قال علي: ما عمل بهذه الآية غيري".

فيقال: الأمر بالصدقة لم يكن واجبا على المسلمين حتى يكونوا عصاة بتركه وإنما أمر بها من أراد النجوى، فاتفق أنه لم يرد النجوى حينئذ إلا علي فتصدق لأجلها. وهذا كوجوب الهدي لمن أراد المتعة ووجوبه على من أُحصر ووجوب الفدية على من به أذى ووجوب الكفارة على من حنث. ثم لم تطل مدة الأمر بالصدقة عند النجوى فما اتفق ذلك إلا لعلي رضي الله عنه فتصدق بدرهمين أو نحوهما. وهذا أبو بكر قد تصدق مرة بماله كله وأتى به النبي ﷺ فقال له: «ما أبقيت لأهلك؟» قال: الله ورسوله.

قال: "وعن محمد بن كعب [القرظي] قال افتخر طلحة بن شيبة [من بني عبد الدار] والعباس وعلي، فقال طلحة: معي مفاتيح البيت ولو أشاء بت فيه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية ولو أشاء لبت في المسجد، وقال علي: لقد صليت إلى القبلة ست أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد، فنزلت: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله}"

فيقال: [هذا اللفظ لا يعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة بل دلالات الكذب عليه ظاهرة. منها أن طلحة بن شيبة لا وجود له وإنما خادم الكعبة هو شيبة بن عثمان بن [أبي] طلحة، وهذا مما يبين لك أن الحديث لم يصح. ثم فيه قول العباس: "لو أشاء بت في المسجد" فأي كبير أمر في مبيته في المسجد حتى يتبجح به؟ ثم فيه قول علي: "صليت ستة أشهر قبل الناس" فهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة، فإن بين إسلامه وإسلام زيد وأبي بكر وخديجة يوم أو نحوه، فكيف يصلي قبل الناس بستة أشهر؟ وأيضا فلا يقول أنا صاحب الجهاد وقد شاركه فيه عدد كثيرا جدا.] فهذا الحديث موضوع.

ويرد عليه ما في صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله ﷺ فقال رجل: لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا في الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وذكر آخر الجهاد وقال هو أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ﷺ وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله}

فهذا ليس من خصائص علي إذ الذين آمنوا وجاهدوا كثير. وقد قال تعالى: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله} ولا ريب أن جهاد أبي بكر بماله ونفسه أبلغ من جهاد علي [وغيره كما] قال النبي ﷺ [في الحديث الصحيح]: "إن أمنّ الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر" وقال ﷺ: «ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر»

[وأبو بكر كان مجاهدا بلسانه ويده، وهو أول من دعا إلى الله وأول من أوذي في الله بعد رسول الله ﷺ وأول من دافع عن رسول الله ﷺ. وكان مشاركا لرسول الله ﷺ في هجرته وجهاده حتى كان هو وحده معه في العريش يوم بدر، وحتى إن أبا سفيان يوم أحد لم يسأل إلا عن النبي ﷺ وأبي بكر وعمر لما قال: أفيكم محمد؟ فقال النبي ﷺ: «لا تجيبوه» فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فقال النبي ﷺ: «لا تجيبوه» فقال: أفيكم ابن الخطاب؟ فقال النبي ﷺ: «لا تجيبوه» فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم؛ فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله إن الذي عددت أحياء وقد أبقى الله لك ما يخزيك. ذكره البخاري وغيره.]

قال الرافضي: "ومنها ما رواه أحمد بن حنبل أن أنسا قال لسلمان: سل النبي ﷺ من وصيه؟ فسأله فقال: يا سلمان من كان وصي موسى؟ قال: يوشع، قال فإن وصيي ووارثي علي".

قلنا: [هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ليس هو في مسند الإمام أحمد بن حنبل. وأحمد قد صنف كتابا في فضائل الصحابة ذكر فيه فضل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وجماعة من الصحابة، وذكر فيه ما روى في ذلك من صحيح وضعيف للتعريف بذلك وليس كل ما رواه يكون صحيحا. ثم إن في هذا الكتاب زيادات من رواية ابنه عبد الله وزيادات من رواية القطيعي عن شيوخه؛ وهذه الزيادات التي زادها القطيعي غالبها كذب كما سيأتي ذكر بعضها. وشيوخ القطيعي يروون عمن في طبقة أحمد. وهؤلاء الرافضة جهال إذا رأوا فيه حديثا ظنوا أن القائل لذلك أحمد بن حنبل ويكون القائل لذلك هو القطيعي وشيوخ القطيعي الذين يروون عمن في طبقة أحمد. وكذلك في المسند زيادات زادها ابنه عبد الله لا سيما في مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه زاد زيادات كثيرة.] فالحديث من كذب الدجاجلة ولا حدث به والله أحمد. فهذا مسنده بل وهذا الكتاب الذي صنفه في فضائل الصحابة.

قال: "وعن يزيد بن أبي مريم عن علي قال انطلقت أنا ورسول الله ﷺ حتى أتينا الكعبة فصعد رسول الله ﷺ على منكبي فذهبت لأنهض فرأى منى ضعفا فنزل وجلس لي فصعدت على منكبه فنهض بي حتى صعدت على البيت وعليه تمثال نحاس فجعلت أزاوله ثم قذفت به فتكسر وانطلقنا نستبق حتى توارينا".

قلنا: إن صح هذا فما فيه شيء من خصائص الأئمة، فقد كان النبي ﷺ يصلي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص على منكبيه. وسجد مرة فجاء الحسن فارتحله. [فإذا كان يحمل الطفلة والطفل لم يكن في حمله لعلي ما يوجب أن يكون ذلك من خصائصه، وإنما حمله لعجز علي عن حمله. فهذا يدخل في مناقب رسول الله ﷺ. وفضيلة من يحمل النبي ﷺ أعظم من فضيلة من يحمله النبي ﷺ كما حمله يوم أحد من حمله من الصحابة مثل طلحة بن عبيد الله. فإن هذا نفع النبي ﷺ وذاك نفعه النبي ﷺ ومعلوم أن نفعه بالنفس والمال أعظم من انتفاع الإنسان بنفس النبي ﷺ وماله.]

قال: "وعن ابن أبي ليلى قال: قال النبي ﷺ الصديقون ثلاثة حبيب النجار ومؤمن آل فرعون وعلي وهو أفضلهم".

قلنا: وهذا كذب. وقد ثبت أن النبي ﷺ وصف أبا بكر بأنه صديق. وصح من حديث ابن مسعود مرفوعا: «لا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا» فالصديقون بهذا كثير. وقال تعالى في مريم وهي امرأة: {وأمه صديقة}

قال: "وعن النبي ﷺ أنه قال لعلي: «أنت مني وأنا منك»"

قلنا: نعم أخرجاه في الصحيحين من حديث البراء لما تنازع علي وجعفر وزيد في ابنة حمزة فقضى بها لخالتها وكانت تحت جعفر، وقال: «أنت مني وأنا منك» وقال لجعفر: «أشبهت خلقي وخلقي» وقال لزيد: «أنت أخونا ومولانا» [لكن هذا اللفظ قد قاله النبي ﷺ لطائفة من أصحابه]. وفي الصحيحين من حديث أبي موسى أن النبي ﷺ قال في الأشعريين: «هم مني وأنا منهم»

قال: "وعن عمرو بن ميمون قال: لعلي عشر فضائل ليست لغيره قال له النبي ﷺ: لأبعثن رجلا لا يخزيه الله أبدا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فاستشرف لها من استشرف فقال: أين علي بن أبي طالب قالوا: هو أرمد في الرحى يطحن، وما كان أحد يطحن فجاء وهو أرمد لا يكاد أن يبصر قال فنفث في عينيه ثم هز الراية ثلاثا وأعطاها إياه فجاء بصفية بنت حيي. قال: ثم بعث أبا بكر بسورة براءة فبعث عليا خلفه وقال: لا يذهب بها إلا رجل هو مني وأنا منه. وقال لبني عمه: أيكم يواليني في الدنيا والآخرة؟ قال وعلي جالس معهم فأبوا فقال علي: أنا أواليك في الدنيا والآخرة، قال فتركه ثم أقبل على رجل رجل منهم فقال: أيكم يواليني في الدنيا والآخرة؟ فأبوا فقال علي: أنا أواليك في الدنيا والآخرة، فقال: أنت ولي في الدنيا والآخرة. قال: وكان علي أول من أسلم من الناس بعد خديجة. قال: وأخذ رسول الله ﷺ ثوبه فوضعه على علي وفاطمة والحسن والحسين فقال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} قال: وشرى علي نفسه. ولبس ثوب رسول الله ﷺ ثم نام مكانه، وكان المشركون يرمونه بالحجارة. وخرج رسول الله ﷺ بالناس في غزاة تبوك فقال له علي: أخرج معك؟ فقال: لا، فبكى علي فقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنك لست بنبي، لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي. وقال له رسول الله ﷺ: أنت وليي في كل مؤمن بعدي. قال: وسد أبواب المسجد إلا باب علي. قال: وكان يدخل المسجد جنبا وهو طريقه ليس له طريق غيره. وقال له: من كنت مولاه فعلي مولاه. وعن النبي ﷺ مرفوعا أنه بعث أبا بكر في براءة إلى مكة فسار لها ثلاثا ثم قال لعلي: الحقه فرده وبلغها أنت، ففعل فلما قدم أبو بكر على النبي ﷺ بكى وقال: يا رسول الله حدث فيّ شيء. قال: لا ولكن أمرت أن لا يبلغها إلا أنا أو رجل مني".

قلنا: هذا [الخبر] مرسل لو ثبت عن عمرو بن ميمون. ومنه ألفاظ منكرة. منها "لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي"؛ فإن النبي ﷺ استخلف غيره غير مرة. وكذلك قوله: "سدوا الأبواب إلا باب علي" فإنه من وضع الشيعة، فإن في الصحيحين من حديث أبي سعيد [الخدري] أن النبي ﷺ قال في مرضه الذي مات فيه: «[إن أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر و]لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر» ورواه ابن عباس في الصحيحين. ومنه قال: "أنت وليي في كل مؤمن بعدي" فهذا موضوع [باتفاق أهل المعرفة بالحديث]. وباقي الحديث ليس هو من خصائصه؛ مثل كونه يحب الله ورسوله واستخلافه على المدينة وكونه بمنزلة هارون من موسى ومثل كون براءة لا يبلغها إلا هاشمي إذ كانت العادة جارية بأنه لا ينقض العهود إلا رجل من قبيلة المطاع. قال: "ومنها ما رواه أخطب خوارزم أن النبي ﷺ قال يا علي لو أن عبدا عبد الله مثل ما قام نوح في قومه وكان له مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله وحج ألف مرة على قدميه ثم قتل بين الصفاة والمروة مظلوما ثم لم يوالك لم يشم رائحة الجنة ولم يدخلها".

فيقال: أخطب خوارزم هذا له مصنف في هذا الباب فيه من المكذوبات ما لا يوصف، وهذا والله منها. 1

قال: "وقال رجل لسلمان ما أشد حبك لعلي؟ قال: سمعت نبي الله يقول: من أحبه فقد أحبني. وعن أنس مرفوعا: خلق الله من نور وجه علي سبعين ألف ملك يستغفرون له ولمحبيه إلى يوم القيامة. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: من أحب عليا قبل الله منه صلاته وصيامه [وقيامه واستجاب دعاءه، ألا] ومن أحب عليا أعطاه الله بكل عرق من بدنه مدينة في الجنة، ألا ومن أحب آل محمد أمن الحساب والميزان والصراط، [ألا ومن مات على حب آل محمد فأنا كفيله في الجنة مع الأنبياء]، ومن أبغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله. وعن ابن عمر: سمعت رسول الله ﷺ وقد سئل: بأي لغة خاطبك ربك ليلة المعراج؟ قال: خاطبني بلغة علي فألهمني أن قلت: يا رب [أنت] خاطبتني أم علي؟ فقال: يا محمد أنا شيء ليس كالأشياء لا أقاس بالناس ولا أوصف بالأشياء خلقتك من نوري وخلقت عليا من نورك فاطلعت على سرائر قلبك فلم أجد إلى قلبك أحب من علي خاطبتك بلسانه كيما يطمئن قلبك. وعن ابن عباس قال رسول الله ﷺ: لو أن الرياض أقلام والبحر مداد والجن حساب والإنس كتاب ما أحصوا فضائل علي. وقال: إن الله جعل الأجر على فضائل علي لا يحصى فمن ذكر فضيلة من فضائله فقرأها غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر والنظر إلى وجهه عبادة وذكره عبادة لا يقبل الله إيمان عبد إلا بولايته والبراءة من أعدائه. وعن حكيم بن حزام مرفوعا: لمبارزةُ علي عمرو بن ود [يوم الخندق] أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة".

قلنا: هذه الأحاديث والله العظيم كذب، يلعن الله من افتراها، ولعن من لا يحب عليا. وأنت قد قدمت أنك لا تذكر إلا ما هو صحيح عندنا، فمن أين جئت بهذه الخرافات؟ ولكنا تيقنا بأن الرافضة أجهل الطوائف وأكذبهم. وأنت زعيمهم وعالمهم وهذا حالك.

قال: "وعن سعد [بن أبي وقاص] أن معاوية أمره بسب علي فأبى فقال: ما يمنعك؟ قال: ثلاث قالهن رسول الله ﷺ لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلى من حمر النعم، سمعت رسول الله ﷺ يقول لعلي وقد خلفه في بعض مغازيه فقال: تخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» وسمعته يقول: «لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» فتطاول لها الناس فقال: «ادعوا لي عليا» فأتاه وبه رمد فبصق في عينيه ودفع إليه الراية، ففتح الله عليه. وأنزلت هذه الآية الكريمة {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم} فدعا رسول الله ﷺ عليا وفاطمة والحسن والحسين فقال: «هؤلاء أهلي»".

قلنا: أما هذا فصحيح رواه مسلم، وسقته بجهلك بين الموضوعات كمن نظم درة بين بعر. ولكن هذه المناقب ليست من خصائصه، فإنه استخلف جماعة على المدينة. وتشبيهه بهارون ليس بأعظم من تشبيه أبي بكر بإبراهيم وعيسى وتشبيه عمر بنوح وموسى، [فإن هؤلاء الأربعة أفضل من هارون، وكل من أبي بكر وعمر شبه باثنين لا بواحد فكان هذا التشبيه أعظم من تشبيه علي. مع أن استخلاف علي له فيه أشباه وأمثال من الصحابة، وهذا التشبيه ليس لهذين فيه شبيه فلم يكن الاستخلاف من الخصائص ولا التشبيه بنبي في بعض أحواله من الخصائص.] وفي الحديث رد على النواصب الذين لا يتولونه ولا يحبونه، وعلى الخوارج الذين كفروه. لكن هذا لا يتم على قول الرافضة الذين جعلوا النصوص الدالة على فضل الصحابة كانت قبل ردتهم فإن الخوارج كذا تقول في علي. وهذا باطل لأن الله لا يحب ولا يرضى عمن يعلم أنه يموت كافرا. وكذا المباهلة شاركه فيها ولداه. فإن قيل فلم تمنى سعد واحدة منهن قيل لأن شهادة النبي ﷺ لعلي ظاهرا وباطنا بالإيمان، والنبي ﷺ إذا شهد لمعين بشهادة كانت من أعظم مناقبه كما صلى ﷺ على ميت فقال: «اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه» إلخ قال عوف بن مالك: فتمنيت أن أكون أنا ذلك الميت. وهذا الدعاء لم يكن مختصا بذلك الميت.

قال: "وعن عامر بن واثلة قال: قال علي يوم الشورى: لأحتجن عليكم بما لا يستطيع أحد تغيير ذلك، ثم قال: أنشدكم بالله أفيكم أحد وحد الله قبلي؟ قالوا: اللهم لا - وذكر الحديث بطوله وفيه - فأنشدكم بالله هل فيكم أحد سلم عليه في ساعة واحدة ثلاثة آلاف من الملائكة وجبريل وميكال وإسرافيل حيث جئت بالماء إلى رسول الله ﷺ من القليب غيري؟ قالوا: اللهم لا. ومنه ما رواه أبو عمر الزاهد عن ابن عباس قال: لعلي أربع خصال ليست لأحد من الناس غيره هو أول من صلى مع النبي ﷺ وهو الذي كان معه لواؤه في كل زحف وهو الذي صبر معه يوم حنين وهو الذي غسله وأدخله قبره. وعن النبي ﷺ قال: مررت ليلة المعراج بقوم تشرشر أشداقهم فقلت: [يا جبريل] من هؤلاء؟ قال: هؤلاء قوم يقطعون الناس بالغيبة، قال: ومررت بقوم قد ضوضوا فقلت لجبريل: من هؤلاء؟ قال: الكفار، ثم عدلنا عن الطريق فلما انتهينا إلى السماء الرابعة رأيت عليا يصلي فقلت: يا جبريل من هذا علي قد سبقنا؟ قا: ل لا ليس هذا عليا بل اشتاقت الملائكة إلى رؤيته [لما سمعوا مناقبه. وخاصة قول النبي ﷺ: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى]، فخلق الله ملكا على صورته. وعن ابن عباس قال: إن المصطفى قال ذات يوم أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى - [يعني عليا. وهو معنى قول جبريل في يوم بدر وقد عرج إلى السماء وهو فرح وهو يقول: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي]. وعن ابن عباس قال: رأيت أبا ذر وهو متعلق بأستار الكعبة وهو يقول: من عرفني فقد عرفني أنا أبو ذر ولو صمتم حتى تكونوا كالأوتار وصليتم حتى تكونوا كالحنايا ما نفعكم ذلك حتى تحبوا عليا".

فيقال: حديث [عامر بن] واثلة كذب باتفاق الحفاظ. وما قال علي يوم الشورى شيئا من ذلك، بل قال عبد الرحمن بن عوف: لئن أمرتك لتعدلن؟ قال: نعم، قال: وإن بايعت عثمان لتسمعن وتطيعن؟ قال: نعم، وقال مثل ذلك لعثمان، ومكث ثلاثة أيام يشاور المسلمين.

وأما حديث ابن عباس فباطل، فلواء النبي ﷺ يوم أحد كان مع مصعب بن عمير باتفاق. ولواؤه يوم الفتح كان مع الزبير، أخرجه البخاري. ويوم حنين لم يكن أحد أقرب إلى بغلة النبي ﷺ من عمه العباس [وأبي سفيان بن الحارث والعباس] آخذ بركابه.

وأما [ما ذكره عن] المعراج فكذب سمج. وفيه ما يبين وضعه وهو أن الكروبيين لما سمعوا مناقبه -وخاصة قول النبي ﷺ: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى- اشتاقت إلى علي فخلق لها ملكا على صورة علي. فالمعراج كان بمكة من المسجد الحرام، وقوله: أما ترضى.. قاله له في غزوة تبوك، [وهي آخر الغزوات سنة تسع].

وكذا خبر: "لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي" كذب، و"الفتى" ليس من أسماء المدح ولا الذم، بل هو كقولك الشاب والكهل. وقول المشركين: {سمعنا فتى يذكرهم} لم يقصدوا مدحه بذلك. وحديث مؤاخاة النبي لعلي وأبي بكر لعمر من الأكاذيب، وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار. وذو الفقار سيف كان لأبي جهل غنمه المسلمون يوم بدر، فلم يكن ذو الفقار يوم بدر من سيوف المسلمين. روى أحمد والترمذي من رواية ابن عباس أن النبي ﷺ نقل سيفه ذا الفقار يوم بدر ثم إن النبي ﷺ كان بعد النبوة كهلا. وقول أبي ذر لم يصح مع أن حب علي فرض كما أن حب أبي بكر فرض وحب الأنصار فرض. قال النبي ﷺ: «آية الإيمان حب الأنصار» وفي صحيح مسلم عن علي أنه قال: لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق.

قال: "ومنها ما نقله صاحب الفردوس عن معاذ عن النبي ﷺ: حب علي حسنة لا تضر معها سيئة وبغضه سيئة لا تنفع معها حسنة".

قلنا: كتاب الفردوس [مصنفه شيرويه] بن شهريار الديلمي المحدث فيه موضوعات جمة، 2 هذا منها ولا يقوله المصطفى المعصوم. بل هذا المؤمن الذي يحب الله ورسوله ومع ذلك تضره السيئات ويحدّ في الخمر. وقد أمر النبي ﷺ بضرب حمار في الخمر فسبه رجل فقال ﷺ: «دعه فإنه يحب الله ورسوله» وأيضا فقد كان أبو طالب يحب ابنه عليا وضره الشرك حتى دخل النار. وهؤلاء الغلاة يزعمون أنهم يحبونه وهم من أهل النار. وحب الرسول أعظم من حب علي ويدخل خلق من محبيه النار ثم يخرجون بشفاعته. وكذلك الحديث الذي أورده عن ابن مسعود: "حب آل محمد يوما خير من عبادة سنة" موضوع. وحديث: "أنا وعلي حجة الله على خلقه" كذب أيضا والله تعالى يقول: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} وكذلك قوله: "لو اجتمع الناس على حب علي لم تخلق النار" فقد رأينا من محبيه من الإسماعيلية وغيرهم خلقا من طعام النار. ونحن نحبه ونخاف النار. ثم خلق ممن صدّق الرسل يدخلون الجنة وما عرفوا عليا. وكذلك الحديث الذي ذكره في العهد الذي عهده الله في علي وأنه راية الهدى وإمام الأولياء والكلمة التي ألزمها للمتقين، فصاحب الحلية قد روى في فضائل الأربعة عدة موضوعات. وإنما كلمة التقوى لا إله إلا الله.

قال الرافضي: "وأما المطاعن في الجماعة فقد نقل أتباعهم منها كثيرا حتى صنف الكلبي كتابا في مثالب الصحابة".

قلنا: الكلبي وابنه هشام كذابان رافضيان.

[وإن ما ينقل عن الصحابة من المثالب نوعان:

أحدهما إما كذب كله وإما محرف قد دخله من الزيادة والنقصان ما يخرجه إلى الذم والطعن. وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب، يرويها الكذابون المعروفون بالكذب مثل أبي مخنف لوط بن يحيى ومثل هشام بن محمد بن السائب الكلبي. ولهذا استشهد هذا الرافضي بما صنفه هشام الكلبي في ذلك وهو من أكذب الناس وهو شيعي يروى عن أبيه وعن أبي مخنف وكلاهما متروك كذاب. وقال الإمام أحمد في هذا الكلبي: ما ظنت أن أحدا يحدّث عنه إنما هو صاحب سمر ونسب. وقال الدارقطني: متروك. وقال ابن عدي: هشام الكلبي الغالب عليه الأسمار ولا أعرف له في المسند شيئا وأبوه أيضا كذاب. وقال زائدة والليث وسليمان التيمي: هو كذاب. وقال يحيى: ليس بشيء كذاب ساقط. وقال ابن حبان: وضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه.

النوع الثاني: ما هو صدق. وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوبا وتجعلها من موارد الاجتهاد التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران وإن أخطأ فله أجر. وعامة المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من هذا الباب. وما قدر من هذه الأمور ذنبا محققا فإن ذلك لا يقدح فيما علم من فضائلهم وسوابقهم وكونهم من أهل الجنة، لأن الذنب المحقق يرتفع عقابه في الآخرة بأسباب متعددة منها التوبة الماحية -وقد ثبت عن أئمة الإمامية أنهم تابوا من الذنوب المعروفة عنهم- ومنها الحسنات الماحية للذنوب، فإن الحسنات يذهبن السيئات وقد قال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} ومنها المصائب المكفرة ومنها دعاء المؤمنين بعضهم لبعض وشفاعة نبيهم. فما من ذنب يسقط به الذم والعقاب عن أحد من الأمة إلا والصحابة أحق بذلك، فهم أحق بكل مدح ونفي كل ذم ممن بعدهم من الأمة.

ونحن نذكر قاعدة جامعة في هذا الباب لهم ولسائر الأمة فنقول: لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت وإلا فيبقى في كذب وجهل بالجزئيات وجهل وظلم في الكليات فيتولد فساد عظيم. والناس قد تكلموا في تصويب المجتهدين وتخطئتهم وتأثيمهم وعدم تأثيمهم في مسائل الفروع والأصول. ونحن نذكر أصولا جامعة نافعة.

الأصل الأول: أنه هل يمكن كل أحد أن يعرف باجتهاده الحق في كل مسألة فيها نزاع وإذا لم يمكنه فاجتهد واستفرغ وسعه فلم يصل إلى الحق بل قال ما اعتقد أنه هو الحق في نفس الأمر ولم يكن هو الحق في نفس الأمر هل يستحق أن يعاقب أم لا؟ هذا أصل هذه المسائل. وللناس في هذا الأصل ثلاثة أقوال كل قول عليه طائفة من النظار.

الأول قول من يقول إن الله قد نصب على الحق في كل مسألة دليلا يعرف به يمكن كل من اجتهد واستفرغ وسعه أن يعرف الحق، وكل من لم يعرف الحق في مسألة أصولية أو فروعية فإنما هو لتفريطه فيما يجب عليه لا لعجزه. وهذا القول هو المشهور عن القدرية والمعتزلة، وهو قول طائفة من أهل الكلام غير هؤلاء.

والقول الثاني في أصل المسألة: إن المجتهد المستدل قد يمكنه أن يعرف الحق وقد يعجز عن ذلك، لكن إن عجز عن ذلك فقد يعاقبه الله وقد لا يعاقبه. وهذا قول الجهمية والأشعرية وكثير من الفقهاء أتباع المذاهب الأربعة.

والقول الثالث في هذا الأصل: إنه ليس كل من اجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق، ولا يستحق الوعيد إلا من ترك مأمورا أو فعل محظورا. وهذا قول الفقهاء والأئمة وهو القول المعروف عن سلف الأمة وقول جمهور المسلمين. وهذا القول يجمع الصواب من القولين.

الأصل الثاني: قول من يقول إن الله لا يعذب في الآخرة إلا من عصاه بترك المأمور أو فعل المحظور، والأصل الذي عليه السلف والجمهور أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها فالوجوب مشروط بالقدرة والعقوبة لا تكون إلا على ترك مأمور أو فعل محظور بعد قيام الحجة. وقد ذكرنا في غير هذا الموضع حكم الناس في الوعد والوعيد والثواب والعقاب وأن فاعل السيئات تسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب. فإذا كان هذا الحكم في المجتهدين وهذا الحكم في المذنبين حكما عاما في جميع الأمة، فكيف في أصحاب رسول الله ﷺ؟ وإذا كان المتأخرون من المجتهدين والمذنبين يندفع عنهم الذم والعقاب بما ذكر من الأسباب فكيف بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.

ونحن نبسط هذا وننبه بالأدنى على الأعلى فنقول: كلام الذام للخلفاء ولغيرهم من الصحابة من رافضي وغيره هو من باب الكلام في الأعراض وفيه حق لله تعالى لما يتعلق به من الولاية والعداوة والحب والبغض وفيه حق للآدميين أيضا. ومعلوم أنا إذا تكلمنا فيمن هو دون الصحابة مثل الملوك المختلفين على الملك والعلماء والمشايخ المختلفين في العلم والدين وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل لا بجهل وظلم. فإن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرم مطلقا لا يباح قط بحال. قال تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نهى صاحبه أن يظلم من يبغضه فكيف في بغض مسلم بتأويل وشبهة أو بهوى نفس؟ فهو أحق أن لا يظلم بل يعدل عليه. وأصحاب رسول الله ﷺ أحق من عدل عليهم في القول والعمل والعدل مما اتفق أهل الأرض على مدحه ومحبته والثناء على أهله ومحبتهم. والظلم مما اتُّفق على ذمه وتقبيحه وذم أهله وبغضهم.

والمقصود أن الحكم بالعدل واجب مطلقا في كل زمان ومكان على كل أحد ولكل أحد. والحكم بما أنزل الله على محمد ﷺ هو عدل خاص وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها. والحكم به واجب على النبي وكل من اتبعه. ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر، وهذا واجب على الأمة في كل ما تنازعت فيه من الأمور الاعتقادية والعملية. قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} فالأمور المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلا الكتاب والسنة، ليس لأحد أن يلزم الناس بقول عالم ولا أمير ولا شيخ ولا ملك. وقد قال النبي ﷺ: «القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاضيان في الجنة فمن علم الحق وقضى به فهو في الجنة ومن علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ومن قضى للناس على جهل فهو في النار» وإذا حكم بعلم وعدل فإذا اجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن النبي ﷺ من وجهين.

وإذا وجب فيما شجر بين المؤمنين أن لا يتكلم إلا بعلم وعدل ويرد ذلك إلى الله والرسول فذاك في أمر الصحابة أظهر.

والرافضة سلكوا في الصحابة مسلك التفرق فوالوا بعضهم وغلوا فيه وعادوا بعضهم وغلوا في معاداته، وهذا كله من التفرق والتشيع الذي نهى الله عنه ورسوله. فقال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} وقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم * يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون * وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون} قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولّاه الله أموركم»

والله تعالى قد حرم ظلم المسلمين أحيائهم وأمواتهم وحرم دماءهم وأموالهم وأعراضهم. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت ألا ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع» وقد قال تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} فمن آذى مؤمنا حيا أو ميتا بغير ذنب يوجب ذلك فقد دخل في هذه الآية. ومن كان مجتهدا لا إثم عليه فإذا آذاه مؤذ فقد آذاه بغير ما اكتسب. ومن كان مذنبا وقد تاب من ذنبه أو غفر له بسبب آخر بحيث لم يبق عليه عقوبة فآذاه مؤذ فقد آذاه بغير ما اكتسب وقد قال تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضا} وثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «الغيبة ذكرك أخاك بما يكره» قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته» فمن رمى أحدا بما ليس فيه فقد بهته. فكيف إذا كان ذلك في الصحابة. ومن قال عن مجتهد إنه تعمد الظلم أو تعمد معصية الله ورسوله ومخالفة الكتاب والسنة ولم يكن كذلك فقد بهته. وإذا كان فيه ذلك فقد اغتابه.

لكن يباح من ذلك ما أباحه الله ورسوله، وهو ما يكون على وجه القصاص والعدل وما يحتاج إليه لمصلحة الدين ونصيحة المسلمين. فالأول قول المشتكي المظلوم: فلان ضربني وأخذ مالي ومنعني ونحو ذلك. قال الله تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} وقد نزلت فيمن ضاف قوما فلم يقروه لأن قرى الضيف واجب كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فلما منعوه حقه كان له ذكر ذلك. وأما الحاجة مثل استفتاء هند بنت عتبة كما ثبت في الصحيح أنها قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وبني ما يكفيني بالمعروف، فقال النبي ﷺ: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» أخرجاه في الصحيحين من حديث عائشة. فلم ينكر عليها قولها وهو من جنس قول المظلوم. وأما النصيحة فمثل قوله ﷺ لفاطمة بنت قيس لما استشارته فيمن خطبها فقالت خطبني أبو جهم ومعاوية فقال ﷺ: "أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه -وفي لفظ- يضرب النساء انكحي أسامة} فلما استشارته فيمن تتزوج ذكر ما تحتاج إليه. وكذلك من استشار رجلا فيمن يعامله. والنصيحة مأمور بها ولو لم يشاوره، فقد قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: «الدين النصيحة الدين النصيحة» ثلاثا قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» وكذلك بيان أهل العلم لمن غلط في رواية عن النبي ﷺ أو تعمد الكذب عليه أو على من ينقل عنه العلم. وكذلك بيان من غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية. فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل وقصد النصيحة فالله تعالى يثيبه على ذلك، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعيا إلى بدعة فهذا يجب بيان أمره للناس فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق. وحكم المتكلم باجتهاده في العلم والدين حكم أمثاله من المجتهدين. ثم قد يكون مجتهدا مخطئا أو مصيبا وقد يكون كل من الرجلين المختلفين باللسان أو اليد مجتهدا يعتقد الصواب معه وقد يكونان جميعا مخطئين مغفورا لهما كما ذكرنا نظير ذلك مما كان يجري بين الصحابة. ولهذا ينهى عما شجر بين هؤلاء سواء كانوا من الصحابة أو من بعدهم. فإذا تشاجر مسلمان في قضية ومضت ولا تعلق للناس بها ولا يعرفون حقيقتها كان كلامهم فيها كلاما بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهم بغير حق؛ ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان لكان ذكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة. لكن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أعظم حرمة وأجل قدرا وأنزه أعراضا. وقد ثبت من فضائلهم خصوصا وعموما ما لم يثبت لغيرهم، فلهذا كان الكلام الذي فيه ذمهم على ما شجر بينهم أعظم إثما من الكلام في غيرهم.

فإن قيل: فأنتم في هذا المقام تسبون الرافضة وتذمونهم وتذكرون عيوبهم؟ قيل: ذكر الأنواع المذمومة غير ذكر الأشخاص المعينة، فإنه قد ثبت عن النبي ﷺ لعن أنواع كثيرة وقال الله تعالى: {أن لعنة الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا} فالقرآن والسنة مملوءان من ذم الأنواع المذمومة وذم أهلها ولعنهم تحذيرا من ذلك الفعل وإخبارا بما يلحق أهله من الوعيد. ثم المعاصي التي يعرف صاحبها أنه عاص يتوب منها، والمبتدع الذي يظن أنه على حق كالخوارج والنواصب الذين نصبوا العداوة والحرب لجماعة المسلمين، ابتدعوا بدعة وكفروا من لم يوافقهم عليها فصار بذلك ضررهم على المسلمين أعظم من ضرر الظلمة الذين يعلمون أن الظلم محرم. والرافضة أشد بدعة من الخوارج وهم يكفّرون من لم تكن الخوارج تكفره كأبي بكر وعمر، ويكذبون على النبي ﷺ والصحابة كذبا ما كذب أحد مثله. والخوارج لا يكذبون لكن الخوارج كانوا أصدق وأشجع وأوفى بالعهد منهم فكانوا أكثر قتالا منهم. وهؤلاء أكذب وأجبن وأعذر وأذل. وهم يستعينون بالكفار على المسلمين، كما جرى لجنكز خان ملك الترك الكفار فإن الرافضة أعانته على المسلمين، وأما إعانتهم لهولاكو ابن ابنه لما جاء إلى خراسان والعراق والشام فهذا أظهر وأشهر من أن يخفى على أحد، فكانوا بالعراق وخراسان من أعظم أنصاره باطنا وظاهرا. وكان وزير الخليفة ببغداد الذي يقال له ابن العلقمي منهم؛ فلم يزل يمكر بالخليفة والمسلمين ويسعى في قطع أرزاق عسكر المسلمين وضعفهم وينهى العامة عن قتالهم ويكيد أنواعا من الكيد، حتى دخلوا فقتلوا من المسلمين ما يقال إنه بضعة عشر ألف ألف إنسان أو أكثر أو أقل، ولم ير في الإسلام مثل ملحمة الترك الكفار المسمين بالتتر، وقتلوا الهاشميين وسبوا نساءهم من العباسيين وغير العباسيين. فهل يكون مواليا لآل الرسول ﷺ من يسلط الكفار على قتلهم وسبيهم وعلى سائر المسلمين؟ وهم يكذبون على الحجاج وغيره أنه قتل الأشراف؛ ولم يقتل الحجاج هاشميا قط مع ظلمه وغشمه، فإن عبد الملك نهاه عن ذلك وإنما قتل ناسا من أشراف العرب غير بني هاشم. وقد تزوج هاشمية وهي بنت عبد الله بن جعفر فما مكنه بنو أمية من ذلك وفرقوا بينه وبينها وقالوا ليس الحجاج كفئا لشريفة هاشمية.

والرافضة فيهم من هو متعبد متورع زاهد لكن ليسوا في ذلك مثل غيرهم من أهل الأهواء. فالمعتزلة أعقل منهم وأعلم وأدين، والكذب والفجور فيهم أقل منه في الرافضة. والزيدية من الشيعة خير منهم وأقرب إلى الصدق والعدل والعلم. وليس في أهل الأهواء أصدق ولا أعبد من الخوارج. ومع هذا فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم. فإن الظلم حرام مطلقا كما تقدم. بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض. بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض. وهذا مما يعترفون هم به ويقولون: أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضا. وهذا لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد مبني على جهل وظلم، وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين، فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في ظلم الناس. ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض. والخوارج تكفر أهل الجماعة وكذلك أكثر المعتزلة يكفرون من خالفهم وكذلك أكثر الرافضة؛ ومن لم يكفر فسّق. وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأيا ويكفرون من خالفهم فيه. وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول ولا يكفرون من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق، كما وصف الله به المسلمين بقوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} قال أبو هريرة: كنتم خير الناس للناس. وأهل السنة نقاوة المسلمين، فهم خير الناس للناس.

وقد علم أنه كان بساحل الشام جبل كبير فيه ألوف من الرافضة يسفكون دماء الناس ويأخذون أموالهم؛ ولما انكسر المسلمون سنة غازان أخذوا الخيل والسلاح والأسارى وباعوهم للكفار والنصارى بقبرص، وأخذوا من مر بهم من الجند، وكانوا أضر على المسلمين من جميع الأعداء، وحمل بعض أمرائهم راية النصارى وقالوا له: أيما خير المسلمون أو النصارى؟ فقال: بل النصارى، فقالوا له: مع من تحشر يوم القيامة؟ فقال: مع النصارى، وسلموا إليهم بعض بلاد المسلمين. ومع هذا فلما استشار بعض ولاة الأمر في غزوهم وكتبت جوابا مبسوطا في غزوهم وذهبنا إلى ناحيتهم وحضر عندي جماعة منهم وجرت بيني وبينهم مناظرات ومفاوضات يطول وصفها، فلما فتح المسلمون بلدهم وتمكن المسلمون منهم نهيتهم عن قتلهم وعن سبيهم وأنزلناهم في بلاد المسلمين متفرقين لئلا يجتمعوا. فما أذكره في هذا الكتاب في ذم الرافضة وبيان كذبهم وجهلهم قليل من كثير مما أعرفه منهم، ولهم شر كثير لا أعرف تفصيله.

ومصنف هذا الكتاب وأمثاله من الرافضة إنما نقابلهم ببعض ما فعلوه بأمة محمد ﷺ سلفها وخلفها. فإنهم عمدوا إلى خيار أهل الأرض من الأولين والآخرين بعد النبيين والمرسلين وإلى خير أمة أخرجت للناس فافتروا عليهم العظائم وجعلوا حسناتهم سيئات؛ وجاءوا إلى شر من انتسب إلى الإسلام من أهل الأهواء وهم الرافضة بأصنافها غاليها وإماميها وزيديها -والله يعلم وكفى بالله عليما ليس في جميع الطوائف المنتسبة إلى الإسلام مع بدعة وضلالة شر منهم: لا أجهل ولا أكذب ولا أظلم ولا أقرب إلى الكفر والفسوق والعصيان وأبعد عن حقائق الإيمان منهم- فزعموا أن هؤلاء هم صفوة الله من عباده. فإن ما سوى أمة محمد كفار، وهؤلاء كفروا الأمة كلها أو ضللوها سوى طائفتهم التي يزعمون أنها الطائفة المحقة وأنها لا تجتمع على ضلالة فجعلوهم صفوة بني آدم. فكان مثلهم كمن جاء إلى غنم كثيرة فقيل له أعطنا خير هذه الغنم لنضحي بها فعمد إلى شر تلك الغنم إلى شاة عوراء عجفاء عرجاء مهزولة لا نقي لها فقال: هذه خيار هذه الغنم لا تجوز الأضحية إلا بها وسائر هذه الغنم ليست غنما وإنما هي خنازير يجب قتلها ولا تجوز الأضحية بها.

وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «من حمى مؤمنا من منافق حمى الله لحمه من نار جهنم يوم القيامة» وهؤلاء الرافضة إما منافق وإما جاهل، فلا يكون رافضي ولا جهمي إلا منافقا أو جاهلا بما جاء به الرسول ﷺ، لا يكون فيهم أحد عالما بما جاء به الرسول ﷺ مع الإيمان به. فإن مخالفتهم لما جاء به الرسول وكذبهم عليه لا يخفى قط إلا على مفرط في الجهل والهوى. وشيوخهم المصنفون فيهم طوائف يعلمون أن كثيرا مما يقولونه كذب ولكن يصنفون لهم لرياستهم عليهم. وهذا المصنف يتهمه الناس بهذا، ولكن صنف لأجل أتباعه. فإن كان أحدهم يعلم أن ما يقوله باطل ويظهره ويقول إنه حق من عند الله فهو من جنس علماء اليهود الذين {يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} وإن كان يعتقد أنه حق دل ذلك على نهاية جهله وضلاله.

ولما قال السلف: إن الله أمر بالاستغفار لأصحاب محمد فسبهم الرافضة، كان هذا كلاما حقا. وكذلك قوله ﷺ في الحديث الصحيح: «لا تسبوا أصحابي» يقتضي تحريم سبهم. مع أن الأمر بالاستغفار للمؤمنين والنهي عن سبهم عام. ففي الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي ﷺ قال: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» وقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} فقد نهى عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب. واللمز: العيب والطعن، ومنه قوله تعالى: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} أي يعيبك ويطعن عليك. وقال تعالى: {ويل لكل همزة لمزة} وإذا قال المسلم: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله فخالف السنة أو أذنب ذنبا فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة. فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارا بل مؤمنين فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد كما يستحقه عصاة المؤمنين، والنبي ﷺ لم يخرجهم من الإسلام بل جعلهم من أمته، ولم يقل إنهم يخلدون في النار.

فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته. فإن كثيرا من المنتسبين إلى السنة فيهم بدعة من جنس بدع الرافضة والخوارج. وأصحاب رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب وغيره لم يكفّروا الخوارج الذين قاتلوهم، بل أول ما خرجوا عليه وتحيزوا بحروراء وخرجوا عن الطاعة والجماعة قال لهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن لكم علينا أن لا نمنعكم من مساجدنا ولا حقكم من الفيء. ثم أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم فرجع نحو نصفهم ثم قاتل الباقي وغلبهم. ومع هذا لم يسب لهم ذرية ولا غنم لهم مالا ولا سار فيهم سيرة الصحابة في المرتدين كمسيلمة وأمثاله.

وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال: كنت عند علي حين فرغ من قتال أهل النهروان فقيل له: أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا، فقيل: أمنافقون؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا، قيل: فما هم؟ قال: قوم بغوا علينا فقاتلناهم.

فقد صرح علي رضي الله عنه بأنهم مؤمنون ليسوا كفارا ولا منافقين. وهذا بخلاف ما كان يقوله بعض الناس كأبي إسحاق الإسفرايني ومن اتبعه يقولون: لا نكفر إلا من يكفرنا. فإن الكفر ليس حقا لهم بل هو حق لله، وليس للإنسان أن يكذب على من يكذب عليه ولا أن يفعل الفاحشة بأهل من فعل الفاحشة بأهله لأن هذا حرام لحق الله. ولو سب النصارى نبينا لم يكن لنا أن نسب المسيح، والرافضة إذا كفروا أبا بكر وعمر فليس لنا أن نكفر عليا.

روى سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه [الباقر] قال: سمع علي يوم الجمل أو يوم صفين رجلا يغلو في القول فقال: لا تقولوا إلا خيرا إنما هم قوم زعموا أنا بغينا عليهم وزعمنا أنهم بغوا علينا فقاتلناهم. وعن مكحول أن أصحاب علي سألوه عمن قتل من أصحاب معاوية ما هم؟ قال: هم المؤمنون. وعن عبد الواحد بن أبي عون قال: مر علي وهو متكئ على الأشتر على قتلى صفين فإذا حابس اليماني مقتول فقال الأشتر: إنا لله وإنا إليه راجعون هذا حابس اليماني معهم يا أمير المؤمنين عليه علامة معاوية أما والله لقد عهدته مؤمنا، قال علي: والآن هو مؤمن.]

قال: "رووا عن أبي بكر أنه قال على المنبر أن النبي ﷺ كان يعتصم بالوحي وإن لي شيطانا يعتريني فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني. فكيف تجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه".

قلنا: هذا من أكبر فضائله وأدلها على أنه لم يكن طالب رياسة ولا كان ظالما. فقال: إن استقمت على الطاعة فأعينوني عليها وإن زغت عنها فقوموني. كما قال: أطيعوني ما أطعت الله. فالشيطان الذي يعتريه يعتري غيره، فإنه «ما من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة» و«الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» فمقصوده بذلك أني لست معصوما. وصدق رضي الله عنه. والإمام ليس ربا لرعيته حتى يستغني عنهم، بل يتعاونون على البر والتقوى، كإمام الصلاة إن استقام تبعوه وإن سها سبحوا به وقوّموه. [ثم يقال: استعانة علي برعيته وحاجته إليهم كانت أكثر من استعانة أبي بكر، وكان تقويم أبي بكر لرعيته وطاعتهم له أعظم من تقويم علي لرعيته وطاعتهم له. فإن أبا بكر كان إذا نازعوه أقام عليهم الحجة حتى يرجعوا إليه، كما أقام الحجة على عمر في قتال مانعي الزكاة وغير ذلك. وكانوا إذا أمرهم أطاعوه.] وعلي رضي الله عنه لما ذكر قوله في أمهات الأولاد وأنه اتفق رأيه ورأي عمر على أن لا يبعن ثم رأى أن يبعن قال له قاضيه عبيدة السلماني: رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحده في الفرقة. [وكان علي يقول: اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الخلاف حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي.] وكانت رعيته كثيرة المخالفة له ويشيرون عليه فيخالفهم ثم يتبين له أن الصواب قولهم. وكان الحسن أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة وأن لا يعزل معاوية. ولا يشك عاقل أن السياسة انتظمت لأبي بكر وعمر ما لم تنتظم لعلي؛ رضي الله عنهم أجمعين. قال: "وقال: أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم. فإن كانت إمامته حقا فاستقالته معصية وإن كانت باطلة لزم الطعن".

قلنا: هذا كذب ولا له إسناد. بل ثبت عنه أنه قال يوم السقيفة: بايعوا أحد هذين الرجلين أبا عبيدة أو عمر بن الخطاب، فقال له عمر: بل أنت سيدنا وخيرنا [وأحبنا إلى رسول الله ﷺ]. ثم يقال: فهلا استخلف عليا عند الموت. وللإمام أن يقتال لطلب الراحة من أعباء الإمرة. وتواضع المرء لا يسقط رتبته. قال: "وقال عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه".

قلنا: هذا [القول] الأخير افتراء وكذب. وإنما قال: "وليس فيكم من تقطع إليه [الأعناق] مثل أبي بكر" ومعناه أن بيعة الصديق بودر إليها من غير انتظار وتريث لكونه كان متعينا. قال: "وقال أبو بكر ليتني كنت سألت رسول الله ﷺ هل للأنصار في هذا الأمر حق".

قلنا: هذا كذب. ثم نقول هذا يقدح فيما تدعونه من النص على علي إذ لو كان نص ﷺ على علي لبطل حق الأنصار وغيرهم. قال: "وقال عند احتضاره: ليت أمي لم تلدني يا ليتني كنت تبنة في لبنة. مع أنهم رووا أنه ما من محتضر إلا ويرى مقعده من الجنة والنار".

قلنا: وهذا عنه باطل بل قال لما احتضر وتمثلت عائشة بقول الشاعر:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ** إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

فكشف عن وجهه فقال: ليس كذلك ولكن قولي: {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد}

وأما قول: "ليت أمي لم تلدني" [فنقل عنه أنه قاله في صحته. ومثل هذا نقل] عن جماعة من السلف قالوه خوفا وهيبة وفرقا من الله. [وروى الإمام أحمد عن أبي ذر أنه قال: والله لوددت أني شجرة تعضد. وقال عبد الله بن مسعود: لو وقفت بين الجنة والنار فقيل لي اختر في أيهما تكون أو تكون رمادا لاخترت أن أكون رمادا.]

قلتُ: وقد جاء عن علي: إلى الله أشكو عُجري وبُجري. قال: "وقال: ليتني يوم بني ساعدة ضربت بيدي على يد أحد الرجلين فكان الأمير وكنت [الوزير]".

قلنا: قائل هذا يقوله هضما لنفسه وتواضعا وخوفا من الله. فلو كان عنده نص من الرسول بعلي لكان في حال خوفه وإنابته ينفس بعلي ولما ذكر الرجلين، إذ توليتهما مع علمه بالنص على علي كما تزعمون إضاعة للإمامة منه، وكان يكون وزيرا لظالم غيره ويبيع آخرته بدنيا غيره، ولا يفعل هذا من يخاف الله وينيب إليه.

قال: "وقال النبي ﷺ في مرض موته مرات: أنفذوا جيش أسامة [لعن الله المتخلف عن جيش أسامة]. وكانت الثلاثة معه، ومنع أبو بكر عمر من ذلك".

قيل: هذا كذب عند كل عارف بالسيرة؛ فكيف يرسل أبا بكر في جيش أسامة وقد استخلفه على الصلاة فصلى بهم اثني عشر يوما بالنقل المتواتر، وقد كشف الستارة يوم الاثنين وقت الصبح وهم يصلون خلف أبي بكر ووجهه كأنه ورقة مصحف وسُر بذلك لما رآهم بالصلاة. فكيف يتصور أن يأمره بالخروج وهو يأمره بالصلاة بالناس. وإنما أنفذ جيش أسامة بعد موت الرسول ﷺ أبو بكر، [غير أنه استأذنه في أن يأذن لعمر بن الخطاب في الإقامة لأنه ذو رأي ناصح للإسلام فأذن له]. وأشار عليه بعضهم بترك الغزاة فإنهم خافوا أن يطمع الناس في الجيش بموت النبي ﷺ فامتنع أبو بكر وقال: لا أحل لواء عقده النبي ﷺ.

قال: "ولم يول النبي ﷺ أبا بكر عملا قط بل ولى عليه عمرو بن العاص مرة وأسامة أخرى. ولما أنفذه بسورة براءة رده بوحي من الله".

قلنا: هذا من أبين الكذب، فمن المعلوم قطعا أن النبي ﷺ استعمل أبا بكر على الحج عام تسع فكان هذا من خصائصه. كما أن استخلافه على الصلاة من خصائصه. وكان علي من رعيته في الحج المذكور فإنه لحقه فقال: أمير أو مأمور؟ قال علي: بل مأمور. وكان علي يصلي خلف أبي بكر مع سائر المسلمين في هذه الحجة. بل خص بتبليغ سورة براءة.

وأما قصة عمرو بن العاص فإن النبي ﷺ أرسله في سرية وهي غزوة ذات السلاسل وكانت إلى بني عذرة أخوال عمرو فأمره رجاء أن يطيعوه ويسلموا، ثم أردفه بأبي عبيدة ومعه أبو بكر وعمر وقال لأبي عبيدة: «تطاوعا ولا تختلفا» ثم كانوا يصلون خلف عمرو مع علم كل أحد أن هؤلاء خير من عمرو. وتولية المفضول لمصلحة تجوز كما أمّر ﷺ أسامة ليأخذ بثأر أبيه.

قال: "وقطع سارقا ولم يعلم أن القطع لليد اليمنى"

قلنا: من أظهر الكذب أن يجهل هذا أبو بكر. ثم لو قدر أن أبا بكر كان يجيز ذلك لكان سائغا [لأن القرآن ليس في ظاهره ما يعيّن اليمين، لكن تعيين اليمين في قراءة ابن مسعود: "فاقطعوا أيمانهما" وبذلك مضت السنة. ولكن أين النقل بذلك عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قطع اليسرى وأين الإسناد الثابت بذلك؟ وهذه كتب أهل العلم بالآثار موجودة فليس فيها ذلك، ولا نقل أهل العلم بالاختلاف ذلك قولا مع تعظيمهم لأبي بكر رضي الله عنه. قال: "وأحرق الفجاءة السلمي بالنار مع النهي عن ذلك".

قلنا: إحراق علي الزنادقة بالنار أشهر. فقد ثبت في الصحيح أن عليا أتي بقوم زنادقة فحرّقهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي النبي ﷺ أن يعذب بعذاب الله ولضربت أعناقهم لقول النبي ﷺ: «من بدل دينه فاقتلوه» قال: "وخفي عليه أكثر أحكام الشريعة فلم يعرف حكم الكلالة وقال أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان. وقضى في الجد بسبعين قضية وهذا يدل على قصوره".

قلنا: هذا بهتان عظيم كيف يخفى عليه أكثر الأحكام ولم يكن من يقضي ويفتي بحضرة النبي ﷺ إلا هو ولم يكن النبي ﷺ أكثر مشاورة لأحد منه له ولعمر. وقد تقدم النقل عن منصور [بن عبد الجبار] السمعاني وذكر عن غير واحد الإجماع على أنه أعلم الأمة وهذا بين فإن الأمة لم تختلف في ولايته في مسألة إلا فصلها بعلم يبينه لهم من الكتاب والسنة، كما بين لهم موت النبي ﷺ وموضع دفنه وثبتهم على الإيمان وقرأ عليهم الآية وبين لهم قتال مانعي الزكاة وأن الخلافة في قريش. ولولا علمه بالمناسك والصلاة لما استعمله عليهما الرسول ﷺ، [وعلم المناسك أدق ما في العبادات. ولم يستخلف غيره لا في حج ولا في صلاة.] وكتابه في الصدقة [أخذه أنس من أبي بكر] وهو أصح ما روي فيها [وعليه اعتمد الفقهاء]. وفي الجملة لا تعرف مسألة من الشريعة غلط فيها بخلاف غيره.

وأما قوله: "لم يعرف حكم الكلالة" فيقال: هذا من أعظم علمه، فإن الرأي الذي رآه عليه جماهير العلماء وأخذوا بقوله وهو أنه من لا ولد له ولا والد. وأما الجد فإنما هذا قضاء عمر. وأما أبو بكر فإنه لم يختلف قوله أن جعله أبا، وهو قول بضعة عشر صحابيا ومذهب أبي حنيفة وبعض الشافعية والحنابلة، وهو الأظهر في الدليل. وقال مالك والشافعي وأحمد بقول زيد بن ثابت. وأما قول علي في الجد فلم يذهب إليه الأئمة. فلما أجمع المسلمون على أن الجد الأعلى أولى من الأعمام كان الجد الأدنى أولى من الإخوة. ثم القائلون بمشاركة الإخوة للجد لهم أقوال متناقضة.

قال: "فأي نسبة له بمن قال سلوني قبل أن تفقدوني سلوني عن طرق السماء فإني أعرف بها من طرق الأرض".

قلنا: إنما قال [علي] سلوني لأهل الكوفة ليعلمهم الدين فإن غالبهم كانوا جهلة. وأما أبو بكر فكان الذين حول منبره أكابر الصحابة فكانت رعيته أعلم الأمة [وأدينها. وأما الذين كان علي يخاطبهم فهم من جملة عوام الناس التابعين، وكان كثير منهم من شرار التابعين ولهذا كان علي رضي الله عنه يذمهم ويدعو عليهم. وكان التابعون بمكة والمدينة والشام والبصرة خيرا منهم]. وقد جمعت الفتاوى المنقولة عن الخلفاء الأربعة فوجدوا أصوبها [وأدلها على علم صاحبها] أمورَ أبي بكر ثم عمر، والأمور التي وجد نص يخالفها عن عمر أقل مما وجد عن علي. [وأما أبو بكر فلا يكاد يوجد نص يخالفه، وكان هو الذي يفصل الأمور المشتبهة عليهم ولم يكن يعرف منهم اختلاف على عهده.] قال: "قال أبو البختري: رأيت عليا صعد منبر الكوفة وعليه مدرعة كانت لرسول الله ﷺ متقلدا سيف رسول الله ﷺ معتما بعمامته وفي إصبعه خاتم رسول الله ﷺ فكشف عن بطنه فقال: سلوني من قبل أن تفقدوني فإنما بين الجوانح مني علم جم، هذا سفط العلم هذا لعاب رسول الله ﷺ هذا ما زقني رسول الله ﷺ زقا من غير وحي إلي فوالله لو ثنيت وسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم حتى تنطق التوراة والإنجيل فتقول صدق علي قد أفتاكم بما أنزل الله فيّ".

قلت: هذا كذب فاحش. وعلي أعلم بالله من أن يحكم بالتوراة والإنجيل، وإذا تحاكم إليه أهل الكتابين لم يجز له أن يحكم بغير القرآن. [ومن نسب عليا إلى أن يحكم بالتوراة والإنجيل بين اليهود والنصارى أو يفتيهم بذلك ويمدحه بذلك إما أن يكون من أجهل الناس بالدين وبما يُمدح به صاحبه وإما أن يكون زنديقا ملحدا أراد القدح في علي بمثل هذا الكلام الذي يستحق صاحبه الذم والعقاب دون المدح والثواب].

قال: "وروى البيهقي بسنده عن رسول الله ﷺ قال: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى علي". 3

قلنا: وهذا خبر منكر فهاتوا إسناده إن كنتم صادقين. [ويقال ثانيا: هذا الحديث كذب موضوع على رسول الله ﷺ بلا ريب عند أهل العلم بالحديث، ولهذا لا يذكره أهل العلم بالحديث وإن كانوا حراصا على جمع فضائل علي كالنسائي فإنه قصد أن يجمع فضائل علي في كتاب سماه الخصائص والترمذي قد ذكر أحاديث متعددة في فضائله ومنها ما هو ضعيف بل موضوع ومع هذا لم يذكروا هذا ونحوه.] قال: "وقال أبو عمر الزاهد: قال أبو العباس: لا نعلم أحدا قال بعد نبيه سلوني من شيث إلى محمد إلا عليا فسأله الأكابر أبو بكر وعمر وأشباههما حتى انقطع السؤال [ثم قال بعد هذا: يا كميل بن زياد إن ها هنا علما جما لو أصبت له حملة".

والجواب أن هذا النقل إن صح عن ثعلب فثعلب لم يذكر له إسنادا حتى يحتج به، وليس ثعلب من أئمة الحديث الذين يعرفون صحيحه من سقيمه حتى يقال صح عنده، بل من هو أعلم من ثعلب من الفقهاء يذكرون أحاديث كثيرة لا أصل لها فكيف ثعلب. وهو قد سمع هذا من بعض الناس الذين لا يذكرون ما يقولون عن أحد]. وعلي لم يقل هذا في خلافة أبي بكر وعمر ولا عثمان بل قال نحوه بالكوفة فكان يأمرهم بطلب العلم والسؤال كما في حديث كميل بن زياد ولم يصحبه إلا بالكوفة فإنه قال: "يا كميل إن هاهنا لعلما لو أصبت له حملة". وأما أبو بكر فلم يكن يسأل عليا عن شيء. وأما عمر فكان يشاوره كما يشاور غيره. قال: "وأهمل أبو بكر حدود الله فلم يقتص من خالد بن الوليد حيث قتل مالك بن نويرة وأشار عمر بقتله فلم يقبل".

فنقول: إن كان ترك قتل قاتل المعصوم مما ينكر على الأئمة كان هذا من أكبر حجج شيعة عثمان على علي، فإن عثمان خير من أمثال مالك بن نويرة وقد قتل مظلوما شهيدا وعلي لم يقتص من قتلته ولذا امتنع الشاميون من مبايعته. فإن عذرتموه فاعذروا أبا بكر فإنا نعذرهما. وكذلك إنكاركم على عثمان حيث لم يقتص من عبيد الله بن عمر بالهرمزان. ثم إن عمر أشار عليه باجتهاد منه. قال: "وخالف أمر النبي ﷺ في توريث بنته ومنعها فدك".

قلنا: جميع المسلمين مع أبي بكر فيما فعل -خلا جهلة الشيعة- وذلك لرواية جماعة من الصحابة عن النبي ﷺ أنه قال: «لا نورث»

قال: "ومنها ما رواه عن عمر وهو في كتاب الحلية أنه لما احتضر قال: يا ليتني كنت كبشا لقومي فذبحوني. فهل هذا إلا مثل قول الكافر {يا ليتني كنت ترابا} وقال ابن عباس: لما احتضر عمر قال: لو أن لي ملء الأرض ذهبا لافتديت به من هول المطلع. وهذا مثل قوله تعالى: {ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لأفتدوا به} فلينظر المنصف قول الرجلين عند احتضارهما وقول علي: متى ألقى الأحبة محمدا وحزبه [متى ألقاها] متى ينبعث أشقاها. وقوله حين قتله: فزت ورب الكعبة".

والجواب أن في هذا الكلام من الجهالة ما يدل على فرط جهل قائله. فما نقله عن علي قد نقل مثله عمن هو دونه بل قاله أيضا بعض الخوارج. وقال بلال [عتيق أبي بكر] عند الاحتضار وامرأته تقول: واحزناه! وهو يقول: واطرباه غدا ألقى الأحبة محمد وحزبه. وفي البخاري عن المسور [بن مخرمة] قال: لما طعن عمر جعل يألم فقال ابن عباس وكأنه يجزعه -أي يزيل جزعه-: يا أمير المؤمنين لئن كان ذلك لقد صحبت رسول الله ﷺ فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت المسلمين فأحسنت صحبتهم ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون. فقال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله ﷺ ورضاه فإن ذلك من من الله من به علي، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإن ذلك من من الله من به علي، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طلاع الأرض لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه. فقد مات رسول الله ﷺ وهو عنه راض ومات هو ورعيته عنه راضون مقرون بعدله والله عنه راض، وخشيته من الله وخوفه منه لكمال علمه [فإن الله تعالى يقول: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}] وقد كان النبي ﷺ يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء. وفي صحيح مسلم أنه لما قتل عثمان بن مظعون قال النبي ﷺ: «والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم» وقال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» وعن أبي ذر قال: "وددت أني شجرة تعضد".

وأما الكافر فإنه يقول: {يا ليتني كنت ترابا} في القيامة وكذلك: {لو أن لهم ما في الأرض لافتدوا به} يوم القيامة. وأما الدنيا فمن جعل خوف المؤمن من ربه كخوف الكافر في الآخرة فهو كمن جعل الظلمات كالنور والظل كالحرور. ومن ولي الأمة فعدل عدلا يشهد به عامتهم وهو في ذلك خائف وجل من أن يكون ظلم أفضل ممن يقول كثير من رعيته إنه ظلم وهو في نفسه مدل بعمله. وبعدل عمر يضرب المثل.

قلتُ: وقال ابن عيينة عن جعفر الصادق عن أبيه عن جابر أن عليا دخل على عمر وهو مسجى فقال: صلى الله عليك. وهذا من أصح الأخبار. وقال ابن المبارك وغيره عن عمر بن سعيد بن أبي حسين [النوفلي المكي] عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: وضع عمر على سريره فتكنفه جماعة يدعون ويثنون فلم يرعني إلا رجل أخذ بمنكبي فإذا علي فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحدا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك. وهذا أيضا صحيح.

قال: "وعن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال في مرضه ائتوني بدواه وبيضاء لأكتب لكم كتابا لا تضلون من بعدي، فقال عمر إن الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله، فكثر اللغط فقال رسول الله ﷺ: اخرجوا عني لا ينبغي التنازع لدي. قال ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب النبي ﷺ. وقال عمر لما مات رسول الله ﷺ: ما مات محمد ولا يموت حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم، فلما نهاه أبو بكر وتلا عليه قوله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون} وقوله تعالى: {أفإن مات أو قتل انقلبتم} قال: كأني ما سمعت هذه الآية".

فيقال: أما عمر فقد ثبت من علمه وفضله ما لم يثبت لأحد غير أبي بكر. قال النبي ﷺ: «قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر» قال ابن وهب: معناه ملهمون. أخرجه مسلم [عن عائشة]. وقال النبي ﷺ: «قد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر» أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. وقال ﷺ: «بينما أنا نائم أتيت بقدح من لبن فشربت منه حتى أني لأرى الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر» قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: «العلم» أخرجه البخاري. وفي الصحيح عن أبي سعيد قال رسول الله ﷺ: «بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون على وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره» قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: «الدين» وفي الصحيحين أن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث في مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي أسارى بدر.

فأما قصة الكتاب فقد جاء مبينا في الصحيحين من حديث عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ في مرضه: «ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» وفي صحيح البخاري قالت عائشة: وارأساه! فقال رسول الله ﷺ: «ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك» فقلت: واثكلاه والله إني لأظنك تحب موتي فلو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك، فقال ﷺ: «بل أنا وارأساه لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون ويأبى الله والمؤمنون» وفي صحيح مسلم [عن ابن أبي مليكة] سئلت عائشة رضي الله عنها: من كان رسول الله ﷺ مستخلفا لو استخلف؟ قالت: أبو بكر، قيل لها: فمن بعده؟ قالت: عمر، قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة.

وأما عمر فاشتبه عليه هل كان قول رسول الله ﷺ من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة، والمرض جائز على الأنبياء. ولهذا قال: "ما له أهجر" فشك في ذلك وما جزم. والشك يجوز على عمر إذ لا معصوم بعد النبي ﷺ، فجوّز أن يكون كلامه من وجع الحمى؛ ولذلك ظن أنه لم يمت [حتى تبين أنه قد مات]. والنبي ﷺ كان قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي ذكره لعائشة فلما رأى أن الشك قد وقع علم أن الكتاب لا يرفع الشك فلم يبق فيه فائدة وعلم أن الله يجمعهم على ما أراد كما قال: «ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» وقول ابن عباس: "إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ﷺ وبين أن يكتب الكتاب" يقتضي أن الحائل كان رزية وهي في حق من شك في خلافة أبي بكر أو اشتبه عليه الأمر فإنه لو كتب كتابا لزال الشك. فأما من علم أن خلافته حق فلا رزية في حقه [ولله الحمد.

ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة علي فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة والشيعة. أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه. وأما الشيعة القائلون بأن عليا كان هو المستحق للإمامة فيقولون إنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصا جليا ظاهرا معروفا؛ وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب. وإن قيل إن الأمة جحدت النص المعلوم المشهور فلأن تكتم كتابا حضره طائفة قليلة أولى وأحرى. وأيضا فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته، ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك. فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته لكان النبي ﷺ يبينه ويكتبه ولا يلتفت إلى قول أحد، فإنه أطوع الخلق له. فعلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجبا ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذ إذ لو وجب لفعله.] وما مثل عمر بأعظم ممن [يفتي و]يقضي مجتهدا بأمور يكون النبي ﷺ قد حكم بخلافها؛ إذ الشك في الحق أخف من الجزم بنقيضه، والكل من الخطأ المغفور. فقد قضى [علي] في الحامل المتوفى عنها زوجها أنها تعتد أبعد الأجلين مع صحة خبر سبيعة ولكنه لم يبلغه؛ وقضى في المفوضة أن مهرها يسقط بالموت مع قضاء الرسول ﷺ في بروع بأن لها مهر نسائها؛ وأراد أن ينكح ابنة أبي جهل حتى غضب رسول الله ﷺ فرجع عن ذلك؛ وأمثال هذا مما لم يقدح في علي ولا غيره من أولي العلم إذا اجتهدوا؛ وقال إذا اختارت المرأة زوجها فهي طلقة مع أن النبي ﷺ خيّر نساءه ولم يكن ذلك طلاقا. [والأمور التي كان ينبغي لعلي أن يرجع عنها أعظم بكثير من الأمور التي كان ينبغي لعمر أن يرجع عنها مع أن عمر قد رجع عن عامة تلك الأمور وعلي عرف رجوعه عن بعضها فقط كرجوعه عن خطبة بنت أبي جهل وأما بعضها كفتياه بأن الحامل المتوفى عنها تعتد أبعد الأجلين وأن المفوضة لا مهر لها إذا مات الزوج وقوله إن المخيرة إذا اختارت زوجها فهي واحدة فهذه لم يعرف إلا بقاؤه عليها حتى مات. وكذلك مسائل كثيرة ذكرها الشافعي في كتاب اختلاف علي وعبد الله وذكرها محمد بن نصر المروزي في كتاب رفع اليدين في الصلاة، وأكثرها موجودة في الكتب التي تذكر فيها أقوال الصحابة إما بإسناد أو بغير إسناد مثل مصنف عبد الرزاق وسنن سعيد بن منصور ومصنف وكيع ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة وسنن الأثرم ومسائل حرب وعبد الله بن أحمد وصالح وأمثالهم مثل كتاب ابن المنذر وابن جرير الطبري وابن حزم وغير هؤلاء.] قال: "ولما وعظت فاطمة أبا بكر في فدك كتب لها كتابا بها وردها عليها فخرجت من عنده فلقيها عمر فحرق الكتاب فدعت عليه بما فعله به أبو لؤلؤة".

قلنا: هذا والله من أقبح الكذب الذي اختلقته الرافضة. أفيُعيَّر عمر بأن أكرمه الله بالشهادة على يد أبي لؤلؤة الكافر بعد ثلاث عشرة سنة من وفاة فاطمة كما أكرم عليا بالشهادة رضي الله عنهم أجمعين.

قال: "وعطل عمر الحدود فلم يحد المغيرة بن شعبة".

قلنا: [إن جماهير العلماء على ما فعله عمر في قصة المغيرة، وإن البينة إذا لم تكمل حدَّ الشهود،] وفعل ذلك بحضرة الصحابة -علي وغيره- فأقروه عليه. بدليل أنه لما جلد الثلاثة أعاد أبو بكرة القذف وقال: والله لقد زنا، فهم عمر بجلده ثانيا فقال له علي: إن كنت جالده فارجم المغيرة، يعني يكون تكراره للقول بمنزلة شاهد آخر فيتم النصاب ويجب الرجم. وهذا دليل على رضا علي بحدهم لأنه ما أنكره. وعمر قد أقام الحد على ابنه في الخمر [لما شرب بمصر بعد أن كان عمرو بن العاص ضربه الحد لكن كان ضربه سرا في البيت وكان الناس يضربون علانية فبعث عمر إلى عمرو يزجره ويتهدده لأنه حابى ابنه ثم طلبه فضربه مرة ثانية]. وكان لا تأخذه في الله لومة لائم. وعدله متواتر لا ينكره إلا رافضي. وكذلك لا ينكر على علي في تركه إقامة الحد على قتلة عثمان لأنه مجتهد كعمر. قال: "وكان يعطي أزواج النبي ﷺ من بيت المال أكثر مما ينبغي ويعطي عائشة وحفصة في السنة عشرة آلاف".

قلنا: كان مذهبه التفضيل في العطاء، كما كان يعطي بني هاشم أكثر من غيرهم ويبدأ بهم ويقول ليس أحد أحق بهذا المال من أحد وإنما هو الرجل وعناؤه والرجل وبلاؤه والرجل وسابقته والرجل وحاجته، وكان يعطي ابنه عبد الله أنقص مما يعطي أسامة بن زيد. فوالله ما كان عمر يتهم في تفضيله لمحاباة ولا صداقة. قال: "وغيّر حكم الله في المنفيين".

قلنا: النفي في الخمر تعزيز يسوغ للإمام فعله باجتهاد. وقد ضرب الصحابة في الخمر أربعين وضربوا ثمانين، وصح أن عليا قال: "وكُلٌّ سنة" وقد قال العلماء: الزيادة على أربعين حد واجب، وبه يقول أبو حنيفة ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد. وقال الشافعي: الزائد تعزير وللإمام أن يفعله. وكان عمر يحلق في الخمر وينفي. وصح عن النبي ﷺ الأمر بقتل الشارب في الرابعة، واختلف في نسخه. وكان علي يحد أكثر من الأربعين وقال: "ما أحد أقيم عليه الحد فيموت فأجد في نفسي إلا شارب الخمر فإنه لو مات لوديته فإنه شيء فعلناه بآرائنا" رواه الشافعي واستدل به على أن الزيادة من باب التعزير الذي يفعل بالاجتهاد. قال: "وكان قليل المعرفة بالأحكام، أمر برجم حامل حتى نهاه علي".

قلنا: إن كانت هذه القضية وقعت فلعل عمر لم يعلم يحملها والأصل عدم الحمل أو غاب عنه الحكم حتى ذكّره علي، فكان ماذا؟ بمثل هذا فيقدح في أئمة الهدى؟ وعلي قد خفي عليه من السنة أضعاف هذا وأدى اجتهاده إلى أن قُتل يوم الجمل وصفين نحو من تسعين ألفا، فهذا أعظم مرارا من خطأ عمر في قتل ولد زنا، ولم يقتله ولله الحمد. قال: "وأمر برجم مجنونة فقال له علي: إن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق، فأمسك وقال: لولا علي لهلك عمر".

قلنا: هذه الزيادة ليست معروفة. فإن كان عمر لا يعلم بخبرها فلا ضير أو علم وذهل أو اجتهد فله أسوة بغيره وما هو بمعصوم.

قال: "وقال في خطبة له: من غالى بمهر امرأة جعلته في بيت المال، [فقالت له امرأة: كيف تمنعنا ما أعطانا الله في كتابه حين قال: {وآتيتم إحداهن قنطارا}] فقال: كل أحد أفقه من عمر".

قلنا: هذا من كمال فضله وتقواه حيث رجع إلى كتاب الله إذ تبين له، وأنه يقبل الحق حتى من امرأة ويتواضع ويعترف. وما من شرط الأفضل أن لا ينبهه المفضول، فقد قال هدهد لسليمان: {أحطت بما لم تحط به} ورحل موسى إلى الخضر وهو دونه ليتعلم منه. وما كان قد رآه عمر فهو مما يقع مثله للمجتهد الفاضل، فإن الصداق فيه حق لله ليس من جنس الثمن والأجر. قال: "ولم يحد قدامة في الخمر لأنه تلا عليه قوله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا} فقال له علي: ليس قدامة من أهل هذه الآية، فلم يدر كم يحده فقال له علي: حده ثمانين".

والجواب: علم عمر في هذا أبين من أن يحتاج إلى دليل فقد جلد في الخمر مرات. والذي نعرفه من القصة ما رواه أبو إسحاق الجوزجاني عن ابن عباس أن قدامة بن مظعون شرب الخمر فقال له عمر: ما حملك على ذلك؟ قال: إن الله تعالى يقول: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا} وأنا من المهاجرين الأولين، فقال عمر: أجيبوه، فسكتوا، فقال لابن عباس: أجبه، فقال: إنما أنزلها الله عذرا للماضين لمن شربها قبل التحريم. ثم سأل عمر عن الحد فيها فقال علي: إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فاجلده ثمانين، فجلده عمر ثمانين. فإن كان علي أشار بالثمانين فإن الذي ثبت في الصحيح أن عليا جلد أربعين عند عثمان [لما جلد] الوليد بن عقبة وأنه أضاف الثمانين إلى عمر. وثبت في الصحيح أن ابن عوف أشار بالثمانين فلم يكن جلد عمر مستفادا من علي. وقد ذكرنا أن عليا قال: "لو مات في جلد الخمر أحد لوديته لأن النبي ﷺ لم يسنه لنا". قال: "وأرسل إلى حامل يستدعيها فأسقطت خوفا منه فقال له الصحابة: نراك مؤدبا ولا شيء عليك. ثم سأل عليا فأوجب الدية على عاقلته".

قلنا: هذه من مسائل الخلاف والاجتهاد. وما زال عمر يشاور مثل عثمان وعلي وابن مسعود وزيد وابن عباس، وهذا من كماله. وقد أتي بامرأة أقرت بالزنا فاتفقوا على رجمها فقال عثمان: أراها تستهل به استهلال من لا يعلم أن الزنا محرم، فلم يحدها لكونها جهلت التحريم. وكذا لم يعاقب النبي ﷺ أسامة لما قتل الذي قال "لا إله إلا الله" لاعتقاده جواز قتله. ومن ذلك قتل خالد بني جذيمة وقتله مالك بن نويرة. قال: "وتنازعت امرأتان في طفل ولم يعلم الحكم [وفزع] فيه إلى أمير [المؤمنين] فاستد [على المرأتين] ووعظهما فلم ترجعا فقال: ائتوني بالمنشار أقده بينكما نصفين فقالت واحدة: الله الله يا أبا الحسن قد سمحت لها به، فقال علي: الله أكبر هو ابنك ولو كان ابنها لرقت عليه".

قلنا: هذه قضية لا تعرف لعمر بل هي معروفة لسليمان عليه السلام كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة مرفوعا وفيها أن الله فهّم سليمان من الحكم ما لم يفهمه داود كما قال تعالى: {ففهمناها سليمان} وكان سليمان قد سأل الله حكما يوافق حكمه فأعطاه، وما نعلم أن سليمان أفضل من داود. وقد جاء أن داود عليه السلام كان أعبد البشر. قال: "وأمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر فقال له علي: إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك إن الله يقول: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} وقال تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين}".

قلنا: كان عمر يستشير الصحابة وبهذا مدح الله المؤمنين بقوله: {وأمرهم شورى بينهم} والناس متنازعون في المرأة إذا ظهر بها حمل ولم يكن لها زوج ولا سيد ولا ادعت شبهة. فمذهب مالك أنها ترجم وهو رواية عن أحمد. وقال أبو حنيفة والشافعي لا ترجم فلعلها مستكرهة أو حملت بلا وطء. والأول هو الثابت عن الخلفاء الراشدين. وفي الصحيحين أن عمر خطب في آخر عمره وقال: الرجم حق على من زنى إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف. وكذا اختلفوا في الشارب إذا تقيأها. ولعل عمر جوّز أن تلد امرأة لدون ستة أشهر ورآه من النادر، كما وجد في النادر من حملت أربع سنين ومن حملت سبع سنين وفي حد ذلك نزاع بين العلماء. قال: "وكان يضطرب في الأحكام فقضى في الجد بمائة قضية".

والجواب أن عمر أسعد الصحابة [المختلفين في الجد] بالحق. فإن الصحابة في الجد مع الإخوة على قولين. أحدهما أن يسقط الإخوة، وهذا قول أبي بكر وأبي موسى وأبي عباس وطائفة ومذهب أبي حنيفة وابن سريج من الشافعية وأبي حفص البرمكي من الحنابلة، وهو الحق فإن نسبة بني الإخوة من الأب إلى الجد كنسبة الأعمام بني الجد إلى الجد، وقد اتفق المسلمون على أن الجد هنا أب والأب أولى من الأعمام فيجب أن يكون أبو الأب أولى من الإخوة، وأيضا فإن الإخوة لو كانوا لكونهم يدلون ببنوة الأب بمنزلة الجد لكان أولادهم وهم بنو الأخوة كذلك، ألا ترى أن ابن الابن أولى من الجد، فكان ابنه بمنزلته. وأيضا فإن الجدة كالأم فيجب أن يكون الجد كالأب ولأن الجد يسمى أبا. وهذا القول هو إحدى الروايتين عن عمر. القول الثاني أن الجد يقاسم الإخوة. وهذا قول عثمان وعلي وزيد وابن مسعود. ولكن اختلفوا في التفصيل اختلافا متباينا والجمهور على مذهب زيد كمالك والشافعي وأحمد. وأما قول علي في الجد فلم يذهب إليه أحد من أئمة الفقهاء إنما يذكر عن ابن أبي ليلى. وإن صح أن عمر قضى فيها بمائة قضية لم يرد الراوي أنه قضى في مسألة واحدة بمائة قول إذ ليس ذلك بممكن وليس في مسألة الجد نزاع أكثر مما في مسألة الخرقاء أم وأخت وجد، وكل الأقوال فيها ستة، فعلم أنه أراد مائة حادثة من حوادث الجد لكن لم يخرج قوله عن قولين أو ثلاثة. وقول علي في الجد مختلف أيضا والمسائل التي لعلي فيها أقوال كثيرة. [وأهل الفرائض يعلمون هذا. مع أن الأشبه أن هذا كذب فإن وجود جد وإخوة في الفريضة قليل جدا في الناس، وعمر إنما تولى عشر سنين وكان قد أمسك عن الكلام في الجد وثبت عنه في الصحيح أنه قال: ثلاث وددت أن رسول الله ﷺ كان بينهن لنا الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا. ومن كان متوقفا لم يحكم فيها بشيء.] قال: "وكان يفضل في الغنيمة والعطاء وأوجب الله التسوية".

قلنا: أما الغنيمة فلم يكن هو يقسمها بل أمراء جيوشه القائمون بعد الخمس ثم يرسل إليه الخمس. وقد تنازع العلماء هل يفضل بعض الغانمين لمصلحة. وذلك روايتان عن أحمد. وإلى الجواز ذهب أبو حنيفة لأن النبي ﷺ نفل [في بدايته الربع بعد الخمس وفي رجعته] الثلث بعد أن خمس. وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ أعطى سلمة بن الأكوع سهم فارس وراجل في غزوة الغابة وكان راجلا [لأنه أتى من القتل والغنيمة وإرهاب العدو بما لم يأت به غيره]. وقال مالك والشافعي: لا يكون إلا من خمس الخمس. وأين مثل عمر الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه، وكان يجعل الناس مراتب في العطاء وأبو بكر كان يسوي. وهي مسألة اجتهاد.

وقوله: "أوجب الله التسوية" مجرد دعوى، [فهو لم يذكر على ذلك دليلا ولو ذكر دليلا لتكلمنا عليه كما نتكلم في مسائل الاجتهاد]. قال: "وقال بالرأي والحدس والظن"

قلنا: هذا لم يختص به. وقد كان علي من أقولهم بالرأي. فمن ذلك سيره إلى صفين فقال: لم يعهد إلي فيه نبي الله بشيء ولكنه رأي رأيته. وأما قتاله الخوارج فكان معه فيه حديث. [وأما قتال الجمل وصفين فلم يرو أحد منهم فيه نصا، إلا القاعدون فإنهم رووا الأحاديث في ترك القتال في الفتنة. ومعلوم أن الرأي إن لم يكن مذموما فلا لوم على من قال به؛ وإن كان مذموما فلا رأي أعظم ذما من رأي أريق به دم ألوف مؤلفة من المسلمين ولم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين لا في دينهم ولا في دنياهم، بل نقص الخير عما كان وزاد الشر على ما كان. فإذا كان مثل هذا الرأي لا يعاب به فرأي عمر وغيره في مسائل الفرائض والطلاق أولى أن لا يعاب. مع أن عليا شركهم في هذا الرأي وامتاز برأيه في الدماء. وقد كان ابنه الحسن وأكثر السابقين الأولين لا يرون القتال مصلحة، وكان هذا الرأي أصلح من رأي القتال بالدلائل الكثيرة. ومن المعلوم أن قول علي في الجد وغيره من المسائل كان بالرأي. وقد قال: "اجتمع رأيي ورأي عمر على المنع من بيع أمهات الأولاد، والآن فقد رأيت أن يبعن" فقال له قاضيه عبيدة السلماني: رأيك مع رأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة.] وفي صحيح البخاري من حديث عبيدة عن علي قال: اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الاختلاف حتى يكون للناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي. رواه ابن سيرين عن عبيدة، فكان ابن سيرين يرى أن عامة ما يروى عن علي الكذب.

وأما حديث تقتيل الناكثين والقاسطين والمارقين فموضوع على النبي ﷺ وقد قال ابن عمر: ما رأيت عمر يقول لشيء إني لأراه كذا وكذا إلا كان كما يقول. فالنصوص والإجماع والاعتبار يدل على أن رأي عمر أجود من رأي عثمان وعلي وطلحة والزبير. ولهذا كانت آثار رأيه محمودة. وما يتمارى في كمال سيرته وعلمه من له أدنى مسكة من إنصاف. ولا يطعن على أبي بكر وعمر إلا جاهل غر أو ملحد منافق توسل بالطعن فيهما إلى الطعن في الرسول ودين الإسلام؛ وهذا حال من ابتدع الرفض وحال الباطنية. وإذا قال الرافضي: علي معصوم لا يقول برأيه بل كل ما قاله فهو مثل النص؛ قيل له: نظيرك في الطرف الآخر الخوارج الذين كفروه.

قال: "وجعل بعده الأمر شورى وخالف فيه من تقدمه وتأسف على سالم مولى أبي حذيفة وقال: لو كان حيا لم يختلجني فيه شك. وأمير المؤمنين علي حاضر" وذكر فصلا طويلا.

والجواب أن هذا [الكلام كله لا يخرج عن قسمين: إما] كذب في النقل [وإما قدح في الحق. فإن منه ما هو كذب معلوم الكذب أو غير معلوم الصدق. وما علم أنه صدق فليس فيه ما يوجب الطعن على عمر رضي الله عنه بل ذلك معدود من فضائله ومحاسنه التي ختم الله له بها عمله. ولكن هؤلاء القوم لفرط جهلهم وهواهم يقلبون الحقائق في المنقول والمعقول، فيأتون إلى الأمور التي وقعت وعلم أنها وقعت فيقولون ما وقعت، وإلى أمور ما كانت ويعلم أنها ما كانت فيقولون كانت، ويأتون إلى الأمور التي هي خير وصلاح فيقولون هي فساد، وإلى الأمور التي هي فساد فيقولون هي خير وصلاح، فليس لهم عقل ولا نقل؛ بل لهم نصيب من قوله تعالى: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا من أصحاب السعير}

وأما قول الرافضي: "وجعل الأمر شورى بعده وخالف فيه من تقدمه" فالجواب أن الخلاف نوعان: خلاف تضاد وخلاف تنوع. فالأول مثل أن يوجب هذا شيئا ويحرمه الآخر. والنوع الثاني مثل القراءات التي يجوز كل منها، وإن كان هذا يختار قراءة وهذا يختار قراءة كما ثبت في الصحاح بل استفاض عن النبي ﷺ أنه قال: «إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف» وثبت أن عمر وهشام بن حكيم بن حزام اختلفا في سورة الفرقان فقرأها هذا على وجه وهذا على وجه فقال لكليهما: «هكذا أنزلت» ومن هذا الباب تصرف ولي الأمر للمسلمين. ولهذا استشار النبي ﷺ أصحابه يوم بدر فأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه بأخذ الفداء وشبهه النبي ﷺ بإبراهيم وعيسى، وأشار إليه عمر رضي الله عنه بالقتل وشبهه ﷺ بنوح وموسى، ولم يعب واحدا منهما بما أشار عليه به بل مدحه وشبهه بالأنبياء، ولو كان مأمورا بأحد الأمرين حتما لما استشارهم فيما يفعل. ثم إن الاجتهاد يختلف ويكون جميعه صوابا، كما أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان رأيه أن يولي خالد بن الوليد في حروبه وكان عمر يشير عليه بأن يعزله فلا يعزله ويقول إنه سيف سله الله على المشركين، ثم إن عمر لما تولى عزله وولى أبا عبيدة بن الجراح؛ وما فعله كل منهما كان أصلح في وقته فإن أبا بكر كان فيه لين وعمر كان فيه شدة، وكانا على عهد النبي ﷺ يستشيرهما. وروي عنه أنه قال: "إذا اتفقتما على شيء لم أخالفكما" وثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال في بعض مغازيه: «إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا» وفي رواية في الصحيح: «كيف ترون القوم صنعوا حين فقدوا نبيهم وأرهقتهم صلاتهم؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: «أليس فيهم أبو بكر وعمر إن يطيعوهما فقد رشدوا ورشدت أمتهم وإن يعصوهما فقد غووا وغوت أمتهم» قالها ثلاثا. وقد روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس عن عمر قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله ﷺ إلى المشركين وهم ألف وأصحابه وهم ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل رسول الله ﷺ القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آتني ما وعدتني اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض» فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} فأمده الله بالملائكة.

وكان السلف متفقين على تقديم أبي بكر وعمر حتى شيعة علي رضي الله عنه. وروى ابن بطة عن شيخه المعروف بأبي العباس بن مسروق: حدثنا محمد بن حميد: حدثنا جرير عن سفيان عن عبد الله بن زياد بن حدير قال: قدم أبو إسحاق السبيعي الكوفة، قال لنا شمر بن عطية: قوموا إليه، فجلسنا إليه فتحدثوا فقال أبو إسحاق: "خرجتُ من الكوفة وليس أحد يشك في فضل أبي بكر وعمر وتقديمهما وقدمت الآن وهم يقولون ويقولون ولا والله ما أدري ما يقولون". وعن ضمرة عن سعيد بن حسن قال: سمعت ليث بن أبي سليم يقول: "أدركت الشيعة الأولى وما يفضلون على أبي بكر وعمر أحدا" وقال أحمد بن حنبل: حدثنا سفيان بن عيينة عن خالد بن سلمة عن مسروق قال: "حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة" ومسروق من أجل تابعي الكوفة. وكذلك قال طاوس. وقد روي ذلك عن ابن مسعود.

وكيف لا تقدم الشيعة الأولى أبا بكر وعمر وقد تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر. وقد روي هذا عنه من طرق كثيرة قيل إنها تبلغ ثمانين طريقا. وقد روى البخاري عنه في صحيحه من حديث الهمدانيين الذين هم أخص الناس بعلي حتى كان يقول:

ولو كنت بوابا على باب جنة ** لقلت لهمدان ادخلي بسلام

فقد رواه البخاري من حديث سفيان الثوري وهو همداني عن منذر وهو همداني عن محمد بن الحنيفة قال: قلت لأبي: يا أبت من خير الناس بعد رسول الله ﷺ؟ فقال: يا بني أوما تعرف؟ فقلت: لا، قال أبو بكر، فقلت: ثم من؟ قال: عمر. وهذا يقوله لابنه بينه وبينه؛ ليس هو مما يجوز أن يقوله تقية، ويرويه عن أبيه خاصة. وقاله على المنبر. وعنه أنه كان يقول: لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري. وفي السنن عنه ﷺ أنه قال: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر» ولهذا كان أحد قولي العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد إن قولهما إذا اتفقا حجة لا يجوز العدول عنها، وهذا أظهر القولين. كما أن الأظهر أن اتفاق الخلفاء الأربعة أيضا حجة لا يجوز خلافها لأمر النبي ﷺ باتباع سنتهم. وكان نبينا ﷺ مبعوثا بأعدل الأمور وأكملها فهو الضحوك القتال وهو نبي الرحمة ونبي الملحمة؛ بل أمته موصوفون بذلك في مثل قوله تعالى: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} وقوله تعالى: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} فكان النبي ﷺ يجمع بين شدة هذا ولين هذا فيأمر بما هو العدل وهما يطيعانه فتكون أفعالهما على كمال الاستقامة. فلما قبض الله نبيه وصار كل منهما خليفة على المسلمين خلافة نبوة كان من كمال أبي بكر رضي الله عنه أن يولي الشديد ويستعين به ليعتدل أمره ويخلط الشدة باللين -فإن مجرد اللين يفسد ومجرة الشدة تفسد- ويكون قد قام مقام النبي ﷺ فكان يستعين باستشارة عمر وبإستنابة خالد ونحو ذلك، وهذا من كماله الذي صار به خليفة رسول الله ﷺ. ولهذا اشتد في قتال أهل الردة شدة برز بها على عمر وغيره حتى روي أن عمر قال له: يا خليفة رسول الله ﷺ تألَّفِ الناس، فقال: علام أتألفهم أعلى حديث مفترى أم على شعر مفتعل. وقال أنس: خطبنا أبو بكر عقيب وفاة النبي ﷺ وإنا لكالثعلب فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود. وأما عمر رضي الله عنه فكان شديدا في نفسه فكان من كماله استعانته باللين ليعتدل أمره، فكان يستعين بأبي عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة الثقفي والنعمان بن مقرن وسعيد بن عامر وأمثال هؤلاء من أهل الصلاح والزهد الذين هم أعظم زهدا وعبادة من مثل خالد بن الوليد وأمثاله.

ومن هذا الباب أمر الشورى فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان كثير المشاورة للصحابة فيما لم يتبين له فيه أمر الله ورسوله، فإن الشارع نصوصه كلمات جوامع وقضايا كلية وقواعد عامة يمتنع أن ينص على كل فرد من جزئيات العالم إلى يوم القيامة فلا بد من الاجتهاد في المعينات هل تدخل في كلماته الجامعة أم لا، وهذا الاجتهاد يسمى تحقيق المناط وهو مما اتفق عليه الناس كلهم نفاة القياس ومثبتته، فإن الله إذا أمر أن يستشهد ذوا عدل، فكون الشخص المعين من ذوي العدل لا يعلم بالنص العام بل باجتهاد خاص.

وكذلك إذا أمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها وأن تولى الأمور من يصلح لها، فكون هذا الشخص المعين صالحا لذلك أو راجحا على غيره لا يمكن أن تدل عليه النصوص بل لا يعلم إلا باجتهاد خاص. والرافضي إن زعم أن الإمام يكون منصوصا عليه وهو معصوم فليس هو أعظم من الرسول، ونوابه وعماله ليسوا معصومين، ولا يمكن أن ينص الشارع على كل معينة ولا يمكن النبي ولا الإمام أن يعلم الباطن في كل معينة. وأما علي رضي الله عنه فظهور الأمر في الجزئيات بخلاف ما ظنه كثير جدا. فعلم أنه لا بد من الاجتهاد في الجزئيات من المعصومين وغير المعصومين. وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» فحكمه في القضية المعينة إنما هو باجتهاده، ولهذا نهى المحكوم له أن يأخذ ما حكم له به إذا كان الباطن بخلاف ما ظهر.

وعمر رضي الله عنه إمام، وعليه أن يستخلف الأصلح للمسلمين. فاجتهد في ذلك ورأى أن هؤلاء الستة أحق من غيرهم وهو كما رأى، فإنه لم يقل أحد إن غيرهم أحق منهم. وجعل التعيين إليهم خوفا أن يعين واحدا منهم ويكون غيره أصلح لهم فإنه ظهر له رجحان الستة دون رجحان التعيين وقال: الأمر في التعيين إلى الستة يعينون واحدا منهم. وهذا أحسن، اجتهاد إمام عادل ناصح لا هوى له رضي الله عنه. وأيضا فقد قال تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} وقال: {وشاورهم في الأمر} فكان ما فعله من الشورى مصلحة. وما كان فعله أبو بكر رضي الله عنه من تعيين عمر هو المصلحة أيضا فإن أبا بكر تبين له من كمال عمر وفضله واستحقاقه للأمر ما لم يحتج معه إلى الشورى، وظهر أثر هذا الرأي المبارك الميمون على المسلمين. فإن كل عاقل منصف يعلم أن عثمان أو عليا أو طلحة أو الزبير أو سعدا أو عبد الرحمن بن عوف لا يقوم مقام عمر، فكان تعيين عمر في الاستحقاق كتعيين أبي بكر في مبايعتهم له. ولهذا قال عبد الله بن مسعود: أفرس الناس ثلاثة بنت صاحب مدين حيث قالت: {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} وامرأة العزيز حيث قالت: {عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا} وأبو بكر حيث استخلف عمر.

وقالت عائشة رضي الله عنها في خطبتها: "أبي وما أبي، والله لا تعطوه الأيدي، ذاك طود منيف وفرع مديد، هيهات كذبت الظنون، أنجح إذ أكديتمظن وسبق إذ ونيتم سبق الجواد إذا استولى على الأمدظن فتى قريش ناشئاظن وكهفها كهلا، يفك عانيها ويريش مملقها ويرأب شعبها حتى جلبته قلوبها، ثم استشرى في دينه فما برحت شكيمته في ذات الله تعالى تشتد حتى اتخذ بفنائه مسجدا يحيي فيه ما أمات المبطلون، وكان رحمه الله غزير الدمعة وقيذ الجوانح شجي النشيج، فتتقصف عليه نسوان مكة وولدانها يسخرون منه ويستهزئون به {الله يستهزيء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون} فأكبرت ذلك رجالات قريش فحنت له قسيها وفوقت له سهامها وانتبلوه غرضا فما فلوا له صفاة ولا قصفوا له قناة، ومر على سيسائه، حتى إذا ضرب الدين بجرانه وألقى بركه ورست أوتاده ودخل الناس فيه أفواجا ومن كل فرقة أرسالا وأشتاتا اختار الله لنبيه ﷺ ما عنده، فلما قبض الله نبيه ضرب الشيطان روقه ومد طنبه ونصب حبائله، فظن رجال أن قد تحققت أطماعهم ولات حين الذي يرجون، وأنى والصديق بين أظهرهم، فقام حاسرا مشمرا، فجمع حاشيته وضم قطريه، فردَّ نشر الإسلام على غره ولم شعثه بطبه وأقام أوده بثقافه، فوقذ النفاق بوطأته وانتاش الدين بنعشه، فلما أراح الحق على أهله وقرر الرءوس على كواهلها وحقن الدماء في أهبها أتته منيته، فسد ثلمه بنظيره في الرحمة وشقيقه في السيرة والمعدلة ذاك ابن الخطاب، لله أم حفلت له ودرت عليه، لقد أوحدت به، فقبح الكفر وشرد الشرك شذر مذر وبعج الأرض وبخعها، فقاءت أكلها ولفظت خبيئها ترأمه ويصد عنها، وتصدى له ويأباها، ثم ورع فيها وودعها كما صحبها، فأروني ما تريبون وأي يومي أبي تنقمون، أيوم إقامته إذ عدل فيكم أو يوم ظعنه وقد نظر لكم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. روى هذه الخطبة جعفر بن عون عن أبيه عن عائشة، وهؤلاء رواة الصحيحين.

وأما عمر رضي الله عنه فرأى الأمر في الستة متقاربا.] صح عنه أنه قال: إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني أبا بكر- وإن أترك فقد ترك من هو خير مني -يعني النبي ﷺ. والخلاف ما زال في القراءات والفقه وغير ذلك حتى إن العالم الواحد يقول قولين مختلفين، وما زالت آراء الكبار تختلف. وثبت أن النبي ﷺ قال في بعض المغازي: «إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا» وروي عنه أنه قال لهما: "لو اتفقتما على شيء لم أخالفكما" وقال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» فما فعله أبو بكر من استخلافه عمر كان المصلحة لكمال عمر وشفوفه واستحقاقه، وظهر أثر ذلك عند كل عاقل منصف. وكان ما فعله عمر هو المصلحة فإنه لم يترجح عنده أحد من الستة على الباقين ورآهم متقاربين وفي كلٍّ فضيلة ليست في الآخر، وترك التعيين خوفا وورعا وفعل من المصلحة بحسب الإمكان. ثم إن الصحابة اجتمعوا على عثمان وكانت ولايته أرجح مصلحة وأقل مفسدة من غيره. والواجب أن يقدم أكثر الأمرين مصلحة وأقلهما مفسدة ولا يجب على الخليفة أن يستخلف بعد موته، فقال: الأمر شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله ﷺ وهو عنهم راض.

وأما ما زعمتَ من ذكر سالم مولى أبي حذيفة فمعلوم أن الصحابة يعلمون الإمامة في قريش كما استفاضت بذلك السنن، وذلك مما احتجوا به على الأنصار يوم السقيفة، فكيف يظن بعمر أنه يولي مولى، فأين يذهب عقلك؟ [بل من الممكن أنه كان يوليه ولاية جزئية أو يستشيره فيمن يولي ونحو ذلك من الأمور التي يصلح لها سالم مولى أبي حذيفة، فإن سالما كان من خيار الصحابة.]

وقولك: "جمع بين الفاضل والمفضول" فهذا عندك، وأما عندهم فكانوا متقاربين ولهذا كانوا في الشورى مترددين. فإن قلت: علي هو الفاضل وعثمان المفضول؛ قيل لك: فكيف أجمع المهاجرون والأنصار على تقديم مفضول؟ وقال بعض العلماء: من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار. وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: كنا نفاضل على عهد النبي ﷺ فنقول: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، وفي لفظ ثم ندع أصحاب النبي ﷺ فلا نفاضل بينهم. فهذا ينقل ما كان عليه الصحابة على عهد نبيهم. وظهر أثر ذلك فإنهم بايعوا عثمان من غير رغبة ولا رهبة واتفقوا عليها وكانوا كما نعتهم الله: {يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} حتى قال ابن مسعود: ولينا أعلانا ذا فوق ولم نأل. [وفيهم العباس بن عبد المطلب وفيهم من النقباء عبادة بن الصامت وأمثاله وفيهم مثل أبي أيوب الأنصاري، وكل من هؤلاء ومن غيرهم لو تكلم بالحق لم يكن هناك عذر يسقطه عنه، فقد كان يتكلم من يتكلم منهم على عهد رسول الله ﷺ في ولاية من يولى وهو مستحق للولاية ولا يحصل لهم ضرر، وتكلم طلحة وغيره في ولاية عمر لما استخلفه أبو بكر، وتكلم أسيد بن حضير في ولاية أسامة بن زيد على عهد النبي ﷺ. وقد كانوا يكلمون عمر فيمن يوليه ويعزله. وعثمان بعد ولايته وقوة شوكته وكثرة أنصاره وظهور بني أمية كانوا يكلمونه فيمن يوليه ويعطيه منهم ومن غيرهم، ثم في آخر الأمر لما اشتكوا من بعضهم عزله، ولما اشتكوا من بعض من يأخذ بعض المال منعه، فأجابهم إلى ما طلبوه من عزل ومنع من المال وهم أطراف من الناس وهو في عزة ولايته. فكيف لا يسمع كلام الصحابة أئمتهم وكبرائهم مع عزتهم وقوتهم لو تكلموا في ولاية عثمان.] وكان في ولايته من الفتوحات والخيرات ما لا يوصف. وما حصل منه من تأمير أقاربه وإكثار جوائزهم فقد حصل بعده من غيره من إيثار بعص الناس بولاية أو مال مضافا إلى ما جرى من الفتنة. والصحابة ما كانوا يسكتون كلهم على مضض. ألا تراهم تكلموا في عمر إذ استخلفه أبو بكر وتكلموا مع الصديق وقالوا: ماذا تقول لربك إذا قدمت عليه وقد وليت علينا عمر فظا غليظا؟ فقال: أبالله ترهبونني أقول وليت عليهم خير أهلك. قالوا هذا، ومن شأن الناس أن يراعوا من ترشح للولاية [فيحابونه] خوفا من أن ينتقم بعد منهم. فكيف يحابون عثمان وهو بعد ما بيده أمر. فدل على أنهم إنما قدموه باستحقاق. وهذا شيء إذا تدبره الخبير ازداد به بصيرة وعلما. فأما الجاهل وصاحب الهوى فقد أعمى الله قلبه. وأما من كان عالما بما وقع وهو مستحضر للأدلة عالم بطريقة النظر فإنه يقطع بما بيناه. ثم قال: "وطَعنَ في كل واحد ممن اختاره للشورى، وأظهر أنه يكره أن يتقلد أمر المسلمين بعد موته، ثم تقلده [بأن جعل الإمامة في] ستة".

فيقال: لم يطعن فيهم طعن من يرى غيرهم أحق بالأمر، وإنما بين عذره في عدم التعيين. ثم قال: "فناقض وجعلها في أربعة ثم في ثلاثة ثم في واحد، فجعل إلى ابن عوف الاختيار بعد أن وصفه بالضعف".

فيقال: [ينبغي] لمن احتج بالمنقول أن يثبته أولا. والثابت في البخاري ليس فيه من هذا شيء، بل فيه ما يدل على نقيض هذا وأن الستة هم الذين ردوا الأمر إلى الثلاثة، ثم الثلاثة جعلوا الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف. بلى قال عمر: فإن أصابت سعدا الخلافة، وإلا فليستعن به من ولي فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة. ثم قال: أوصي الخليفة من بعدي بتقوى الله، وأوصيه بالمهاجرين الأولين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم أن يعرف لهم حقهم وأن يحفظ لهم حرمتهم - وذكر الحديث. وكان عمر في حياته لا يخاف أحدا. والرافضة تسميه فرعون هذه الأمة قاتلهم الله. فإذا كان في حياته لا يخاف أحدا فكيف يخاف من تقديم عثمان لو أراد أن يقدمه عند موته والناس كلهم مطيعوه؟ وأي غرض يكون لعمر في عثمان دون علي؟ فقد أخرج من الأمر ابنه ولم يدخل سعيد بن زيد في أهل الشورى وهو أقرب الناس إليه. فلأي شيء يحابي كما افتريتم عليه وهو في تلك الحال وفي آخر ساعة من الدنيا وقت يسلم فيه الكافر ويخشع فيه الفاجر. فلو علم أن لعلي حقا دون غيره بنص أو بأولوية لقدمه توبة إلى الله أو ابتغاء رضوان الله. وليس في العادة أن الرجل يفعل عند لقاء الله ما يعلم أنه يعاقب عليه مما لا ينفعه في دين ولا دنيا. ولو قدر أنه كان عدوا مبغضا للرسول فلا ريب أنه بسبب النبي ﷺ نال من السعادة ما نال. ثم إن عمر كان من أذكى خلق الله تعالى، ودلائل النبوة من أظهر الأمور، [فهو يعلم أنه إن استمر على معاداته يعذب في الآخرة، وليس له وقت الموت غرض في ولاية عثمان ونحوه،] فكيف استفرغ وسعه في عداوة بيت نبي الله وابن عمه؟ [وهو الذي] لزم العيش الخشن والثوب القطني والصبر على العدل وعن جمع الأموال وعلى مجافاة الأشراف بحيث أنه قد تركه الحق وما له من صديق.

ثم نقول على ما زعمت: "لولا علي لهلك عمر" قال أبو المعالي الجويني: ما دار الفلك على شكل عمر. وصدق رسول الله ﷺ إذ يقول [لعمر]: «ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك غير فجك» وأمر أمير المؤمنين عمر أبين من الشمس. وما زال بنو هاشم وبنو أمية متفقين [في أيام النبي ﷺ وفي] إمرة الشيخين [حتى إن أبا سفيان لما خرج من مكة عام الفتح يكشف الخبر ورآه العباس أخذه وأركبه خلفه وأتى به النبي ﷺ وطلب من النبي أن يشرفه بشيء لما قال له إن أبا سفيان يحب الشرف، وكل هذا من محبة العباس لأبي سفيان وبني أمية] إذ القبيلان من بني عبد مناف. [وحتى إنه كان بين علي وبين رجل من المسلمين منازعة في حد فخرج عثمان في موكب فيهم معاوية ليقفوا على الحد فابتدر معاوية وسأل عن معلم من معالم الحد هل كان هذا على عهد عمر فقالوا: نعم، فقال: لو كان هذا ظلما لغيره عمر. فانتصر معاوية لعلي في تلك الحكومة ولم يكن علي حاضرا بل كان وقد وكل ابن جعفر. وكان علي يقول إن للخصومات قحما وإن الشيطان يحضرها وكان قد وكل عنه عبد الله بن جعفر في المحاكمة. وبهذا احتج الشافعي وغير واحد من الفقهاء على جواز التوكيل في الخصومة بدون اختيار الخصم كما هو مذهب الشافعي وأصحاب أحمد وأحد القولين في مذهب أبي حنيفة. فلما رجعوا ذكروا ذلك لعلي فقال: أتدري لم فعل ذلك معاوية فعل لأجل المنافيّة، أي لأجل أنا جميعا من بني عبد مناف. وكانت قد وقعت حكومة شاورني فيها بعض قضاة القضاة وأحضر لي كتابا فيه هذه الحكومة ولم يعرفوا هذه اللفظة لفظة المنافية فبينتها لهم وفسرت لهم معناها. والمقصود أن بني عبد مناف كانوا متفقين في أول الأمر على عهد النبي ﷺ وأبي بكر وعمر.] ثم إن عليا وعثمان اتفقا على رد الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف من غير أن يكره أحدهما الآخر. وقولك: "إن عمر علم أن عبد الرحمن لا يعدل عن أخيه وابن عمه"

فهذا كذب بارد وجهل بالنسب؛ إذ عبد الرحمن ليس أخا لعثمان ولا ابن عم ولا هو من قبيلته أصلا. وبنو زهرة إلى بني هاشم أميل، فإنهم أخوال النبي ﷺ وقد جاء أن النبي ﷺ قال في سعد: «هذا خالي». بلى، سعد زهري من قبيلة ابن عوف، فهلا آثره بها!

ثم قلت: "إنه أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام".

قلنا: أين النقل الثابت بهذا؟ إنما المعروف أنه أمر الأنصار أن لا يفارقوهم حتى يبايعوا واحدا منهم. أوَكان عمر يأمر بقتل ستة هم عنده أفضل أهل الأرض، ثم كيف يطيعه أنصار رسول الله ﷺ بعد موته في قتلهم؟ ولو أمر بقتلهم لَذَكَرَ بعد موتهم مَن يصلح لها غيرهم. ثم أيضا من الذي يتمكن من قتل هؤلاء الذين كل واحد منهم سيد عشيرته؟ فأنت قد رأيت ما جرى في الوجود بقتل واحد منهم وهو عثمان. ثم لو فرضنا أن الستة لم يتولّ أحد منهم فلم يجز قتلهم بل ولا جاز قتل واحد منهم وإنما يولى غيرهم. ولا سمعنا في العالم أن أحدا امتنع من الخلافة فقتل. فتبين أن هذا كذب.

ثم العجب من الرافصة يزعمون أن الستة مستحقو القتل سوى علي. ثم العجب أنه يحابيهم بالولاية ثم يأمر بقتلهم. وكذا فليكن الجمع بين الضدين! ثم قد تخلف سعد بن عبادة عن بيعة أبي بكر ولم يضربوه ولا حبسوه فضلا عن القتل. وتربص علي عن البيعة مدة ولم يقل له أبو بكر شيئا حتى جاء وبايعه ولم يكرهه أحد. وما زال أبو بكر يكرمه ويجله وكذلك عامله عمر، ويقول أبو بكر: أيها الناس ارقبوا محمدا في أهل بيته. ويذهب أبو بكر وحده إلى بيت علي وعنده بنو هاشم فيذكر فضلهم ويعترفون باستحقاقه الخلافة. ولو أراد هو أو عمر إيذاء علي في خلافتهما لكانا أقدر [على ذلك من صرف الأمر عنه بعد موت النبي ﷺ،] ولكنهما أتقى لله من ذلك. فهؤلاء الجهلة يزعمون أنهما ظلماه في حال كان فيها أقدر على دفع الظلم عن نفسه وكانا أعجز عن ظلمه لو شاءاه، فهلا ظلماه في قوتهما وطاعة الخلق لهما كما جرت عادة الملوك من الفعل بمن يخافون منه ولو أرادا ذلك لما عجزا ولكان أسهل عليهما من منعه ابتداء مع وجود النص بزعمكم. بل ما زالا يعاملانه بالجميل بكل طريق. ولم يحفظ عنه كلمة سوء في حقهما ولا تظلم منهما أبدا. بل تواتر عنه محبتهما وإجلالهما ظاهرا وباطنا. وهذا أمر معروف عند من يدري الأمر ويعرف الأخبار. أما من رجع إلى الأكاذيب وبهتان الرافضة الذين هم أجهل الأمة بالمنقولات وأبعد الناس عن معرفة الأثر وأنقلهم للكذب المستحيل المتناقض الذي لا يروج إلا على البهائم كترويج قصاص الطرقية على العوام وأهل القرى والجبل وأهل البادية فلا قوة إلا بالله.

قال: "وأما عثمان فإنه ولى من لا يصلح حتى ظهر من بعضهم الفسق والخيانة، وقسم الولايات بين أقاربه وعوتب فلم يرجع، واستعمل الوليد بن عقبة فصلى بالناس سكران، واستعمل سعيد بن العاص على الكوفة فظهر منه ما أدى إلى إخراجه منها، وولى عبد الله [بن سعد] بن أبي سرح مصر فظلم وتشكوا منه فكاتبه سرا أن يستمر على ولايته وأن يقتل محمد بن أبي بكر، وولى معاوية الشام فأحدث من الفتن ما أحدث، وولى [عبد الله] بن عامر [بن كريز] البصرة ففعل من المناكر ما فعل، وولى مروان ودفع إليه خاتمه فحدث من ذلك قتله. وكان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة حتى دفع إلى أربعة زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار. وكان ابن مسعود يطعن عليه ويكفره، ولما حكم ضربه حتى مات، وضرب عمارا حتى صار به فتق وقد قال النبي ﷺ: عمار جلدة بين عيني تقتله الفئة الباغية لا أنالهم الله شفاعتي. وكان عمار يطعن عليه. وطرد رسول الله ﷺ الحكم عم عثمان فآواه عثمان إلى المدينة. ونفى أبا ذر إلى الربذة وضربه مع قول النبي ﷺ: «ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر» وضيع الحدود فلم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان مولى أمير المؤمنين. وأراد أن لا يحد الوليد على الخمر حتى حده علي وقال: لا يبطل حد الله وأنا حاضر. وزاد الأذان يوم الجمعة وهي بدعة، وخالفه المسلمون حتى قتل. وعابوا أفعاله وقالوا له: غبت عن بدر وهربت يوم أحد ولم تشهد بيعة الرضوان. والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى".

والجواب أن نواب علي قد خانوه وعصوه [أكثر مما خان عمال عثمان له وعصوه،] وذهب بعضهم إلى معاوية. وقد ولى [علي رضي الله عنه] زياد [بن أبي سفيان أبا عبيدِ الله بن زياد قاتلِ الحسين،] وولى الأشتر وولى محمد بن أبي بكر؛ ومعاوية خير من هؤلاء [كلهم. ومن العجب أن الشيعة ينكرون على عثمان ما يدعون أن عليا كان أبلغ فيه من عثمان فيقولون/ إن عثمان ولى أقاربه من بني أمية،] وعلي ولى أقاربه [من قبل أبيه وأمه] كعبد الله وعبيد الله ابني عمه العباس [وقثم بن العباس وثمامة بن العباس، وولى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي رباه في حجره] وولد أخته أم هانئ. [ثم إن الإمامية تدعي أن عليا نص على أولاده في الخلافة، ومن المعلوم أنه إن كان تولية الأقربين منكرا فتولية الخلافة العظمى أعظم من إمارة بعض الأعمال وتولية الأولاد أقرب إلى الإنكار من تولية بني العم. وإذا دعي لعلي العصمة ونحوها مما يقطع عنه ألسنة الطاعنين كان ما يدعى لعثمان من الاجتهاد الذي يقطع ألسنة الطاعنين أقرب إلى المعقول والمنقول.] وأما عثمان فله أسوة في استعمال بني أمية بالنبي ﷺ، فقد استعمل عتاب بن أسيد الأموي على مكة وأبا سفيان على نجران واستعمل خالد بن سعيد بن العاص حتى إنه استعمل الوليد بن عقبة حتى نزلت: {إن جاءكم فاسق بنبأ} الآية [فيقول عثمان: أنا لم أستعمل إلا من استعمله النبي ﷺ ومن جنسهم ومن قبيلتهم، وكذلك أبو بكر وعمر بعده، فقد ولى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان بن حرب في فتوح الشام وأقره عمر ثم ولى عمر بعده أخاه معاوية. وهذا النقل عن النبي ﷺ في استعمال هؤلاء ثابت مشهور عنه بل متواتر عند أهل العلم. فكان الاحتجاج على جواز الاستعمال من بني أمية بالنص الثابت عن النبي ﷺ أظهر عند كل عاقل من دعوى كون الخلافة في واحد معين من بني هاشم بالنص، لأن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالنقل] وذاك صدق باتفاق أهل العلم بالنقل. وأما بنو هاشم فلم يستعمل النبي ﷺ منهم إلا عليا على اليمن وجعفر على غزوة مؤتة مع مولاه زيد وابن رواحة.

ثم نحن لا ندعي أن عثمان معصوم بل له ذنوب وخطايا يغفرها الله له وقد بشره رسول الله ﷺ بالجنة على بلوى تصيبه. والرافضي يغلو في الشخص حتى يجعل ذنوبه حسنات ويعمد إلى الشخص فينسى سوابقه التي وجبت له بها الجنة ويعدد ذنوبه؛ وهذا عين الظلم. وقد اتفقت الأمة على أن الذنوب تمحى بالتوبة، وما يمكن أحدا أن يقول إن عثمان ما تاب من ذنوبه. وهنا آيات وأحاديث دالة على أن الله يغفر الذنوب جميعا وأن الصلوات تكفر وغير ذلك. فإن قيل: إذا كفرت الصلوات ما بينها فأي شيء تكفر الجمعة أو رمضان أو صوم عرفة أو عاشوراء؟ [وبعض الناس يجيب عن هذا بأنه يكتب لهم درجات إذا لم تجد ما تكفره من السيئات. فيقال] أولا: العمل الذي يمحو الله به الخطايا هو المتقبل، والله يقول: {إنما يتقبل الله من المتقين} والناس لهم في الآية ثلاثة أقوال: فالخوارج والمعتزلة يقولون لا يتقبل الله إلا من اتقى الكبائر ويقولون صاحب الكبائر لا تقبل له حسنة بحال؛ والمرجئة يقولون من اتقى الشرك فهو من المتقين وإن عمل الكبائر وترك الصلاة؛ والسلف والأئمة يقولون لا يتقبل الله إلا ممن اتقاه في ذلك العمل ففعله كما أمر به مخلصا. قال الفضيل [بن عياض] في قوله: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} قال: أخلصه وأصوبه. قال: فإن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يتقبل، وإذا كان صوابا لم يكن خالصا لم يتقبل، والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة. وفي السنن عن عمار عن النبي ﷺ: «إن الرجل لينصرف من صلاته ولم يكتب له إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها -حتى قال- إلا عشرها» وقال ابن عباس: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها. وكذلك الحج والجهاد والصوم. فالمحو والتكفير يقع بما يتقبل. والسعيد من أكثر الناس من يكتب له نصف صلاته فيكفر بما يقبل منها وما يقبل من الجمعة ورمضان، والمحو يكون للصغائر تارة وتارة للكبائر باعتبار الموازنة. وفي حديث صاحب البطاقة أنها ترجح بكل ذنوبه. فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق وعبودية وذل كما قالها هذا الرجل، وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولونها. وكذلك المرأة البغي التي سقت الكلب بموقها بإيمان خالص فغفر لها. وما كل بغي سقت كلبا يغفر لها بذلك. وإن الرجلين ليكونان في الصلاة وبين صلاتهما كما بين المشرق والمغرب. وقال ﷺ في أصحابه: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» وقال أبو بكر بن عياش: ما سبقهم الصديق بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في قلبه. وفي مسلم عن أبي موسى عن النبي ﷺ أنه رفع رأسه إلى السماء فقال: «النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون» وفي الصحيح قال ﷺ: «ليأتين على الناس زمان يغزو فيه فئام من الناس فيقال هل فيكم من صحب النبي ﷺ فيقال نعم فيفتح لهم، [ثم يأتي على الناس زمان يغزو فيه فئام من الناس فيقال هل فيكم من رأى أصحاب رسول الله ﷺ فيقولون نعم فيفتح لهم» والثلاث الطبقات متفق عليها في جميع الطرق.] وأما الطبقة الرابعة فمذكورة في بعض طرق الصحيح. وقد ثبت ثناؤه ﷺ على القرون الثلاثة في عدة أحاديث.

والمقصود أن فضل الأعمال ليس بمجرد صورها بل بحقائقها في القلوب، [والناس يتفاضلون في ذلك تفاضلا عظيما وهذا مما يحتج به من رجح كل واحد من الصحابة على كل واحد ممن بعدهم. فإن العلماء متفقون على أن جملة الصحابة أفضل من جملة التابعين، لكن هل يفضل كل واحد من الصحابة على كل واحد ممن بعدهم ويفضل معاوية على عمر بن عبد العزيز؟ ذكر القاضي عياض وغيره في ذلك قولين وأن الأكثر يفضلون كل واحد من الصحابة وهذا مأثور عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما. ومن حجة هؤلاء أن أعمال التابعين وإن كانت أكثر وعدل عمر بن عبد العزيز أظهر من عدل معاوية وهو أزهد من معاوية لكن الفضائل عند الله بحقائق الإيمان الذي في القلوب، وقد قال النبي ﷺ: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» قالوا فنحن قد نعلم أن أعمال بعض من بعدهم أكثر من أعمال بعضهم، لكن من أين نعلم أن ما في قلبه من الإيمان أعظم مما في قلب ذلك والنبي ﷺ يخبر أن جبل ذهب من التابعين الذين أسلموا بعد الحديبية لا يساوي نصف مد من السابقين، ومعلوم فضل النفع المتعدي بعمر بن عبد العزيز: أعطى الناس حقوقهم وعدل فيهم، فلو قدر أن الذي أعطاهم ملكه وقد تصدق به عليهم لم يعدل ذلك مما أنفقه السابقون إلا شيئا يسيرا، وأين مثل جبل أحد ذهبا حتى ينفقه الإنسان وهو لا يصير مثل نصف مد ولهذا يقول من يقول من السلف: غبار دخل في أنف معاوية مع رسول الله ﷺ أفضل من عمل عمر بن عبد العزيز. وهذه المسألة تحتاج إلى بسط وتحقيق ليس هذا موضعه. إذ المقصود هنا أن الله سبحانه مما يمحو به السيئات الحسنات وأن الحسنات تتفاضل بحسب ما في قلب صاحبها من الإيمان والتقوى. وحينئذ فيعرف أن من هو دون الصحابة قد تكون له حسنات تمحو مثل ما يذم من أحدهم فكيف الصحابة.]

ومن أسباب التكفير الدعاء للمؤمن والصلاة عليه بعد موته والاستغفار له أو استغفار النبي ﷺ لمعين. ومن ذلك ما يفعل بعد [موت] المؤمن من إهداء عمل صالح له كصدقة وحج وصوم فقد ثبت في الحديث وصول ذلك إليه، وهذا غير دعاء ولده فإن ذلك من عمله ومن كسبه. ومن ذلك مصائب الدنيا فإنها تكفر كما تواترت بذلك النصوص. [وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يهلك أمتي بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه لما نزل قوله تعالى: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} قال النبي ﷺ: «أعوذ بوجهك» {أو من تحت أرجلكم} قال النبي ﷺ: «أعوذ بوجهك» {أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} قال: «هذا أهون وأيسر»

فهذا أمر لا بد منه للأمة عموما، والصحابة رضي الله عنهم كانوا أقل فتنا من سائر من بعدهم، فإنه كلما تأخر العصر عن النبوة كثر التفرق والخلاف، ولهذا لم يحدث في خلافة عثمان بدعة ظاعرة فلما قتل وتفرق الناس حدثت بدعتان متقابلتان بدعة الخوارج المكفرين لعلي وبدعة الرافضة المدعين لإمامته وعصمته أو نبوته أو إلاهيته. ثم لما كان في آخر عصر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك حدثت بدعة المرجئة والقدرية. ثم لما كان في أول عصر التابعين في أواخر الخلافة الأموية حدثت بدعة الجهمية والمشبهة الممثلة، ولم يكن على عهد الصحابة شيء من ذلك. وكذلك فتن السيف فإن الناس كانوا في ولاية معاوية رضي الله عنه متفقين يغزون العدو. فلما مات معاوية قتل الحسين وحوصر ابن الزبير بمكة ثم جرت فتنة الحرة بالمدينة. ثم لما مات يزيد جرت فتنة بالشام بين مروان والضحاك بمرج راهط. ثم وثب المختار على ابن زياد فقتله وجرت فتنة. ثم جاء مصعب بن الزبير فقتل المختار وجرت فتنة. ثم ذهب عبد الملك إلى مصعب فقتله وجرت فتنة، وأرسل الحجاج إلى ابن الزبير فحاصره مدة ثم قتله وجرت فتنة. ثم لما تولى الحجاج العراق خرج عليه محمد بن الأشعث مع خلق عظيم من العراق وكانت فتنة كبيرة. فهذا كله بعد موت معاوية. ثم جرت فتنة ابن المهلب بخراسان، وقتل زيد بن علي بالكوفة وقتل خلق كثير آخرون. ثم قام أبو مسلم وغيره بخراسان وجرت حروب وفتن يطول وصفها. فلم يكن من ملوك المسلمين ملك خيرا من معاوية، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيرا منهم في زمن معاوية إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده. وأما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل.]

ومعاوية على ذنوبه لم يأت بعده مثله ملك. فعن قتادة قال: لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم هذا المهدي. وقال أحمد بن جواس: حدثنا أبو هريرة المكتب قال: كنا عند الأعمش فذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله فقال الأعمش: فكيف لو أدركتم معاوية، قالوا: في حلمه؟ قال: لا والله بل في عدله. وقال أبو أسامة [الثقفي]: حدثنا ثقة عن أبي إسحاق السبيعي أنه ذكر معاوية فقال: لو أدركتموه لقلتم كان المهدي. وروى أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق قال: ما رأيت بعده مثله، يعني معاوية. [وقال البغوي: حدثنا سويد بن سعيد: حدثنا ضمام بن إسماعيل عن أبي قيس قال: كان معاوية قد جعل في كل قبيل رجلا وكان رجل منا يكنى أبا يحيى يصبح كل يوم فيدور على المجالس: هل ولد فيكم الليلة ولد، هل حدث الليلة حادث، هل نزل بكم اليوم نازل؟ قال: فيقولون نعم نزل رجل من أهل اليمن بعياله يسمونه وعياله فإذا فرغ من القبيل كله أتى الديوان فأوقع أسماءهم في الديوان. وروى محمد بن عوف الطائي: حدثنا أبو المغيرة: حدثنا ابن أبي مريم عن عطية بن قيس قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطبنا يقول: إن في بيت مالكم فضلا بعد أعطياتكم وإني قاسمه بينكم فإن كان يأتيكم فضل عاما قابلا قسمناه عليكم وإلا فلا عتبة علي فإنه ليس بمالي وإنما هو مال الله الذي أفاء عليكم. وفضائل معاوية في حسن السيرة والعدل والإحسان كثيرة.] وفي الصحيح أن رجلا قال لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية إنه أوتر بركعة؟ قال [ابن عباس]: أصاب إنه فقيه. حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر عن قيس بن الحارث الصنابحي عن أبي الدرداء قال: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله ﷺ من إمامكم هذا، يعني معاوية. [فهذه شهادة الصحابة بفقهه ودينه. والشاهد بالفقه ابن عباس وبحسن الصلاة أبو الدرداء، وهما هما. والآثار الموافقة لهذا كثيرة. هذا ومعاوية ليس من السابقين الأولين، بل قد قيل إنه من مسلمة الفتح وقيل بل أسلم قبل ذلك. وكان يعترف أنه ليس من فضلاء الصحابة. وهذا سيرته في عموم ولايته فإنه كان في ولايته من خراسان إلى بلاد إفريقية بالمغرب ومن قبرص إلى اليمن. ومعلوم بإجماع المسلمين أنه ليس قريبا من عثمان وعلي، فضلا عن أبي بكر وعمر. فكيف يشبه غير الصحابة بهم وهل توجد سيرة أحد من الملوك مثل سيرة معاوية.]

وجمهور الصحابة وساداتهم تأخروا عن الفتنة. قال أيوب السجستاني عن ابن سيرين قال: هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله ﷺ عشرة آلاف فما خف لها منهم مائة بل لم يبلغوا ثلاثين. فهذا يقوله محمد بن سيرين مع ورعه الباهر في منطقه. وقال منصور بن عبد الرحمن: قال الشعبي: لم يشهد الجمل من أصحاب النبي ﷺ غير علي وعمار وطلحة والزبير فإن جاءوا بخامس فأنا كذاب. كأنه عنى من المهاجرين السابقين. [وقال عبد الله بن أحمد حدثنا أبي حدثنا أمية بن خالد قال: قيل لشعبة إن أبا شيبة روى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلا] قال شعبة: [كذب والله،] ذاكرنا الحكم ما وجدنا شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت. قلت: هذا النفي يدل على قلة من حضرها.

ومن أسباب النجاة من النار ما يبتلى به العبد في قبره من الضغطة وسؤال منكر ونكير ومن أهوال الموقف وكربه. ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعض فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة. 4

فهذه الأمور لا تفوت كلها من المسلمين إلا الأقل، فما الظن بالصحابة الذين هم خير القرون.

وصح أن رجلا نال من عثمان عند ابن عمر وقال: إنه فر يوم أحد، فقال ابن عمر: فقد عفا الله عنه، قال: ولم يشهد بدرا، قال: إن النبي ﷺ استخلفه على بنته وضرب له بسهم، قال: فما شهد بيعة الرضوان، فقال: إنما كانت البيعة بسبب عثمان وقد بايع النبي ﷺ عنه بيده ويد النبي ﷺ خير من يد عثمان.

فعامة ما يعاب به الصحابة إما تعنت كهذا وهو معفو عنه، وكثير من ذلك مكذوب عليهم.

وقولهم: "استعمل من لا يصلح" قلنا: كان مجتهدا فأخطأ ظنه والله يغفر له. وقد كان عبد الله بن سعد ارتد ثم جاء مسلما فقبل النبي ﷺ ذلك منه بعد أن كان أهدر دمه. وعلي تبين له من عماله ما لم يظنه فيهم. ثم إن عثمان لما علم أن الوليد سكر طلبه وحدّه.

وقولهم: "قسم المال في أقاربه" قلنا: [هذا غايته أن يكون ذنبا لا يعاقب عليه في الآخرة، فكيف إذا كان من موارد الاجتهاد،] لعله اجتهد، [فإن الناس تنازعوا فيما كان للنبي ﷺ في حياته هل يستحقه ولي الأمر بعده على قولين. وكذلك تنازعوا في ولي اليتيم هل له أن يأخذ من مال اليتيم إذا كان غنيا أجرته مع غناه والترك أفضل أو الترك واجب على قولين. ومن جوّز الأخذ من مال اليتيم مع الغنى جوزه للعامل على بيت مال المسلمين وجوزه للقاضي وغيره من الولاة. ومن قال لا يجوز ذلك من مال اليتيم فمنهم من يجوزه من مال بيت المال كما يجوز للعامل على الزكاة الأخذ مع الغنى فإن العامل على الزكاة يجوز له أخذ جعالته مع غناه. وولي اليتيم قد قال تعالى فيه: {ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} وأيضا فقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن سهم ذوي القربى هو لقرابة الإمام كما قاله الحسن وأبو ثور، وأن النبي ﷺ كان يعطي أقاربه بحكم الولاية وسقط حق ذوي قرباه بموته كما يقول ذلك كثير من العلماء كأبي حنيفة وغيره، ثم لما سقط حقه بموته فحقه الساقط قيل إنه يصرف في الكراع والسلاح والمصالح كما كان يفعل أبو بكر وعمر وقيل إن هذا مما تأوله عثمان. ونقل عن عثمان رضي الله عنه نفسه أنه ذكر هذا وأنه يأخذ بعمله وأن ذلك جائز وإن كان ما فعله أبو بكر وعمر أفضل فكان له الأخذ بهذا وهذا وكان يعطي أقرباءه مما يختص به فكان يعطيهم لكونهم ذوي قربى الإمام على قول من يقول ذلك. وبالجملة فعامة من تولى الأمر بعد عمر كان يخص بعض أقاربه إما بولاية وإما بمال وعلي ولى أقاربه أيضا.]

وأما قيام أهل الكوفة على سعيد بن العاص حتى أخرجوه منها فلا يدل على ذنب ولا بد. فإن القوم كانوا أعنتَ شيء لأمرائهم حتى قاموا على سعيد ونقلوه. وأين مثله. وأما قولك: "كاتب ابن أبي سرح سرا أن يستمر على ولايته خلاف ما كتب به من عزله"

فيقال: هذا كذب فقد حلف عثمان أنه لم يكتب ذلك وهو الصادق. بل قيل إن مروان كتب بغير علمه وأنهم طلبوا مروان ليقتلوه فامتنع. فإن كان قتل مروان لا يجوز فقد أصاب وإن كان يجوز ولا يجب فقد فعل الجائز وإن كان قتله واجبا فقد اجتهد ولم يثبت ما يجب به قتل مروان. وهب أن هذا من ذنوب عثمان فما ادعينا عصمته وله سوابق وهو من البدريين المغفور لهم. وأما قولك: "أمر بقتل محمد بن أبي بكر"

فهذا افتراء. ومن عرف سيرته وأحواله عرف بطلان هذا. فقد سعوا في قتله وهو كافٌّ عنهم بكل حال، فكيف يبتدئ بقتل معصوم؟ وإن ثبت أنه أمر بقتله فلمصلحة رآها من دفع شره.

وأما معاوية فإنما ولاه الشام واستمر عليها إلى أن سلم إليه الحسن الخلافة. وكان محببا في رعيته لحلمه وكرمه وخبرته بالأمور. وهو خير من الأشتر النخعي ومن محمد بن أبي بكر ومن عبيد الله بن عمر ومن أبي الأعور السلمي ومن بشر بن أرطاة.

وأما ابن مسعود فإنه بقي في نفسه عليه لأجل المصاحف إذ فوض كتابتها إلى زيد بن ثابت دونه. وجمهور الصحابة كانوا مع عثمان، وكان زيد أحفظ للعرضة الأخيرة من غيره، وقد انتدبه قبل عثمان [أبو بكر] وعمر لجمع [المصحف في] الصحف. وأيضا فكان ابن مسعود أنكر على الوليد بن عقبة لما شرب الخمر ثم قدم ابن مسعود المدينة بعد -وحادثة عثمان لم تتفق- وعرض عليه [عثمان] التزويج. ثم نقول بتقدير أن يكون ابن مسعود طعن على عثمان فليس جعل ذلك قدحا في عثمان بأولى من جعله قدحا في ابن مسعود، بل كل منهما مجتهد وهما بدريان كبيران مغفور لهما، والكف عما شجر بين السابقين أولى، كما قال عمر بن عبد العزيز: "تلك دماء طهر الله يدي منها فأكره أن أخضب بها لساني". ونُقل عن عمار قال: لقد كفر عثمان كفرة صلعاء؛ وأن الحسن بن علي أنكر ذلك على عمار. وكذلك نُقل عن علي أنه قال: يا عمار أتكفر برب آمن به عثمان! وقد علمنا أن الرجل المؤمن الولي قد يكفّر الرجل المؤمن الولي فيخطئ بذلك ولا يقدح هذا في إيمان واحد منهما. فقد ثبت في الصحيح أن أسيد بن حضير قال لسعد بن عبادة بحضرة النبي ﷺ: إنك منافق تجادل عن المنافقين، وثبت أن عمر قال لحاطب: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: «إنه شهد بدرا»

وأما قولك: "ضرب ابن مسعود حتى مات" فهذا من أسمج الكذب المعلوم. وقيل إن عثمان ضرب عمارا وابن مسعود. فإن صح فهو إمام له أن يعزز باجتهاده أصاب أو أخطأ. وقد ضرب عمر أبيا بالدرة لما رأى الناس يمشون خلفه وقال: فتنة للمتبوع ومذلة للتابع. وقد شهد عمار أن عائشة زوجة نبي الله في الدنيا والآخرة وقال: ولكن الله ابتلاكم بها لينظر إياه تطيعون أم إياها. فمع حض عمار الناس على قتالها لمصلحة شهد لها بالجنة. وأما عمار فصح أنه ﷺ قال: «تقتلك الفئة الباغية» وباقي ذلك كذب مزيد في الحديث. وأما قولك: "وطرد رسول الله الحكم وابنه من المدينة"

فنقول: كان لمروان سبع سنين أو أقل، فما كان له ذنب يطرد عليه. ثم لم نعرف أن أباه هاجر إلى المدينة حتى يطرد منها، فإن الطلقاء ليس فيهم من هاجر، فإن النبي ﷺ قال: «لا هجرة بعد الفتح» ولما قدم صفوان بن أمية مهاجرا أمره النبي ﷺ بالرجوع إلى مكة. وقصة طرد الحكم ليس لها إسناد نعرف به صحتها، [فإن كان قد طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة. وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه، وقالوا هو ذهب باختياره، والطرد هو النفي. والنفي قد جاءت به السنة في الزاني وفي المخنثين، وكانوا يعزرون بالنفي. وإذا كان النبي ﷺ قد عزر رجلا بالنفي لم يلزم أن يبقى منفيا طول الزمان، فإن هذا لا يعرف في شيء من الذنوب ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه منفيا دائما، بل غاية النفي المقدر سنة،] والزاني ولو كان صحابيا مجاهدا فيعزر بالنفي سنة. ويعلم قطعا أن عثمان ما أذن للحكم في إتيان المدينة معصية للرسول ولا مراغمة للإسلام؛ بل رأى أنه قد صلح حاله، فلعل هذا خطأ من الاجتهاد أو صواب.

وكان مروان على هناته مسلما ظاهرا وباطنا يقرأ القرآن ويتفقه. فلا ذنب لعثمان في اتخاذه كاتبا ثم بدت منه أمور.

وأما أبو ذر فثبت عن عبد الله بن الصامت قال: قالت أم ذر: والله ما سيّر عثمان أبا ذر إلى الربذة ولكن رسول الله ﷺ قال له: إذا بلغ البناء سلعا فاخرج منها. وقال الحسن البصري: معاذ الله أن يكون أخرجه عثمان.

ولا ريب أن أبا ذر كان صالحا زاهدا، وكان مذهبه بذل ما فضل عن الحاجة وأن إمساكه كنز يكوى به صاحبه ويتلو: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} ويذكر قول النبي ﷺ: «يا أبا ذر ما أحب أن أحدا ذهبا يمضي علي ثالثة وعندي منه دينار» وقوله: «الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا» ولما توفي عبد الرحمن [بن عوف] وخلّف مالا عدَّ ذلك أبو ذر من الكنز الذي يعاقب عليه، وعثمان يناظره في ذلك حتى دخل كعب فوافق عثمانَ، فضربه أبو ذر. وكان قد وقع بينه وبين معاوية بالشام أيضا بهذا السبب. وأما سائر الأمة فعلى خلاف رأي أبي ذر، وقالوا: الكنز ما لم يزك. وقد قسم الله المواريث في كتابه، ولا يكون الميراث إلا لمن خلّف مالا. وقد كان خلق من الصحابة لهم مال على عهد النبي ﷺ وما أنكر عليهم. وكان جماعة من الأنبياء لهم المال. وتوسع أبو ذر في الإنكار حتى نهاهم عن المباح ثم اعتزلهم، وكان مؤمنا فيه ضعف كما قال له النبي ﷺ: «إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين على مال يتيم» وقال أيضا: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير» فأهل الشورى أقوياء بالنسبة إلى أبي ذر وهم أفضل منه. وأما قولك: "ضيع الحدود فلم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان مولى علي"

قلنا: هذا كذب، لم يكن مولى علي وإنما أسره المسلمون فمنّ عليه عمر وأعتقه وأسلم. ولا سعي لعلي في رقه ولا في عتقه. وذُكر [لعبيد الله بن عمر أنه رؤي عند الهرمزان حين قتل، 5 وكان الهرمزان ممن اتهم بالمعاونة على قتل عمر،] وهذا ابن عباس يقول لعمر إذ قال له: كنت أنت وأبوك تحبان أن تكتر العلوج بالمدينة، فقال: أنقتلهم؟ قال: كذبت أبعد أن تكلموا بلسانكم وصلوا إلى قبلتكم. فهذا ابن عباس مع فقهه يستأذن عمر في قتل العلوج لما اتهموهم بالفساد، فكيف لا يعتقد عبيد الله جواز قتل الهرمزان؟ فلما قتله وبويع عثمان استشار الناس في قتله فأشار عليه عدة في أن لا يقتله وقالوا قُتل أبوه بالأمس ويقتل هو اليوم فيكون في هذا فساد. وكأنهم وقعت لهم شبهة في عصمة الهرمزان، ولو قدر أنه معصوم الدم ولكن القاتل اعتقد حل قتله لشبهة صارت تدرأ القتل عن القاتل، كما أن أسامة لما قَتل ذلك [الرجل] بعد ما قال: لا إله إلا الله عزره الرسول بالقول ولم يقتله به. وأيضا فإن هذا والهرمزان لم يكن لهما من يطالب بالدم، ولكن الإمام ولي الدم فله القتل أو العفو والدية، فعفا عثمان وترك الدية لآل عمر، وإذا حقن عثمان دمه فلا يباح بحال.

ومن العجب أن دم الهرمزان المتهم تقام فيه القيامة ودم عثمان وهو إمام المسلمين المقتول صبرا لا حرمة له! وقد جاء عن النبي ﷺ: ثلاث من نجا منهن فقد نجا موتي وقتل خليفة مضطهد بغير حق والدجال. رواه أحمد في مسنده.

وأما الوليد فإنما حدّه علي بأمر عثمان كما ثبت في الصحيح. وقول القائل: "إن عليا قال لا يبطل حد الله وأنا حاضر" فمن الكذب. ثم أنتم تدعون أن الحدود ما زالت تبطل وعلي حاضر وهو يسكت تقية وخوفا، حتى في ولايته تدعون أنه يدع الحدود تقية ويترك القول بالحق تقية، فإن كان قال هذا بحضرة عثمان فما قاله إلا لعلمه بأن عثمان وأعوانه يوافقونه على إقامة الحدود، ولو كان يتقيهم لما قال هذا. وقولك: "زاد الأذان وهو بدعة"

قلنا: فعلي ممن وافق على ذلك في خلافته ولم يزله. وإبطال هذا كان أهون عليه من عزل معاوية وغيره ومن قتالهم. فإن قيل إن الناس لا يوافقونه على إزالة الأذان؛ قلنا فهذا دليل على أن الناس وافقوا عثمان على الاستحباب حتى مثل عمار وسهل بن حنيف والسابقين، وإن اختلفوا فهي من مسائل الاجتهاد. وإن قيل هي بدعة؛ قيل وقتال أهل القبلة بدعة لم تكن قبل. وأنتم فقد زدتم في الأذان بدعة لم يأذن بها الرسول وهي "حي على خير العمل" غاية ما يقال إن صح النقل إن ابن عمر ربما قال ذلك أحيانا كما كان بعضهم يقول بين الأذان والإقامة: "حي على خير العمل الصلاة حي على الفلاح" وهذا يسمى نداء الأمراء وكرهه أكثر العلماء. وأما قولك: "وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل"

فإن أردت أنهم خالفوه خلافا يبيح دمه فهذا كذب وزور فإنه ما قتله إلا شرذمة ظالمة باغية ولم يرض به السابقون. [قال ابن الزبير: لعنت قتلة عثمان خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية فقتلهم الله كل قتلة ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب. يعني هربوا ليلا وأكثر المسلمين كانوا غائبين. وأكثر أهل المدينة الحاضرين لم يكونوا يعلمون أنهم يريدون قتله حتى قتلوه. وأيضا فما خالفه كل المسلمين بل كثير منهم وافقه. فما من شيء أنكر عليه إلا وقد وافقه عليه كثير من المسلمين بل من علمائهم الذين لا يتهمون بمداهنة. والذين وافقوا عثمان على ما أنكر عليه أكثر وأفضل من المسلمين الذين وافقوا عليا على ما أنكر عليه إما في كل الأمور أو في غالبها.] وقولك: "وقالوا له: غبت عن بدر وهربت يوم أحد ولم تشهد بيعة الرضوان"

قلنا: هذا ما قاله إلا جهلة الرافضة ممن قاله. 6 وقد أجابهم عثمان وابن عمر بأنه غاب يوم بدر بأمر الرسول ليمرّض بنته، ويوم الحديبية فإن النبي ﷺ بعثه رسولا إلى مكة فبلغه أنهم قتلوه فبايع أصحابه على الموت، وقال تعالى في الذين تولوا يوم أحد: {ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين} {ولقد عفا الله عنهم إنه غفور حليم}: وأما قولك: "إنه ﷺ قال: جهزوا جيس أسامة لعن الله من تخلف عنه".

فهذا كذب. وسبحان من جعل الرافضة أقبل شيء للكذب وأرد شيء للصدق. بل أسامة الذي توقف وقال: كيف أذهب وأنت هكذا، أسأل عنك الركبان؟ فأذن له [ ﷺ ] في التخلف، ثم ذهب جميعهم معه بعد وفاة النبي ﷺ. فلو عزم على أسامة في المسير لبادر هو والجيش معه.

وقولك: "أول خلاف كان في الإسلام الإمامة"

قلنا: لم يختلفوا ولله الحمد وأجمعوا على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان إجماعا لم يتهيأ مثله لعلي، فإنه استشهد وأهل الشام لم يبايعوه قط. ومع هذا فقد سب بعض شيعته أهل الشام بحضرته فنهاه علي وقال: لا تسبوهم فإن فيهم الأبدال. وقال مرة أخرى: إخواننا بغوا علينا. وقال الله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم}

وبالجملة خلافة علي حق وهو إمام راشد، وإن تأخر عن بيعته طائفة كبيرة فإنما الاعتبار بجمهور أهل الحل والعقد.

قال: "والخلاف الخامس في فدك والتوارث ورووا عن النبي ﷺ: لا نورث ما تركنا صدقة"

قلنا: هذا اختلاف أيضا في مسألة شرعية وقد زال الاختلاف فيها. والخلاف فيها دون الخلاف في ميراث الإخوة مع الجد والعم والجارية، 7 وميراث الجدة مع ابنها [وحجب الأم الأخوين وجعل الجد مع الأم كالأب] ونحو ذلك. فاختلافهم في هذه المسائل [أعظم لوجوه. أحدها أنهم تنازعوا في ذلك] ثم لم يتفقوا لأنهم ما روي لهم [فيها] من النصوص [مثل] ما روى لهم في أن النبي لا يورث. وأيضا فإن الخلاف في هذا لا يتكرر بل هي قضية واحدة وفي مال قليل وقد أعطاهم أبو بكر وعمر من مال الله بقدر الميراث مرات. وإنما يهول هذه القضية أهل الجهل والشر، فقد استخلف علي بعد ذلك وصارت فدك وغيرها تحت حكمه وما أعطاها أولاد فاطمة ولا قسم تركه النبي ﷺ بين الورثة؛ فهلا أزال هذه المظلمة على رأيكم!

قال: "والخلاف السادس في قتال مانعي الزكاة قاتلهم أبو بكر واجتهد عمر في خلافته فرد السبايا والأموال إليهم وأطلق المحبوسين"

قلنا: هذا من الكذب البين فإن أبا بكر وعمر اتفقا على قتالهم كما في الصحيحين واحتجا بقوله ﷺ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» وقال أبو بكر: من حقها الزكاة. فقاتلهم بموافقة سائر الصحابة له، ثم أقر أولئك بالزكاة بعدُ، وما سبى لهم ذرية ولا حبس منهم أحدا، ولا كان بالمدينة حبس في عهد أبي بكر فكيف يموت وهم في حبسه؟ ثم قال في الخلاف السابع في تنصيص أبي بكر على عمر بالخلافة: "فمن الناس من قال: وليت علينا فظا غليظا".

فيقال: إن جعل مثل هذا خلافا من أبرد الأشياء وأدلها على جهل المتكلم وهواه، فقد طعن بعض الصحابة في تأمير أسامة وأبيه فكان ماذا؟ ثم إن المنكر كان طلحة وقد رجع فكان من أشد الناس تعظيما لعمر. [وقوله: "الخلاف] الثامن الشورى واتفقوا بعد الاختلاف على عثمان".

قلنا: وهذا من الكذب الذي هو هجيراكم. فما اختلف أحد في بيعة عثمان وقد بقي عبد الرحمن يشاور الناس ثلاثة أيام وأخبر أن الناس لا يعدلون بعثمان ولو اختلفوا لنقل كما نقل قول الأنصار: "منا أمير ومنكم أمير" يوم السقيفة. قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: لم يتفق الناس على بيعة كما اتفقوا على بيعة عثمان. قال: "ووقعت اختلافات كثيرة منها رد عثمان الحَكم إلى المدينة".

قلنا: مثل هذا إن جعلته خلافا فاجعل كل حكم حكم به خليفة وخالفه غيره خلافا؛ فهو شيء لا ينحصر. قال: "ومنها تزويجه مروان بابنته وإعطاؤه خمس غنائم إفريقية وهي مائتا ألف دينار"

قلنا: وأي شيء من الاختلاف في تزويجه بابنته؟ ومن الذي نقل أنه أعطاه هذا المال؟ ونحن لا ننكر أن عثمان كان يحب أقاربه ويصلهم ويعطيهم. وقد ولى علي أقاربه وشيعته وأعطاهم، وقاتل باجتهاده وجرت أمور صعبة. وكلاهما من أهل الجنة وليسا بمعصومين؛ وما فعلاه فمن مسائل الاجتهاد والخلاف.

وقال: "ومنها إيواؤه ابن أبي سرح بعد أن أهدر النبي ﷺ دمه"

قلنا: الذي أهدر دمه هو الذي حقن دمه وعفا عنه بشفاعة عثمان، فلا ملام إذن. وقد كان هاجر وكتب الوحي للنبي ﷺ ثم ارتد ولحق بالمشركين وافترى على النبي ﷺ فأهدر دمه. فلما كان يوم الفتح أتى به عثمان فأعرض عنه النبي ﷺ فقال: يا رسول الله بايع عبد الله، فأعرض عنه مرتين أو ثلاثا، ثم بايعه ثم قال: "أما كان منكم رجل رشيد ينظر إلي وقد أعرضت عن هذا فيضرب عنقه" فقال رجل [من الأنصار]: هلا أومضت إلي؟ فقال: «ما ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين». ثم إنه حسن إسلامه ولم يؤثر عنه بعدها إلا الخير. وكان محمود النقيبة في مغازيه. وقد كان غيره أشد عداوة كصفوان وأبي سفيان، وقال تعالى: {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير} على تطييب القلوب {والله غفور رحيم} قال: "الخلاف التاسع في زمن علي بعد الاتفاق عليه، فخرج طلحة والزبير، ثم الخلاف بينه وبين معاوية وحرب صفين وغدر عمرو بأبي موسى الأشعري. ثم خلاف المارقين. وبالجملة كان علي على الحق والحق معه وظهر في زمانه الخوارج عليه مثل الأشعث بن قيس ومسعر بن فدكي [التميمي] وزيد بن حصن الطائي [السنبسي]، وظهر في زمانه الغلاة كعبد الله بن سبأ. ومن الفرقتين ابتدأت البدع والضلال"

فنقول أيضا: وبالجملة فكان الثلاثة قبله على الحق والحق معهم، وإلا فتخصيص علي بذلك دعوى بلا برهان. وقولك: "وقع الاختلاف عليه بعد الاتفاق" فمن المعلوم أن كثيرا من المسلمين ما بايعوه كالشاميين برمتهم وطائفة من أهل المدينة وكثير من المصريين وأهل المغرب وغير ذلك.

ثم تعرض بالطعن على طلحة وذويه من غير أن يذكر لهم عذرا ولا رجوعا. وأهل العلم يعلمون أنهم لم يقصدوا حرب علي ولا علي قصد حربهم، لكن وقع القتال بغتة. فإنهم تعاتبوا واتفقوا هم وعلي على المصلحة وإقامة الحد على قتلة عثمان، فتواطأت القتلة على إقامة الفتنة إذن كما أقاموها أولا فحملوا على طلحة والزبير وعسكرهما، فحملوا دفعا للصائل، فأشعر القتلة عليا أنهما حملا عليه، فحمل علي دفعا عن نفسه؛ فكان كل منهم قصده دفع الصيال لا الابتداء بالقتال.

ولكن الرافضة بهائم فلا في النقل يصدقون ولا للصدق يقبلون؛ أتباع كل ناعق، يعادون سادة الصحابة ويوالون أعداء الإسلام والتتار ويستعينون بهم على أذية أهل السنة وعامتهم، ولهم اليد الطولى في خراب العراق وغيرها، كما فعل ابن العلقمي الوزير وكاتب هلاكو وقوى عزمه حتى وطئ البلاد وأباد العباد وأجرى السيول من الدماء وسبى الحريم والعلويات والعباسيات ونشأ في الكفر والشرك أطفال المسلمين، فهم خبيئة سوء للإسلام وأهله، يعظمون الملاحدة وغلاة الرافضة ويبغضون أصحاب رسول الله ﷺ، فهم كما قال الله تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا} فكيف الحيلة فيمن يحتج علينا بالكذب المحض ولا يقبل من المنقولات إلا ما وافق هواه جهلا بمعرفة الأسانيد وصناعة الحديث، فإذا قال قائلهم قولا من الصدق أو الكذب لا يطالبونه بحجته من الكتاب والسنة ولا يلتفتون إلى ما يعارضه أصلا، وإذا خاطبهم المخالف واحتج عليهم بالسنن الثابتة كذبوها هوى وعنادا أو بالآيات حرفوها، فإن قوى نفسه وخافوا منه أدنى خوف قالوا: صدقت والحق ما قلت وبهذا ندين لله تعالى، وتبرأوا من الإمامية في الحال! فمن الذي ينتصف من هؤلاء المنافقين في المناظرة [وهم] الذين قد أصلوا لهم ثلاثة أصول: أحدها أن أئمتهم معصومون؛ الثاني أن كل ما ينقلونه فإنه نقل عن النبي ﷺ؛ والثالث أن إجماع العترة حجة وهؤلاء هم العترة؛ فصاروا بهذا لا يخرجون إلى دليل ولا تعليل، فسلبوا خاصية التفقه والتحقيق وعدموا العلم والتوفيق، فلا تجدهم ينفردون بمسألة في دينهم إلا وعمدتهم فيها على هذه الأصول الثلاثة المردودة بالكتاب والسنة والعقل وإجماع الطوائف سواهم. قال الرافضي: "الفصل الثالث في الأدلة على إمامة علي، فنقول: يجب أن يكون الإمام معصوما ومتى كان ذلك كان الإمام هو علي لأن الإنسان لا يمكن أن يعيش مفردا لافتقاره في بقائه إلى مأكل وملبس ومسكن فيضطر إلى مساعد ليتم قيام النوع، ولما كان الاجتماع في مظنة التغالب والتغابن بأن كل واحد قد يحتاج إلى ما في يد غيره فتدعوه القوة الشهوانية إلى أخذه قهرا فيؤدي إلى الهرج والفتن فلا بد من نصب إمام معصوم يصدهم وينصف ويوصل الحق إلى ذويه، لا يجوز عليه الخطأ ولا السهو، وإلا لافتقر إلى إمام آخر لأن العلة المحوجة إلى نصبه هي جواز الخطأ على الأمة فلو جاز عليه الخطأ لاحتاج إلى إمام فإن كان معصوما فهو الإمام وإلا لزم التسلسل. وأبو بكر وعمر وعثمان ما كانوا معصومين اتفاقا وعلي معصوم فيكون هو الإمام".

فالجواب نقول الرسول هو المعصوم وطاعته هي الواجبة في كل وقت على الخلق، وعلم الأمة بأوامره أتم من علم البعض بأوامر المنتظر. فهذا رسول الله ﷺ هو الإمام المعصوم وأوامره معلومة، فاستغنت الأمة به وبأوامره وبعلمه عن كل أحد. وأولو الأمر منفذون لدينه ليس إلا. ومعلوم قطعا أنه كان نوابه في اليمن وغيرها يتصرفون في الرعية باجتهادهم وليسوا بمعصومين. ولم يتول على الأمة من ادُّعيت له سوى علي، وكان من نوابه على رعيته بالبلاد النائية من لا يدري بما أمر ولا بما نهى، بل كانوا يتصرفون بما لا يعرفه هو.

ثم الإمام الذي وصفته لا يوجد في زماننا، مفقود غائب عندكم ومعدوم [لا حقيقة له] عند سواكم؛ ومثله لا يحصل به شيء من مقاصد الإمامة. بل الإمام الذي يقوم وفيه جهل وظلم أنفع لمصالح الأمة ممن لا ينفعهم بوجه. والإمام يحتاج إليه للعلم ليبلغه وللعمل ليطاع في سلطانه.

وقولك: "لا بد من نصب إمام معصوم" أتريد أن لا بد أن يخلق الله ويقيم معصوما أم يجب على الناس أن يبايعوا من يكون كذلك؟ وغاية ما عندكم أن تدعوا عصمة علي، لكن الله ما مكنه في زمن الثلاثة بل ولا في خلافته فيكون الله عندكم قد أيد الثلاثة الظلمة بزعمكم [حتى فعلوا ما فعلوه من المصالح ولم يؤيده حتى يفعل ذلك]. وحينئذ فما خلق [الله] هذا المعصوم المؤيد الذي اقترحتموه على الله. وإن قلتم إن الناس يجب عليهم إعانته وإقامته؛ قلنا: فما فعلوا ذلك، عصوا أو أطاعوا، فما حصل به مقصود. بل نقول إذا كان ما حصل مجموعُ ما به تحصل المقاصد، بل فات كثير من شروطها، فلم لا يجوز أن يكون الفائت هو العصمة؛ وإذا كان المقصود فائتا بعدم العصمة أو بعجز المعصوم فلا فرق [بين عدمها بهذا أو بهذا]. فمن أين يعلم بدليل العقل كما ادعيت أنه يجب على الله أن يخلق إماما معصوما، وإن كان خلقه فأين المصلحة واللطف به وقد أنكره الجمهور ومقتوا شيعته ووقع به من الشر أشياء. فدع عنك خدعة المعتزلة الذين يوجبون على الله ذلك بعقولهم الصغيرة وغلطوا من حيث لم يفرقوا بين المصلحة العامة الكلية وبين المصلحة الجزئية.

وقول الرافضة من جنس النصارى حيث قالوا: "إن الإله تجسّد ونزل أو أنزل ابنه ليصلب ويكون الصلب مغفرة لذنب آدم ليدفع الشيطان بذلك" فقيل لهم: إذا كان قتله وصلبه وتكذيبه من أعظم الشر والضلال يكون قد أراد أن يزيل ذنبا صغيرا بذنب هو أكبر منه بكثير، وهو مع ذلك لم يغير الشر بل زاده، فكيف يفعل ذلك لمقصود فوقع ضد المقصود؟ وقولك: "إذا كان الإنسان مدنيا بالطبع وجب نصب المعصوم ليزول الشر عن أهل المدينة"

فنقول: [هل تقولون إنه] لم يزل في كل مدينة [خلقها الله] معصوم يدفع ظلم الناس أم لا؟ [فإن قلتم بالأول كان هذا مكابرة ظاهرة، فهل في بلاد الكفار من المشركين وأهل الكتاب معصوم وهل كان في الشام عند معاوية معصوم؟] وإن قلت: له نواب في المدائن كلها كابرت الحس. وإن قلت: في البعض؛ قيل: فما الفرق إذا كان واجبا على الله والحاجة سواء؟ ولو سلمنا أفتقول بعصمتهم أم لا، فإن كانوا غير معصومين فأين نفع أهل المدائن بالإمام وهم يصلون خلف غير معصوم ويطيعونه؟ فإن قيل: ترجع الأمور إلى المعصوم؛ قلنا: لو كان قادرا كأبي بكر وعمر وغيرهما لم يتمكن من إيصال العدل إلى الكل وقد لا يجد لكل بلد عادلا قويا فإذا لم يجد سقط عنه فكيف يجب على الله ذلك، كيف والمعصوم عندكم عاجز وعندنا معدوم؟

ووجه آخر أن يقال: صده [غيره] عن الظلم وإنصافه الرعية فرع على منع ظلمه واستيفاء حقه، فإذا كان عاجزا مقهورا عن دفع الظلم عن نفسه فما الظن برعيته؟ كيف وهو عندكم خائف لا يمكنه الظهور من أربعمائة وستين سنة خوفا من القتل. والله لا يقع منه ظلم ولا يخل بواجب فقد فعل الواجب، ومع هذا فما خلق ما تحصل به [هذه] المصالح المقصودة من المعصوم. فإن كانت هذه المصالح تحصل بمجرد خلقه وهي لم تحصل لزم أن لا يكون خلقه واجبا، وإن كانت لا تحصل إلا بخلقه وخلق أمور أخرى [حتى يحصل بالمجموع المطلوب] فما خلق ذلك المجموع؛ والإخلال بالواجب ممتنع عليه [في] القليل والكثير، فلزم على التقديرين أنه لا يجب عليه خلق الموجب لهذه المطالب، [وإذا لم يجب عليه ذلك فلا فرق بين أن يخلق معصوما لا يحصل به ذلك وبين أن لا يخلقه؛ فلا يكون ذلك واجبا عليه وحينئذ] فلا يلزم وجوده. [فالقول بوجوب وجوده باطل على كل تقدير.]

وإن قيل: الله [فعل] ما يجب عليه من خلق المعصوم لكن الناس فوتوا المصلحة بمعصيتهم له؛ قيل أولا: إذا كان يعلم أن الناس لا يعاونونه حتى تحصل المصلحة بل يعصونه فيعذبون لم يكن خلقه واجبا بل ولا حكمة على قولهم. ويقال ثانيا: ليس كل الناس عصاة بل بعضهم عصوه ومنعوه وبعضهم يؤثر طاعته ومعرفة ما يقوله، فكيف لا يمكّن هؤلاء من طاعته؟ فإن قيل: أولئك الظلمة منعوا هؤلاء؛ قيل: فإن كان الرب قادرا على منع الظلمة فهلا منعهم [على قولهم] وإن لم يكن [ذلك] مقدورا فهو يعلم أن حصول المصلحة غير مقدورة فلا يفعله فلم قلتم على هذا [التقدير] إنه يمكن خلق معصوم غير نبي؟ فهذا لازم لكم. فإن قلتم إن الله خالق أفعال العباد أمكنه صرف دواعي الظلمة حتى يطاع. وإن قلتم ليس هو خالق أفعال العباد قيل فالعصمة إنما تكون بأن يريد الفاعل [الحسنات] ولا يريد السيئات وهو عندكم لا يقدر أن يغير إرادة عبده فلا يقدر على جعله معصوما، فبطل المعصوم على أصل القدرية إذ العصمة أن يريد العبد الحسنات فقط، فإذا كان هو المحدث لإرادة نفسه -والله عندهم لا يقدر على إحداث إرادة أحد- امتنع منه أن يجعل أحدا معصوما. وإذا قالوا بخلق ما تميل به إرادته إلى الخير قيل إن كان ذلك ملجئا زال التكليف وإلا لم ينفع. وإن كان ذلك مقدورا عندكم فهلا فعل ذلك بجميع العباد فإنه أصلح لهم إذا أوجبتم عليه فعل الأصلح [بكل عبد]، وذلك لا يمنع الثواب عندكم كما لا يمنعه في حق المعصوم.

وجه ثامن أن يقال: حاجة المرء إلى تدبير بدنه بنفسه أعظم من حاجة المدينة إلى تدبير رئيسها. وإذا كان الله لم يخلق نفس الإنسان معصومة فكيف يجب عليه أن يخلق رئيسا معصوما، مع أن الإنسان يمكنه 8 أن يكفر بباطنه ويعصي بباطنه.

وجه تاسع أن يقال: [هل] المطلوب من المعصوم إعدام الفساد أم تقليله؟ فالأول ما وقع في العالم؛ والثاني يحصل بلا معصوم، كزمن أبي بكر وعمر أكثر مما حصل بعلي أو مثله وحصل بسائر الخلفاء ما حصل بسائر الأئمة الاثني عشر، كما قيل: ستون سنة من إمام جائر خير من ليلة بلا إمام. وقولك: "ولو لم يكن الإمام معصوما لافتقر إلى إمام معصوم"

فنقول: لم لا يجوز أن يكون إذا أخطأ الإمام كان في الأمة من ينبهه بحيث لا يحصل اتفاق الكل على الخطأ كما إذا أخطأ أحد الرعية نبهه إمامه أو نائبه، وتكون العصمة ثابتة للمجموع بحيث لا يحصل اتفاقهم على الخطأ كما يقوله أهل السنة والجماعة. ونظيره أن كل واحد من أهل خبر التواتر يجوز عليه الخطأ والكذب ولا يجب ذلك على المجموع في العادة؛ فإثبات العصمة للمجموع أولى من إثباتها للواحد، وبذلك يحصل المقصود من عصمة الإمام [فلا تتعين عصمة الإمام]. ومن جهل الرافضة أنهم يوجبون عصمة واحد من المسلمين ويجوزون على مجموع المسلمين إذا لم يكن فيهم معصوم الخطأ. وقد ذكر غير واحد أن أول من ابتدع الرفض والقول بالنص على علي وعصمته كان زنديقا أراد إفساد الدين وأراد أن يصنع [بالمسلمين] كما صنع بولص بالنصارى فلم يتأت له ما تأتى لبولص لضعف عقول النصارى كلهم، [فإن المسيح ﷺ رفع ولم يتبعه خلق كثير يعلمون دينه ويقومون به علما وعملا،] فلما ابتدع [بولص] الغلو في المسيح اتبعه خلق ودخلت معهم ملوك فأنكر [عليهم] طائفة فقتلهم الملوك وبعضهم داهن الملوك واعتزلوا في الصوامع. وأمتنا هذه ولله الحمد لا تزال منها طائفة ظاهرة على الحق، [فلا يتمكن ملحد ولا مبتدع من إفساده بغلو أو انتصار على الحق ولكن يضل من يتبعه على ضلاله.]

وأيضا فنوابه غير معصومين في الجزئيات وهم الذين يفصلون [في] غالب أمور الناس في الدنيا بل بسائرها. بقيت العصمة في الكليات، والله قادر على أن ينص على الكليات بحيث لا يحتاج في معرفتها إلى الإمام، وقادر أن يجعل نص النبي ﷺ أكمل من نص الإمام؛ فاستغنينا عن [عصمة] الإمام في الكليات والجزئيات.

ثم خبّرنا: ما عصمة الإمام؟ أهي فعله للطاعات باختياره وتركه للمعاصي باختياره -مع أن الله [عندكم] لا يخلق اختياره- أم هي خلق الإرادة له أو سلبه القدرة على المعصية؟ وعندك [أن] الله لا يخلق اختيارنا، فلزمك أن الله لا يقدر على خلق معصوم. وإن نقضت قولك في القدر لزمك أن يكون المعصوم لا يثاب على طاعة.

وقولك: "ليس بمعصوم غير علي اتفاقا" ممنوع، بل كثير من العباد والعامة يعتقدون عصمة شيوخهم مثلكم [مع اعتقادهم أن الصحابة أفضل منهم؛ فاعتقادهم ذلك في الخلفاء من الصحابة أولى.] والإسماعيلية يعتقدون عصمة أئمتهم [وهم غير الاثني عشر.] وأتباع بني أمية كانوا يقولون إن الخليفة لا حساب عليه ولا عذاب. ومن كان اعتقاده أن كل ما يأمر به الإمام فإنه يجب طاعته [فيه] لم يحتج إلى معصوم ويقول يكفيني عصمة الإمام الذي اقتديت به أو شيخي أو أميري، ويقرأون قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} فإن قلت هؤلاء لا يعتد بخلافهم لم يسمع منك، فإنهم اقتدوا بموجود، بخلاف منتظركم المعدوم الذي ما انتفعتم به بحال. وأيضا فما في أصحاب رسول الله ﷺ من قال بعصمة علي ولا في التابعين ولا أئمة العلم؛ وإنما انفرد بهذا جهلة الإمامية، كما انفرد بتكفيره ضلال الخوارج، وبتفسيقه خلق من النواصب.

ويقال لكم: إما أن يجب وجود المعصوم أو لا. فإن لم يجب بطل قولكم. وإن وجب لم نسلم أنه علي دون الثلاثة قبله، بل إن كان هذا القول حقا لزم أن يكون [المعصوم] أبا بكر وعمر، فإن أهل السنة متفقون على تفضيلهما عليه، وإن كانت العصمة منتفية [عنهما] فهي عنه أبعد. وهذا كنبوة موسى وعيسى، فإن المسلمين لا يسلمون بنبوتهما إلا مع نبوة محمد ﷺ، وكذلك لا نسلم إيمان علي إلا مقرونا بإيمان الثلاثة، ولا ننفي العصمة عنهم إلا مقرونة بنفيها عن علي. فما قولك: "إمامة علي ثابتة بالإجماع بخلاف الثلاثة" إلا كقول اليهود نبوة موسى ثابتة بالإجماع بخلاف نبوة محمد، وإلا كقول النصارى الإلهية منتفية عن موسى ومحمد بالإجماع وتنازعنا في عيسى وإلاهيته؛ فنحن نعلم بالضرورة أنه ليس لعيسى مزية يستحق بها الإلهية دون موسى ومحمد، كما نقطع أن عليا رضي الله عنه ليس له مزية يستحق بها العصمة دون الثلاثة.

ونسألك من أين علمت عصمة علي دون الثلاثة؟ فإن قلت بالإجماع على انتفاء عصمة سواه، قلنا: إن لم يكن الإجماع حجة أبطلت قولك، وإن كان حجة في إثبات عصمة علي التي هي الأصل أمكن أن يكون حجة في المقصود بعصمة مَن حفظَ الشرع ونقله. فأنت تحتج بالإجماع ولا تقبل كون الإجماع حجة. وإن ادعيت التواتر عندكم عن النبي ﷺ في عصمته فهو كدعواك تواتر النص على إمامته. وأيضا فالإجماع عندكم ليس حجة إلا أن يكون قول المعصوم فيه؛ فإن لم يعرفوا ثبوت المعصوم إلا به لزم الدور، فإنه لا يُعرف أنه معصوم إلا بقوله ولا يعرف أن قوله حجة إلا إذا عُرف أنه معصوم، فلا يثبت واحد منهما، وترجع حقيقة قولكم فلان معصوم لأنه قال: "أنا معصوم وغيري ليس بمعصوم" وهذا كل أحد يمكن أن بقوله، وهذا كقول القائل: "أنا صادق في كل ما أقوله" فإن لم يعلم صدقه بغير قوله لم يعلم صدقة فيما يقوله.

وادعت الإسماعيلية مثل هذا. فادعوا أن الإمام المعلم المعصوم، وقالوا إن طرق العلم بالسمع والعقل لا يعرف صحتها إلا المعصوم وبتعليمه. فإذا طولبوا بتعيين معصوم وبالدليل على أنه معصوم دون غيره لم يأتوا بحجة أصلا وتناقضت أقوالهم.

ولو تنازلنا ورضينا بقول علي [إني معصوم] فمن الذي نقل عنه أنه قال إني معصوم؟ بل المتواتر عنه خلاف ذلك وأنه أقر قضاته على أن يحكموا بخلاف رأيه، وصح عنه أنه قال: "اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن وقد رأيت الآن أن يبعن" فقال له قاضيه عبيدة السلماني: رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة. وكان شريح يقضي باجتهاده ولا يراجعه وهو يقره على ذلك. وكان يفتي ويحكم باجتهاده ثم يرجع عن ذلك باجتهاده. وهذه أقواله في ذلك ثابتة عنه بأصح الأسانيد.

قال الرافضي: "ويجب أن يكون الإمام منصوصا عليه لما بينا من بطلان الاختيار، فإنه ليس بعض المختارين لبعض الأئمة أولى من البعض المختار لآخر، وإلا أدى إلى التنازع والتشاجر. وغير علي من أئمتهم لم يكن منصوصا عليه بالإجماع، فتعين أن يكون هو الإمام".

قلنا: الجواب بمنع المقدمتين. فقد ذهب خلق من السلف والخلف إلى النص على أبي بكر، وذهبت طائفة قليلة إلى النص على العباس، فأين الإجماع؟

ثم نقول: لا يخلو إما أن يعتبر النص في الإمامة أو لا. فإن اعتبر منعنا المقدمة الثانية وقلنا النص لأبي بكر؛ وإن لم يعتبر بطلت المقدمة الأولى.

ثم الإجماع عندكم ليس بحجة، وإنما الحجة قول المعصوم. فيعود الأمر إلى إثبات النص بقول الذي تُدعى له العصمة، فلا يثبت نص ولا عصمة، بل بقول قائل: أنا معصوم وأنا الذي نصَّ علي.

ويقال: ما تعني بقولك يجب أن يكون [معصوما] منصوصا عليه؟ أتعني أنه لا بد من أن يقول هذا الخليفة من بعدي أم لا يصير إماما حتى تعقد له الإمامة مع ذلك؟ فإن قلت بالأول قيل لا نسلم وجوب النص بهذا الاعتبار، والزيدية مع الجماعة تنكر هذا النص وما هم بل ولا نحن بمتهمين على علي. وقولك: "إذا لم يكن كذلك أدى إلى التنازع والتشاجر"

فيقال: النصوص التي تدل على أولويته مع النظر والاستدلال يحصل بها المقصود. ثم إذا كانت الأدلة واضحة في أولويته كفت، وكذلك كان الصديق. ومن نازع من آحاد الأنصار فما نازع في أن أبا بكر أفضل وإنما رام التقدم مع وجود الأفضل. فإن قيل: إذا كان لهم [هوى] منعه دلالة النصوص؛ قيل: وإذا كان لهم هوى عصوا النصوص كما ادعيتم عليهم، فمع قصدهم الحق يحصل المقصود ومع العناد لا ينفع النص. ثم إن كان الإمام معصوما فنوابه خلق ولا عصمة لهم فالحاجة باقية. وأيضا فنص الرسول على إمام بعده كتوليته واحدا في حياته، ونحن لا نشترط العصمة لا في هذا ولا في هذا.

ثم إنكم أوجبتم النص قطعا للتشاجر المفضي إلى الفساد الكبير، فوقع الأمر بالعكس. فإن أبا بكر تولى ثم عمر ثم عثمان مع انتفاء الفساد والتشاجر، ووقع بعضه في آخر أيام عثمان، وإنما اشتد وعظم في أيام من ادعيتم له النص والعصمة. فما أصلتموه حصل معه نقيض المقصود، وحصل المقصود بدون وسيلتكم.

ونقول: النص يزيل الفساد ويكون على وجوه. أحدها إخبار النبي ﷺ بولاية شخص ويثني عليه في ولايته، فتعلم الأمة أنه إن تولى كان محمودا، فيرتفع النزاع وإن لم يقل ولُّوه. وهذا الخبر وقع لأبي بكر وعمر. الثاني أن يخبر بأمور تستلزم صلاح الولاية، وهذه النصوص وقعت في خلافة أبي بكر وعمر بفتح فارس والروم وغير ذلك. الثالث أن يأمر من يأتيه بعد موته بأن يأتي شخصا فيدل [ذلك] على أنه الخليفة من بعده، وهذا وقع لأبي بكر. الرابع أن يهم بكتابة عهد بالخلافة ثم يقول: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» فوقع كما أخبر. الخامس أن يأمر بالاقتداء مِن بعده بشخص فيكون هو الخليفة من بعده. السادس أن يأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين من بعده ويجعل خلافتهم إلى مدة معينة فيدل على أن المتولين في تلك المدة هم الخلفاء الراشدون والمهديون. السابع أن يخص شخصا بأمور تقتضي أنه هو المقدم، وهذا موجود في أبي بكر. الثامن أن ترك النص أولى بالرسول، لأنه إن كان النص ليكون معصوما فلا معصوم بعده؛ وإن كان بدون العصمة فقد يحتج بالنص على وجوب اتباعه في كل ما يقول ولا يمكن أحدا بعد موت الرسول مراجعة الرسول ليرده أو يعزله، بخلاف من ولاه في حياته فإنه إذا أخطأ أو أذنب أمكن الرسول بيان خطأه وعزله، ولو نص الرسول بعده أيضا على معين لنأخذ عنه الدين [كما تقول الرافضة] بطلت حجة الله إذ ذاك ولا يقوم به غير الرسول لأنه لا معصوم إلا هو. الجواب التاسع أن النص على الجزئيات لا يمكن، والكليات قد نص عليها. فلو نص على معين وأمر بطاعته في تعيين الكليات كان هذا باطلا، وإن أمر بطاعته في الجزئيات -سواء وافقت الكليات أو خالفتها- كان باطلا، وإن أمر بطاعته في الجزئيات إذا طابقت الكليات فهذا حكم كل متولٍّ، ولو نص على رجل لكان من يتولى من بعده قد لا يطاع كطاعة الأول لعدم النص في الثاني. وإن قلت: كل واحد ينص على من بعده؛ فهذا إنما يمكن إذا كان الثاني معصوما ولا عصمة بعد الرسول لأحد، فالقول بالنص فرع على القول بالعصمة وذاك من أفسد الأقوال، فكذاك النص الذي تدعيه الرافضة وهو الأمر بطاعة المتولي في كل ما يقوله من غير رد إلى الكتاب والسنة إذا نوزع، أما إذا رددنا قولنا إلى الكتاب والسنة كما أمرنا عند التنازع فلا حاجة إلى النص فإن الدين محفوظ، ولا يمكن أن بشرا يعلم كل علم الرسول أو يأتيه وحي، فلا سبيل إلى معرفة ما جاء به إلا من جهته. قال: "الثالث أن الإمام يجب أن يكون حافظا للشرع لانقطاع الوحي وقصور الكتاب والسنة عن تفاصيل الجزئيات فلا بد من إمام منصوص من الله تعالى معصوم لئلا يترك أو يزيد عمدا أو سهوا. وغير علي لم يكن كذلك بالإجماع".

قلنا: لا نسلم أنه يجب أن يكون حافظا للشرع، بل يجب أن تكون الأمة حافظة للشرع وذلك يحصل بالمجموع [كما يحصل بالواحد]. بل الشرع إذا نقله أهل التواتر كان خيرا من نقل واحد. ولا نسلم أن عليا كان أحفظهم للشرع بل كان أبو بكر وعمر أعلم منه، فبطل إجماعك. وإن زعمت أنه معصوم فلا تعلم صحة شيء من الشرع إلا بنقله، لزم من ذلك أن الحجة لا تقوم على أهل الأرض إلا بنقله ولا نعلم صحة نقله حتى نعلم أنه معصوم ولا نعلم أنه معصوم إلا بالإجماع على نفي عصمة من سواه، فإن كان الإجماع معصوما أمكن حفظ الشرع به وإن لم يكن معصوما لم نعلم عصمته.

ثم أخبرنا: هل يمكن الإمام تبليغ الشرع إلى من ينقله عنه بالتواتر أم لا يزال منقولا نقل آحاد من معصوم إلى معصوم؟ فإن كان الإمام يمكنه ذلك فالرسول يمكنه بطريق الأولى، فحينئذ لا حاجة إلى نقل الإمام. وإن قلت: لا يمكنه ذلك، لزم دين الإسلام أنه لا ينقله إلا واحد بعد واحد من أقرباء الرسول الذين يمكن القادح في نبوته أن يقول إنهم يقولون عليه ما شاءوا وإنه كان طالب ملك أقامه أقاربه وعهد إليهم بما يقيمون به دولته.

ونقول: الحاجة ماسة إلى العصمة في حفظ الدين [ونقله]، فلماذا لا يجوز أن يكون الصحابة هم المعصومين الذين حصل بهم مقصود الدين وبلغوه ولماذا لا تكون العصمة في الحفظ والبلاغ لكل طائفة بحسب ما حملوه: فالقراء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه، والمحدثون معصومون في حفظ الصحاح وتبليغها، والفقهاء معصومون في فهم الكلام والاستدلال؛ وهذا هو الواقع المعلوم الذي أغنى الله به عن واحد معدوم.

ثم إنه إذا كان لا يحفظ الشرع ويبلغه إلا معصوم عن معصوم -والمنتظر له أربعمائة وستون سنة لم يأخذ أحد عنه مسألة- فمن أين علمتم القرآن والشرع في طول هذه المدة؟ ولم لا يجوز أن يكون هذا القرآن الذي تقرأونه ليس الذي أنزل؟ وأيضا من أين لكم العلم بشيء من أحوال الرسول وابن عمه وأنتم لم تسمعوا شيئا من ذلك من معصوم؟ فإن قلتم: تواتر ذلك عندنا؛ قيل: فإذا كان تواتر ذلك عن أئمتكم يوجب حفظ الشرع، فلماذا لا يجوز أن يكون تواتر الأمة كلها عن نبيها أولى وأحرى من غير احتياج إلى نقل واحد عن واحد. وقولك: "لقصور النصوص عن تفاصيل الأحكام"

قلنا: وكل إمام بهذه المنزلة، فإن الأمير إذا خاطب الناس فلا بد أن يخاطبهم بما يعمّ الأعيان والأفعال، إذ من الممتنع أن يعين كل فعل من فاعل في كل وقت، فما بقي إلا الخطاب الكلي، وذلك ممكن من الرسول. وإن زعمت أن نصوص الرسول] ليست عامة كلية [قيل لك هذا ممنوع، وبتقدير أن يمنع هذا من نصوص الرسول فأنت مضطر في خطاب الإمام إلى إثبات عموم الألفاظ أو عموم المعاني [بالاعتبار]، فأيهما كان أمكن إثباته من خطاب الرسول فلا حاجة إلى الإمام. والحجة قد قامت على الخلق بالرسول، قال تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم} والله قد ضمن حفظ ما أنزله من الذكر، فصار ذلك مأمونا من التبديل والتغيير.

ثم قد علم بالاضطرار من الدين أن أكثر المسلمين بلغهم القرآن والسنن بدون نقل علي، فإن عمر لما فتح الأمصار بعث إليها من علمهم وفقههم ثم اتصل العلم من أولئك إلى المسلمين. وعلي بلغ جملة من ذلك كما بلغ ابن مسعود ومعاذ ابن جبل وأبي وخلائق. فتبارك الله ما أجهل الرافضة! قال: "والله قادر على نصب معصوم والحاجة داعية إليه ولا مفسدة فيه فيجب نصبه. وغير علي لم يكن كذلك، فتعين هو".

قلنا: هذا تكرار منك. وقد مر أن الإجماع إن كان معصوما أغنى عن عصمة علي وإن لم يكن معصوما بطلت دلالته على عصمة علي. وإن زعمت أن حال الأمة مع وجود المعصوم أكمل فلا ريب أن حالهم مع عصمة نوابه أكمل وحالهم مع عصمة أنفسهم أكمل وأكمل، ولا يجب على الله ذلك. وإذا ادعيت أن مع عدمه يدخلون النار ولا يعيشون في الدنيا أو يشتد البلاء فيقال: هب أن الأمر كذلك فلم قلت إن إزالة هذا واجب، ومعلوم أن الأمراض والهموم موجودة والغلاء والجوائح والمصائب كثيرة، وليس ما يصيب [المظلوم] من الضرر بأعظم مما يصيبه من هذه الأمور، والله لم يزل ذلك، وحوائج البشر داعية إلى ما لا نهاية له من الصحة والقوة والمال والسرور. وعلى أصلك الفاسد إن الله لا يقدر على خلق مؤمن ولا كافر، فكيف يقدر على خلق معصوم؟ وقد تقدم هذا وبان تناقضكم حيث جمعتم بين إيجاب خلق معصوم على الله وبين قولكم إن الله لا يقدر على جعل أحد معصوما باختياره بحيث يثاب على فعله للطاعات وتركه للمعاصي. ثم يقال: الذي تدعو إليه الحاجة أهو القادر على تحصيل المصالح وإزالة المفاسد أم هو المعصوم وإن كان عاجزا عن ذلك؟ الثاني ممنوع فإن العاجز لا تحصل به فائدة بل القدرة شرط في ذلك. والأول لم يوجد وإن وجد لم يفعل ذلك فهو عاص أو عاجز قطعا. قال: "والإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته، وعلي فاضل أهل زمانه فهو الإمام لقبح تقدم المفضول على الفاضل عقلا ونقلا".

قلنا: لا نسلم أنه أفضل أهل زمانه فإنه قال على منبر الكوفة: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر. ثم كثير من العلماء لا يوجبون تولية الأفضل. ومنهم من يقول بولاية المفضول إذا كان فيها مصلحة راجحة كما تقوله الزيدية. قال: "المنهج الثاني في الأدلة من القرآن [على إمامة علي] قوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} وقد أجمعوا أنها نزلت في علي. روى الثعلبي بإسناده إلى أبي ذر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ بهاتين وإلا صمتا يقول: علي قائد البررة وقاتل الكفرة منصور من نصره مخذول من خذله. أما إني صليت مع رسول الله ﷺ يوما الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا فرفع يده إلى السماء وقال اللهم اشهد أني سألت في مسجد نبيك فلم أعط شيئا، وكان علي راكعا فأومأ إليه بخنصره فأقبل فأخذ الخاتم وذلك بعين رسول الله ﷺ، فلما فرغ رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إن موسى سألك {واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري} فأنزلت عليه قرآنا ناطقا {سنشد عضدك بأخيك} اللهم وأنا نبيك وصفيك [اللهم، فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به ظهري،] فما استتم كلامه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} ونقل الفقيه ابن المغازلي عن ابن عباس أن الآية نزلت في علي. والولي المتصرف. وقد أثبت له الولاية في الأمة كما أثبتها الله لنفسه ولرسوله".

والجواب إن قولك: "أجمعوا أنها نزلت في علي" من أعظم الدعاوي الكاذبة، بل أجمعوا على أنها لم تنزل في علي بخصوصه، وإن الخبر كاذب. وفي تفسير الثعلبي من الموضوعات ما لا يخفى، وكان حاطب ليل وكذا تلميذه الواحدي. ثم سائر ما سقته من البراهين باطل لا يروج إلا على من أعمى الله قلبه من الصم البكم أولي الهوى والجهل. ولهذا دخلت عامة الزنادقة من باب الرفض وتسلطوا بتلك الأكاذيب على الطعن في الإسلام، وصارت شبها عند الجهلة، و[بها] ضلت النصيرية والإسماعيلية، وكان منشأ ضلالهم تصديقهم الرافضة بيت الكذب فيما ينقلونه من التفسير والفضائل والمثالب، فيشرعون في التوجع لآل محمد، ثم ينتقلون إلى سب الصحابة والقدح فيهم، ثم ينتقلون إلى القدح في علي لأنه سكت، ثم إلى القدح في الرسول ثم في الإله، كما رتبه لهم صاحب البلاغ الأكبر والناموس الأعظم. ثم هبك اعتضدت بالثعلبي، فقد نقل الثعلبي عن ابن عباس قال: إنها نزلت في أبي بكر. ونقل عن عبد الملك قال: سألت أبا جعفر الباقر عن الآية فقال: هم المؤمنون، قلت: فإن ناسا يقولون هو علي؟ فقال: علي من الذين آمنوا. وعن الضحاك مثله. وروى عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية قال: كل من أسلم فقد تولى الله ورسوله والذين آمنوا. ثم نعفيك من ادعائك الإجماع ونطالبك بسند واحد صحيح. وما أوردته عن الثعلبي واه فيه رجال متهمون. وأما ابن المغازلي الواسطي فقد جمع في كتابه من الكذب ما لا يخفى على من له أدنى معرفة بالحديث. ولو كان المراد بالآية أن يؤتي الزكاة في حالة الركوع لوجب أن يكون ذلك شرطا في الموالاة ولا يتولى المسلم إلا عليا فقط، فلا يتولى الحسن ولا الحسين. ثم قوله {الذين يقيمون} صيغة جمع فلا تصدق على واحد فرد. وأيضا فلا يثنى على المرء إلا بمحمود، وفعل ذلك في الصلاة ليس بمستحب ولو كان مستحبا لفعله الرسول ﷺ ولحض عليه ولكرر علي فعله، و«إن في الصلاة لشغلا» فكيف يقال: لا ولي لكم إلا الذين يتصدقون في حال الركوع؟ ثم قوله: {ويؤتون الزكاة} يدل على وجود زكاة، وعلي ما وجبت عليه زكاة قط في زمن النبي ﷺ [فإنه كان فقيرا، وزكاة الفضة إنما تجب على من ملك النصاب حولا وعلي لم يكن من هؤلاء]. ثم إعطاء الخاتم في الزكاة لا يجزي عند الأكثر. ثم إن الآية بمنزلة قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} وكقوله تعالى: {اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين}

ثم من المعلوم المستفيض عند المفسرين أنها نزلت في النهي عن موالاة الكفار ووجوب موالاة المؤمنين. وسياق الكلام يدل على ذلك لمن تدبر فإنه تعالى قال: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} فهذا نهي عن موالاة اليهود والنصارى ثم قال: {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصينا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين} إلى أن قال: {إنما وليكم الله} فهذا وصف عام للمؤمنين ولا بد، لكن علي وأبو بكر والسابقون أولى الأمة بالدخول فيها.

ومن تأمل الحديث وركته لاح له كذبه. ولو كان حقا لكان من خذله ومنعه حقه من النصر مخذولين، ولم يكن الأمر كذلك بل نصروا وافتتحوا البلاد فارس والروم والقبط. فالشيعة يدعون أن الأمة كلها خذلته إلى أن قتل عثمان. ومن المعلوم أن الأمة إلى أن قتل عثمان كانت منصورة نصرا عظيما لم ينصر بعده مثله أبدا. فلما قتل عثمان تفرقت الأمة فحزب مع علي وحزب عليه وحزب انعزلوا لا له ولا عليه. ومن المعلوم أن إيمان الناس بالرسول وطاعتهم له ما كان لأجل علي كما كان هارون مع موسى، فإن بني إسرائيل كانوا يحبون هارون جدا ويهابون موسى، وكان هارون يتألفه ويداريه؛ والرافضة تدعي أن المسلمين كانوا يبغضون عليا وأنهم لبغضهم له لم يبايعوه وكتموا النص عليه. فكيف يقال إن النبي احتاج إليه كما احتاج موسى إلى هارون؟ وهذا أبو بكر أسلم على يديه خمسة من العشرة [المبشرين بالجنة] عثمان وطلحة وسعد وعبد الرحمن وأبو عبيدة. ولم نعلم أن أحدا من السابقين أسلم على يد علي. وهذا مصعب بن عمير أحد السابقين قد أسلم على يديه أسيد بن حضير وسعد بن معاذ.

وأما الموالاة فقد قال تعالى: {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} فبين الله أن كل صالح من المؤمنين فهو مولى رسول الله والله مولاه وجبريل مولاه. وليس في كون الصالح من المؤمنين مولى أن يكون متوليا على رسول الله ولا متصرفا فيه. وقال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} فكل مؤمن تقي فهو ولي الله والله وليه. قال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا} وقال {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم} وما في هذه الآيات أن من كان ولي الآخر كان متوليا عليه دون الناس. والفرق بين الوَلاية والوِلاية معروف، فالأمير يسمى الوالي ولا يسمى الولي. واختلف الفقهاء إذا اجتمع في الجنازة الوالي والولي أيهما يقدم. فالموالاة ضد المعاداة. قال الرافضي: "البرهان الثاني قوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك} اتفقوا على نزولها في علي. روى أبو نعيم بإسناده إلى عطية أنها نزلت في علي. وفي تفسير الثعلبي {بلغ ما أنزل إليك} في فضل علي فلما نزلت أخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه. والنبي مولى أبي بكر وعمر والصحابة بالإجماع، فيكون علي مولاهم فيكون هو الإمام. ومن تفسير الثعلبي قال: لما كان يوم غدير خم نادى رسول الله ﷺ الناس فاجتمعوا فأخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه. فشاع ذلك وطار في البلاد وبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري فأتى رسول الله ﷺ فأناخ بالأبطح فنزل وأتى رسول الله ﷺ وهو في ملأ من أصحابه فقال: يا محمد أمرتنا بالشهادتين وبالصلاة والزكاة والصيام والحج فقبلنا منك ثم لم ترض حتى رفعت بضبعي ابن عمك ففضلته علينا وقلت من كنت مولاه فعلي مولاه فإن كان هذا من الله فحدثنا فقال: أي والله من أمر الله. فولى الحارث وهو يقول: {إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} فما وصل حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله وأنزلت: {سأل سائل بعذاب}. وقد روى هذا النقاش في تفسيره".

قلنا: هذا أعظم كذبا وفرية من الأول. فقولك: "اتفقوا على نزولها في علي" كذب، بل ولا قاله عالم. وفي كتاب أبي نعيم والثعلبي والنقاش من الكذب ما لا يعد. والمرجع في النقل إلى أمناء حديث رسول الله؛ كما أن المرجع في النحو إلى أربابه وفي القراءات إلى حذاقها وفي اللغة إلى أئمتها وفي الطب إلى علمائه، فلكل فن رجال، وعلماء الحديث أجل وأعظم تحريا للصدق من كل أحد، علم ذلك من علمه، فما اتفقوا على صحته فهو الحق وما أجمعوا على تزييفه وتوهينه فهو ساقط وما اختلفوا فيه نُظر فيه بإنصاف وعدل، فهم العمدة كمالك وشعبة والأوزاعي والليث والسفيانين والحمادين وابن المبارك ويحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع وابن علية والشافعي وعبد الرزاق والفريابي وأبي نعيم والقعنبي والحميدي وأبي عبيد وابن المديني وأحمد وإسحاق وابن معين وأبي بكر بن أبي شيبة والذهلي والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم وأبي داود ومسلم وموسى بن هارون وصالح جزرة والنسائي وابن خزيمة وأبي أحمد بن عدي وابن حبان والدارقطني وأمثالهم من أهل العلم بالنقل والرجال والجرح والتعديل.

وقد صنف في معرفة الرجال كتب جمة كالطبقات لابن سعد وتاريخي البخاري وكلام ابن معين من رواية أصحابه عنه وكلام أحمد من رواية أصحابه عنه وكتاب يحيى بن سعيد القطان وكتاب علي بن المديني وتاريخ يعقوب الفسوي وابن أبي خيثمة وابن أبي حاتم والعقيلي وابن عدي وابن حبان والدارقطني. والمصنفات في الحديث على المسانيد كمسند أحمد وإسحاق وأبي داود وابن أبي شيبة والعدني وابن منيع وأبي يعلى والبزار والطبراني وخلائق؛ وعلى الأبواب كالموطأ وسنن سعيد بن منصور وصحيحي البخاري ومسلم والسنن الأربعة وما يطول الكتاب بتعداده.

وفي الجملة ليس في فرق الأمة أجهل بالآثار ورجالها وأقبل للباطل وأدفع للصحيح من الرافضة. ثم أضدادهم من الخوارج وإخوانهم من المعتزلة يتحرون الصدق ولا يحتجون بخبر مكذوب، بل ولا بالصحيح، بل لهم طرق وقواعد مبتدعة وعقول في الجملة. وهؤلاء الرافضة لا عقل ولا نقل. فالآثار ومعرفتها والأسانيد من خصائص السنة والجماعة. وعلامة صحة الحديث عند الرافضي أن يوافق هواه. قال عبد الرحمن بن مهدي: "أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم"

ثم نقول لهم: ما يرويه مثل النقاش والثعلبي وأبي نعيم ونحوهم أتقبلونه مطلقا لكم وعليكم أم تردونه مطلقا أو تأخذون بما وافق أهواءكم وتردون ما خالف؟ فإن قبلوه مطلقا ففي ذلك من فضائل الشيخين جملة من الصحيح والضعيف. وإن ردوه مطلقا بطل اعتماده بمل ينقل عنهم. وإن قبلوا ما يوافق مذهبهم أمكن المخالف رد ما قبلوه والاحتجاج بما ردوه. والناس قد كذبوا في المناقب والمثالب أكثر من كل شيء.

ثم هذا الحديث كذب باتفاق أهل الحديث. ولهذا لم يرو في شيء من كتب الحديث المرجوع إليها. وإنما يجوّز صدقه من يقول إن النبي ﷺ كان على مذهب أحد الأربعة وإن أبا حنيفة ونحوه كانوا قبل النبي ﷺ أو كما تظن طائفة من التركمان أن حمزة له مغاز عظيمة وينقلونها بينهم، وحمزة ما شهد إلا بدرا واستشهد يوم أحد، ومثل ما يعتقد كثير من العوام أن أبي بن كعب وأم سلمة زوج النبي ﷺ في مغائر دمشق، أو أن عائشة كانت تحدث الناس في باب القبة التي بجامع دمشق أو أن قبر علي رضي الله عنه بباطن النجف. وأهل العلم يعلمون أن عليا ومعاوية وعمرو بن العاص دفن كل واحد منهم بقصر الإمارة خوفا عليه من نبش الخوارج.

واتفق الناس على أن ما قاله النبي ﷺ بغدير خم كان مرجعه من حجة الوداع. ألا ترى أن الشيعة تجعل يوم ثاني عشر ذي الحجة عيدا؟ فبعد ذلك لم يرجع النبي ﷺ إلى مكة. وهذا الحديث المكذوب فيه ما يبين كذبه من قوله: "فجاءه الحارث وهو بالأبطح" ثم قوله: "ونزلت {سأل سائل}" وهي إنما نزلت قبل الهجرة بمكة. ثم قوله تعالى: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق} نزلت عقيب بدر بالاتفاق. وأهل التفسير متفقون على أنها نزلت بسبب ما قاله المشركون للنبي ﷺ بمكة كأبي جهل وذويه. ثم لم تنزل عليهم حجارة من السماء. ولو كان هذا المجهول قد نزل عليه حجر خرق هامته وخرج من دبره لكان آية من جنس أصحاب الفيل وذلك مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله.

قال: "البرهان الثالث قوله {اليوم أكملت لكم دينكم} الآية. روى أبو نعيم بإسناده إلى أبي سعيد أن النبي ﷺ دعا الناس إلى غدير خم وأمرنا بحتِّ الشجر من الشوك فقام فأخذ بضبعي علي فرفعهما حتى نظر الناس إلى باطن إبطي رسول الله ثم لم يتفرقوا حتى نزلت: {اليوم أكملت لكم دينكم} فقال الرسول: الله أكبر على إكمال الدين ورضى الرب برسالتي وبالولاية لعلي من بعدي. ثم قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وانصر من نصره واخذل من خذله". 9

قلنا: وهذا من الكذب باتفاق أهل المعرفة بالموضوعات. وقد ثبت أن الآية نزلت على الرسول ﷺ وهو واقف بعرفة قبل يوم الغدير بسبعة أيام. ثم ليس فيها دلالة على علي رضي الله عنه بوجه ولا على إمامته. فدعواك أن البراهين دلت عليه من القرآن من الكذب الواضح، وإنما يكون ذلك من الحديث لو صح.

قال: "البرهان الرابع قوله: {والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى} روى الفقيه علي بن المغازلي الشافعي بإسناده عن ابن عباس قال: كنت جالسا مع فئة من بني هاشم عند النبي ﷺ إذ انقض كوكب من السماء فقال: من انقض هذا الكوكب في منزله فهو الوصي من بعدي. فإذا هو قد انقض في منزل علي. قالوا: يا رسول الله قد غويت في حب علي، فأنزل الله تعالى: {والنجم إذا هوى}".

قلنا: وهذا من أبين الكذب. والقول على الله بلا علم حرام. قال الله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} فكل من احتج بحديث عليه أن يعلم صحته قبل أن يستدل به. وإذا احتج به على غيره فعليه بيان صحته. وإذا عرف أن في الكتب الكذب صار الاعتماد على مجرد ما فيها مثل الاستدلال بشهادة الفاسق الذي يصدق ويكذب.

ثم هذا الحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات بلفظ آخر من حديث محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: لما عرج بالنبي ﷺ إلى السماء السابعة وأراه الله من العجائب فلما أصبح جعل يحدث فكذبه من أهل مكة من كذبه فانقض نجم من السماء فقال النبي ﷺ: في دار من وقع هذا النجم فهو خليفتي من بعدي. فوقع في دار علي، فقال أهل مكة: ضل محمد وغوى وهوى أهل بيته ومال إلى ابن عمه، فنزلت {والنجم}. قال ابن الجوزي: "هذا موضوع، فما أبرد من وضعه [وما أبعد ما ذكر، وفي إسناده ظلمات منها أبو صالح وكذلك الكلبي ومحمد بن مروان السدي، والمتهم به الكلبي، قال أبو حاتم بن حبان: كان الكلبي من الذين يقولون إن عليا لم يمت وإنه يرجع إلى الدنيا وإن وأوا سحابة قالوا أمير المؤمنين فيها، لا يحل الاحتجاج به. قال: والعجب من تغفل من وضع هذا الحديث كيف رتب ما لا يصلح في المعقول من أن النجم يقع في دار ويثبت إلى أن يرى، ومن بلهه أنه وضع هذا الحديث على ابن عباس، وكان ابن عباس زمن المعراج ابن سنتين، فكيف يشهد تلك الحالة ويرويها".

قلتُ: إذا لم يكن هذا الحديث في تفسير الكلبي المعروف عنه فهو مما وُضع بعده وهذا هو الأقرب. قال أبو الفرج: "وقد سرق هذا الحديث بعينه قوم وغيروا إسناده ورووه بإسناد غريب".] ثم إنه لم ينقض قط كوكب إلى الأرض [بمكة ولا بالمدينة ولا غيرهما]. ولما بعث نبي الله ﷺ كثر الرمي بالشهب. ومع هذا لا يروي مثل هذا البهتان إلا أوقح الناس وأقلهم حياء. ثم لو كان هذا جرى لكان يغني عن الوصية يوم غدير خم.

قال: "البرهان الخامس قوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} فروى أحمد في مسنده عن واثلة بن الأسقع قال: طلبت عليا في منزله فقالت فاطمة: ذهب إلى رسول الله ﷺ، قال: فجاءا جميعا فدخلت معهما فأجلس عليا عن يساره وفاطمة عن يمينه والحسن والحسين بين يديه ثم التفع عليهم بثوبه وقال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} اللهم إن هؤلاء أهلي. وعن أم سلمة قالت: كان رسول الله ﷺ في بيتها -الحديث وفي آخره- إنك إلى خير. ففي هذه [الآية] دلالة على العصمة مع التأكيد بلفظة إنما وإدخال اللام في الخبر. وغيرهم ليس بمعصوم، فتكون الإمامة في علي. ولأنه ادعاها في عدة من أقواله كقوله: والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وهو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى. وقد ثبت نفي الرجس عنه فيكون صادقا".

قلنا: الحديث صحيح قول النبي ﷺ لهم، ورواه مسلم في صحيحه عن عائشة، وفي السنن عن أم سلمة. وليس فيه دلالة على عصمتهم ولا إمامتهم أصلا. فنقول: قوله {إنما يريد الله} كقوله {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم} وكقوله تعالى {يريد الله بكم اليسر} وقوله {يريد الله ليبين لكم} {والله يريد أن يتوب عليكم} فإرادته في هذه الآيات متضمنة لمحبته لذلك المراد ورضائه به وأنه شرعه، ليس في ذلك أنه خلق هذا المراد ولا أنه قدره وأوجده. والنبي ﷺ بعد نزول الآية قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس. فطلب من الله ذلك. فلو كانت الآية تتضمن الوقوع ولا بد لم يحتج إلى الدعاء. وهذا على قول القدرية أظهر، فإن إرادة الله عندكم لا تتضمن وجود المراد بل قد يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد. أفنسيت أصلك الفاسد؟ أما على قولنا فالإرادة نوعان: شرعية تتضمن محبة الله ورضاه كما في الآيات، وإرادة كونية قدرية تتضمن خلقه وتقديره كقوله: {إن كان الله يريد أن يغويكم} {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا}

ثم إن أزواج النبي ﷺ مذكورات في الآيات فبدأ بهن وختم بهن وسائر الخطاب لهن، وإرادة إذهاب الرجس وتطهير أهل البيت ليس بمختص بالأزواج بل متناول لكل أهل البيت، وعلي وفاطمة وحسن وحسين أخص من غيرهم، ولذلك خصهم بالدعاء، وثبت في الصحيح أنه علمهم الصلاة عليه: «اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته..»

فإن قيل: هب أن القرآن لا يدل على طهارتهم وإذهاب الرجس عنهم لكن دعاؤه لهم يدل على وقوعه؛ قلنا: المقصود أن القرآن بمفرده لا يدل على ذلك، فضلا عن أن يدل على العصمة والإمامة. ثم هب أن القرآن دل على طهارتهم فأين لزوم العصمة وأن لا يجوز عليهم خطأ ولا سهو؟ والدليل عليه أن الله لم يرد بما أمر به الزوجات أن لا يصدر من واحدة منهن خطأ وسياق الآية يدل على أن الله يذهب عنهم الخبث والفواحش ويطهرهم منها، ونحن نعلم أن الله أذهب عن أولئك السادة الشرك والخبائث والرجس وطهرهم من هذه الفواحش. وليس من شرط المتقي أن لا تقع منه صغيرة ويستغفر منها، ولو كان ذلك شرطا لعدم المتقون من أمة محمد ﷺ. فمن فعل ما يكفر سيئاته كان من المتقين. وقال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} وقد يكون من تمام تطهيرهم صيانتهم عن الصدقة فإنها أوساخ الناس.

وبالجملة فالتطهير الذي في الآية ودعا به الرسول ليس هو العصمة بالاتفاق. فإن أهل السنة يثبتونها للرسول والشيعة لا يثبتونها [لغير النبي ﷺ] إلا لعلي أو للإمام فانتفت عن الزوجات والبنات وغيرهم، وإذا كان كذلك امتنع أن يكون التطهير المدعو به للأربعة متضمنا للعصمة المختص بها النبي والإمام.

ثم الدعاء بالعصمة من الذنوب ممتنع على أصل القدرية بل والتطهير، فإن الأفعال الاختيارية التي هي فعل الواجبات وترك المحرمات عندهم غير مقدورة للرب، فلا يمكنه أن يجعل العبد متطهرا ولا طائعا ولا عاصيا، فامتنع على أصلهم الدعاء بفعل الخيرات وترك المنكرات. وإنما المقدور عندهم قدرة تصلح لهذا وهذا، كالسيف يصلح لقتل المسلم والكافر والمال يمكن بذله في الطاعة والمعصية، ثم العبد يفعل ما شاء من خير أو شر بتلك القدرة. والحديث حجة عليهم في إبطال هذا القول حيث دعا النبي ﷺ لأهل بيته بالتطهير. وإن قالوا المراد بذلك أنه يغفر لهم ولا يؤاخذهم كان ذلك أدل على بطلان دلالته على العصمة، ويمتنع عندهم سؤال الله العصمة من المعاصي. ولو قدر ثبوت العصمة فقد قدمنا أنه لا يشترط في الإمام العصمة.

وقولك: "إن عليا ادعاها وقد ثبت نفي الرجس عنه فيكون صادقا" فلا نسلم أنه ادعاها بل نعلم بالضرورة أنه ما ادعاها حتى قتل عثمان. وإن كان قد يوده [بقلبه] لكن ما قال: أنا الإمام ولا أنا معصوم ولا إن الرسول جعلني الإمام بعده [ولا أنه أوجب على الناس متابعتي ولا نحو هذه الألفاظ. بل نحن نعلم بالاضطرار أن من نقل هذا ونحوه عنه فهو كاذب عليه. ونحن نعلم أن عليا أتقى لله من أن يدعي الكذب الظاهر الذي يعلم الصحابة كلهم أنه كذب].

وقولك عنه: "لقد تقمصها.. إلخ" فلم يقله، وأين إسنادك به؟ وإنما يوجد هذا في نهج البلاغة، وأهل العلم يعلمون أن أكثر خطب هذا الكتاب مفتراة على علي، ولهذا لا يوجد غالبها في كتاب قديم ولا لها إسناد معروف، فهي بمنزلة من يدعي أنه علوي أو عباسي ولا نعلم أحدا من سلفه ادعى ذلك قط فيعلم كذبه، فإن النسب يكون معروفا من أصله حتى يتصل بفرعه. وفي هذه الخطب أشياء قد علم يقينا من علي ما يناقضها. ولم يوجب الله على الخلق أن يصدقوا بما لم يقم دليل على صدقه وإن ذلك من تكليف ما لا يطاق. وكيف يمكننا أن نثبت ادعاء علي الخلافة بمثل حكاية منبعها من متهمين؟ ثم هب أنه قال ذلك، فلم قلتم إنه أراد أني إمام منصوص عليه؟ فيجوز عليه أنه أراد أنه أحق من غيره، [وحينئذ لا يكون مخبرا عن أمر تعمد فيه الكذب، ولكن يكون تكلم] باجتهاد منه. [لكن هذا كله لو صح شيء منه لم يصح إلا بمقدمات ليست في القرآن،] فأين براهينك القرآنية؟

قال: "البرهان السادس قوله: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} روى الثعلبي بإسناده عن أنس وبريدة قالا: قرأ رسول الله ﷺ هذه الآية فقام رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: بيوت الأنبياء. فقال أبو بكر: يا رسول الله هذا البيت منها؟ يعني بيت علي وفاطمة، قال: نعم من أفضلها".

قلنا: نطالبك بصحة النقل فلا سبيل لك إلى ذلك. والثعلبي كحاطب ليل. فكيف والحديث كذب بلا ريب. ثم الآية باتفاق الناس هي في المساجد. ولو قدر أن عليا من رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع لما لزم من ذلك أنه أفضل الأمة بعد نبيها. ثم لفظ الآية: {رجال} لم يقل رجل واحد. ولو قدر أنه أفضل فلم قلت بوجوب إمامة الأفضل؟

قال: "البرهان السابع قوله: {لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله من قرابتك التي وجبت علينا مودتهم؟ قال علي وفاطمة وابناهما. وكذا في تفسير الثعلبي. ونحوه في الصحيحين. وغير علي من الصحابة لا تجب مودته. فيكون علي أفضل، فيكون هو الإمام. ومخالفته تنافي المودة وطاعته مودة فيكون واجب الطاعة".

فالجواب قولك: "في مسند أحمد" كذب بيّن على المسند. وكذا قولك: "في الصحيحين" افتراء عليهما. بل فيهما وفي المسند ما يناقض ذلك، فكيف العمل بخطاب جهال كذبة؟ ولكن أحمد صنف كتابا في فضائل الخلفاء الأربعة وغيرهم فيه الصحيح والسقيم؛ ثم زاد ابنه عبد الله فيه أحاديث، وزاد القطيعي فيه جملة كثيرة واهية ومكذوبة، فظن الجهلة أن الكل من رواية أحمد، وهذا خطأ قبيح، فإن زيادات عبد الله تظهر بكونها عن غير أبيه، وزيادات القطيعي تعرف بروايته لها عن غير عبد الله بن أحمد.

وأيضا فالآية في الشورى وهي مكية باتفاق، وعلي ما تزوج فاطمة إلا في المدينة، والحسن ولد سنة ثلاث والحسين سنة أربع. فكيف يفسر النبي ﷺ الآية [المكية] بوجوب مودة من لا يعرف؟

ثم تفسير الآية في الصحيحين أن ابن عباس سئل عنها فقال له سعيد بن جبير: إلا أن تودوا محمدا في قرابته، فقال ابن عباس: "عجلت، إنه لم يكن بطن من قريش إلا ولرسول الله ﷺ فيهم قرابة فقال: {لا أسألكم عليه أجرا} لكن أسألكم مودة القرابة التي بيني وبينكم". فهذا ابن عباس ترجمان القرآن وأعلم أهل البيت بعد علي يقول ما تسمع.

وأيضا فإنه قال: {إلا المودة في القربى} لم يقل إلا المودة للقربى ولا المودة لذوي القربى. فلو أراد ذلك لقال هكذا، كما قال الله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى} وقال: {فلله وللرسول ولذي القربى} {فآت ذا القربى حقه} {وأتى المال على حبه ذوي القربى} فجميع ما أوصى به من حق ذوي قربى النبي أو ذوي قربى الإنسان هكذا؛ فلما ذكر قوله {إلا المودة} بالمصدر دون الاسم دل على أنه لم يرد ذوي القربى، ولو أراد لقال المودة لذوي القربى ولم يقل "في"، فإنه لا يقال: لا أسألك المودة في فلان ولا في قربى فلان بل لفلان.

ونقول: الرسول لا يسأل على تبليغ الرسال أجرا البتة، بل أجره على الله كما قال: {قل ما أسألكم عليه من أجر} وقال {أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون} وقال {إن أجري إلا على الله} ولكن الاستثناء منقطع كقوله: {قل ما أسألكم عليه من اجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا} ولا ريب أن محبة أهل البيت واحبة، لكن لم يثبت وجوبها بهذه الآية، ولا محبتهم أجر الرسول بل هو مما أمرنا به فهو من العبادات. وفي الصحيح أنه ﷺ خطب بغدير خم فقال: «أذكركم الله في أهل بيتي» قالها ثلاثا. وفي السنن أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتي". ولو كانت مودتنا لهم أجرا له لم نثب عليها لأنا أعطينا أجره الذي استحقه بالرسالة، فهل يقول هذا مسلم؟ سلمنا أن عليا تجب مودته بدليل آخر فما في ذلك ما يوجب اختصاصه بالإمامة والفضيلة.

وقولك: "والثلاثة لا تجب مودتهم" ممنوع، بل تجب أيضا مودتهم وموالاتهم، فإنه ثبت أن الله يحبهم ومن كان الله يحبه وجب علينا أن نحبه. والحب في الله والبغض في الله واجب وهو أوثق عرى الإيمان. وهم من أولياء الله الكبار، وثبت أن الله رضي عنهم. وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»

والرافضي لا يقدر أن يركب الحجة على الخارجي والناصبي؛ فإذا قالا له: بأي شيء علمت أن عليا ولي الله؟ فإن قال: بالتواتر لإسلامه وحسناته، قالا له: فالنقل المتواتر في أبي بكر وأمثاله كذلك؛ فإن قال: بالقرآن، قالا: القرآن يدل بعمومات أنت تخرج منها أكابر الصحابة فإخراج واحد أسهل؛ وإن قال: بالأحاديث الدالة على فضائله، قيل: أحاديث فضل أولئك أكثر وأصح وقد قدحت فيها وما ورد فيه إنما نقله الصحابة الذين تقدح فيهم فإن صح قدحك بطل النقل وإن صح النقل بطل القدح، وإن قال: صح بنقل الشيعة، قيل: الصحابة عندك مطعون فيهم سوى بضعة عشر نفسا فقد يقال إن البضعة عشر تواطأوا على ما نقلوه، ومن قدح في نقل الجمهور كيف يمكنه إثبات نقل نفر قليل؟

ونحن علينا أن نحب من أحبه الله ورسوله كعلي. وفي الصحيحين أن النبي ﷺ سُئل: أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة» قيل: فمن الرجال؟ قال: «أبوها». وفي الصحيح أن عمر قال لأبي بكر يوم السقيفة: "بل أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله ﷺ" وقال ﷺ: «لو كنت متخذا من هذه الأمة خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا»

وقولك: "مخالفته تنافي المودة إلخ" فالجواب إن كانت المودة توجب الطاعة فقد وجبت مودة ذوي القربى فتجب طاعتهم [فيجب أن تكون فاطمة أيضا إماما،] وإلا فالمودة ليست مستلزمة للإمامة، فإن كانت ملزوم الإمامة وانتفاء الملزوم يقتضي انتفاء اللازم فلا تجب مودة إلا من يكون إماما معصوما.

وقولك: "المخالفة تنافي المودة" فنقول: إذا لم تكن المخالفة قادحة في المودة إلا إذا كان واجب الطاعة فحينئذ يجب أن نعلم وجوب الطاعة أولا، فإذا ثبت وجوبها بمجرد وجوب المودة كان دورا إلا إذا علم أنه إمام. ثم المخالفة تقدح في المودة إذا أمرنا ونحن نعلم أنه لم يأمرنا بطاعته في زمن أبي بكر وعمر وعثمان فتجب مودتهم أيضا وطاعتهم، ومخالفتهم تقدح في مودتهم بل تقدح في محبة الله ورسوله.

قال: "البرهان الثامن قوله: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} قال الثعلبي: إن رسول الله ﷺ لما أراد الهجرة استخلف عليا لقضاء ديونه ورد الودائع وأمره ليلة خرج إلى الغار وأحاطوا بالديار أن ينام على فراشه ويتشح ببرده الأخضر وقال إنه لا يخلص إليك منهم مكروه، ففعل فأوحى الله إلى جبريل وميكائيل: إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة، فقال: ألا كنتما مثل علي آخيت بينه وبين محمد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره الحياة اهبطا إلى الأرض فاحفظاه، فنزلا فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، فقال جبريل: بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة، فأنزل الله على نبيه وهو متوجه إلى المدينة فيه: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} وقال ابن عباس: إنها نزلت في علي لما هرب النبي ﷺ إلى الغار. وهذه فضيلة لم تحصل لغيرة تدل على أفضليته، فيكون هو الإمام".

والجواب المطالبة بصحة النقل. وعزوك ذلك إلى الثعلبي لا يجدي شيئا. فالنبي لما هاجر لم يكن لقريش غرض في طلب علي، إنما كان مطلوبهم النبي ﷺ وأبا بكر، فجعلا في كل واحد منهما ديته لمن جاء به كما صح، لا كما سقت من الكذب السمج. فترك عليا على فراشه ليظنوا أن النبي ﷺ في البيت فلا يطلبوه فلما أصبحوا وجدوا عليا فظهرت خيبتهم ولم يؤذوا عليا بل سألوه عن رسول الله ﷺ فقال: لا علم لي به. ولو كان لهم في علي غرض لآذوه. فلما لم يتعرضوا له دل على أنه لا غرض لهم فيه. والذي كان يقصد الدفع بنفسه هو أبو بكر بلا ريب، وكان يذكر الطلب فيكون خلف رسول الله ﷺ ويذكر الرصد فيكون أمامه. ثم غير واحد من الصحابة قد فدوا النبي ﷺ بأنفسهم في الحروب فمنهم من قتل بين يديه ومنهم من شلت يده كطلحة، وهذا واجب على المؤمنين.

وفي السيرة لابن إسحاق قال: فأتى جبريل النبي ﷺ فقال: لا تبت الليلة على فراشك، فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه فلما رأى رسول الله ﷺ مقامهم قال لعلي: نم على فراشي واتشح ببردي هذا فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم. [وعن] محمد بن كعب القرظي قال: لما اجتمعوا له وفيهم أبو جهل قال: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنات كجنات الأردن وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار تحرقون فيها، قال وخرج رسول الله ﷺ عليهم فأخذ حفنة من تراب ثم قال: نعم أنا أقول ذلك أنت أحدهم، وأخذ الله بأبصارهم عنه فلا يرونه ولم يبق منهم رجل إلا وضع التراب على رأسه ثم انصرف إلى حيث أراد، فأتاهم آت فقال: ما تنتظرون ها هنا؟ قالوا: محمدا، قال: خيبكم الله قد والله خرج ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا فنظروا فرأوا التراب، ثم جعلوا يطعلون فيرون عليا على الفراش متسجيا ببرد النبي ﷺ فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائم عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام علي فقالوا: والله لقد كان صدقنا الذي حدثنا، وأنزلت قوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} فهذا يوضح لك أن النبي ﷺ وعده أنه لا يصيبه مكروه فاطمأن إلى قول الصادق.

ثم ما أوردته هذيان باطل، لا سيما محاورة جبريل وميكائيل ومؤاخاتهما وأعمارهما. ثم مؤاخاة النبي ﷺ لعلي لم تصح. ومع ذلك فيروى أنها كانت بالمدينة كما رواه الترمذي وذلك بعد الهجرة.

ثم قوله [تعالى]: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} في البقرة وهي مدنية باتفاق. وقيل نزلت الآية لما هاجر صهيب وطلبه المشركون فأعطاهم ماله وأتى المدينة فقال له النبي ﷺ: "ربح البيع أبا يحيى". وهذه القصة في عدة تفاسير. وعن قتادة قال: نزلت في المجاهدين المهاجرين. وقال عكرمة: نزلت في صهيب وأبي ذر حين أخذ أهل بدر أبا ذر فانفلت منهم فقدم على النبي ﷺ فلما رجع مهاجرا عرضوا له بمر الظهران فانفلت منهم أيضا، وأما صهيب فأخذه أهله فافتدى منهم بماله. وأيضا فلفظ الآية مطلق، فكل من باع نفسه ابتغاء مرضاة الله فقد دخل فيها. وأهل بيعة الرضوان بايعوا رسول الله ﷺ على الموت. أخرجه البخاري.

ولا ريب أن الفضيلة التي حصلت لأبي بكر في الغار والهجرة انفرد بها، فتكون[هذه الأفضلية ثابتة له دون عمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة، فيكون هو الإمام. فهذا هو الدليل الصدق الذي لا كذب فيه.] قال الله تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} فأين مثل هذه الخصيصة لغير الصديق بنص القرآن؟ ثم إن عليا لم يؤذ في مبيته على فراش النبي ﷺ، وقد أوذي غيره في وقايتهم النبي ﷺ.

قال: "البرهان التاسع قوله {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم} الآية. نقل الجمهور أن {أبناءنا} إشارة إلى الحسن والحسين {ونساءنا} إلى فاطمة {وأنفسنا} إلى علي. وهذه الآية أدل دليل على ثبوت الإمامة له لأن الله جعله نفس الرسول، والاتحاد محال، فبقي المراد بالمساواة له الولاية. وأيضا فلو كان غير هؤلاء مساويا لهم وأفضل منهم لاستجابة الدعاء لأمره تعالى بأخذهم معه لأنه في موضع الحاجة، وإذا كانوا هم الأفضل تعينت الإمامة فيهم. فهل تخفى دلالة هذه الآية على المطلوب إلا على من استحوذ الشيطان عليه".

الجواب: أما أخذه عليا وفاطمة وابنيهما في المباهلة ففي مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص: لما نزلت هذه الآية دعاهم فقال: «اللهم هؤلاء أهلي» ولكن لا دلالة في ذلك على الإمامة ولا على الأفضلية.

وقولك: "جعله نفس الرسول" قلنا: لا نسلم أنه لم يبق إلا المساواة، ولا دليل على ذلك، بل حمله على ذلك ممتنع لأن أحدا لا يساوي الرسول، وهذا اللفظ في اللغة لا يقتضي المساواة قال الله تعالى: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} ولم يوجب ذلك أن يكون المؤمنون والمؤمنات متساوين، وقال تعالى: {فاقتلوا أنفسكم} أي يقتل بعضكم بعضا، ولم يوجب ذلك تساويهم ولا أن يكون من عبد العجل مساويا لمن لم يعبده، وكذلك: {ولا تقتلوا أنفسكم} أي لا يقتل بعضكم بعضا وإن كانوا غير متساوين بل بينهم من التباين ما لا يوصف، ومنه: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} فهذا اللفظ يدل على المجانسة والمشابهة في أمور. فقوله تعالى: {ندع أبناءنا أبناءكم وأنفسنا وأنفسكم} أي ورجالنا ورجالكم، أي الرجال الذين هم من جنسنا في الدين والنسب، والمراد التجانس في القرابة مع الإيمان، فذكر الأولاد والنساء والرجال الأقربين ولم يكن عنده أحد أقرب إليه من العصبات من علي ثم أدار عليهم الكساء. والمباهلة إنما تحصل بالأقربين إليه وإلا فلو باهلهم بالأبعدين في النسب وإن كانوا أفضل لم يحصل المقصود. وآية المباهلة سنة عشر [لما قدم وفد نجران ولم يكن النبي ﷺ قد بقي من أعمامه غير العباس،] والعباس لم يكن له سابقة ولا دلالة اختصاص على النبي.

وقولك: "لو كان غير هؤلاء مساويا لهم لأمر بأخذهم معه" قلنا: نحن نعلم بالاضطرار أنه لو دعا أبا بكر وعمر وطائفة من الكبار لكانوا من أعظم شيء استجابة لأمره، لكن لم يؤمر بأخذهم لأن ذلك لا يحصل به مقصود المباهلة، فإن أولئك يأتون بمن يعز عليهم طبعا كأقرب الناس إليهم، فلو دعا الرسول قوما أجانب لأتى أولئك بأجانب ولم يكن يشتد عليهم نزول المباهلة بأولئك الأجانب كما يشتد عليهم نزولها بالأقربين، فإن طبع المرء يخاف على أقربيه ما لا يخاف على الأجانب، والناس عند المهادنة تقول كل طائفة للأخرى: ارهنوا عندنا أبناءكم ونساءكم، فلو رهنت أجانب لم يرض أولئك، ولا يلزم أهل الرجل أن يكونوا أفضل عند الله من غيرهم. فدع عنك التشبث بألفاظ مجملة ولا تزغ عن النصوص الصريحة ولا تظنن أحدا مساويا للرسول أصلا. ولو كان باقي بناته في الحياة لباهل بهن، ولو كان ابنه إبراهيم يعرف لباهل به، ولو كان عمه حمزة حيا لباهل به.

قال: "البرهان العاشر قوله: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} روى ابن المغازلي بإسناد عن ابن عباس قال: سئل النبي ﷺ عن الكلمات فقال: سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي فتاب عليه. وفيه مساواته للنبي في التوسل به".

الجواب المطالبة بصحة ذلك وأنى لك صحته فإنه من أقبح الكذب على الله ورسوله. وقد ساقه ابن الجوزي في الموضوعات من أفراد أبي الحسن على بن عمر الدارقطني فإن له كتبا في الأفراد والغرائب. قال الدارقطني: تفرد به حسين الأشقر راوي الموضوعات عن الأثبات عن عمرو بن ثابت وليس بثقة ولا مأمون.

فأما الكلمات فقد جاءت في القرآن مفسرة في قوله تعالى: {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} ومن المعلوم أن من هو دون آدم من الكفار والفساق إذا تاب أحدهم إلى الله توبة نصوحا تاب الله عليه وإن لم يقسم عليه بأحد. ونبينا ما أمر أحدا في توبته بمثل هذا الدعاء.

قال: "البرهان الحادي عشر قوله تعالى: {إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي} روى ابن المغازلي الشافعي عن ابن مسعود: قال رسول الله ﷺ: انتهت الدعوة إلي وإلى علي لم يسجد أحدنا لصنم فاتخذني نبيا واتخذ عليا وصيا. وهذا نص في الباب".

الجواب: إن هذا كذب باتفاق الحفاظ، فإن أريد انتهاء الدعوة إلى علي لزم أن لا يكون باقي الاثني عشر أئمة. وسائر الأمة لم يسجدوا لصنم كخلق من الفساق. بل عامة الصحابة الذين سجدوا للصنم أفضل من أولادهم باتفاق. وقد ذكر الله أن لوطا آمن لإبراهيم وهو نبي. وقال شعيب: {قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها}

قال: "البرهان الثاني عشر قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا} روى أبو نعيم بإسناده إلى ابن عباس قال: نزلت في علي، والود محبته في القلوب المؤمنة. 10 ومن تفسير الثعلبي عن البراء قال: قال رسول الله ﷺ: يا علي قل اللهم اجعل عندك عهدا واجعل لي في صدور المؤمنين مودة، فأنزلت الآية. ولم يثبت ذلك لغيره فيكون هو الإمام".

قلنا: لا بد من إقامة الدليل على صحة المنقول، وإلا فالاستدلال بما لم تثبت مقدماته باطل وهو من القول بلا برهان. ثم ما أوردته موضوع عند أهل المعرفة. ثم قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} عام، فكيف تقصره على علي؟ بل يتناول عليا كما يتناول غيره ويتناول الحسن والحسين وفاطمة، فعلم بالإجماع عدم اختصاصها بواحد. والله لا يخلف الميعاد فقد وعد بأن يجعل لهم الود في القلوب، فقد جعله في قلوب جماهير المسلمين للصحابة والسابقين، [لا سيما الخلفاء رضي الله عنهم ولا سيما أبو بكر وعمر.] وعامة الصحابة -وأولهم علي- يودون أبا بكر وعمر، وما علمنا أحدا من الصحابة سبهما ولم يتفق ذلك للإمام علي بل نال جماعة من الصحابة من علي وسبوه كما جرى لعثمان، فعلمنا أن المودة التي جعلها الله لأبي بكر وعمر أعظم من المودة التي جعلها للآخرين.

قال: "البرهان الثالث عشر قوله: {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} ففي كتاب الفردوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: أنا المنذر وعلي الهاد بك يا علي يهتدي المهتدون. وروى نحوه أبو نعيم. وهو صريح في ثبوت الإمامة".

والجواب أنك ما ذكرت دليلا على صحته. وأجمع العلماء أن الخبر مجرد كونه في كتاب كذا لا يدل على ثبوته. وكتاب الفردوس للديلمي محشو بالموضوعات كغيره، وهذا من أقبحها ولا تحل نسبته إلى الرسول. فإن قوله "وأنت الهاد" وما بعده ظاهره أنهم يهتدون بك دوني، وهذا لا يقوله مسلم. وإن قلت معناه يهتدون به كهدايتهم بالرسول اقتضى المشاركة، والله بنص كتابه قد جعل محمدا هاديا فقال: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} وقولك: وبك يهتدي المهتدون ظاهره أن كل مسلم اهتدى فبعلي اهتدى، وهذا كذب فإن محمد ﷺ قد اهتدى به أمم ودخلوا الجنة ولم يأخذوا عن علي مثله. ثم لما فتحت الأمصار اهتدى الناس بمن سكنها من الصحابة، وعلي مقيم بالمدينة لم يروه. فكيف يسوغ أن يقال بك يهتدي المهتدون. ثم قوله تعالى: {ولكل قوم هاد} عام في كل الطوائف فكيف يجعل عليا هاديا للأولين والآخرين. ثم الاهتداء بالشخص قد يكون بغير تأمّره عليهم، كما يهتدى بالعالم، فدعواك دلالة القرآن على علي باطل.

قال: "البرهان الرابع عشر قوله: {وقفوهم إنهم مسئولون} من طريق أبي نعيم الحافظ عن الشعبي عن ابن عباس قال: مسئولون عن ولاية علي. 11 وكذا في كتاب الفردوس عن أبي سعيد عن النبي ﷺ. وإذا سئلوا عن الولاية يوم القيامة وجب أن تكون ثابتة له، فيكون هو الإمام".

قلنا: وهذا كذب، فانظر إلى سياق الآيات في قريش: {ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون} إلى قوله {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون * من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم * وقفوهم إنهم مسئولون} فهذا نص في المشركين المكذبين بيوم الدين، فهؤلاء يسألون عن التوحيد والإيمان. وأي مدخل لحب علي في سؤال هؤلاء؟ أتراهم لو أحبوه مع شركهم لكان ذلك ينفعهم؟ ومعاذ الله أن يفسر كتاب الله بمثل هذا.

قال: "البرهان الخامس عشر قوله تعالى: {ولتعرفنهم في لحن القول} روى أبو نعيم بإسناده عن أبي سعيد قال: ببغضهم عليا. 12 ولم يثبت لغيره من الصحابة ذلك فيكون هو الإمام".

قلنا: وهذا كذب على أبي سعيد. ونعلم بالاضطرار أن عامة المنافقين لم يكن ما يعرفون به في لحن القول هو بغض علي. ثم لم يكن علي بأعظم معاداة لهم من عمر، فبغضهم لعمر أوكد. وصح أن النبي ﷺ قال: «آية النفاق بغض الأنصار» 13 فكان معرفة المنافقين في لحنهم ببغض الأنصار أولى. وكذلك لا يبغض عليا إلا منافق. وعلامات النفاق كثيرة، فهذا منها ومنها الكذب ومنها الخيانة وخلف الوعد والفجور. فنقول: من أحب عليا لما يستحقه من المحبة من إيمانه وجهاده أو أحب الأنصار لذلك فذلك من علامات إيمانه. ومن أبغض عليا أو الأنصار لإيمانهم وجهادهم ونصرهم الرسول فهو منافق. أما من أحبهم لأمر طبعي مثل قرابة أو دنيا فذلك كمحبة أبي طالب النبي ﷺ. وكذا من غلا في المسيح أو في موسى أو علي فأحب من اعتقد فيه فوق مرتبته فذاك محبٌّ مُطْرٍ بما لا وجود له. فالمسيح الذي أطرته النصارى أفضل من علي، ولا ينفعهم حبه، ولا ينفع إلا الحب في الله لا الحب مع الله. وكذا من أبغض الأنصار أو أحدا من كبار الصحابة لأمر سمعه غير مطابق كان مخطئا ضالا جاهلا ولم يكن منافقا.

قال: "البرهان السادس عشر قوله تعالى: {والسابقون السابقون * أولئك المقربون} عن ابن عباس قال: سابق هذه الأمة علي".

قلنا: هذا لم يصح ولا ذكرت سنده. ولو صح لم تكن فيه حجة، والله يقول: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم} فالسابقون هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، ودخل فيهم أهل بيعة الرضوان. فكيف يقال إن سابق هذه الأمة واحد؟ وأول من سبق إلى الإسلام من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد. وإسلام الصبي فيه نزاع. وإسلام أبي بكر كان أكمل وأنفع.

قال: "البرهان السابع عشر قوله تعالى: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة} الآية. روى رزين بن معاوية في الجمع بين الصحاح الستة أنها نزلت في علي. فيكون أفضل ويكون هو الإمام".

الجواب المطالبة بصحة النقل. ورزين قد يزيد أشياء من عنده. 14 بل الذي في الصحيح ما رواه النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله ﷺ فقال رجل: لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: [لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام] إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر وقال لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ﷺ ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله} الآية. رواه مسلم.

فهذا يقتضي أن قول علي الذي فضل به الجهاد على السدانة والسقاية أصح من قول من فضل السدانة والسقاية، وأن عليا كان أعلم بالحق في هذه المسألة ممن نازعه فيها. وهذا عمر قد وافق ربه عز وجل في عدة أمور [يقول شيئا وينزل القرآن بموافقته]: مقام إبراهيم والحجاب وأسارى بدر وقوله {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن}.

وهب أن عليا اختص بمزية، فما ذلك [من خصائص الإمامة ولا] بموجب أن يكون أفضل الأمة. فإن الخضر لما علم مسائل لم يعلمها موسى لم يكن أفضل من موسى. بل هذا الهدهد قال لسليمان نبي الله: {أحطت بما لم تحط به} بل الآية بأبي بكر أولى من علي، فإن عليا كان فقيرا لا مال له وأبو بكر أنفق في سبيل الله.

قال: "البرهان الثامن عشر قوله تعالى: {إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} فعن ابن عباس قال: حرم الله كلام رسوله إلا بتقديم صدقة وبخلوا أن يتصدقوا وتصدق علي ولم يفعل ذلك غيره. وعن ابن عمر قال: كان لعلي ثلاث لأن تكن في واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم تزويجه بفاطمة وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى. وعن علي قال: ما عمل بهذه الآية غيري وفي خفف الله عن الأمة. وهذا يدل على فضيلته عليهم فيكون أحق بالإمامة".

قلنا: عمل بالآية ونسخت. وما فيها إيجاب الصدقة لكن أمرهم إذا ناجوا أن يتصدقوا ومن لم يناج لم يكن عليه أن يتصدق، ولم تكن المناجاة واجبة فلا لوم [على أحد إذا ترك ما ليس بواجب، ومن كان منهم عاجزا عن الصدقة، ولكن لو قدر لناجى فتصدق فله نيته وأجره. ومن لم يعرض له سبب يناجي لأجله لم يجعل ناقصا. ولكن من عرض له سبب اقتضى المناجاة فتركه بخلا فهذا قد ترك المستحب. ولا يمكن أن يشهد على الخلفاء أنهم كانوا من هذا الضرب ولا يعلم أنهم ثلاثتهم كانوا حاضرين عند نزول هذه الآية. بل يمكن غيبة بعضهم ويمكن حاجة بعضهم ويمكن عدم الداعي إلى المناجاة. وبتقدير أن يكون أحدهم ترك المستحب] أفكل من أدى مستحبا يكون أفضل الأمة؟ وثبت أنه ﷺ قال: «من أصبح منكم صائما» قال أبو بكر: أنا، قال: «هل فيكم من شيع جنازة» قال أبو بكر: أنا، قال: «هل فيكم من تصدق بصدقة» قال أبو بكر: أنا، فقال: «ما اجتمعت هذه الخصال لعبد إلا كان من أهل الجنة» وثبت أنه قال: «ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر» [وكذلك قوله في الصحيحين: «إن أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا لكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين باب في المسجد إلا سد إلا باب أبي بكر» وفي سنن أبي داود أن النبي ﷺ قال لأبي بكر: "أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي". وفي الترمذي وسنن أبي داود عن عمر رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله ﷺ أن نتصدق فوافق مني مالا فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته، قال: فجئت بنصف مالي فقال النبي ﷺ: «ما أبقيت لأهلك» قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: «يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك» قال: الله ورسوله، قلت: لا أسابقه إلى شيء أبدا. وفي الترمذي مرفوعا: "لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره"] وتجهيز عثمان بألف بعير أعظم من صدقة النجوى بكثير، [فإن الإنفاق في الجهاد كان فرضا بخلاف الصدقة أمام النجوى فإنه مشروط بمريد النجوى فمن لم يردها لم يكن عليه أن يتصدق.] وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ: «بينما رجل يسوق بقرة وقد حمل عليها التفتت إليه فقال إني لم أخلق لهذا إنما خلقت للحرث» فقال الناس: سبحان الله -تعجبا وفزعا- أبقرة تتكلم؟ فقال ﷺ: «فإني أؤمن به أنا وأبو بكر وعمر» وقال ﷺ: «بينما راع في غنمه غدا عليه الذئب فأخذ منها شاة فطلبه الراعي حتى استنقذها فالتفت إليه الذئب فقال من لها يوم السبع يوم ليس لها راع غيري» فقال الناس: سبحان الله، فقال: «إني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر» وما هما ثَمَّ. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رجلا من الأنصار بات به ضيف فلم يكن له إلا قوته وقوت صبيانه فقال لامرأته: نومي الصبية وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك، ففعلت فأنزلت: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}. وهذا أعظم من صدقة النجوى.

قال: "البرهان التاسع عشر قال تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} قال ابن عبد البر وأخرجه أبو نعيم أيضا: إن النبي ﷺ ليلة أسري به جمع الله بينه وبين الأنبياء ثم قال: سلهم يا محمد على ماذا بعثتم؟ قالوا: بعثنا على شهادة أن لا إله إلا الله وعلى الإقرار بنبوتك والولاية لعلي. وهذا صريح بثبوت الإمامة لعلي". 15

الجواب: لا شك أن هذا وأمثاله من الكذب. ولو لم يكن كذبا لم يسغ أن يحتج به حتى تثبت صحته. ثم كيف يسألون عما لا يدخل في أصل الإيمان؟ فقد أجمع المسلمون على أن الرجل لو آمن بالرسول وأطاعه ومات ولم يعلم أن الله خلق أبا بكر وعليا لم يضره ذلك في إيمانه. فكيف يقال إن الأنبياء يجب عليهم الإيمان بواحد من الصحابة؟ والله أخذ عليهم الميثاق لئن بعث محمدا وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، قاله ابن عباس وغيره في قوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه} الآية. ثم إن لفظ الآية {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا} ليس في هذا سؤال لهم بما بعثوا بل بما نص عليه في الآية.

قال: "البرهان العشرون قوله تعالى: {وتعيها أذن واعية} في تفسير الثعلبي: قال النبي ﷺ: سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي. وذكر نحوه من طريق أبي نعيم. 16 وهذه فضيلة لم تحصل لأحد غيره فيكون هو المقدم".

والجواب هذا موضوع. وقوله تعالى: {لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية} خطاب لبني آدم، لم يرد واحدا من الناس. فإن حمل نوح وقومه في السفينة من أعظم الآيات. نعم أذن علي واعية كآذان أبي بكر وعمر وخلق من الأمة بلا ريب. أترى أذن نبينا ﷺ ليست واعية ولا أذن الحسن والحسين وعمار وأبي ذر؟ فانتفى التفرد والأفضيلة.

فكم تبني أمرك على مقدمات واهية متلاشية كدأب أئمتك فما برحتم كذلك فما تنفق حججكم إلا على تلميذ أو صاحب هوى وعصبية، ولهذا يقال ليس للرافضة عقل ولا نقل ولا دين صحيح ولا دولة منصورة.

قال: "البرهان الحادي والعشرون سورة {هل أتى} في تفسير الثعلبي بطرق قال: مرض الحسن والحسين فعادهما جدهما وعامة العرب فقالوا: يا أبي الحسن لو نذرت على ولديك؟ فنذر صوم ثلاثة أيام وكذلك نذرت أمهما وجاريتهم فضة فبرئا، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير، فاستقرض علي ثلاثة آصع من شعير فعملت منه [فاطمة] خمسة أقراص وصلى علي مع النبي ﷺ المغرب ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ أتاهم مسكين فوقف فسأل فأعطوه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا إلا الماء، فلما كان اليوم الثاني قامت فاطمة وخبزت صاعا وجاء علي فأتى يتيم فوقف بالباب وقال: يا أهل بيت محمد يتيم من أولاد المهاجرين استشهد والدي يوم العقبة أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فأعطوه الطعام ومكثوا يومين وليلتين، فلما كان اليوم الثالث طحنت الصاع الثالث وخبزته وأتى علي فوضع الطعام إذ أتى أسير فقال: أطعموني فإني أسير محمد أطعمكم الله على موائد الجنة فأمر علي بإعطائه فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام بلياليها لم يذوقوا شيئا إلا الماء، فلما كان اليوم الرابع ونفد ما عندهم أخذ علي الحسن بيده اليمنى والحسين بيده اليسرى وأقبل على رسول الله ﷺ وهم يرتعشون كالفراخ من الجوع فانطلق معهم إلى منزل فاطمة وقد لصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها من الجوع فهبط جبريل فقال: يا محمد خذ ما هنأك الله في أهل بيتك، فأقرأه {هل أتى على الإنسان}. وهي تدل على فضائل جمة لم يسبق إليها فيكون هو الإمام".

والجواب المطالبة بصحة هذا. فإنه من وضع الطرقية لا يرتاب حافظ في وضعه. ولا أراك تنقل من مسند معتبر ولا من كتاب محدث. هذا كتاب خصائص علي رضي الله عنه للنسائي وفيه الصحيح والواهي، ولكن ما فيه مثل هذه الخرافات التي تأتي بها. [وكذلك أبو نعيم في الخصائص وابن أبي حثمة،] وكذلك في جامع الترمذي أشياء [ضعيفة] في مناقب علي وفي صفاته. ولكن حاشاهم ما أوردت أنت من الإفك. [وأصحاب السير كابن إسحاق وغيره يذكرون من فضائله أشياء ضعيفة ولم يذكروا مثل هذا ولا رووا مما قلنا فيه إنه موضوع باتفاق أهل النقل.]

ومن المعلوم أن عليا إنما تزوج بفاطمة بالمدينة و {هل أتى على الإنسان} مكية باتفاق المفسرين؛ فلاح كذب الحديث. ثم قد ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ نهى عن النذر وقال: «إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل» فالله مدح الوفاء بالنذر لا على نفس عقده، كما ينهى المرء على الظهار فإذا ظاهر وأدى الكفارة الواجبة مدح. ثم لم تكن لفاطمة جارية اسمها فضة، [ولا نعرف أنه كان بالمدينة جارية اسمها فضة،] وإنما هي بمنزلة "ابن عقب"، أسماء موضوعة لمعدومين. وقد ثبت في الصحيحين عن علي رضي الله عنه أن فاطمة رضي الله عنها سألت النبي ﷺ خادما فعلمها أن تسبح عند المنام وتكبر وتحمد مائة وقال: «هذا خير لكم من خادم» ثم ترك الأطفال ثلاثة أيام بلا غذاء خلاف الشرع وتعرض للتلف والنبي ﷺ قال: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» وأيضا فكان يمكنهم أن يواسوا السائل بقرص يكفيه. ثم قول اليتيم: "استشهد أبي يوم العقبة" هذا من الكذب الظاهر المهتوك، فليلة العقبة كانت مبايعة محضة ليست غزوة. فقبح الله من وضعه. ثم إنه لم يكن في المدينة أسير قط يسأل الناس بل كان المسلمون يقومون بالأسير الذي يستأسرونه. فدعوى المدعي أن أسراهم كانوا محتاجين إلى مسألة الناس كذب عليهم وقدح فيهم. وقد كان جعفر بن أبي طالب أكثر إطعاما للمساكين من غيره حتى قال له النبي ﷺ: «أشبهت خلقي وخلقي» وحتى قال أبو هريرة رضي الله عنه: ما احتذى أحد النعال بعد النبي ﷺ أفضل من جعفر. يعني في الإحسان والبر. ومع هذا فما هو أفضل من علي. ثم إنفاق أبي بكر أمواله في الله متواتر، [وتلك النفقة ما بقي يمكن مثلها. ولهذا] قال النبي ﷺ: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»

قال: "البرهان الثاني والعشرون قوله تعالى: {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون} من طريق أبي نعيم عن مجاهد {وصدق به} قال: علي. 17 فهذه فضيلة اختص بها فيكون هو الإمام".

قلنا: قول مجاهد وحده ليس بحجة أن لو ثبت عنه، كيف والثابت عنه خلاف هذا وهو أن الصدق القرآن والذي صدق به هو من عمل به. ثم ما ذكرت معارض بما هو أشهر منه عند المفسرين وهو أن الذي صدق به أبو بكر الصديق، ذكره ابن جرير الطبري وغيره. وبلغنا عن أبي بكر بن عبد العزيز بن جعفر الفقيه غلام الخلال أنه سئل عن هذه الآية فقال: نزلت في أبي بكر، فقال السائل: بل في علي، فقال أبو بكر الفقيه: اقرأ ما بعدها، فقرأ إلى قوله: {ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا} فقال: علي عندك معصوم لا سيئة له فما الذي يكفر عنه؟ فبهت السائل. ولفظ الآية عام مطلق دخل في حكمها أبو بكر وعلي وخلق.

قال: "البرهان الثالث والعشرون قوله تعالى: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} فمن طريق أبي نعيم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مكتوب على العرش محمد عبدي ورسولي أيدته بعلي. 18 وهذه من أعظم الفضائل فيكون هو الإمام".

والجواب أين ثبوت النقل؟ وإن احتججت بأبي نعيم وما رواه في الفضائل وفي الحلية من مناقب الصحابة مطلقا يهدم بنيانك. ونحن نشهد بالله أن هذا كذب على أبي هريرة، نجد عندنا علما ضروريا بذلك لا تقدر أن تدفعه عن قلوبنا. ومن لم يكن أعلم بنقل الآثار فلا يدخل معنا، كما أن الناقد الجهبذ يحلف على ما يعلم أنه مغشوش. ثم الله يقول: {أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم} فهذا نص في عدد مؤلف بين قلوبهم، فصرفه إلى واحد تحريف وتبديل. ثم من المعلوم بالضرورة أن النبي ﷺ ما كان قيام دينه وتأييده بمجرد موافقة علي بل ولا بأبي بكر، ولكن بالمهاجرين والأنصار.

قال: "البرهان الرابع والعشرون قوله {حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} فمن طريق أبي نعيم قال: نزلت في علي. 19 [وهذه فضيلة لم تحصل لأحد من الصحابة غيره فيكون هو الإمام]".

والجواب المنع من صحة النقل. وإنما معنى الآية إن الله حسبك أيها النبي وحسب من اتبعك من المؤمنين، كقول الشاعر:

فحسبك والضحاك، سيف مهند

وذلك أن حسب مصدر، فلما أضيف لم يحسن العطف عليه إلا بإعادة الجار، ويندر بدونه. [وقد ظن بعض العارفين أن معنى الآية إن الله والمؤمنين حسبك، ويكون من اتبعك رفعا عطفا على الله. وهذا خطأ قبيح مستلزم للكفر، فإن الله وحده حسب جميع الخلق كما قال تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}] ثم لو فرضنا أن {ومن اتبعك من المؤمنين} فاعل معطوف على الله لما كان مختصا بعلي، إذ كان وقت نزول الآية قد اتبع الرسول من المؤمنين عدد كثير جدا. ولم يقل عاقل: إن عليا وحده كان يكفي الرسول في جهاد الكفار ولو لم يكن معه إلا علي لما ظهر. فقد كان معه بمكة بضع عشرة سنة هو وطائفة وما قام الدين وانتصر إلا بعد الهجرة، بل هذا علي ومعه أكثر جيوش الإسلام ما قدر على أخذ الشام من معاوية. وهؤلاء الرافضة يجمعون بين النقيضين جهلا وظلما: يجعلون عليا رضي الله عنه أكمل البشر قدرة وشجاعة وأن الرسول كان محتاجا إليه، وأنه الذي أقام الدين ثم يصفونه بالعجز والتقية بعد ظهور الإسلام، فمن يقهر عندكم المشركين والجن والإنس في مبدأ الإسلام وقلة أهله وكثرة أعدائه كيف لا يقهر طائفة بغت عليه؟ فتبين أنه وحده لم يقهر المشركين. فلا تغتر بتلك الغزوات التي ينفق بها الطرقية فوالله ما لها وجود قاتل الله من افتراها. ونظير هذا جعل النصارى عيسى إلها ثم يجعلون أعداءه صفعوه ووضعوا الشوك على رأسه وصلبوه وأنه بقي يستغيث فلا يغيثونه. فإن كان تسمير هذا الرب برضاه وإرادته فتلك طاعة وعبادة من اليهود الذين صلبوه [فيمدحون على ذلك لا يذمون. وهذا من أعظم الجهل والكفر]. وهكذا تجد كثيرا من الشيوخ والفقراء الجهلة في غاية الدعاوي ونهاية العجز، كما صح في الحديث: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم» فذكر الفقير المختال، وفي لفظ: «وعائل مستكبر» وهذا كما يقال: "الفقر والزنطرة" فيشطح أحدهم حتى كأنه رب [ويعزل الرب عن ربوبيته والنبي عن رسالته، ثم آخرته شحاذ يطلب ما يقيته] أو متلقح على أبواب الرؤساء، كما قال الله تعالى: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون} وكل من تكبر عوقب بالذل، قال الله تعالى: {ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} فالجهل والغلو والتصديق بالأباطيل دين النصارى؛ والكبر والحسد ورد الحق والذلة والتقية دين اليهود؛ وهؤلاء الرافضة قد التقطوا الكل وتمسكوا به. اللهم اهدنا وإياهم صراطك المستقيم، فيا ما يعمل الجهل والهوى بأهله.

قال: "البرهان الخامس والعشرون قوله تعالى: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} قال الثعلبي: إنما نزلت في علي. [وهذا دليل على أنه أفضل فيكون هو الإمام]".

قلنا: هذا افتراء على الثعلبي، وإنما قال الرجل في هذه الآية {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} قال علي بن أبي طالب وقتادة والحسن: إنهم أبو بكر وأصحابه، وقال مجاهد: هم أهل اليمن. وبلا ريب إن عليا ممن يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كأبي بكر وعمر وغيرهما من السابقين والتابعين. وقوله: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} أيقول عاقل إنها نزلت في واحد واللفظ صيغة جمع.

قال: "البرهان السادس والعشرون قوله تعالى: {والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم} روى أحمد بإسناده عن ابن أبي ليلى عن أبيه: قال رسول الله ﷺ: الصديقون ثلاثة حبيب النجار مؤمن آل ياسين وحزقيل مؤمن آل فرعون وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم. [وهذه فضيلة تدل على إمامته]".

والجواب المطالبة بصحة الحديث، فما كل حديث رواه أحمد صحيح. ثم هذا لم يروه أحمد لا في المسند ولا في الفضائل؛ ولا رواه أبدا. وإنما زاده القطيعي عن الكديمي: حدثنا الحسن بن محمد الأنصاري: حدثنا عمرو بن جميع: حدثنا ابن أبي ليلى عن أخيه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه مرفوعا فذكره. ثم قال [القطيعي]: كتب إلينا عبد الله بن غنام: حدثنا الحسن بن عبد الرحمن [بن أبي ليلى] المكفوف: حدثنا عمرو بن جميع. فعمرو هذا قال فيه ابن عدي الحافظ: يتهم بالوضع، والكديمي يتهم معروف بالكذب. فسقط الحديث.

ثم قد ثبت في الصحيح تسمية غير علي صديقا. وفي الصحيحين أن النبي ﷺ صعد أحدا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال النبي ﷺ: «اثبت أحد فما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان» وصح أنه ﷺ قال: «لا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا» وأيضا فقد سمى الله مريم صديقة وقد سمى الله النبيين كذلك فقال: {إنه كان صديقا نبيا} وإخبار الله تعالى في الآية عام فقال: {والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون} فهذا يقتضي أن كل من آمن بالله ورسله فهو صديق. ثم إن كان الصديق هو الذي يستحق الإمامة فأحق الناس بهذا الاسم أبو بكر، وهو الذي ثبت له هذا الاسم والإمامة.

قال: "البرهان السابع والعشرون قوله تعالى: {الذين ينفقون أموالهم في الليل والنهار سرا وعلانية} من طريق أبي نعيم بإسناده إلى ابن عباس أنها نزلت في علي كان معه أربعة دراهم فأنفق درهما بالليل ودرهما بالنهار ودرهما سرا ودرهما علانية. 20 فلم يحصل ذلك لغيره، فيكون هو الإمام".

قلنا: أين ثبوت ما نقلت؟ كيف وهو كذب، والآية عامة في كل من ينفق أمواله، فيمتنع أن يراد بها واحد لم يكن صاحب مال. ثم ما نسبته إلى علي يمتنع عليه، إذ من فعل ذلك كان جاهلا بمعنى الآية؛ فإن الذي ينفق سرا وعلانية ينفق ليلا ونهارا، ومن أنفق ليلا ونهارا فقد أنفق سرا وعلانية، فالدرهم ينصف نصفين ولا يتحتم أن يكون المراد أربعة دراهم، ولو كان كذلك لقال: وسرا بالواو وعلانية، بل هما داخلان في الليل والنهار سواء قيل نصبا على المصدر أي إسرارا وإعلانا أو قيل على الحال مسرا ومعلنا. وهب أن عليا فعل ذلك، فباب الإنفاق مفتوح إلى [قيام] الساعة، فأين الخصوصية؟ ولو كان إنفاق أربعة دراهم خاصا به فلم قلت إنه صار بذلك أفضل الأمة؟

قال: "البرهان الثامن والعشرون [ما رواه أحمد بن حنبل] عن ابن عباس قال: ليس في القرآن {يا أيها الذين آمنوا} إلا وعلي رأسها وأميرها. ولقد عاتب الله أصحاب محمد في القرآن وما ذكر عليا إلا بخير. وهذا يدل على أنه أفضل، [فيكون هو الإمام]".

الجواب المطالبة بصحة النقل. فإنك زعمت أن أحمد بن حنبل رواه، وإنما ذا من زيادات القطيعي رواه عن إبراهيم بن شريك عن زكريا بن يحيى الكسائي: حدثنا عيسى عن علي ابن بذيمة عن عكرمة عن ابن عباس. فهذا كذب على ابن عباس، فإن زكريا ليس بثقة. والمتواتر عن ابن عباس تفضيله الشيخين على علي، وله معاتبات ومخالفات لعلي، ولما حرق علي الزنادقة قال: لو كنت أنا لقتلتهم لنهي النبي ﷺ أن يعذب بعذاب الله. أخرجه البخاري.

ثم هذا الكلام ما فيه مدح لعلي؛ فقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} فإن كان علي رأس هذه الآية فقد عاتبه الله وهو مخالف لما في حديثك من أن الله ما ذكره إلا بخير. وقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} وثبت أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة. وأمثال هذا كثير. وإنما اللفظ شامل للمؤمنين. وفي بعض الآيات آيات عمل بها ناس قبل علي، وفيها آيات لم يعمل بها علي.

وقولك: "لقد عاتب الله الصحابة وما ذكر عليا إلا بخير" كذب ظاهر، فما عاتب أبا بكر في القرآن قط. وعن النبي ﷺ أنه قال في خطبته: أيها الناس اعرفوا لأبي بكر حقه فإنه لم يسؤني يوما قط. وهذا بخلاف خطبة بنت أبي جهل، [فقد خطب النبي ﷺ الخطبة المعروفة. وما حصل مثل هذا في حق أبي بكر قط]. وأيضا فعلي لم يكن يدخل في الأمور الكبار مع رسول الله ﷺ كما كان يدخل معه أبو بكر وعمر فإنهما كانا كالوزيرين وعلي صغير في سن ولديهما. وفي الصحيحين عن علي: لما مات عمر جاء علي فقال: والله إني لأرجو أن يحشرك الله مع صاحبيك فإني كنت كثيرا ما أسمع النبي ﷺ يقول: «دخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر وذهبت أنا وأبو بكر وعمر». وقد شاور عليا في أمر يخصه كما شاوره في قصة الإفك في شأن عائشة فقال: لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وسل الجارية تصدقك. وشاور فيها أسامة بن زيد فقال: أهلك ولا نعلم إلا خيرا. فنزل القرآن ببراءتها وإمساكها كما أشار أسامة. ومع هذا فأين أسامة من علي.

قال: "البرهان التاسع والعشرون قوله {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} فمن صحيح البخاري عن كعب ابن عجرة قلنا: يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ قال: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد..» ولا شك أن عليا أفضل آل محمد، فيكون أولى بالإمامة.

قلنا: هذا حق، [وإن عليا من آل محمد الداخلين في قوله: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد» ولكن ليس هذا من خصائصه. فإن جميع بني هاشم داخلون في هذا، كالعباس وولده والحارث بن عبد المطلب وكبنات النبي ﷺ زوجتي عثمان رقية وأم كلثوم وبنته فاطمة، وكذلك أزواجه.] وفي الصحيحين: «اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته» فالصلاة على الآل عامة، فلا يختص بها علي. ثم يدخل فيها مثل عقيل بن أبي طالب وأبي سفيان بن الحارث. [ومعلوم أن دخول كل هؤلاء في الصلاة والتسليم لا يدل على أنه أفضل من كل من لم يدخل في ذلك، ولا أنه يصلح بذلك للإمامة فضلا عن أن يكون مختصا بها. ألا ترى أن عمارا والمقداد وأبا ذر وغيرهم ممن اتفق أهل السنة والشيعة على فضلهم لا يدخلون في الصلاة على الآل، ويدخل فيها عقيل والعباس وبنوه، وأولئك أفضل من هؤلاء باتفاق أهل السنة والشيعة. وكذلك يدخل فيها عائشة وغيرها من أزواجه، ولا تصلح امرأة للإمامة وليست أفضل الناس باتفاق أهل السنة والشيعة. فهذه فضيلة مشتركة بينه وبين غيره، وليس كل من اتصف بها أفضل ممن لم يتصف بها.]

"البرهان الثلاثون قوله: {مرج البحرين يلتقيان} من تفسير الثعلبي وطريق أبي نعيم عن ابن عباس قال: علي وفاطمة، {بينهما برزخ} النبي ﷺ، {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} الحسن والحسين. ولم تحصل لغيره من الصحابة هذه الفضيلة فيكون أولى بالإمامة".

الجواب أن هذا هذيان ما هو تفسير للقرآن بل هو من وضع الملاحدة. ونظيره قول الجهلة المنتسبين إلى السنة حيث فسروا وما فسروا فقالوا: {الصابرين} محمد ﷺ و {الصادقين} أبو بكر و {القانتين} عمر و {المستغفرين بالأسحار} علي. وكقولهم {محمد رسول الله والذين معه} أبو بكر {أشداء على الكفار} عمر {رحماء بينهم} عثمان {تراهم ركعا سجدا} علي. وكقولهم {والتين والزيتون} أبو بكر وعمر {وطور سينين} عثمان {وهذا البلد الأمين} علي. وكذا {والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا} أبو بكر {وعملوا الصالحات} عمر {وتواصوا بالحق} عثمان {وتواصوا بالصبر} علي. وكقول تيوس الرافضة: {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} علي، و {الشجرة الملعونة} بنو أمية.

ونحن نجد ضرورة لا تندفع أن ابن عباس ما قال هذا. ثم سورة الرحمن [مكية بإجماع المسلمين] وإنما اتصل علي بفاطمة بالمدينة. ثم تسمية هذين بحرين وهذا اللؤلؤ وهذا مرجان وجعل النكاح مرجا أمر لا تحتمله لغة العرب بوجه. ثم نعلم أن آل إبراهيم كإسماعيل وإسحاق أفضل من آل علي؛ فلا توجب الآية تخصيصا ولا أفضلية لو تنازلنا وخاطبنا من لا يعقل ما يخرج من رأسه. ثم إن الله تعالى قد ذكر {مرج البحرين} في آية أخرى فقال: {هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا} فأيهما الملح الأجاج عندك أعلي أم فاطمة؟ ثم قوله: {لا يبغيان} يقتضي أن البرزخ هو المانع من بغي أحدهما على الآخر، وهذا بالذم أشبه منه بالمدح.

قال: "البرهان الحادي والثلاثون قوله: {ومن عنده علم الكتاب} عن ابن الحنفية قال: هو علي. وفي تفسير الثعلبي عن عبد الله بن سلام قال: قلت من ذا الذي عنده علم الكتاب؟ فقال: إنما ذاك علي".

قلنا: أين صحة النقل بهذا عنهما؟ وما هما بحجة مع مخالفة العلماء، كيف وهذا كذب عليهما باطل، فلو كان المراد علي لكان النبي ﷺ يستشهد على الكفار بابن عمه، ولو شهد له بالرسالة لما كان حجة عليهم ولا حصل لهم دليل ينقادون له ولقالوا إنما الذي عند ابن عمك علي مستفاد منك فتكون أنت الشاهد لنفسك ولعله داهنك وحاباك وأين براءته من التهمة بذلك. وأما أهل الكتاب الذين عندهم علم به إذا شهدوا بما تواتر عندهم عن الأنبياء كانت شهادتهم نافعة كما لو كان الأنبياء موجودين وشهدوا له، لأن ما ثبت بالتواتر فهو بمنزلة شهادتهم أنفسهم. ولهذا نحن نشهد على الأمم مما علمناه من جهة نبينا. ثم إن الله تعالى ذكر الإستشهاد بأهل الكتاب في أماكن كقوله تعالى: {وشهد شاهد من بني إسرائيل} وقال: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك} ثم هب أن عليا هو الشاهد، أيلزم أن يكون هو أفضل الصحابة فكما أن أهل الكتاب الذين يشهدون بذلك كعبد الله بن سلام وسلمان وكعب الأحبار وغيرهم ليسوا بأفضل من الباقين فكذا هذا.

قال: "البرهان الثاني والثلاثون قوله: {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} عن ابن عباس قال: أول من يلبس من حلل الجنة إبراهيم بخلّته ومحمد لأنه صفوة الله ثم علي يزف بينهما إلى الجنان، ثم قرأ: {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه}".

قلنا: قبح الله من اختلق هذا على ابن عباس الذي نجزم بأنه ما قاله. ثم النص عام في المؤمنين فلا تثبت بها أفضلية واحد.

قال: "البرهان الثالث والثلاثون {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية} روى أبو نعيم بإسناده إلى ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله ﷺ لعلي: هم أنت وشيعتك يأتون يوم القيامة راضين ويأتي خصماؤك غضابا مفحمين. وإذا كان خير البرية وجب أن يكون الإمام". 21

والجواب المطالبة بصحته وإن كنا جازمين بوضعه. ثم هو معارض بمن قال إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الخوارج والنواصب، ويقولون من تولى عليا فهو كافر، ويحتجون على ذلك بقوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قالوا: ومن حكّم الرجال في دين الله فقد حكم بغير ما أنزل الله فيكون كافرا. وقال: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} وقال: هو وعثمان وشيعتهما مرتدون بقول النبي ﷺ: «ليذادن رجال عن حوضي كما تذاد الإبل الغريبة فأقول رب أصحابي أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» وبقوله: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» فهذا وإن كان باطلا فحجج الرافضة أبطل منه. وقد صنف الجاحظ كتابا للمروانية وذكر حججا لهم لا يمكن الرافضي نقضها، بل يحتاج إلى أهل السنة حتى ينقضوها.

قال: "البرهان الرابع والثلاثون قوله: {وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا} في تفسير الثعلبي عن ابن سيرين قال: نزلت في النبي ﷺ زوج عليا فاطمة. ولم يثبت لغير علي ذلك فكان أفضل [فيكون هو الإمام]".

قلنا: وهذا من الكذب على ابن سيرين. والسورة مكية قبل زواجه بفاطمة بدهر. والآية مطلقة، فإن تناولت مصاهرة النبي ﷺ لعلي فقد تناولت مصاهرته لعثمان مرتين ولأبي العاص مرة وتناولت مصاهرة أبي بكر وعمر للنبي ﷺ فإنه تزوج بابنتيهما، فمصاهرته ثابتة للخلفاء الأربعة، فانتفت الخصوصية.

قال: "البرهان الخامس والثلاثون قوله: {اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} أوجب الله علينا الكون مع المعلوم منهم الصدق، وليس إلا المعصوم إذ لا معصوم من الأربعة سواه. وعن ابن عباس أنها نزلت في علي".

قلنا: الصديق مبالغة في الصادق، وأبو بكر صديق بأدلة عدة، فهو أول من تناولته الآية فيجب أن نكون معه. وإن كان الأربعة صديقين لم يكن علي مختصا بذلك. بل الآية إنما نزلت في قصة كعب لما تخلف عن غزوة تبوك وتيب عليه ببركة الصدق وذلك ثابت في الصحيح. ثم إنه قال: {وكونوا مع الصادقين} ولم يقل وكونوا مع الصادق، ومعناها فاصدقوا كما يصدق الصادقون، لا تكونوا مع الكاذبين. كما قال: {واركعوا مع الراكعين} ولم يرد المعية في كل شيء، فلا يجب على الإنسان أن يكون مع الصادقين في المباحات والملبوسات ونحو ذلك. ومثل ذلك كن مع الأبرار كن مع المجاهدين أي ادخل معهم في هذا الوصف وجامعهم عليه.

قال: "البرهان السادس والثلاثون قوله تعالى: {واركعوا مع الراكعين} عن ابن عباس أنها نزلت في علي والنبي ﷺ وهما أول من صلى وركع".

قلنا: لا نسلم صحته. ثم الآية في البقرة وهي مدنية وسياقها مخاطبة بني إسرائيل، فنزلت بعد وجود خلق من الراكعين. ولو أراد الله نبيه وعليا لقال مع الراكعَيْنِ. وصيغة الجمع لا يراد بها التثنية فقط. ثم قد قال لمريم: {واركعي مع الراكعين}. ثم لو أراد الركوع معهما لانقطع حكم الآية بعد موتهما. ثم أكثر الناس على أن أبا بكر صلى مع نبي الله قبل علي.

قال: "البرهان السابع والثلاثون {واجعل لي وزيرا من أهلي} فمن طريق أبي نعيم عن ابن عباس: أخذ النبي ﷺ بيد علي وبيدي ونحن بمكة وصلى أربعا ثم رفع يديه إلى السماء فقال: اللهم إن موسى سألك وأنا أسألك أن تجعل لي وزيرا من أهلي علي بن أبي طالب أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري. قال ابن عباس: فسمعت مناديا ينادي يا أحمد قد أوتيت سؤلك". 22

قلنا: علماء الحديث يعلمون وضع هذا بالضرورة. ثم ابن عباس كان بمكة قبل الهجرة رضيعا؛ وبعد الهجرة فكان الله قد شد أزر نبيه وأغناه وأيده. وإن زعموا أن عليا كان شريك النبي ﷺ في أمره كما كان هارون شريك موسى فهذا نص في نبوة علي! وإن قالوا كان شريكه في الأمر سوى النبوة فهذا يعطي أنه ﷺ ما كان مستقلا بأمر الأمة في حياته! ثم قلنا: يا أحمق فهذا نص في الباب، فأي الشريكين تعني؟

قال: "البرهان الثامن والثلاثون {إخوانا على سرر متقابلين} من مسند أحمد بإسناده إلى زيد بن أبي أوفى قال: دخلت على رسول الله ﷺ في مسجده فذكر قصة مؤاخاة رسول الله ﷺ فقال علي: لقد ذهبت روحي وانقطع ظهري حين فعلت بأصحابك ما فعلت غيري فإن كان هذا من سخطك علي فلك العتبى، فقال [رسول الله ﷺ]: والذي بعثني بالحق ما اخترتك إلا لنفسي فأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وأنت أخي ووارثي وأنت معي في قصري في الجنة ومع ابنتي. ثم تلا رسول الله ﷺ {إخوانا على سرر متقابلين}. فلما اختص علي بمؤاخاة رسول الله ﷺ كان هو الإمام".

قلنا: هذا ما رواه أحمد قط. وإنما هو من زيادات القطيعي التي غالبها ساقط، فقال حدثنا [عبد الله بن محمد بن عبد العزيز] البغوي: حدثنا حسين بن محمد الدراع: حدثنا عبد المؤمن بن عباد: أخبرنا يزيد بن معن عن عبد الله بن شرحبيل عن زيد بن أبي أوفى. وقد أسقطت منه يا رافضي فإن فيه فقال: يا رسول الله وما أرث منك؟ قال: ما ورث الأنبياء قبلي كتاب الله وسنة نبيهم. وهو مكذوب باتفاق أهل المعرفة. وأحاديث المؤاخاة كلها كذب؛ ولا آخى النبي ﷺ بين مهاجري ومهاجري ولكن بين المهاجرين والأنصار. ثم قوله: "ووارثي" لا يستقيم فإن أراد ميراث المال [بطل قولهم إن فاطمة ورثته، وكيف يرث ابن العم مع وجود العم وهو العباس، وما الذي خصه بالإرث دون سائر بني العم الذين هم في درجة واحدة.] وإن أراد وارث علمه أو الولاية بطل احتجاجهم بقوله: {وورث سليمان داود} وبقوله: {يرثني ويرث من آل يعقوب}. وما ورثه الرسول من العلم لم يختص به علي، بل كل واحد من الصحابة حصل له نصيب. وحفظ ابن مسعود من في رسول الله ﷺ سبعين سورة. ثم ليس العلم كالمال بل الذي يرثه هذا يرثه الآخر ولا يتزاحمان بخلاف المال. ثم قد ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال لمولاه زيد: «أنت أخونا ومولانا» وقال له أبو بكر لما خطب ابنته: ألست أخاك؟ قال: بلى وابنتك حلال لي. وفي الصحيح أنه قال: «ولكن أخوة الإسلام أفضل» وفي الصحيح أيضا: «وددت أني قد رأيت إخواني» قالوا: أولسنا إخوانك؟ قال: لا، «أنتم أصحابي ولكن إخواني قوم يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني» وقال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} وقال النبي ﷺ: «المسلم أخو المسلم» وقال: «كونوا عباد الله إخوانا» ومطلق المؤاخاة لا يقتضي التماثل من كل وجه ولا المناسبة. وإذا كان كذلك لم قيل مؤاخاة علي لو كانت صحيحة توجب الإمامة أو الأفضلية. وقد ثبت أنه ﷺ قال: «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا» وصح أنه سئل: من أحب الناس إليك؟ من الرجال؟ قال: «أبو بكر» وتواتر أن عليا قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر" أخرجه البخاري. ولن يرتاب في هذه النصوص الثابتة إلا من لا يعلم أو غلبه الهوى. ونقل البيهقي بإسناده إلى الشافعي قال: لم يختلف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر وتقديمهما على جميع الصحابة. وهذا قول أبي حنيفة ومالك وأحمد والثوري والليث والأوزاعي وإسحاق وداود وابن جرير وأصحابهم من الأئمة والسلف والخلف. وهذا مالك يحكي الإجماع عمن لقيه أنهم لم يختلفوا في تقديم أبي بكر وعمر. وابن جرير ومسلم بن خالد الزنجي وابن عيينة وعلماء مكة على ذلك. وبه يقول ابن أبي عروبة والحمادان وغيرهم من علماء البصرة، وابن أبي ليلى وشريك وجماعة من علماء الكوفة التي هي دار الشيعة، وعمر بن الحارث والليث بن سعد وابن وهب من علماء [مصر، والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وغيرهما] من علماء الشام، ومن لا يحصي عددهم إلا الله تعالى.

وقال: "البرهان التاسع والثلاثون {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} الآية. ففي كتاب الفردوس عن حذيفة قال: قال رسول الله ﷺ: لو يعلم الناس متى سمي علي أمير المؤمنين ما أنكروا فضله، سمي أمير المؤمنين وآدم بين الروح والجسد قال الله: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} قالت الملائكة: بلى، فقال تعالى: أنا ربكم ومحمد نبيكم وعلي أميركم. وهذا صريح في الباب".

والجواب منع الصحة؛ بل هو كذب باتفاق أهل المعرفة والنقد. ثم إن الذي في القرآن أنه قال: {ألست بربكم قالوا بلى} لم يتعرض لذكر نبي ولا أمير، فهذا ميثاق التوحيد خاصة، ألا تراه قال {أن تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم} [فدل على أنه ميثاق التوحيد خاصة ليس فيه ميثاق النبوة فكيف ما دونها.] وأيضا فإن الميثاق أخذ على الذرية كلها، أفيكون علي أميرا على الأنبياء [كلهم من نوح إلى محمد ﷺ؟ وهذا كلام المجانين، فإن أولئك ماتوا قبل أن يخلق الله عليا، فكيف يكون أميرا عليهم. وغاية ما يمكن أن يكون أميرا على أهل زمانه؛ أما الإمارة على من خلق قبله وعلى من خلق بعده فهذا من كذب من لا يعقل ما يقول ولا يستحي مما يقول.

ومن العجب أن هذا الحمار الرافضي هو أحمر من عقلاء اليهود الذين قال الله فيهم: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا}] والعامة معذورون في قولهم: "الرافضي حمار اليهودي". والعاقل يعلم أن هذا وأمثاله باطل عقلا وشرعا. وإنما هذا نظير قول ابن عربي الطائي وأمثاله: إن الأنبياء كانوا يستفيدون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء، الذي خلق بعدهم بدهور. فغلو هؤلاء في الولاية كغلو أولئك في الإمامة. ثم يقول: هو صريح في الباب! فهل يكون هذا حجة عند أحد ويحتج بهذا في جزرة بقل؟ والله حسبك وحسبنا على ما تقول.

قال: "البرهان الأربعون قوله: {فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} أجمع المفسرون على أن عليا صالح المؤمنين. روى أبو نعيم بإسناده إلى أسماء بنت عميس: سمعت رسول الله ﷺ يقرأ: {فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين} علي بن أبي طالب. واختصاصه بهذا يدل على أفضليته، [فيكون هو الإمام] والآيات في هذا المعنى كثيرة".

والجواب أن نقلك الإجماع افتراء منك، فما أجمعوا على هذا. بل كتب التفسير بنقيض هذا، فقال مجاهد وغيره: هو أبو بكر وعمر، نقله ابن جريج وغيره. وقيل: هم الأنبياء. ولم يثبت القول بتخصيص علي به عمن قوله حجة. والحديث المذكور كذب بيقين. ثم قوله {وصالح المؤمنين} اسم يعم كل صالح من المؤمنين كما في الصحيحين عن النبي ﷺ: «إن آل فلان ليسوا بأوليائي إنما وليي الله وصالح المؤمنين» ثم يقال: إن الله جعل في الآية صالح المؤمنين مولى رسول الله ﷺ [كما أخبر أن الله مولاه؛] والمولى يمتنع أن يراد به المولى عليه، فلم يبق المراد به إلا الموالي. ومن المعلوم أن كل من كان صالحا من المؤمنين كان مواليا للنبي ﷺ قطعا، فإنه لو لم يواله لم يكن من صالحي المؤمنين، بل قد يواليه المؤمن وإن لم يكن صالحا.

وقولك: "والآيات [في هذا المعنى] كثيرة" فغاية ذلك أن يكون المتروك من جنس المذكور، والذي أوردته خلاصة ما عندك، وباب الكذب لا ينسد، ولكن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون.

وحكاية قاسم بن زكريا المطرز مشهورة أنه دخل على عباد بن يعقوب [الأسدي الرواجني] الرافضي -وكان صدوقا في الحديث على بدعته- فقال لي: من حفر البحر؟ قلت: الله تعالى، قال: هو كذلك، ولكن من حفره؟ قلت: يذكر الشيخ، فقال: حفره علي، فمن أجراه؟ قلت: يفيد الشيخ، قال: أجراه الحسين، وكان عباد مكفوفا فرأيت سيفا وجحفة فقلت: لمن هذا؟ قال: أعددته لأقاتل به مع المهدي، فلما فرغت من سماع ما أردت منه دخلت عليه فقال لي: من حفر البحر؟ قلت: معاوية وأجراه عمرو بن العاص، ثم وثبت وعدوت أصيح: أدركوا الفاسق عدو الله فاقتلوه. 23

قلت: هذه حكاية صحيحة رواها ابن مظفر عن القاسم. وقد قال محمد بن جرير: سمعت عباد بن يعقوب يقول: من لم يتبرأ في صلاته كل يوم من أعداء آل محمد حشر معهم.

قال الرافضي: "المنهج الثالث في الأدلة المسندة إلى الحديث. فمن ذلك [ما نقله الناس كافة] لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} جمع رسول الله ﷺ بني عبد المطلب في دار أبي طالب وهم أربعون رجلا وامرأتان فصنع لهم طعاما [وكان الرجل منهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق من الشراب فأكلت الجماعة كلهم من ذلك اليسير حتى شبعوا ولم يتبين ما أكلوا فبهرهم ذلك وتبين لهم أنه صادق في نبوته فقال: يا بني عبد المطلب إن الله بعثني إلى الخلق كافة وبعثني إليكم خاصة فقال: {وأنذر عشيرتك الأقربين} وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان تملكون بهما العرب والعجم وتنقاد لكم بهما الأمم وتدخلون بهما الجنة وتنجون بهما من النار شهادة أن لاإله إلا الله وأني رسول الله،] من يجبني إلى هذا الأمر ويؤازرني عليه يكن أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي، فقال علي: أنا يا رسول الله".

والجواب المطالبة بصحة النقل، فلا هو في السنن ولا في المسانيد ولا في المغازي. فأين قولك فيه: "نقله الناس كافة" وإنما هو من الموضوعات. ثم إن بني عبد المطلب لم يبلغوا أربعين رجلا وقت نزول الآية ولا كانوا أربعين في حياة الرسول أبدا. وجميع بني عبد المطلب من أولاد العباس وأبي طالب والحارث وأبي لهب فكان لأبي طالب أربعة علي وجعفر وعقيل وطالب، فطالب لم يدرك الإسلام والعباس كان أولاده رضعا أو لم يولد له، والحارث كان له ثلاثة أبو سفيان وربيعة ونوفل، وأبو لهب كان له ولدان أو ثلاثة؛ فكل بني هاشم إذ ذاك لم يبلغوا بضعة عشر، فأين الأربعون؟ ثم قوله في الحديث: "كل رجل منهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق من اللبن" كذب ليس بنو هاشم معروفين بكثرة الأكل بل ولا واحد منهم يحفظ عنه هذا. ثم لفظ الحديث ركيك يشهد القلب ببطلانه، فإنه عرضه كما زعمت على أربعين رجلا فلو فرضنا أنهم أجابوه كلهم من الذي يكون الخليفة منهم؟ ثم في الصحيحين ما يبين بطلان هذا عن أبي هريرة وغيره أن النبي ﷺ لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين} دعا قريشا فاجتمعوا فعمَّ وخصَّ فقال: «يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها» وفي الصحيحين لما نزلت هذه الآية قال: «يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا، [يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا،] يا فاطمة بنت رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، سلاني ما شئتما من مالي» وأخرجه مسلم من حديث قبيصة بن مخارق وزهير وعائشة وفيه أنه قام على الصفا فنادى.

قال: "الخبر الثاني عن النبي ﷺ قال لما نزلت {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} خطب بغدير خم وقال: أيها الناس ألست أولى منكم بأنفسكم؟ قالوا: بلى، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله، فقال عمر: بخ بخ أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. والمراد بالمولى هنا التصرف لتقدم التقرير منه بقوله: ألست أولى منكم بأنفسكم".

والجواب عن هذا قد تقدم، وأن الآية قد نزلت قبل يوم الغدير بمدة وإن كانت من المائدة. ألا ترى أن في سياقها: {والله يعصمك من الناس} وهذا شيء كان في أوائل الإسلام. ثم صدر الحديث رواه الترمذي وأحمد في المسند؛ وأما "اللهم وال من والاه إلخ" فلا ريب في كذبه. ونقل الأثرم في سننه عن أحمد أن العباس سأله عن حسين الأشقر وأنه حدث بحديثين هذا أحدهما والآخر قوله لعلي: "إنك ستعرض على البراءة مني فلا تبرأ مني" فأنكره أبو عبد الله جدا ولم يشك أن هذين كذب. وقد صنف ابن عقدة مصنفا في جمع طرق الحديث. وقال ابن حزم: الذي صح في فضائل علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى، ولأعطين الراية، وعهده أن عليا لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق، وصح نحوه في الأنصار، وأما من كنت مولاه فلا يصح. إلى أن قال: وأما سائر الأحاديث التي يتعلق بها الروافض فموضوعة يعرف ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلتها. فإن قيل: فما ذكر ابن حزم قوله: أنت مني وأنا منك، وحديث المباهلة والكساء؛ قيل: مراد ابن حزم ما يذكر فيه علي وحده. ونحن نقول إن كان النبي ﷺ قال هذا يوم الغدير فلم يرد به الخلافة قطعا، إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه دلالة ظاهرة؛ ومثل هذا الأمر العظيم ينبغي أن يبين بيانا واضحا، فالمولى كالولي، وقد قال الله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} وأن المؤمنين أولياء الله وأن {بعضهم أولياء بعض}، فالموالاة ضد المعاداة وهي تثبت من الطرفين. وإن كان أحد المتواليين أعظم قدرا وولايته إحسان وتفضل وولاية الآخر طاعة وعبادة فمعنى كونه تعالى ولي المؤمنين ومولاهم وكون نبيه وليهم ومولاهم وكون علي مولاهم هي الموالاة التي هي ضد المعاداة، والمؤمنون أيضا يتولون الله ورسوله الموالاة المضادة للمعاداة، وهذا حكم ثابت لكل مؤمن، فعلي من كبارهم يتولاهم ويتولونه، ففيه رد على الخوارج والنواصب، لكن ليس في الحديث أنه ليس للمؤمنين مولى سواه، وقد قال النبي ﷺ: «أسلم وغفار ومزينة وجهينة وقريش والأنصار موالي دون الناس ليس لهم مولى دون الله ورسوله»

قال: "[الثالث] قوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. ومن جملة منازل هارون أنه كان خليفة لموسى ولو عاش بعده لخلفه، [ولأنه خلفه مع وجوده وغيبته مدة يسيرة فعند موته تطول الغيبة فيكون أولى بأن يكون خليفة]".

الجواب هذا الحديث في الصحيحين وقاله له ﷺ في غزوة تبوك. وكان النبي ﷺ إذا غاب عن المدينة يستخلف عليها رجلا فلما كان في غزوة تبوك لم يأذن لأحد في التخلف فما تخلف عنه إلا معذور بالعجز أو منافق وأولئك الثلاثة. كذا كان الاستخلاف في غزوة الفتح أيضا وفي حجة الوداع فما علمنا من يذكر تخلف ولم يبق بالمدينة طائفة من المؤمنين. وكان هذا الاستخلاف دون الاستخلافات المعتادة منه فخرج علي إلى النبي ﷺ يبكي وقال: أتخلفني مع النساء والصبيان؟ وقيل إن بعض المنافقين طعن فيه وقال: إنما خلفه لأنه يبغضه، فبين له الرسول ﷺ إني إنما استخلفتك لأمانتك عندي وإن الاستخلاف ليس ببغض فإن موسى استخلف هارون على قومه فطيب قلبه. ولم يكن الاستخلاف كاستخلاف هارون لأن ذلك كان على كل قوم موسى وذهب هو للمناجاة، واستخلاف علي كان على من ذكرنا وسائر المسلمين كانوا مع نبيهم. وقول القائل: هذا بمنزله هذا أو مثل هذا أو كهذا، تشبيه للشيء بالشيء ويكون بحسب ما دل عليه السياق ولا تقتضي المساواة في كل شيء. ألا ترى إلى ما ثبت من قول النبي ﷺ في حديث الأسارى حين استشار أبا بكر فأشار بالفداء واستشار عمر فأشار بالقتل فقال: مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم إذ قال: {فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} الحديث. فقد جعل هذين مثلهما ولم يرد أنهما مثلهما في كل شيء، لكن فيما دل عليه السياق من الشدة واللين. وكذلك علي إنما هو بمنزلة هارون فيما دل عليه السياق وهو استخلافه في مغيبه، وهذا الاستخلاف ليس من خصائص علي ولا هو مثل سائر استخلافاته ولا أولئك المستخلفون منه بمنزلة هارون من موسى. وتخصيصه لعلي بالذكر هنا هو مفهوم اللقب وهو نوعان لقب هو جنس ولقب يجري مجرى العلم مثل زيد وأنت، وهذا المفهوم أضعف المفاهيم. ولهذا كان جماهير الأصوليين على أنه لا يحتج به. وقول القائل إنه جعله بمنزلة هارون من موسى في كل شيء إلا النبوة باطل فإن قوله: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» دليل على أنه يسترضيه بذلك ويطيب قلبه أي مثل منزلة هارون، ولو كان مثل هارون مطلقا لما أمر عليه أبا بكر في حجة سنة تسع فكان يصلي خلف أبي بكر ويطيع أمره وخصه بنبذ العهود إلى العرب فقط، فإنه كان من عادتهم أن لا يعقد العقود ولا ينبذها إلا السيد المطاع أو رجل من أهل بيته. وقولك: "ولأنه خليفته مع وجوده وغيبته مدة يسيرة فعند موته بطول الغيبة يكون أولى بأن يكون خليفة"

فيقال: هو مع وجوده وغيبته قد استخلف غير واحد سوى علي، فالاستخلاف على المدينة ليس من خصائصه وليس كل من صلح للاستخلاف في الحياة على بعض الأمة يصلح أن يكون خليفة بعد الموت.

قال: "الرابع أنه ﷺ استخلفه على المدينة مع قصر مدة الغيبة فيجب أن يكون خليفة له بعد موته وليس غير علي إجماعا ولأنه لم يعزله عن المدينة فيكون خليفته بعد موته فيها وإذا كان خليفة في المدينة كان خليفة في غيرها إجماعا".

قلنا: هذه حجة داحضة كأمثالها من جنس نسيج العنكبوت. والجواب عنها من وجوه: أحدها أن نقول على أحد القولين إنه استخلف أبا بكر بعد موته، وإن قلت [بل] استخلف عليا؛ قيل والراوندية من جنسك قالوا: استخلف عمه العباس، [وكل من له علم بالمنقولات الثابتة يعلم أن الأحاديث الدالة على استخلاف أحد بعد موته إنما تدل على استخلاف أبي بكر ليس فيها شيء يدل على استخلاف علي ولا العباس،] وإن لم يكن استخلف فقد ترك مباحا، أما الاستخلاف في الحياة فإنه نيابة ولا بد منه لكل إمام عزما، وبعد موته انقطع التكليف عنه كما قال المسيح: {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم} وقولك: "لم يعزله عن المدينة" قول زيف، فإنه بمجرد مجيء النبي ﷺ انعزل علي كما كان غيره من نواب الرسول على المدينة ينعزلون بمقدمه. وقد أرسله بعد ذا ببراءة إلى الموسم وبعثه عاملا على اليمن ثم وافاه في حجة الوداع.

قال: "الخامس ما رواه الجمهور بأجمعهم عن النبي ﷺ أنه قال لعلي: أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني".

والجواب أولا المطالبة بصحة هذا، فقد شطحت وانتفخت إذ قلت: "رواه الجمهور بأجمعهم" فإن أردت علماء الحديث فقد افتريت، وإن أردت أن أبا نعيم رواه في الفضائل والمغازلي أو خطيب خوارزم فليس حجة باتفاق. ثم بطلانه معلوم. قال ابن الجوزي في كتاب الموضوعات لما روى هذا الحديث من طريق أبي حاتم البستي: "حدثنا محمد بن سهل بن أيوب: حدثنا عمار بن رجاء: حدثنا عبيد [الله بن موسى]: حدثنا مطر بن ميمون الإسكاف عن أنس أن النبي ﷺ قال: إن أخي ووزيري وخليلي من أهلي وخير من أترك من بعدي يقضي ديني وينجز موعدي علي بن أبي طالب؛ وهذا موضوع، قال ابن حبان: مطر يروى الموضوعات لا تحل الرواية عنه".

ورواه من طريق ابن عدي بنحوه. ومداره على مطر هذا، مع أنه ليس في لفظه: "وخليفتي ووصيي" وأما في تلك الطريق: "وخليفتي في أهلي".

قال: "السادس حديث المؤاخاة روى أنس أن النبي ﷺ لما كان يوم المباهلة وآخى بين المهاجرين والأنصار [وعلي واقف يراه ويعرفه ولم يؤاخ بينه وبين أحد فانصرف باكيا فقال النبي ﷺ: ما فعل أبو الحسن؟ قالوا: انصرف باكي العين، فقالت له: فاطمة ما يبكيك؟ قال: آخى النبي ﷺ بين المهاجرين والأنصار ولم يؤاخ بيني وبين أحد، قالت: لا يخزيك الله لعله إنما ادخرك لنفسه، فقال بلال: يا علي أجب رسول الله ﷺ، فأتى فقال: ما يبكيك يا أبا الحسن؟ فأخبره فقال: إنما ادخرك لنفسي، ألا يسرك أن تكون أخا نبيك؟ قال: بلى، فأخذ بيده فأتى المنبر فقال: اللهم هذا مني وأنا منه ألا إنه مني بمنزلة هارون من موسى ألا من كنت مولاه فعلي مولاه. فانصرف فاتبعه عمر فقال: بخ بخ يا أبا الحسن أصبحت مولاي ومولى كل مسلم. فالمؤاخاة تدل على الأفضلية فيكون هو الإمام]".

قلنا: هذا موضوع باطل، والمباهلة إنما كانت سنة تسع أو نحوها والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في أول الهجرة. ثم لم تقع مباهلة لكن دعي نصارى نجران إليها فاستمهلوا حتى يشتوروا فلما خلوا قالوا: هو نبي وما باهل قوم نبيا إلا استؤصلوا، فأقروا بالجزية وذهبوا.

قال: "السابع حديث فتح خيبر على يديه" فأورده بلفظ منكر [وفيه: أروني رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله].

ولا ريب أن عليا يحبه الله؛ ففيه رد على الخوارج والأموية. قال الأشعري في كتاب المقالات: أجمعت الخوارج على كفر علي. وليس هذا الحديث مما يختص به علي بل غيره يحبه الله، وكون الفتح على يديه يدل على فضيلته لا أفضليته.

قال: "الثامن خبر الطائر روى الجمهور كافة أن النبي ﷺ أتي بطائر فقال: اللهم ائتني بأحب الخلق إليك وإلي يأكل معي من هذا الطائر، فجاء علي".

فنقول: [حديث الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل. وسئل الحاكم عن حديث الطير فقال: لا يصح. مع أن الحاكم منسوب للتشيع؛ لكن تشيعه وتشيع أمثاله من أهل العلم بالحديث كالنسائي وابن عبد البر وأمثالهما لا يبلغ إلى تفضيل علي على أبي بكر وعمر؛ فلا يعرف في علماء الحديث من يفضله عليهما.

ثم] إما أن يكون الرسول كان يعرف أن عليا أحب الخلق إلى الله تعالى أو لا. فإن كان يعرف هلا أرسل خلفه أو هلا قال: "اللهم ائتني بعلي" فأراح أنفسا من الاحتمال والرجاء الباطل. ثم في لفظه: "أحب خلقك إليك وإلي" فكيف لا يعرف أحب الخلق إليه؟ لا سيما وفي الصحاح ما يناقض هذا كقوله: «لو كنت متخذا خليلا من الأمة لاتخذت أبا بكر خليلا» وهذا متواتر جاء من حديث ابن مسعود وابن عباس وأبي سعيد وابن الزبير. والخلة كمال الحب. وثبت في الصحيح أن النبي ﷺ سئل: أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة» قيل: فمن الرجال؟ قال: «أبوها» وقال له عمر يوم السقيفة بحضرة الملأ: أنت خيرنا وأحبنا إلى رسول الله ﷺ. فما أنكره على عمر منكر. وقال الله تعالى: {وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتى ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى} وأئمة التفسير يقولون: هذا أبو بكر. فنقول: {الأتقى} قد يكون نوعا فتدخل فيه جماعة؛ وقد يكون شخصا معينا، فإما أن يكون أبا بكر أو عليا، فلا يصح أن يكون عليا لأنه قال: {الذي يؤتى ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى} وهذا وصف منتف عن علي لأن السورة مكية وعلي كان بمكة فقيرا في عيال النبي ﷺ ضمه إليه لما أصابت أهل مكة سنة، فكانت للنبي ﷺ عنده نعمة تجزى دنيوية ونعمة الدين لا تجزى بل أجرها على الله وحده. فالوصف ثابت للصديق دون علي. وعلي أتقى من غيره لكن أبو بكر أكمل في الوصف هنا منه. قال النبي ﷺ: «ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر» وقال: «إن أمنّ الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر» واشترى أبو بكر سبعة من المعذبين في الله ابتغاء وجه الله. فإن قلنا: الأتقى اسم جنس، فأبو بكر أول داخل فيه وسادة الصحابة وتابعوهم.

قال: "التاسع ما رواه الجمهور من أنه أمر الصحابة بأن يسلموا على علي وقال: إنه سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين. وقال: هذا أولى بكل مؤمن من بعدي. فيكون هو الإمام".

والجواب المطالبة بإسناد هذا وبيان صحته، فما هو في كتاب صحيح ولا في مسند معتبر. بل رواه آحاد الناس بإسناد فيه متهم بالكذب، وهو موضوع عند من له أدنى معرفة بالحديث ولا تحل نسبته إلى الرسول المعصوم. ولا نعلم أحدا هو سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين غير نبينا ﷺ. واللفظ مطلق ما قال فيه: "من بعدي" ولا في اللفظ ما يدل على ذلك. ولأن خير المسلمين والمتقين والمحجلين هم القرن الأول والرسول قائدهم بل وقائد من بعدهم في القيامة، فلمن يقود علي؟ وعندكم جمهور الأمة المحجلين كفار وفساق فكيف يقودهم؟ وقال ﷺ: «يأتون غرا محجلين يوم القيامة من آثار الوضوء» و «أنا فرطكم على الحوض» فهذا يبين أن كل من توضأ وغسل وجهه ويديه ورجليه فإنه من المحجلين. وهؤلاء جماهير أمة محمد سواكم، فإنكم لا تغسلون الأرجل، فلا تكونون من المحجلين في الأرجل، فلا يقودكم الرسول ولا علي، وإنما الحجلة في الرجل كهِيَ في اليد. قال النبي ﷺ: «ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار» ومعلوم أن الفرس لو لم يكن له لمعة في يده أو في رجله لم يكن محجلا، فمن لم يغسل إلى الكعبين لم يكن من المحجلين.

ومما يوضح أن الحديث كذب ما ثبت من أن الرسول ﷺ كان يفضل على علي أبا بكر وعمر تفضيلا ظاهرا عرفه الخاص والعام حتى المشركون. [وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون له ويثنون عليه ويصلون عليه قبل أن يرفع وأنا فيهم فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفتُّ فإذا هو عليٌّ فترحم على عمر وقال: "ما خلفت أحدا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وذلك أني كثيرا ما كنت أسمع النبي ﷺ يقول: «جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر» فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما". فلم يكن تفضيلهما عليه وعلى أمثاله مما يخفى على أحد.] ولهذا كانت الشيعة الأول مع فرط حبهم لعلي يقدمون أبا بكر وعمر عليه وإنما يفضلونه على عثمان كما قال عبد الرزاق: "كفى بي أزرا أن أحبه وأخالف قوله: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر ولو شئت أن أسمي الثالث لسميته". ولما كان يوم أحد واستظهر أبو سفيان أمير المشركين قال: أفي القوم محمد أفي القوم محمد؟ فقال النبي ﷺ: «لا تجيبوه» فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال النبي ﷺ: «لا تجيبوه» فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: «لا تجيبوه» فقال أبو سفيان لأصحابه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، فلم يملك عمر نفسه أن قال: كذبت يا عدو الله إن الذين عددت لأحياء وقد بقي لك ما يسؤوك، الحديث. أخرجه البخاري. فهذا رأس العدو لا يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة، فدل على عظمهم عند المشركين بخلاف غيرهم. [وكذلك قوله: "هو ولي كل مؤمن بعدي" كذب على رسول الله ﷺ، بل هو في حياته وبعد مماته ولي كل مؤمن، وكل مؤمن وليه في المحيا والممات. فالولاية التي هي ضد العداوة لا تختص بزمان،] فأما الولاية التي هي الإمارة فإنما يقال فيها: والي كل مؤمن.

وأما قوله لعلي: «أنت مني وأنا منك» فصحيح. وفي الحديث قال لزيد: «أنت أخونا ومولانا» وقال لجعفر بن أبي طالب: «أشبهت خلقي وخلقي» وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو جمعوا ما عندهم في ثوب ثم قسموه بالسوية، هم مني وأنا منهم» فعلمنا أن هذا اللفظ مدح ولا يدل على الإمامة. وقال في جليبيب: «هذا مني وأنا منه»

قال: "العاشر ما رواه الجمهور من قوله ﷺ: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض. وقال: أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق. وسيد أهل بيته علي. فيكون واجب الطاعة على الكل، فيكون الإمام".

قلنا: إنما لفظ الحديث في مسلم عن زيد بن أرقم قال: قام فينا رسول الله ﷺ خطيبا بخم فقال: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله» وأما قوله: «وعترتي» فهذا رواه الترمذي، تفرد به زيد بن الحسن الأنماطي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر. والأنماطي قال فيه أبو حاتم: منكر الحديث. وأخرجه الترمذي من حديث ابن فضيل: حدثنا الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن زيد بن أرقم عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض. فانظروا كيف تخلفوني فيهما". حسنه الترمذي. وأما حديث: "سفينة نوح" فغير صحيح ولا هو في شيء من الكتب المعتمدة. وقوله ﷺ: لن يتفرقا يدل على أن إجماع العترة حجة وهو قول طائفة من أصحابنا. وذكر القاضي في المعتمد: والعترة هم بنو هاشم كلهم ولد علي وولد العباس وولد الحارث بن عبد المطلب. وسيد العترة هو رسول الله ﷺ. وكان ابن عباس أفقه العترة وكان يخالف عليا في مسائل وعلي ما كان يوجب على أحد طاعته فيما يفتي به. ثم العترة ما اجتمعوا على إمامته ولا على أفضليته، بل ابن عباس -بل هو نفسه- يقولان إن أفضل الأمة أبو بكر وعمر وإن خلافتهما حق. وكذلك سائر العباسيين وأكثر العلويين والحسن والحسين وعلي بن الحسين وابنه وحفيده جعفر الصادق. والنقول بذلك متواترة عنهم. وقد صنف الدارقطني كتاب [ثناء الصحابة على القرابة وثناء] القرابة على الصحابة. ثم إجماع الأمة -والعترة بعضهم- حجة بلا نزاع، وأفضلهم أبو بكر. فإن كانت الطائفة التي إجماعها حجة يجب اتباع أفضلها مطلقا فهو أبو بكر، وإن لم يكن بطل ما ذكرتم في إمامة علي رضي الله عنه.

قال: "الحادي عشر ما رواه الجمهور من وجوب محبته وموالاته: روى أحمد في مسنده أن رسول الله ﷺ أخذ بيد حسن وحسين فقال: من أحبني وأحب هذين وأحب أباهما وأمهما فهو معي في درجتي يوم القيامة".

قلنا مجرد رواية أحمد له لا توجب صحته، مع أنه ما رواه أبدا، وإنما زاده القطيعي في كتاب الفضائل. وذكره ابن الجوزي في الموضوعات من رواية علي بن جعفر عن موسى بن جعفر. وهل يقول رسول الله ﷺ هذه المجازفة أصلا من كون المسلم الخطاء يصير في درجة المصطفى بمجرد الحب؟ قال: "وروى ابن خالويه عن حذيفة قال: قال رسول الله ﷺ: من أحب أن يتمسك بقضيب الياقوت الذي خلقه الله بيده ثم قال له كن فكان فليتول عليا من بعدي".

فهذا من كذب الطرقية فما أركَّ لفظه مع عدم فائدته، فكيف يقال: خلقه بيده، ثم قال له: كن فكان؟ بل قد جاء في الأثر: أن الله لم يخلق بيده إلا آدم والقلم وجنة عدن ثم قال لسائر الخلق كن فكان. قال: "وعن أبي سعيد مرفوعا أنه قال لعلي: حبك إيمان وبغضك نفاق وأول من يدخل الجنة محبك وأول من يدخل النار مبغضك".

قلنا: وهذا من المكذوبات. فهل يقول مسلم إن الخوارج والنواصب يدخلون النار قبل فرعون وأبي جهل ورءوس الكفر؟ أم يقول مسلم إن أول من يدخل الجنة قبل الأنبياء غلاة الإسماعيلية وكذبة الرافضة وفسقه الإمامية؟ وهذا من جنس قول الناصبي أن لو قال: من أحب يزيد والحجاج، أو قول الخارجي: من أحب ابن ملجم دخل الجنة، ومن أبغضهم دخل النار بهذا الحب والبغض.

قال: "وروى أخطب خوارزم بإسناده عن أبي ذر: قال رسول الله ﷺ: من ناصب عليا الخلافة فهو كافر وقد حارب الله ورسوله. وعن أنس قال كنت عند النبي ﷺ فرأى عليا مقبلا فقال: أنا وهذا حجة الله على أمتي يوم القيامة. وعن معاوية بن حيدة القشيري قال: سمعت النبي ﷺ يقول [لعلي]: لا تبال من مات ببغضك أن يموت يهوديا أو نصرانيا. فإذا رأينا المخالف يورد مثل هذه الأحاديث ونقلنا نحن أضعافها عن رجالنا الثقات وجب علينا المصير إليها وحرم العدول عنها".

والجواب أنا نتنزل ونطالب بصحة النقل، فإن مجرد رواية الموفق خطيب خوارزم لا تدل على الثبوت، كيف وقد حشا تأليفه بالموضوعات التي يتعجب منها المحدث الصادق ويقول: سبحانك هذا بهتان عظيم. ومن كان خبيرا بما جرى ومهر في الآثار علم باضطرار أن هذا وأمثاله مما ولده الكذابون بعد انقراض عصر الصحابة والتابعين. ونقول: علمنا بالتواتر أن المهاجرين والأنصار كانوا يحبون الله ورسوله وأن الرسول كان يحبهم ويتولاهم أعظم من علمنا بهذه الأخبار الملفقة وأن الإمام بعده أبو بكر باتفاق من أولئك السادة، فكيف يجوز رد ما علمناه يقينا بأخبار لا نعلم صدقها، كيف وقد علمنا أنها كذب وأنها لا توجد في كتاب معتمد بإسناد مقارب؟ ثم هذا كتاب الله يشهد في غير موضع بأن الله رضي عن المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ورضوا عنه وبأنه رضي {عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} وقال تعالى: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا} الآية وقال: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار} وأمثال ذلك فكيف يجوز رد هذه النصوص بأخبارك المفتراة، ثم منها ما يقدح بعلي ويوجب أنه مكذب بالله ورسوله. أما الذين ناصبوه الخلافة إذا قلت هم كفار، فما عمل هو بموجب النص بل كان يجعلهم هو مسلمين. وشر من قاتلهم الخوارج، ومع هذا فما حكم فيهم بحكم الكفار بل حرم أموالهم وسبيهم. ولما قتله ابن ملجم قال إن عشت فأنا ولي الدم، ولم يقتله. ولو كان ارتد لبادر إلى قتله. وتواتر عنه أنه نهى عن اتباع مدبر أهل الجمل أو أن يجهز على جريحهم أو تغنم أموالهم؛ فإن كانوا كفارا بأحاديثك هذه فعلي أول من كذب بها ولم يعمل بمقتضاها. وكذلك أهل صفين كان يصلي على قتلاهم ويقول فيما بلغنا عنه: إخواننا بغوا علينا طهرهم السيف. ونعلم بالاضطرار أن عليا ما كفر الذين قاتلوه. وكذا لو كانوا كفارا عند السيد الحسن لما حل له أن يسلم إليهم الخلافة طوعا منه في عزه ومنعته وكثرة جيشه، ولكن بان سؤدده بقول جده فيه: «إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» أخرجه البخاري. وعندك أنه إنما أصلح الله به بين المؤمنين والمرتدين. ثم إنكم تدعون أن الإمام المعصوم لطف من الله لعباده؛ فعلى ما زعمت إنما كان نقمة لا لطفا ورحمة، فإن الذين خالفوه صاروا مرتدين والذين وافقوه مقهورين منافقين أذلاء، فأي مصلحة في ذلك؟ وأنتم تقولون إن الله يجب عليه أن يفعل الأصلح للعباد، وهو تعالى يمكن الخوارج حتى كفروه وقاتلوه، ويجعل الأئمة المعصومين تحت القهر والخوف والتقية بمنزلة أهل الذمة، بل أهل الذمة يظهرون دينهم في الجملة، فأين اللطف والمصلحة التي أوجبتها على الله تعالى؟ ثم تزعم أنهم حجج الله على عباده وأن لا هدى إلا منهم ولا نجاة إلا بمتابعتهم وخاتمهم قد غاب من دهور لم ينتفع به أحد في دينه ولا دنياه؟ فصح أن الرفض ما وضعه إلا زنديق، ولهذا فإن صاحب دعوة الباطنية أول ما يدعو المستجيب إلى التشيع فإذا طمع فيه قال: علي مثل غيره، فدعاه إلى القدح فيه فإذا استوثق منه دعاه إلى القدح في الرسول ثم إلى إنكار [الصانع]. وكل عاقل يعلم أن أهل الدين والجمهور ليس لهم غرض والله لا مع علي ولا مع غيره، ولا غرضهم تكذيب نبيهم ولا رد ما أمر به. ولو علموا أن الرسول نص لهم على علي لكانوا أسبق شيء إلى أمره وإلى التصديق به. غاية ما يقدر أنه خفي عليهم هذا الحكم، فكيف يكون من خفي عليه جزء من الدين مثل اليهود والنصارى؟ بل يكفي من وضع ما جئت به قول المصطفى ﷺ: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» نعم ومن كتم ما نص عليه الرسول مراغمة لله ورسوله فهو من أصحاب النار. وقولك: "ونقلنا أضعافها عن رجالنا الثقات"

فنقول: نحن ننقد رجالنا من أهل السنة والحديث نقدا لا مزيد عليه، ولنا مصنفات كثيرة جدا في تعديلهم وضعفهم وصدقهم وغلطهم وكذبهم ووهمهم لا نحابيهم أصلا مع صلاحهم وعبادتهم، ونسقط الاحتجاج بالرجل منهم لكثرة غلظه وسوء حفظه ولو كان من أولياء الله. وأنتم حد الثقة عندكم أن يكون إماميا سواء غلط أو حفظ أو كذب أو صدق، فغاية رجالكم أن يكونوا مثل رجالنا فيهم وفيهم. فإذا كان من المعلوم بالاضطرار أن أهل السنة فيهم كذابون -وأنتم أكذب منهم بكل حال- حرم علينا العمل بالأحاديث حتى ننظر في أسانيدها. فمن أين لك يا مغتر أن توثق من لا تعرفه ولا تعرف أن تتهجى اسمه بل ولا ذكر في الثقات. وغالب ما في أيديكم صحف وأخبار على ألسنتكم مكذوبة أو لم تعلم صحتها، كدأب أهل الكتابين سواء. وكذب الرافضة مما يضرب به المثل.

ونحن نعلم أن الخوارج شر منكم، ومع هذا فما نقدر أن نرميهم بالكذب، لأننا جربناهم فوجدناهم يتحرون الصدق لهم وعليهم. وأنتم فالصادق فيكم شامة. قال ابن المبارك: "الدين لأهل الحديث والكلام والحيل لأهل الرأي والكذب للرافضة". فأهل السنة والحديث لا يرضون بالكذب ولو وافق أهواءهم، فكم قد روي لهم من فضائل أبي بكر وعمر وعثمان بل ومعاوية وغيرهم أحاديث بالأسانيد يرويها مثل النقاش والقطيعي والثعلبي والأهوازي وأبي نعيم والخطيب وابن عساكر وأضعافهم ولم يقبل منها علماء الحديث شيئا ويبينون الكذب منه، بل إذا كان في إسناد الحديث واحد مجهول الحال توقفوا في الحديث. وأنتم شرط الحديث عندكم أن يوافق أهواءكم غثا كان أو سمينا، وإن أَتيتم بنص ثابت فلا يدل على ما قلتم. ونحن عمدتنا نصوص القرآن وما يثبت من السنة أو أجمع عليه المسلمون سواكم، فإذا جاءنا ما يناقض ذلك رددناه. قال أبو الفرج بن الجوزي: فضائل علي الصحيحة كثيرة غير أن الرافضة لا تقنع فوضعت له ما يضع لا ما يرفع وحوشيت حاشيته من الاحتياج إلى الباطل.

وأنت أيها الرافضي لم تورد كل ما قيل ونحن نعرف أحاديث عدة ساقطة أدل على مقصودك. فمن أماثل الموضوعات ما رواه النسائي في كتاب خصائص علي من حديث العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدي قال: قال علي: أنا عبد الله وأخو رسوله وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كاذب صليت قبل الناس سبع سنين. ورواه أحمد في الفضائل وفي رواية له: ولقد أسلمت قبل الناس بسبع سنين. قال ابن الجوزي: هذا موضوع والمتهم به عباد، قال ابن المديني: وكان ضعيف الحديث، والمنهال تركه شعبة، وقال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن هذا الحديث فقال: اضرب عليه فإنه حديث منكر. ثم نقول: علي كان أبر وأصدق من أن يقول هذا، فالناقل إما متعمد الكذب أو أخطأ سمعه. ونظير هذا ما رواه عبد الله في المناقب: حدثنا يحيى بن عبد الحميد: حدثنا شريك عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله؛ وأخبرنا أبو خيثمة: حدثنا أسود بن عامر: حدثنا شريك عن الأعمش عن المنهال عن عباد عن علي قال: لما نزلت {فأنذر عشيرتك الأقربين} دعا رسول الله ﷺ رجالا من أهل بيته إن كان الرجل لآكلا جذعة ولشاربا فرقا إلخ. وهذا كذب على علي لم يروه قط وكذبه ظاهر من وجوه. وقد رواه أحمد في الفضائل: حدثنا عفان: حدثنا أبو عوانة عن عثمان بن المغيرة عن أبي صادق عن ربيعة بن ناجد عن علي. وساق ابن الجوزي من طريق أجلح عن سلمة بن كهيل عن حبة بن جوين: سمع عليا يقول: أنا عبدت الله مع رسوله قبل أن يعبده رجل [من هذه الأمة] خمس سنين أو سبع سنين. قال ابن الجوزي: وحبة لا يساوي حبة، قال يحيى: ليس بشيء، وقال السعدي: غير ثقة. وأما الأجلح فقال أحمد: وقد روى غير حديث منكر. قال أبو الفرج: ومما يبطل هذه الأحاديث أنه لا خلاف في تقدم إسلام خديجة وأبي بكر وزيد وأن عمر أسلم في سنة ست من النبوة بعد أربعين رجلا، فكيف يصح أن عليا صلى قبل بسبع سنين. ثم ذكر حديثا مرفوعا أن عليا الصديق الأكبر وهو من كذب أحمد بن نصر الذراع؛ وحديثا يقول فيه: أنا أقومهم بأمر الله وأقسمهم بالسوية. قال وهو موضوع المتهم به بشر بن إبراهيم رماه بالوضع ابن عدي وابن حبان. وحديثا يقول فيه: أنت أول من يصافحني يوم القيامة وأنت الصديق الأكبر وأنت الفاروق وأنت يعسوب المؤمنين. وقال: هذا موضوع وفيه عباد بن يعقوب وعلي بن هاشم وغيرهما ممن تكلم فيه، وفي طريقه الآخر عبد الله بن داهر قال ابن معين: لا يكتب عنه.

فصل

وهنا طريق يمكن سلوكها لمن [لم تكن] له معرفة بالأخبار، فإن كثيرا من العلماء يتعذر عليهم التمييز بين الصدق والكذب ومن جهة الإسناد وإنما ينهض بذلك جهابذة الحفاظ:

نقدر أن الأخبار [المتنازع فيها] لم تكن، فنرجع إلى ما هو معلوم بالتواتر أو بالعقل والعادات أو ما دلت عليه النصوص المتفق عليها، فنقول: من المتواتر أن أبا بكر لم يطلب الخلافة برغبة ولا برهبة فلا بذل فيها مالا ولا شهر عليها سيفا ولا كانت له عشيرة ضخمة ولا عدد من الموالي تقوم بنصره كما جرت عادة طلاب الملك، بل ولا قال بايعوني، وإنما أشار ببيعة عمر أو بيعة أبي عبيدة؛ ثم من تخلف عن مبايعته لم يؤذه ولا أكرهه عليها كسعد [بن عبادة]، ثم الذين طائعين بايعوه هم الذين بايعوا رسول الله ﷺ تحت الشجرة الذين {رضي الله عنهم} فقاتل بهم المرتدين وفارس والروم وثبتَّ الإسلام وأهله، ولا أكل منها ولا لبس إلا كعادته وعيشه، فلما جاءه اليقين خرج منها أزهد مما دخل فيها لم يستأثر منها بشيء عنهم ولا آثر بها قرابة، بل نظر إلى أفضلهم في نفسه فولاه عليهم. فأطاعوه كلهم، ففتح الأمصار وقهر الكفار وأذل أهل النفاق وبسط العدل ووضع الديوان والعطاء، لازما لعيش مَن قبله في مأكله ومشربه وملبسه حتى خرج منها شهيدا لم يتلوث لهم بمال ولا ولى أحدا من أقاربه ولاية. هذا أمر يعرفه من يعرف وينصف.

ثم بايعوا عثمان كلهم طوعا منهم، فسار وبنى على أمر قد استقر قلبه بسكينة وحلم [وهدى ورحمة] وكرم ولين، لكن لم تكن فيه قوة عمر ولا سياسته التي بهرت العقول ولا كمال عدله الذي ملأ الوجود ولا فرط زهده الذي ما ينكره إلا جاهل، فطمع فيه الناس بعض الطمع وتوسعوا في الدنيا وكثرت عليهم الأموال ودخل بسبب توليته أقاربه عليه الداخل وأنكرت منهم أمور ما اعتادها الناس قبله وتولد من رغبة بعض الناس في الدنيا وضعف خوفهم من الله تعالى ومنه ومن ضعفه هو بالنسبة إلى كمال الذين قبله ومما حصل من أقاربه في الولاية والمال ما استحكم به الشر وحرك الفتنة، حتى قتل مظلوما وذبحوه صبرا.

فتولى علي رضي الله عنه والفتنة قائمة واتُّهم بالتخلي عن عثمان حتى قُتل وبعضهم اتهمه بدمه والله يعلم براءته من دمه، ثبت عنه أنه لم يرض بقتله ولا أعان عليه، فلم تصف قلوب كثير منهم ولا أمكنه هو قهرهم حتى يطيعوه ولا اقتضى رأيه الكف عن القتال حتى ينظر ما يأول إليه أمره كما أشار عليه ولده الحسن، فظن أن الطاعة تحصل والأمة تجتمع بالقتال فما زاد الأمر إلا شدة وافتراقا حتى خرج عليه من جنده ألوف ومرقوا وكفروه وقاتلوه -قاتلهم الله- حتى كان في آخر أمره يطلب هو أن يكف عن قتال من لم يطعه فكان آخر الخلفاء الراشدين الذين ولايتهم خلافة النبوة.

ثم آل الأمر إلى معاوية أول الملوك كما قال ﷺ: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا» وسيرة معاوية من أجود سير الملوك بالنسبة.

فإذا جاء القادح فقال في أبي بكر وعمر: كانا طالبين للرياسة مانعين للحقوق ظلما المنصوصَ عليه ومنعا أهل البيت إرثهم، أوشك أن يقول قادح النواصب نحوا من ذلك في علي إنه قاتل على الرياسة وسفك الدماء ولم ينل غرضه. فإذا كنا ندفع من يقدح في علي بهذه الشبهة، فلأن ندفع من يقدح في أبي بكر وعمر بطريق الأولى لأنهما أبعد عن التهمة إذ لم يقاتلا على الإمارة وأطاعهما علي والكبار. وإذا كنا نظن بعلي أنه كان قاصدا الحق غير مريد علوا ولا فسادا في الأرض فلأن نظن ذلك بهما بطريق الأولى. فدع عنك المكابرة والهوى.

طريق آخر، وهو أن يقال: دواعي المسلمين بعد موت نبيهم كانت متوجهة إلى اتباع الحق قطعا، وليس لهم ما يصرفهم عن الحق وهم قادرون على ذلك. وإذا حصل الداعي إلى الحق وانتفى الصارف مع القدرة وجب الفعل. فعلم أن المسلمين خير القرون اتبعوا الحق فيما فعلوه لأنهم خير الأمم، أكمل الله لهم الدين وأتم عليهم النعمة. بايعوا أبا بكر تدينا لا لرغبة ولا لرهبة، فلو فعلوا بموجب الطبع لقدموا عليا أو العباس لشرف بني هاشم على بني تيم. ولما قيل لأبي قحافة وكان بمكة شيخا كبيرا إن ابنك ولي الخلافة قال: ورضيت بنو أمية وبنو هاشم وبنو مخزوم؟ قالوا: نعم، فعجب وقال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. لعلمه بأن بني تيم أضعف القبائل، والإسلام إنما يقدِّم بالتقوى لا بالنسب.

طريق آخر. تواتر أن الرسول ﷺ قال: «خير هذه الأمة قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» فخير الأمم بلا نزاع القرن الأول. ومن تأمل حال المسلمين في القرن الثاني بالنسبة إلى الأول علم تباين ما بينهما. فإن كان القرن الأول قد جحد حق الإمام المنصوص عليه ومنعوا آل نبيهم ميراثهم وبايعوا فاسقا ظالما ومنعوا عادلا عالما عنادا ودفعا للحق فهؤلاء شر الخلق وهذه الأمة شر أمة أخرجت للناس.

طريق آخر. عرف بالتواتر الذي لا يخفى أن أبا بكر وعمر وعثمان كان لهم بالنبي ﷺ اختصاص عظيم وخلطة وصحبة ومصاهرة لهم، وما عرف عنه أنه كان يذمهم ولا يمقتهم بل يثني عليهم ويحبهم. فإما أن يكونوا على الاستقامة ظاهرا وباطنا معه وبعده أو لا. فالأول هو المطلوب والثاني إما أنه علم وداهنهم أو لم يعلم؛ وأيهما قُدر فهو من أعظم القدح في الرسول ﷺ، وإن كانوا انحرفوا بعد الاستقامة فهذا خذلان من الله لنبيه في خواص أمته. فمن قد أَخبر بما سيكون أين كان عن علم ذلك؟ فأين الاحتياط للأمة حتى لا يولى هؤلاء؟ ومن وعد أن يظهر دينه على الأديان كيف يكون أكابر خواصه مرتدة؟ هذا من أعظم القدح في الرسول والطعن فيه ليقول الباطني والزنديق: رجل سوء كان له أصحاب سوء ولو كان صالحا لكانوا مثله. [ولهذا قال أهل العلم]: إن الرفض دسيسة الزندقة.

وطريق آخر أن يقال الأسباب الموجبة لولاية علي إن كان هو الأولى قوية والصوارف منتفية والقدرة موجودة. ومع توفر الدواعي والقدرة وانتفاء الصوارف يجب الفعل. وذلك أن عليا هو ابن عم نبيهم وأفضلهم نسبا وله السبق والجهاد والصهر مع انتفاء عداوتهم له، ولم يقتل أحدا من بني تيم ولا من بني عدي، بل الذي قتل منهم بنو عبد مناف، وكانوا يوالونه ويختارون ولايته لقربهم منه، وكلمه في ذلك أبو سفيان. فلو كان الرسول ﷺ نص على ولايته أو كان هو الأفضل الأولى كان ذلك موجبا لانبعاث إرادتهم إلى ولايته والحالة هذه. ولو قدر أن الصارف كان في نفر قليل فغالبهم لم يكن لهم صارف [يصرفهم عنه بل هم قادرون على ولايته. ولو قالت الأنصار علي أحق بها من سعد ومن أبي بكر ما أمكن أولئك النفر من المهاجرين أن يدافعوهم ولقام أكثر الناس مع علي،] بل جمهور الذين في قلوبهم مرض يبغضون عمر لشدته عليهم، فالقياس أن لا ينقادوا لبيعته، وبعد هذا فلما استخلفه أبو بكر أطاعوه كلهم حتى إن طلحة قال لأبي بكر: ماذا تقول لربك وقد وليت علينا فظا غليظا؟ فقال: أجلسوني أبالله تخوفوني أقول وليت عليهم خيرهم. فإذا فرضنا أن غالب المسلمين قاموا مع علي فمن الذي يغلبه؟ هب أنهم لو قاموا ولم يغلبوا أما كانت الدواعي المعروفة في مثل ذلك توجب القيام أو أن يجري في ذلك قيل وقال ونوع جدال؟ أما ذلك أولى بالكلام منه في تولية سعد؟ وإذا كان الأنصار بشبهة ما طمعوا أن يتأمر سعد فمن يكون معه الحق وفيه النص من الرسول كيف لا يكون أعوانه أطمع في تأميره؟ فإذا لم يتكلم أحد ولم يدع داع إلى علي لا هو ولا غيره واستمر الأمر إلى أن وصلت النوبة إليه فقام هو وأعوانه وقاتل ولم يسكت حتى جرى ما جرى، علم بالاضطرار أن سكوتهم أولا كان لعدم المقتضى لا لوجود المانع. وقد كان أبو بكر أبعد من الممانعة بكثير من معاوية لو كان لعلي حق منصوص. ولو قام أبو بكر وهو ظالم يدافع عليا وهو محق لكان الشرع والعقل يقضي أن يكون الناس مع المحق المعصوم المنصوص عليه على أبي بكر المعتدي الظلوم لو كان الأمر كذلك.

فاسلك التحقيق ودع بنيات الطريق، فالسفسطة أنواع: أحدها النفي والجحد والتكذيب إما بالوجود وإما بالعلم به؛ والثاني الشك والريب وقول لا ندري فهذه طريقة اللاأدرية فلا ينفون ولا يثبتون فهم في الحقيقة قد نفوا ما يعلم؛ الثالث قول من يجعل الحقائق تبعا للعقائد فيقول من اعتقد العالم قديما فهو قديم ومن اعتقده محدثا فهو محدث. وإذا كان كذلك فالقدح فيما عُلم من أحوال الرسول وخلفائه الراشدين وسيرتهم بأخبار ترويها الرافضة وتكذبهم فيها جماهير الأمة من أعظم السفسطة. وكذلك من روى لمعاوية وأصحابه من الفضائل ما يوجب تقديمه على علي وأصحابه كان مسفسطا كاذبا. قال: "المنهج الرابع في الأدلة الدالة على إمامته [من أحواله]" فذكر أنه كان أزهد الناس وأعبدهم وأعلمهم وأشجعهم وذكر أنواعا من خوارق العادات له.

فيقال: بل كان أزهد الناس بعد رسول الله ﷺ أبو بكر فإنه كان له مال يتجر به فأنفقه كله في سبيل الله. وولي الخلافة فذهب إلى السوق على يديه برود يبيع ويتكسب، فأخبر بذلك المهاجرون ففرضوا له شيئا، فاستحلف عمر أبا عبيدة فخلف له أنه يباح له أخذ درهمين كل يوم. قال ابن زنجويه: كان علي فقيرا في أول الإسلام ثم استفاد الرباع والمزارع والنخيل واستشهد رضي الله عنه وعنده تسع عشرة سرية وأربع نسوة. وقال شريك عن عاصم بن كليب عن محمد بن كعب القرظي قال: قال علي: لقد رأيتني على عهد رسول الله ﷺ أربط الحجر على بطني من شدة الجوع وإن صدقة مالي لتبلغ اليوم أربعين ألفا. وروى إبراهيم بن سعيد الجوهري فقال: لتبلغ أربعة آلاف [دينار]. فأين هذا من هذا وإن كانا زاهدين. وتلا عمر أبا بكر في زهده وكذا أبو عبيدة وأبو ذر، بخلاف غيرهم من الصحابة فإنهم توسعوا في الدنيا وتمتعوا واتخذوا الأموال. قال ابن حزم: من جملة عقار علي ينبغ كانت تغل كل سنة ألف وسق تمر سوى زرعها. والزهد عزوف النفس عن حب الصوت وعن المال واللذات وعن الميل إلى الولد والحاشية فلا معنى للزهد إلا هذا. وأبو بكر قد أنفق ماله قيل كان أربعين ألفا حتى بقي في عباءة قد خللها بعود إذا جلس افترشها، وغيره اقتنى الرباع والضياع. ثم إنه ولي الخلافة فما اتخذ جارية ولا توسع في مال، وأما علي فتوسع فيما يحل له ومات عن زوجات وتسع عشرة أم ولد وعبيد وخدم وتوفي عن أربعة وعشرين ولدا من ذكر وأنثى وترك لهم من العقار ما أغناهم. هذا أمر مشهور لا يقدر أحد على إنكاره. ثم قد كان لأبي بكر من الولد مثل عبد الرحمن ومن القرابة مثل طلحة أحد العشرة، فما استعمل هذا ولا هذا في جهاته وهي مكة والمدينة واليمن وخيبر والبحرين وحضرموت وعمان والطائف واليمامة. ثم جرى عمر على مجراه ولم يستعمل من بني عدي أحدا على سعة عمله، وقد فتح الشام ومصر والعراق إلى خراسان، إلا النعمان بن عدي العدوي وحده على ميسان ثم أسرع عزله، وكان فيهم مثل سعيد بن زيد أحد العشرة وأبي جهم بن حذيفة وخارجة بن حذافة ومعمر بن عبد الله وولده عبد الله بن عمر. ثم كل منهما لم يستعمل ابنه من بعده على الأمة. وقد رضي بابن عمر رضي الله عنهما بعض الناس وكان أهلا لذلك، ولو استخلفه لما اختلف عليه أحد. ووجدنا عليا استعمل أقاربه ابن عباس على البصرة وعبيد الله بن عباس على اليمن وقثما ومعبدا ابني عباس على الحرمين وابن أخته جعدة بن هبيرة على خراسان وابن امرأته وأخا ولده محمد بن أبي بكر على مصر ورضي ببيعة المسلمين لابنه بعده؛ ولسنا ننكر أهليته وزهده وعظمته ولا أهلية عبد الله بن عباس للخلافة ولكنا نقول إن أبا بكر وعمر أتم زهدا وأعزف عن الدنيا من زاهد يفعل المباحات. قال: "وعلي عليه السلام قد طلق الدنيا ثلاثا وكان قوته جريش الشعير ولبسه خشن الثياب ورقع مدرعته وكان حمائل سيفه ليفا وكذا نعله. وروى أخطب خوارزم عن عمار قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: يا علي إن الله زينك بالزهد في الدنيا وبغضها إليك وحبب إليك الفقراء فرضيت بهم أتباعا ورضوا بك إماما طوبى لمن أحبك وصدق عليك والويل لمن أبغضك وكذب عليك. الحديث. وقال سويد بن غفلة دخلت على علي فوجدت بين يديه صفحة فيها لبن أجد ريحه من شدة حموضته وفي يده رغيف أرى قشار الشعير في وجهه. الحديث بطوله. وقال ضرار: دخلت على معاوية بعد قتل علي فقال لي: صف لي عليا، فقلت: كان بعيد المدى شديد القوى يقول فضلا ويحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه [وتنطق الحكمة عن نواحيه] يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس بالليل [ووحشته]، كان غزير العبرة طويل الفكرة يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما قشب وكان فينا كأحدنا -وذكر أشياء- فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن لقد كان والله كذلك، فما حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها".

والجواب لا نزاع في زهد علي لكنه لا يبلغ زهد أبي بكر كما ذكرنا. وبعض ما أوردته كذب عليه ولا مدح فيه. أما كونه قد طلقها ثلاثا فمن المشهور عنه أنه قال: "يا صفراء يا بيضاء قد طلقتك ثلاثا غري غيري لا رجعة لي فيك" فهذا لا يدل على أنه أزهد ممن لم يقل هذا، فإن نبينا وعيسى وغيرهما ممن هو أزهد الأنبياء لم يقولوا هذا، والسكوت أجمل وأقرب إلى الإخلاص.

وقولك: "كان يقتات خبز الشعير بلا أدم" فكذب عليه، ثم لا مدح فيه. فالرسول ﷺ إمام الزهاد وكان يأكل ما اتفق، أكل لحم الغنم ولحم الدجاج والحلوى والعسل وكان يحب ذلك وإذا حضر طعام فإن اشتهاه أكل وإلا تركه، فلا يرد موجودا ولا يكلف مفقودا، وربما ربط الحجر على بطنه من الجوع. وفي الصحيحين أن رجالا قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال آخر: أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال آخر: أما أنا فلا أتزوج، وقال آخر: أما أنا فلا آكل اللحم، فبلغ النبي ﷺ فقال: «لكني أصوم وأفطر وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني». فكيف تظن بعلي أنه رغب عن سنة ابن عمه؟ بل النقل عنه بخلاف ما أوردت.

وقولك في حديثك: "كان حمائل سيفه ونعله ليفا" فكذب. ثم قد كان نعل سيف النبي ﷺ فضة. والله قد يسر ووسع عليهم، فأي مدح في أن يعدل عن السيور مع كثرتها بالحجاز؟ وإنما يمدح هذا عند العدم كما قال أبو أمامة: لقد فتح البلاد أقوام كانت خطم خيلهم الحبال وركبهم العلابي. رواه البخاري. قال: "وبالجملة زهده لم يلحقه أحد فيه ولا سبق إليه. وإذا كان كذلك كان هو الإمام".

قلنا: كلا المقدمتين باطلة؛ لم يكن أزهد من أبي بكر، ولا كل من كان أزهد كان أحق بالإمامة. قال عبد الله بن أحمد [بن حنبل]: أخبرنا علي بن حكيم: حدثنا شريك عن عاصم بن كليب عن محمد بن كعب: سمعت عليا يقول: إن صدقتي اليوم لتبلغ أربعين ألفا. وخلف عند موته سراري وعبيدا وأملاكا ووقوفا، لكن لم يترك من المال إلا سبعمائة درهم. وهذا عمر قد وقف نصيبه من خيبر، ما علمنا له عقارا غيره، ومات وعليه من الديون ثمانون ألفا.

قال: "وكان أعبد الناس يصوم النهار ويقوم الليل، ومنه تعلم الناس صلاة الليل ونوافل النهار. [وأكثر العبادات والأدعية المأثورة عنه تستوعب الوقت.] وكان يصلي في ليله ونهاره ألف ركعة -إلى أن قال- وجمع بين الصلاة والزكاة فتصدق وهو راكع -إلى أن قال- وأعتق ألف عبد من كسب يده وكان يؤجر نفسه وينفق على رسول الله في الشعب".

قلنا: في هذا من الأكاذيب ما لا يخفى على العالم. ثم لا مدح فيه لمخالفة أكثره السنة. ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو أن النبي ﷺ قال [له]: «ألم أخبر أنك تقول لأصومن النهار ولأقومن الليل [ما عشت]» قال: بلى، قال: «فلا تفعل..» الحديث. وفي الصحيحين عن علي قال: طرقني رسول الله ﷺ وفاطمة فقال: «ألا تقومان تصليان» فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا، فولى وهو يضرب فخذه ويقول: {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا}. فهذا دليل على نومه بالليل وأن الرسول ما أعجبه مجادلته له.

وقولك: "ومنه تعلم الناس" إن أردت بعض المسلمين فهكذا الكبار يعلمون أتباعهم، وإن أردت الكل منه تعلموا فهذا من أسمج الكذب، فإخوانه من الصحابة أخذوا عن نبيهم، و[أما] التابعون فخلائق منهم لم يروه. ثم قلت: "والأدعية المأثورة عنه تستوعب الوقت"

قلنا: عامتها موضوع عليه، هو كان أجل من أن يدعو بهذه الأدعية التي لا تليق بحاله. وأفضل الأدعية المأثورة ما ثبت عن الرسول، وهي بحمد الله كثيرة فيها غنى.

وأما قولك: "يصلي ألف ركعة" فباطل. فهذا نبي الله ﷺ كان مجموع صلاته في اليوم والليلة أربعين ركعة. والزمان لا يتسع لألف ركعة من أمير الأمة مع سياستهم ومصالحه في أهله ونفسه إلا أن تكون صلاته صلاة نقر نزه الله عليا عنها.

وأما قولك: "جمع بين الصلاة والزكاة" فكذب كما تقدم. ولا مدح فيه ولا يشرع لنا فعله.

وقولك: "أعتق ألف عبد من كسب يده" كذب لا يروج إلا على الجهلة؛ بل ولا أعتق مائة، [ولم يكن له كسب بيده يقوم بعشر هذا،] وكان مشغولا بالجهاد وبغيره وما علمناه يتجر ولا له صنعة فمن أين هذا؟

وقولك: "كان يؤجر نفسه [وينفق على رسول الله ﷺ] وقت الشعب" كذب بين، فإنهم لم يكونوا يخرجون من الشعب ولا ثم من يستأجرهم، وكان أبوه أبو طالب معهم ينفق عليه وكانت خديجة موسرة تنفق من مالها، وكان علي زمن الشعب له نحو من خمس عشرة سنة أقل أو أكثر.

قال: "وكان أعلم الناس"

قلنا: بل أبو بكر وعمر، فإنه لم يكن أحد يقضي ويخطب ويفتي بحضرة رسول الله ﷺ إلا أبو بكر. وقد شك الناس في موت نبيهم فبينه أبو بكر. ثم توقفوا في دفنه فبينه أبو بكر. ثم شكوا في قتال مانعي الزكاة فبينه بالنص. وأوضح قوله: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} لعمر. وبين لهم قول النبي ﷺ: «إن عبدا خيره الله بين الدنيا والآخرة» وفسر لهم الكلالة. وحمل علي عنه شيئا من العلم. ففي السنن عن علي قال: كنت إذا سمعت من النبي ﷺ حديثا ينفعني الله بما شاء أن ينفعني منه وإذا حدثني غيره استحلفته فإذا حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أن رسول الله ﷺ قال: «ما من مسلم يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر له» ثم قد نقل غير واحد الإجماع على أن أبا بكر أعلمهم وحكاه منصور بن السمعاني. وقال ﷺ: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» وفي صحيح مسلم أن المسلمين كانوا مع النبي ﷺ في سفر فقال: «إن يطع القوم أبا بكر وعمر بن الخطاب يرشدوا» وروي عنه ﷺ أنه قال لأبي بكر وعمر: "إذا اتفقتما على أمر لم أخالفكما" وثبت عن ابن عباس أنه كان إذا لم يجد نصا أفتى بقول أبي بكر وعمر. وثبت في حق ابن عباس أن النبي ﷺ دعا له: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» وعن ابن أبي شيبة: أخبرنا أبو معاوية: حدثنا الأعمش: حدثنا إبراهيم: أخبرنا علقمة عن عمر قال: كان النبي ﷺ يسمر عند أبي بكر رضي الله عنه في الأمر من أمور المسلمين وأنا معه. وفي هجرة الرسول وخوفه لم يصحب غير أبي بكر. ولم يبق معه يوم بدر في العريش غيره. وفي الصحيحين عن أبي الدرداء قال: كنت جالسا عند النبي ﷺ إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبتيه فقال النبي ﷺ: «أما صاحبكم فقد غامر» فسلم وقال: إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي وإني أتيتك، فقال: «يغفر الله لك يا أبا بكر» ثلاثا، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فلم يجده فأتى النبي ﷺ فجعل وجه النبي ﷺ يتمعر حتى أشفق أبو بكر وقال: أنا كنت أظلم يا رسول الله، مرتين، فقال النبي ﷺ: «إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي فهل أنتم تاركو لي صاحبي» فما أوذي بعدها. قال البخاري: غامر سبق بالخير. وقال غيره: غامر خاصم.

وقد سأل الرشيد مالك بن أنس عن منزلة أبي بكر وعمر من النبي ﷺ فقال: "منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه بعد مماته"

ولم يحفظ لأبي بكر قول يخالف نصا. فهذا يدل على غاية البراعة [والعلم]. وأما غيره فله أقوال مخالفة للنصوص لكونها لم تبلغهم.

وثبت في الصحيحين قوله ﷺ: «قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في هذه الأمة أحد فعمر» وفي الصحيحين: «رأيت كأني أتيت بقدح فيه لبن فشربت حتى أني لأرى الري يخرج من أظفاري ثم ناولت فضلي عمر» قالوا: ما أولته يا رسول الله؟ قال: «العلم» وفي الترمذي من حديث بكر بن عمرو عن مشرح بن عاهان عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله ﷺ: «لو كان بعدي نبي لكان عمر» حسنه الترمذي. وفي الصحيحين أن أبا سعيد الخدري قال: كان أبو بكر أعلمنا بالنبي ﷺ. وقال علي: لا يبلغني أن أحدا فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري.

وقد روى عن علي من نحو ثمانين وجها أنه قال على منبره: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر". وقال البخاري: حدثنا محمد بن كثير: حدثنا سفيان: حدثنا جامع بن شداد: حدثنا منذر الثوري عن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: يا أبة من خير الناس بعد رسول الله ﷺ؟ قال: يا بني أوما تعرف؟ فقلت: لا، فقال: أبو بكر قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر. قال: وقال النبي ﷺ: أقضاكم علي. والقضاء مستلزم للعلم والدين".

قلنا: لم يصح له إسناد تقوم به الحجة. وقوله ﷺ: أعلمكم «بالحلال والحرام معاذ» أصح منه، والعلم بالحلال والحرام أعظم. وحديثك لم يروه أحد في السنن المشهورة [ولا المسانيد المعروفة لا بإسناد صحيح ولا ضعيف]، وإنما جاء من طريق من هو متهم. وقول عمر: "علي أقضانا" والقضاء إنما هو فصل الخصومات في الظاهر مع جواز أن يكون الحكم في الباطن بخلافه، كما صح أن النبي ﷺ قال: «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» فقد أخبر سيد القضاة أن حكمه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا.

وحديث: "أنا مدينة العلم وعلي بابها" [أضعف وأوهى، ولهذا إنما يعد في الموضوعات وإن رواه الترمذي. وذكره ابن الجوزي وبين أن سائر طرقه موضوعة. والكذب يعرف من نفس متنه فإن النبي ﷺ إذا كان مدينة العلم ولم يكن لها إلا باب واحد ولم يبلغ العلم عنه إلا واحد فسد أمر الإسلام. ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلغ عنه العلم واحدا بل يجب أن يكون المبلغون أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب، وخبر الواحد لا يفيد العلم بالقرآن والسنن المتواترة. وإذا قالوا: ذلك الواحد المعصوم يحصل العلم بخبره؛ قيل لهم: فلا بد من العلم بعصمته أولا وعصمته لا تثبت بمجرد خبره قبل أن تعرف عصمته لأنه دور ولا تثبت بالإجماع فإنه لا إجماع فيها.] ثم علم الرسول ﷺ من الكتاب والسنة قد طبق الأرض، وما انفرد به علي عن رسول الله ﷺ فيسير قليل. وأجل التابعين بالمدينة [هم] الذين تعلموا في زمن عمر وعثمان. وتعليم معاذ للتابعين ولأهل اليمن أكثر من تعليم علي رضي الله عنه. وقدم علي على الكوفة وبها من أئمة التابعين عدد كشريح وعبيدة وعلقمة ومسروق وأمثالهم.

قال أبو محمد بن حزم: احتج الرافضة بأن عليا رضي الله عنه كان أكثرهم علما، قال: وهذا كذب، وإنما يعرف علم الصحابي بكثرة روايته أو بفتاويه وكثرة استعمال الرسول ﷺ له، فنظرنا فوجدناه قد استعمل أبا بكر على الصلاة أيام مرضه بمحضر من عمر وعلي وابن مسعود وأبي والكبار، وهذا خلاف استخلافه عليا إذ غزا لأن ذلك كان على النساء وذوي الأعذار فقط، فوجب ضرورة أن نعلم أن أبا بكر أعلم بالصلاة [وهي عمود الإسلام]. وأيضا فاستعمله على الصدقات وعلى الحج؛ فصح أنه أعلم من جميع الصحابة بذلك [وهذه دعائم الإسلام. ثم وجدناه استعمله على البعوث فصح أن عنده من أحكام الجهاد مثل ما عند سائر من استعمله النبي ﷺ على البعوث، إذ لا يستعمل إلا عالما بالعمل فعند أبي بكر من علم الجهاد كالذي عند علي وسائر أمراء البعوث لا أقل. وإذا صح التقدم لأبي بكر على علي وغيره في العلم والصلاة والزكاة والحج وساواه في الجهاد فهذه عمدة للعلم.] وكان شديد الملازمة للرسول ﷺ فشاهدَ فتاويه وأحكامه [أكثر من مشاهدة علي لها فصح ضرورة أنه أعلم بها]. فهل بقيت من العلم بقية إلا وأبو بكر المقدم فيها والمشارك. وأما الرواية والفتوى فتوفي [أبو بكر] بعد الرسول ﷺ بسنتين ونصف ولم يحتج إلى ما عنده لأن رعيته صحبوا الرسول ﷺ مثله وقد روى عنه مائة وأربعون حديثا وجملة فتاوى. وعلي روى له خمسمائة وستة وثمانون حديثا لكونه عاش بعد النبي ﷺ ثلاثين سنة وكثر لقاء الناس له واحتاجوا إلى علمه لذهاب جمهور الصحابة وسألوه بالمدينة والبصرة والكوفة وبصفين. [فإذا نسبنا مدة أبي بكر من حياته وأضفنا تقرّي علي البلاد بلدا بلدا وكثرة سماع الناس منه إلى لزوم أبي بكر موطنه وأنه لم تكثر حاجة من حواليه إلى الرواية عنه ثم نسبنا عدد حديثه من عدد حديثه وفتاويه من فتاويه عَلِمَ كل ذي حظ من علم أن الذي عند أبي بكر من العلم أضعاف ما كان عند علي منه. وبرهان ذلك أن من عمّر من الصحابة عمرا قليلا قل النقل عنه، ومن طال عمره منهم كثر النقل عنه.] وعمر ما برح بالمدينة بل جاء إلى الشام، وقد روى له عن النبي ﷺ خمسمائة وسبعة وثلاثون حديثا وذلك نحو مما روى علي رضي الله عنه، ولكنه مات قبل علي بسبع عشرة سنة وخلق من علماء الصحابة أحياء بعد. [فكل ما زاد حديث علي على حديث عمر تسعة وأربعون حديثا في هذه المدة ولم يزد عليه في الصحيح إلا حديث أو حديثان. وفتاوى عمر موازية لفتاوى علي في أبواب الفقه. فإذا نسبنا مدة من مدة وضربنا في البلاد من ضرب فيها وأضفنا حديثا إلى حديث وفتاوى إلى فتاوى عَلِمَ كل ذي حس علما ضروريا أن الذي كان عند عمر من العلم أضعاف ما كان عند علي.] ثم نظرنا عائشة رضي الله عنها لتأخرها روت أكثر من ألفي حديث وكذلك ابن عمر وأنس. ووجدنا أبا هريرة روى نحو خمسة آلاف مسند وثلاثمائة مسند. ولابن مسعود ثمانمائة ونيف. وله ولعائشة ولابن عمر من الفتاوى أكثر مما لعلي لتأخر حياتهم، وكذا لابن عباس أزيد من ألف وخمسمائة حديث ولا يحصى ما له من الفتاوى والتفسير وغير ذلك. فبطل قول الرافضة. نعم قد استعمل الرسول ﷺ عليا أيضا ولا يستعمل إلا عالما، واستعمل معاذا وأبا موسى على اليمن. قال: "وكان في غاية الذكاء شديد الحرص على التعلم ملازما للرسول ﷺ من الصغر إلى أن مات".

فيقال: من أين علم أنه أذكى من أبي بكر وعمر وأرغب في العلم منهما [وأن استفادته من النبي ﷺ أكثر منهما]؟ وفي الصحيحين في علمهما أحاديث ومن ذلك قوله ﷺ [عن أبي سعيد الخدري]: «رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك وعرض علي عمر وعليه قميص يجره» قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: «الدين» وقال ابن مسعود: لما مات عمر إني لأحسب أن هذا ذهب بتسعة أعشار العلم وشارك الناس في العشر الباقي. قال: "وقال ﷺ: العلم في الصغر كالنقش في الحجر فتكون علوم علي أكثر من غيره [لحصول القابل الكلي والفاعل التام]".

فيقال: هذا من فضول الحديث، فإن هذا مثل سائر ما قاله [ليس من كلام] الرسول ﷺ. والصحابة قد تعلموا القرآن والسنن مع الكبر فيسر الله ذلك عليهم، وكذلك علي فما كمل الوحي حتى صار لعلي نحو من ثلاثين سنة، وإنما حفظ أكثر ذلك في كبره، وقد اختلف في حفظه لجميع القرآن. وهذا أبو هريرة قد حفظ في أكثر من ثلاث سنين ما لم يحفظه غيره. قال: "وأما النحو فهو واضعه. قال لأبي الأسود: الكلام كله ثلاثة أشياء اسم وفعل وحرف، وعلمه وجوه الإعراب".

قلنا: ليس هذا من علوم النبوة وإنما هو علم مستنبط. ولم يكن في زمن الخلفاء الثلاثة لحن فلم يحتج إليه. فلما سكن علي الكوفة وبها الأنباط روي أنه قال: لأبي الأسود الدؤلي ذلك وقال له: انح هذا النحو، كما أن غيره استخرج للخط الشكل والنقط [وعلامة المد والشد ونحوه للحاجة] وكما استخرج الخليل العروض.

قال: "والفقهاء كلهم يرجعون إليه"

قلنا: هذا كذب، فليس في الأئمة الأربعة ولا غيرهم من يرجع إلى فقهه. أما مالك فعلمه عن أهل المدينة وأهل المدينة لا يكادون يأخذون بقول علي، بل مادتهم من عمر وزيد وابن عمر وغيرهم. وأما الشافعي فإنه تفقه أولا على المكيين أصحاب ابن جريج، وابن جريج أخذ عن أصحاب ابن عباس، ثم قدم الشافعي المدينة وأخذ عن مالك، ثم كتب كتب أهل العراق واختار لنفسه. وأما أبو حنيفة فشيخه الذي اختص به حماد بن أبي سليمان صاحب إبراهيم النخعي وإبراهيم صاحب علقمة وعلقمة صاحب ابن مسعود، وأخذ أبو حنيفة عن عطاء بمكة وعن غيره. وأما أحمد بن حنبل فكان على مذهب أئمة الحديث، أخذ عن هشيم وابن عيينة ووكيع والشافعي وغيرهم واختار لنفسه. وكذا فعل ابن راهويه وأبو عبيد.

وقولك: "إن المالكية أخذوا علمهم من علي وأولاده" فكذب. هذا الموطأ ليس فيه عن علي وأولاده إلا اليسير. وكذلك الكتب والسنن والمسانيد جمهور ما فيها عن غير أهل البيت.

وقولك: "إن أبا حنيفة قرأ على الصادق" كذب، فإنه من أقرانه، مات جعفر قبله بسنتين ولكن ولد أبو حنيفة مع جعفر بن محمد في عام. ولا نعرف أنه أخذ عن جعفر ولا عن أبيه مسألة [واحدة، بل أخذ عمن كان أسن منهما كعطاء بن أبي رباح وشيخه الأصلي حماد بن أبي سليمان. وجعفر بن محمد كان بالمدينة].

وقولك: "إن الشافعي أخذ عن محمد بن الحسن"، فما جاءه الشافعي إلا وقد صار إماما فجالسه وعرف طريقته وناظره وألف في الرد عليه.

وفي الجملة فهؤلاء لم يأخذوا عن جعفر مسائل ولا أصولا، ولكن رووا عنه أحاديث يسيرة رووا عن غيره أضعافها.

ولم يُكذب على أحد ما كذب على جعفر بن محمد الصادق مع براءته مما كذب عليه. فنسب إليه علم البطاقة والهفت والجدول واختلاج الأعضاء والجفر ومنافع القرآن والرعود والبروق وأحكام النجوم والقرعة والاستقسام بالأزلام والملاحم. قال: "وعن مالك أنه قرأ على ربيعة وربيعة على عكرمة [وعكرمة على ابن عباس وابن عباس تلميذ علي]".

قلنا: هذه كذبة، ما أخذ ربيعة عن عكرمة شيئا، بل عن سعيد بن المسيب. وسعيد كان يرجع في علمه إلى عمر وزيد وأبي هريرة.

وقولك: "علي تلميذه ابن عباس" باطل، فإن روايته عن علي يسيرة، وغالب أخذه عن عمر. وزيد وكان يفتي في أشياء بقول أبي بكر وعمر وينازع عليا في مسائل.

قال: "وأما علم الكلام فهو أصله، ومن خطبه تعلم الناس، وكان الناس تلاميذه".

قلنا: هذا كذب ولا فخر فيه. فإن الكلام المخالف للكتاب والسنة قد نزّه الله عليا عنه، فما كان في الصحابة ولا التابعين أحد يستدل على حدوث العالم بحدوث الأجسام ويثبت حدوث الأجسام بدليل الأعراض والحركة والسكون وأن الأجسام مستلزمة لذلك؛ بل أول ما ظهر هذا الكلام من جهة جعد بن درهم والجهم بن صفوان بعد المائة الأولى. ثم صار إلى عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، وهما لما تكلما في إنفاذ الوعيد وفي القدر صار ذلك وهذا إلى أبي الهذيل العلاف والنظام وبشر المريسي وهؤلاء المبتدعة. وليس في الخطب الثابتة [عن علي] شيء من أصول المعتزلة الخمسة. وقدماء المعتزلة [لم يكونوا يعظمون عليا بل كان فيهم من] يشكّون في عدالته ويقفون، ويقولون في أهل الجمل فسق إحدى الطائفتين لا بعينها. والشيعة القدماء يثبتون الصفات ويقرون بالقدر حتى صرح منهم هشام بن الحكم بالتجسيم. وثبت عن جعفر الصادق أنه سئل عن القرآن فقال: ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله.

ولا ريب أنا أبا الحسن الأشعري كان تلميذا لأبي علي الجبائي، لكنه فارقه ورجع عنه وأخذ الحديث والسنة عن زكريا [بن يحيى] الساجي وذكر في المقالات أنه معتقد مذهب السلف. لا كما فعلت أنت وأصحابك إذ جمعتم أخس المذاهب [مذهب الجهمية في الصفات ومذهب القدرية في أفعال العباد ومذهب الرافضة في الإمامة والتفضيل. فتبين أن ما نقل عن علي من الكلام فهو كذب عليه ولا مدح فيه].

وأبلغ مما افتريتَ على علي أن هؤلاء القرامطة والإسماعيلية ينسبون قولهم إلى علي وأنه أعطي علما باطنا مخالفا للظاهر. وقد ثبت عنه أنه قال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عهد إلي النبي ﷺ شيئا لم يعهده إلى الناس إلا ما في هذه الصحيفة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه". ولا يوصف ما قد كُذب على أهل البيت، حتى أن اللصوص العشرية يزعمون أن معهم كتابا من علي بالإذن لهم في السرقة، كما زعمت اليهود الخيابرة أن معهم كتابا من علي بإسقاط الجزية. أفبعد هذا ضلال؟ ومما يقوله الباطنية المنتمون إلى علي يجعلون منتهى الإسلام وغايته هو الإقرار بربوبية الأفلاك وأنها مدبرة للعالم وأنه ليس وراءها صانع لها، ويجعلون هذا باطن دين الإسلام الذي بعث به محمد وأنه ألقاه على علي وألقاه علي إلى الخواص حتى اتصل محمد بن إسماعيل بن جعفر وهو عندهم القائم. وبنو عبيد هم ملوكهم الذين استولوا على المغرب ثم على مصر أكثر من مائتي سنة. وصنف فيهم القاضي أبو بكر بن الطيب والقاضي عبد الجبار بن أحمد والقاضي أبو يعلى والغزالي وابن عقيل و[أبو عبد الله] الشهرستاني وكشفوا أستارهم. وأصحاب الألموت منهم، وسنان من دعاتهم. وشعارهم الظاهر الرفض وباطن أمرهم الزندقة والانحلال. [وكان من أعظم ما به دخل هؤلاء على المفسدين وأفسدوا الدين هو طريق الشيعة لفرط جهلهم وأهوائهم وبعدهم من دين الإسلام. ولهذا وصّوا دعاتهم أن يدخلوا على المسلمين من باب التشيع وصاروا يستعينون بما عند الشيعة من الأكاذيب والأهواء ويزيدون هم على ذلك ما ناسبهم من الافتراء، حتى فعلوا في أهل الإيمان ما لم يفعله عبدة الأوثان والصلبان.] قال: "وعلم التفسير إليه يعزى لأن ابن عباس كان تلميذه فيه. قال ابن عباس: حدثني أمير المؤمنين في تفسير الباء من اسم الله من أول الليل إلى آخره".

قلنا: هذا كذب صراح. وهذا يرويه من يؤمن بالمجهولات من جهلة الصوفية كما يروون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان النبي ﷺ وأبو بكر يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما. وينقلون عن عمر أنه تزوج بامرأة أبي بكر ليسألها عن عمله في السر فقالت: كنت أشم منه رائحة الكبد المشوية. وهذا من أبين الكذب، وإنما تزوج بامرأة أبي بكر أسماء بنت عميس بعده عليٌّ. وقد أخذ ابن عباس عن عدد كبير من الصحابة، وأخذ التفسير عن ابن مسعود وعن طائفة من الصحابة والتابعين. وما يعرف بأيدي الأمة تفسير ثابت عن علي، وما ورد عنه من التفسير فقليل. وأما ما ينقل أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي في حقائق التفسير عن جعفر الصادق فكذب عليه.

قال: "وعلم الطريقة إليه منسوب فإن الصوفية إليه يسندون الخرقة".

قلنا: الخرق متعددة أشهرها خرقتان خرقة إلى عمر وخرقة إلى علي. فخرقة عمر لها إسناد إلى أويس القرني وإلى أبي مسلم الخولاني. وأما المنسوبة إلى علي فإسنادها إلى الحسن البصري. والمتأخرون يصلونها إلى معروف الكرخي، ومن بعده منقطع، فإنهم تارة يقولون إنه صحب علي بن موسى الرضا، وهذا باطل قطعا، ومعروف كان منقطعا ببغداد، وعلي [بن موسى] كان في صحبة المأمون بخراسان، ومعروف أسن من علي، ولا نقل ثقة أنه اجتمع به [أو أخذ عنه شيئا، بل ولا يعرف أنه رآه] ولا كان والله معروفٌ بوّابَه، ولا أسلم على يديه. وأما إسنادها الآخر فيقولون إن معروفا صحب داود الطائي. وهذا أيضا لا أصل له ولا عُرف أنه رآه. [وفي إسناد الخرقة أيضا أن داود الطائي صحب حبيبا العجمي. وهذا [أيضا] لم يعرف له حقيقة. وفيها أن حبيبا العجمي صحب الحسن البصري؛ وهذا صحيح فإن الحسن كان له أصحاب كثيرون مثل أيوب السختياني ويونس بن عبيد وعبد الله بن عون 24 ومثل محمد بن واسع ومالك بن دينار وحبيب العجمي وفرقد السبخي وغيرهم من عباد البصرة.] وفيها أن الحسن صحب عليا. وهذا باطل، ما جالسه قط. وما روي أن عليا دخل البصرة فأخرج القصاص من جامعها إلا الحسن كذب بين، بل ما طلب الحسن العلم إلا بعد وفاة علي مع أنه رأى عثمان يخطب. وقد أفرد ابن الجوزي تأليفا في مناقبه.

وأوهى من هذا نسبة لباس الفتوة إلى علي بإسناد مظلم يعلم بطلانه. ولهم إسناد آخر بالخرقة إلى جابر منقطع ساقط. وقد علمنا قطعا أن الصحابة لم يكونوا يُلبسون مريدهم خرقة ولا يقصون شعورهم ولا فعله التابعون؛ بل جالسوا الصحابة وتأدبوا بآدابهم كل طائفة أخذوا عمن في بلدهم من الصحابة، فأخذ أهل المدينة عن عمر وأبي وزيد وأبي هريرة. ولما ذهب علي إلى الكوفة كان أهلها قد تخرجوا في دينهم بابن مسعود وسعد وعمار وحذيفة. وأخذ أهل البصرة عن عمران بن حصين وأبي موسى وأبي بكرة وابن مغفل وخلق. وأخذ أهل الشام دينهم عن معاذ وأبي عبيدة وأبي الدرداء وعبادة بن الصامت وبلال. فكيف تقول إن طريق أهل الزهد والتصوف متصل به دون غيره؟ وكتب الزهد كثيرة جدا [مثل الزهد للإمام أحمد والزهد لابن المبارك ولوكيع بن الجراح ولهناد بن السري. ومثل كتب أخبار الزهاد كحلية الأولياء وصفة الصفوة،] فيها خبر كثير عن المهاجرين والأنصار وتابعيهم بإحسان. [وليس الذي فيها لعلي أكثر مما فيها لأبي بكر وعمر ومعاذ وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي ذر وأبي أمامة وأمثالهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.] قال: "وأما علم الفصاحة فهو منبعه حتى قيل: كلامه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق".

قلنا: لا ريب أنه كان من أخطب الصحابة. وكان أبو بكر خطيبا وكان عمر خطيبا وكان ثابت بن قيس خطيبا بليغا. [ولكن كان أبو بكر يخطب عن النبي ﷺ في حضوره وغيبته ونبي الله ساكت يقره على ما يقول.] وقد خطب أبو بكر يوم السقيفة فأبلغ حتى قال عمر: "كنت قد هيأت مقالة أعجبتني فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك فكرهت أن أغضبه وكنت أداري منه بعض الحدة، فتكلم فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها". وقال أنس بن مالك: خطبنا أبو بكر ونحن كالثعالب فما زال يثبتنا حتى صرنا كالأُسد. وكان ثابت بن قيس يسمى خطيب رسول الله ﷺ، كما أن حسان بن ثابت شاعر رسول الله ﷺ. وكان زياد بن أبيه من أخطب العرب وأبلغهم، حتى قال الشعبي: "ما تكلم أحد فأحسن إلا تمنيت أن يسكت خشية أن يسيء إلا زيادا كان كلما أطال أجاد" أو كما قال الشعبي. وكانت عائشة من أخطب الناس وأفصحهم حتى كان الأحنف بن قيس يتعجب من بلاغتها وقال: ما سمعت الكلام من مخلوق أفحم ولا أفصح منه من عائشة. وكان ابن عباس من أخطب الناس. والبلغاء في العرب جماعة قبل الإسلام وبعده، وعامة هؤلاء لم يأخذوا من علي شيئا وإنما الفصاحة موهبة من الله. ولا كان علي ولا هؤلاء يتكلفون الأسجاع ولا التجنيس الذي يسمى علم البديع، بل يخطبون بطباعهم ولا يقصدون سجعا. وإنما حدث هذا في المتأخرين وتكلفوا له وتتبعوه.

فقولك: "إنه منبع الفصاحة" مجرد دعوى بل أفصح الناس رسول الله ﷺ. وليست الفصاحة التشدق في الكلام والتقعير ولا البلاغة التجنيس والسجع؛ بل البلاغة بلوغ المطلوب بأتم عبارة، فيجمع صاحبها بين تكميل المعاني المقصودة وبين تبيينها بأحسن وجه.

ثم غالب الخطب التي يأتي بها صاحب نهج البلاغة كذب [على علي]، وعلي أعلى قدرا من أن يتكلم بذلك الكلام. [ولكن هؤلاء وضعوا أكاذيب وظنوا أنها مدح] فلا هي صدق ولا هي له مدح.

وقولك: "إن كلامه فوق كلام المخلوق" كلام ملعون فيه إساءة أدب على الرسول. وهذا مثل ما قال ابن سبعين: هذا كلام يشبه بوجه ما كلام البشر. وهذا ينزع إلى أن يجعل كلام الله ما في نفوس البشر، [وليس هذا من كلام المسلمين.

وأيضا فالمعاني الصحيحة التي توجد في كلام علي موجودة في كلام غيره،] لكن صاحب نهج البلاغة وأمثاله أخذوا كثيرا من كلام الناس فجعلوه من كلام علي؛ ومنه ما يحكى عن علي أنه تكلم به ومنه ما هو كلام حق يليق به أن يتكلم به ولكن هو في نفس الأمر من كلام غيره. وفي كتاب البيان [والتبيين] للجاحظ كلام كثير منقول عن غير علي، وصاحب نهج البلاغة يأخذه ويلصقه بعلي. [وهذه الخطب المنقولة في كتاب نهج البلاغة لو كانت كلها عن علي من كلامه لكانت موجودة قبل هذا المصنف منقولة عن علي بالأسانيد وبغيرها؛ فإذا عرف من له خبرة بالمنقولات أن كثيرا منها بل أكثرها لا يُعرف قبل هذا عَلِمَ أن هذا كذب. وإلا فليبين الناقل لها في أي كتاب ذكر ذلك ومن الذي نقله عن علي وما إسناده؟ وإلا فالدعوى المجردة لا يعجز عنها أحد.

ومن كانت له خبرة بمعرفة طريقة أهل الحديث ومعرفة الآثار والمنقول بالأسانيد وتبين صدقها من كذبها علم أن هؤلاء الذين ينقلون مثل هذا عن علي من أبعد الناس عن المنقولات والتمييز بين صدقها وكذبها.] قال: "وقال سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن طرق السماء فإني أعلم بها من طرق الأرض".

فنقول: لا ريب أن عليا لم يكن يقول هذا بالمدينة بين سادة الصحابة الذين يعلمون كما يعلم. وإنما قال هذا لما صار إلى العراق بين قوم لا يعرفون كثيرا من الدين، وهو الإمام الذي يجب عليه أن يعلمهم ويفقههم. وقوله: "أنا أعلم بطرق السماء" إن كان قاله فمعناه أعلمُ بما يتقربون به من الأمر والنهي والعبادة والجنة والملائكة ما لا أعلمه في الأرض. ليس مراده أنه صعد ببدنه إلى السماء؛ هذا لا يقوله مسلم. وهذا كأنه موضوع ولا يعرف له إسناد، وقد تضل به الغلاة الذين يعتقدون نبوته فيحتجون بهذا؛ بل وكثير من العوام والنساك يعتقدون في بعض الشيوخ نحو هذا. قال: "وإليه رجع الصحابة في مشكلاتهم ورد عمر في قضايا كثيرة قال فيها: لولا علي لهلك عمر".

فيقال: ما رجع الصحابة إليه في شيء من دينهم؛ بل كانت النازلة تنزل فيشاور عمر عليا وعثمان وابن عوف [وابن مسعود] وزيد بن ثابت [وأبا موسى] وجماعة حتى [كان يدخل ابن عباس معهم مع صغر سنه. وهذا مما أمر الله به المؤمنين ومدحهم عليه بقوله: {وأمرهم شورى بينهم} ولهذا كان رأي عمر وحكمه وسياسته من أسدّ الأمور.] وقد أجاب ابن عباس عن مشكلات أكثر مما أجاب علي بكثير لطول مدته، واحتاج الناس إلى علمه. وكان عمر يشاورهم مع أنه أعلم منهم وكثيرا ما كانوا يرجعون إلى قوله كالعُمَريتين والعول وغيرهما، [فإن عمر وهو أول من أجاب في زوج وأبوين أو امرأة وأبوين بأن للأم ثلث الباقي، واتبعه أكابر الصحابة وأكابر الفقهاء كعثمان وابن مسعود وعلي وزيد والأئمة الأربعة. وخفي قوله على ابن عباس فأعطى الأم الثلث ووافقه طائفة. وقول عمر أصوب.]

وقولك: "رد عمر في قضايا [كثيرة قال فيها: لولا علي لهلك عمر]" فهذا لا يعرف أن عمر قاله إلا في مسألة واحدة [إن صح ذلك]. وقد كان عمر يقول نحو هذا كثيرا لمن هو دون علي، قال للمرأة التي عارضته في الصداق: رجل أخطأ وأصابت امرأة.

وأما قولك: "معرفة القضايا بالإلهام" بمعنى أنه من ألهم أنه صادق حكم بذلك بمجرد الإلهام، فلا يحل الحكم بهذا في دين الإسلام. ولو كان الإلهام طريقا كان الرسول أحق من قضى به وكان الله يوحى إليه من هو صاحب الحق فلا يحتاج إلى بينة. فإن قلت: معناه أنه يلهم الحكم الشرعي؛ فهذا أيضا لا بد فيه من دليل شرعي. وقد ثبت أن النبي ﷺ قال: «قد كان قبلكم في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر» ومع هذا فلم يكن يجوز لعمر أن يحكم بالإلهام ولا يعمل بمجرد ما يلقى في قلبه حتى يعرض ذلك على الكتاب والسنة، فإن وافقه قبله وإن خالفه رده.

وأما ما ذكره من الحكومة في البقرة التي قتلت حمارا فلم يذكر له إسنادا ولا نعلم صحته. بل الأدلة المعلومة تدل على انتفائه. قال النبي ﷺ: «جرح العجماء جبار» فالحيوان من بقرة أو شاة أو حمار إذا كان يرعى في المراعي المعتادة فأفلتت نهارا من غير تفريط حتى دخلت على زرع فأفسدته لم يكن على صاحبها ضمان بالإجماع فإنها عجماء ومالكها لم يفرط، وإن خرجت ليلا ضمن عند مالك والشافعي وأحمد؛ وذهب أبو حنيفة وابن حزم إلى أنه لا يضمن. قال: "وكان أشجع الناس وبسيفه ثبتت قواعد الإسلام وتشيدت أركان الإيمان كشف الكروب عن وجه رسول الله ﷺ ولم يفر كما فر غيره إلخ".

والجواب لا ريب في شجاعته ونصره للإسلام وقتله جماعة. لكن ما هذا من خصائصه بل شاركه فيه عدة. وأشجع الناس رسول الله ﷺ كما ثبت من حديث أنس وفيه: ولقد فزع أهل المدينة يوما فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله ﷺ راجعا وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عري في عنقه السيف وهو يقول: «لم تراعوا» وفي المسند عن علي قال: كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله فيكون أقربنا إلى العدو. والشجاعة قوة القلب والثبات عند المخاوف أو شدة البطش وإحكام صناعة الحرب. ومع هذا فما قتل النبيُّ ﷺ غير أبي بن خلف. ومن فرط شجاعته أن أصحابه انهزموا يوم حنين وهو راكب بغلة لا تكر ولا تفر، ويقدم عليها إلى ناحية العدو ويسمي نفسه ويقول:

«أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب»

وإذا كانت الشجاعة المطلوبة من الإمام شجاعة القلب فلا ريب أن أشجع الصحابة أبو بكر، فإنه باشر الأهوال التي كان الرسول يباشرها من أول الإسلام ولم يجبن ولا جزع بل يقدم على المخاوف ويقي الرسول بنفسه ويجاهد بلسانه وبيده وبماله. ولما كان مع الرسول في العريش يوم بدر قام نبي الله يدعو ويستغيث بربه ويقول: «اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» وجعل أبو بكر يقول له: يا رسول الله كفاك مناشدتك ربك إنه سينجز لك ما وعدك. وهذا يدل على كمال يقينه وثباته. ولا نقص على الرسول في استغاثته بربه بل ذلك كمال له. فالالتفات إلى الأسباب نقص في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا تقدح في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع. فعلى الرسول أن يجاهد ويقيم الدين بكل ممكن بنفسه وماله ودعائه وتحريضه المؤمنين. والاستنصار بالله والاستعانة به أعظم الجهاد وأعظم أسباب النصر، وهو مأمور بذلك. والقلب إذا غشيته الهيبة والمخافة والتضرع قد يغيب عن شهود ما يعلمه. ومقام أبي بكر دون هذا، وهو معاونة الرسول والذب عنه وإخباره بأنا واثقون بنصر الله والنظرُ إلى جهة العدو هل قاتلوا بعد.

ولما مات النبي ﷺ عظمت النازلة واضطربوا [اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة القعر] وطاشت العقول ووقعوا في نسخة القيامة [وكأنها قيامة صغرى مأخوذة من القيامة الكبرى] وارتدت الأعراب وذلت الحماة. فقام الصديق بقلب ثابت الجأش قد جمع له الصبر واليقين وأخبرهم بأن الله اختار لنبيه ما عنده وقال لهم: "من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" ثم تلا: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} فكأن الناس لم يسمعوها. ثم خطبهم فثبتهم وشجعهم وبادر إلى تنفيذ جيش أسامة. وأخذ في قتال المرتدين مع إشارتهم عليه بالتربص، حتى كان عمر مع فرط شجاعته يقول له: يا خليفة رسول الله تألّف الناس. وهذا باب واسع.

وأما القتل فلا ريب أن غير علي من الصحابة قتل أكثر منه من الكفار. فإن من نظر المغازي والسيرة وأمعن النظر عرف ذلك. فالبراء بن مالك أخو أنس قتل مائة رجل مبارزة سوى من شرك في دمه. وأما خالد بن الوليد فلا يحصى عدد من قتله وقد انكسر في يده يوم مؤتة تسعة أسياف. وقال النبي ﷺ: «إن لكل نبي حواريا وحواريَّ الزبير» وقال ﷺ: "صوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة".

وقال ابن حزم: وجدناهم يحتجون بأن عليا كان أكثر الصحابة جهادا وقتلا. والجهاد ثلاثة أقسام: أعلاها الدعاء إلى الله باللسان، وثانيها الجهاد عند البأس بالرأي والتدبير، الثالث الجهاد باليد. فوجدنا الجهاد الأول لا يلحق فيه أحد -بعد النبي ﷺ- أبا بكر، فإن أكابر الصحابة أسلموا على يد أبي بكر، وأما عمر فإنه حين أسلم عز الإسلام. قال ابن مسعود: "ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر" فقد انفرد الشيخان بالجهادين اللذين لا نظير لهما ولا حظ لعلي في هذا أصلا. وأما الرأي والمشورة فخالص لأبي بكر وعمر. بقي الثالث، فكان أقل عمل الرسول لا عن جبن، ووجدنا عليا لم ينفرد بالسبق فيه بل شاركه فيه غيره شركة العنان، كطلحة والزبير وسعد وحمزة وعبيدة بن الحارث [بن عبد المطلب] ومصعب بن عمير وسعد بن معاذ وسماك أبي دجانة. ووجدنا أبا بكر وعمر قد شركاه في ذلك بحظ وإن لم يلحقا بحظوظ هؤلاء، وإنما ذلك لشغلهما بالأفضل من ملازمة الرسول ومؤازرته. وقد بعثهما على البعوث أكثر مما بعث عليا وما نعلم لعلي بعثا إلا إلى بعض حصون خيبر ففتحه.

فصل

وقولك: "إنه بسيفه ثبت قواعد الإسلام وتشيدت أركان الإيمان" فكذب بين لكل من عرف أيام الإسلام. بل سيفه جزء من أجزاء كثيرة جدا من أسباب تثبيت قواعد الإسلام. وكثير من الوقائع التي ثبت الله بها الإسلام لم يكن لسيفه فيها أثر. وكان سيفه يوم بدر سيفا من سيوف كثيرة. وغزوات القتال كلها تسع وبعد الرسول لم يشهد حرب فارس ولا الروم ولا شيئا من تلك الملاحم المهولة. وكان نصره في مغازيه تبعا لنصر رسول الله ﷺ. وحروبه الكبار في خلافته الجمل وصفين والنهروان فكان منصورا لأن جيشه كان أكثر عددا من المقاتلين له. ومع ذلك فما استظهر على أهل الشام بل كان وهم كفرسي رهان.

وقولك: "ما انهزم قط" فهو في ذلك كأبي بكر وعمر وجماعة لم يعرف لواحد منهم هزيمة. وإن كان قد وقع شيء خفيف خفي ولم ينقل، فيمكن أن عليا وقع منه ما لم ينقل يوم حنين ويوم أحد.

وقولك: "وطالما كشف الكروب عن وجه رسول الله ﷺ" دعوى كاذبة من عبارات الطرقية. بل ما علمنا كشف كربة واحدة، بل ولا أبو بكر ولا عمر. نعم دفع أبو بكر عنه لما أراد المشركون أن يضربوه ويقتلوه بمكة فحال بينهم وبينه وجعل يقول: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} حتى ضربوا أبا بكر. ووقاه طلحة يوم أحد بيده حتى شلت وكان يقول: نحري دون نحرك يا رسول الله. أما أن يكون المشركون أحاطوا برسول الله ﷺ حتى خلصه منهم علي بسيفه أو أبو بكر فهذا لم يقع. ولكنك طالعت فيما أحسب الغزوات التي للقصاص أو تنقلات الأنوار للبكري مما هو من جنس سيرة البطال وعنترة وأحمد الدنف وهذه الأخلوقات التي يكتريها صبيان الكتاب ليتمرنوا في القراءة ويطير النوم عنهم لفرط ما فيها من السخف والإفك.

قال: "وفي غزوة بدر كان لعلي سبع وعشرون سنة، فقتل من المشركين ستة وثلاثين رجلا وحده وهم أكثر من نصف المقتولين وشرك في الباقين".

فيقال: هذا من الكذب البين. بل قد ثبت في الصحيح قتل جماعة لم يشرك علي في قتلهم، منهم أبو جهل وعقبة بن أبي معيط وعتبة بن ربيعة وأبي بن خلف. ونقلوا أن عليا قتل يومئذ نحو العشرة.

قال: "يوم أحد انهزم الناس كلهم عن النبي ﷺ إلا عليا ورجع إلى رسول الله ﷺ نفر أولهم عاصم بن ثابت وأبو دجانة وسهل بن حنيف، وجاء عثمان بعد ثلاثة أيام فقال له رسول الله ﷺ: لقد ذهبت فيها عريضة. وتعجبت الملائكة من ثبات علي فقال جبريل: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي. وقتل علي أكثر المشركين في هذه الغزاة وكان الفتح على يديه. وروى قيس بن سعد عن علي قال: أصابني يوم بدر ست عشرة ضربة وسقطت إلى الأرض فجاءني رجل فأقامني - وذكر الحديث وأن الرجل جبريل".

فيقال: هذا الرجل ما يستحي من الله ولا يراقبه في نقل هذه الأكاذيب التي لا تنفق إلا على البقر، كقوله: "وقتل علي أكثر المشركين وكان الفتح" فأين قتل المشركين وأين الفتح؟ بل كانت غزوة أحد على المسلمين لا لهم كما قال تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم}. هزم المسلمون العدو أولا وكان نبي الله قد وكل بثغر الجبل الرماة وأمرهم أن لا يبرحوا فلما انهزم المشركون طلبت الرماة الغنيمة فنهاهم أميرهم عبد الله بن جبير فلم يطيعوه وكر العدو عليهم من ظهورهم وصاح الشيطان: قتل محمد، فاستشهد يومئذ نحو السبعين وشج النبي ﷺ وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه ودخلت حلقتا المغفر في وجنته حتى قال: «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله» فنزلت: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم} ولم يبق معه يومئذ غير اثني عشر رجلا منهم أبو بكر وعمر وطلحة وسعد، وقتل حوله جماعة وقال رئيس المشركين: "اعل هبل اعل هبل يوم بيوم بدر" يعني أخذنا بالثأر. ولم يقتل يومئذ من المشركين إلا بضعة عشر رجلا ولم يجرح علي يومئذ ولا أقامه جبريل؟ فأين الإسناد بهذا وفي أي كتب الموضوعات هو؟

وقولك: "إن عثمان جاء بعد ثلاث" كذب آخر.

وقولك: "إن جبريل قال لا سيف إلا ذو الفقار" كذب آخر، فإن ذا الفقار لم يكن لعلي بل كان لأبي جهل غنمه المسلمون يوم بدر. فعن ابن عباس قال: تنفّل رسول الله ﷺ سيفه ذا الفقار يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد قال: رأيت في سيفي ذي الفقار فلًّا فأولته فلًّا يكون فيكم، ورأيت أني مردف كبشا فأولته كبش الكتيبة، ورأيت أني في درع حصينة فأولته المدينة، ورأيت بقرا تذبح فبقر والله خير والله خير. أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد في مسنده.

قال: "وفي غزاة الأحزاب أقبلت قريش ومن معها في عشرة آلاف ونزلوا من فوق المسلمين ومن تحتهم، فخرج ﷺ بالمسلمين وهم ثلاثة آلاف وعملوا الخندق وركب عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل ودخلا من مضيق في الخندق وطلبا المبارزة فقام علي فقال له النبي ﷺ إنه عمرو، فسكت. ثم طلب المبارزة ثانيا وثالثا ويقوم علي فأذن له النبي ﷺ. فقال: يا عمرو كنت عاهدت الله تعالى أن لا يدعوك قرشي إلى إحدى خلتين إلا أجبت إلى واحدة منهما وأنا أدعوك إلى الإسلام، قال: لا حاجة لي به، قال: فأدعوك إلى النزال، قال: ما أحب أن أقتلك، ثم نزل وتجاولا فقتله علي وانهزم عكرمة ثم انهزم المشركون. فقال ﷺ: قتل علي عمرا أفضل من عبادة الثقلين".

يقال: قد طرزت القصة بعدة أكاذيب. منها أنه لما قتل عمرا انهزموا وهذا كذب بارد فإنهم ما انهزموا بل بقوا محاصرين المسلمين حتى خبب بينهم نعيم بن مسعود الغطفاني، وأرسل الله عليهم الريح والملائكة فترحلوا {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال} فتبين أن المشركين ما ردهم الله بقتال ولا هزمهم المسلمون. والحديث الذي رملت به كذب بيقين. وحاشا الرسول من هذه المجازفة: أيكون قتل واحد أفضل من عبادة الإنس والجن؟ فما بقي لمن قتل أبا جهل وصناديد قريش الذين فعلوا بنبي الله الأفاعيل؟ وعمرو ما عرف له شر ينفرد به في عداوة الرسول.

قال: "وفي غزاة بني النضير قتل علي رامي قبة النبي ﷺ بسهم وقتل بعده عشرة وانهزم الباقون".

قلنا: وهذا من الكذب الواضح. فإن بني النضير هم اليهود الذين نزلت فيهم سورة الحشر بالإجماع، وقصتهم قبل أحد. وكان المسلمون قد حاصروهم وقطعوا نخلهم ولم يخرجوا من حصونهم حتى يقال انهزموا. ثم صالحوا على الجلاء فأجلاهم الرسول. أفما تقرأ السورة وتتدبرها؟ وحملوا من أموالهم ما استقلت به إبلهم إلا السلاح، وكان الرجل منهم يخرب بيته عن نجاف بابه فيضعه على بعيره، فخرجوا إلى خيبر والشام.

قال: "وفي غزوة السلسلة جاء أعرابي فأخبر النبي ﷺ أن جماعة قصدوا أن يكبسوا عليه المدينة فقال: من للوادي؟ فقال أبو بكر: أنا، فدفع إليه اللواء وضم إليه سبعمائة فلما وصل إليهم قالوا: ارجع إلى صاحبك فإنا في جمع كثير، فرجع، فقال ﷺ: من للوادي؟ فقال عمر: أنا، فبعثه ففعل كالأول، فقال في اليوم الثالث: أين علي؟ فدفع إليه الراية فمضى فلقيهم فقتل منهم ستة أو سبعة وانهزم الباقون. وأقسم الله بفعل أمير المؤمنين فقال {والعاديات ضبحا}".

قلنا: وهذا أيضا من الباطل فلا وجود لهذه الغزوة أصلا. بل هي من جنس غزاوت [الطرقية الذين يحكون الأكاذيب الكثيرة] كسيرة عنترة والبطال. وقد اعتنى بأيام الرسول ﷺ عروة والزهري وابن إسحاق وموسى بن عقبة وأبو معشر السندي والليث بن سعد وأبو إسحاق الفزاري والوليد بن مسلم والواقدي ويونس بن بكير وابن عائذ وأمثالهم، وما أبقوا دقا ولا جلا ولا غثا ولا ثمينا، وما ذكروا هذه الغزوة ولا نزلت فيها: {والعاديات} بل نزلت بالإجماع بمكة. بل المشهور عن علي في التفاسير أنه قال: العاديات إبل الحجاج وعدوها من مزدلفة إلى منى. وكان ابن عباس والأكثرون يفسرونها بالخيل التي تغزو في سبيل الله. قال: "وقتل من بني المصطلق مالكا وابنه وسبى كثيرا من جملتهم جويرية".

قلنا: هذا من أخبار الرافضة التي لا إسناد لها، ولو وجد للشيء [من أخبارهم] إسناد فإما أن تكون ظلمات ومجاهيل أو عن كذاب أو متهم. [فإنه لم ينقل أحد أن عليا فعل هذا في غزوة بني المصطلق ولا سبى جويرية بنت الحارث. وهي لما سبيت كاتبت على نفسها فأدى عنها النبي ﷺ وعتقت من الكتابة وأعتق الناس السبي لأجلها وقالوا: أصهار رسول الله ﷺ.]

قال: "وغزاة خيبر كان الفتح فيها على يده، دفعت إلى أبي بكر فانهزم ثم إلى عمر فانهزم وعالج علي باب الحصن فاقتلعه وجعله جسرا على الخندق وكان الباب يغلقه عشرون رجلا وقال ﷺ: ما اقتلعه بقوة جسمانية بل بقوة ربانية. وكان فتح مكة على يديه بواسطته".

قلنا: لم تفتح خيبر كلها في يوم، بل كانت حصونا مفرقة بعضها فتح عنوة وبعضها صلحا، ثم كتموا ما صالحهم [عليه] النبي ﷺ فصاروا محاربين. ولم ينهزم أبو بكر ولا عمر. وقد روي أن عليا اقتلع الباب؛ أما كونه يغلقه عشرون رجلا وأنه جعل جسرا فلا أصل له.

وأما فتح مكة فلا أثر لعلي فيه أصلا إلا كباقي الصحابة. والأحاديث المتوافرة في غزوة الفتح تبين هذا. قال أبو هريرة: فجعل النبي ﷺ خالد بن الوليد يومئذ على الميمنة والزبير على الميسرة وأبا عبيدة على الساقة وبطن الوادي فقال: «يا أبا هريرة ادع لي الأنصار» فدعاهم فجاءوا يهرولون فقال: «هل ترون أوباش قريش» قالوا: نعم، قال: «انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا» وأكفأ بيده ووضع يمينه على شماله وقال: «موعدكم الصفا» قال: فما أشرف لهم يومئذ أحد إلا أناموه، قال: فصعد رسول الله ﷺ الصفا وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله أبيدت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم فقال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن» متفق عليه. قال: "ويوم حنين خرج رسول الله ﷺ في عشرة آلاف فعانهم أبو بكر وقال: لن نغلب اليوم من كثرة، فانهزموا ولم يبق مع النبي ﷺ إلا تسعة من بني هاشم وابن أم أيمن وكان علي بين يديه فقتل من المشركين أربعين وانهزموا".

قلنا: هذا كذب مفترى. فهذه المسانيد والسير والتفاسير ما ذكر فيها أن أبا بكر عانهم. واللفظ الذي قاله بعض المسلمين لن نغلب بعد اليوم من قلة، لم يقل من كثرة. وقولك: "بقي معه تسعة" باطل بل قال ابن إسحاق: بقي معه نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته فثبت معه أبو بكر وعمر وعلي والعباس وأبو سفيان وربيعة ابنا الحارث وأسامة وأيمن.

وقولك: "إن عليا قتل بين يديه أربعين" كذب، ما قال هذا أحد يعتد به. وفي الصحيحين من حديث البراء أن النبي ﷺ نزل يومئذ عن بغلته ودعا واستنصر وهو يقول:

«أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب»

اللهم أنزل نصرك. قال البراء: وكنا إذا احمر البأس نتقي به وكان الشجاع منا الذي يحاذيه. يعني النبي ﷺ. 25

ولمسلم من حديث سلمة بن الأكوع قال: لما غشوا النبي ﷺ نزل ثم قبض قبضة من التراب واستقبل به وجوههم فقال: «شاهت الوجوه» فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا مدبرين.

فصل قال: "الخامس إخباره بالغيب والكائن قبل كونه. أخبر أن طلحة والزبير لما استأذنا في الاعتمار قال: ما تريدان العمرة وإنما تريدان البصرة. وكان كما قال. وأخبر وهو جالس بذي قار يبايع: يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل لا يزيدون ولا ينقصون يبايعونني على الموت. فكان كذلك آخرهم أويس القرني. وأخبر بقتل ذي الثدية. وأخبر بقتل نفسه الشريفة. وأخبر ابن شهريار اللعين 26 بقطع أربعته وصلبه ففعل به معاوية ذلك. وأخبر ميئم التمار 27 بأنه يصلب عاشر عشرة وأراه النخلة التي يصلب عليها فوقع كذلك. وأخبر رشيدا الهجري بصلبه فصلب. وأن الحجاج يقتل كميل بن [زياد] وأن قنبرا يذبحه الحجاج فوقع. فقال للبراء [بن عازب]: إن ابني [الحسين] يقتل ولا تنصره فكان كذلك. وأخبر بملك بني العباس: يسر لا عسر فيه لو اجتمع عليهم الترك والديلم والسند والهند على أن يزيلوا ملكهم لما قدروا حتى يشذ عنهم مواليهم وأرباب دولتهم ويسلط عليهم ملك من الترك يأتي عليهم من حيث بدأ ملكهم لا يمر بمدينة إلا فتحها ولا ترفع لحربه راية إلا نكسها الويل ثم الويل لمن ناوأه فلا يزال كذلك حتى يظفر ثم يدفع ظفره إلى رجل من عترتي يقول بالحق ويعمل به. وكان الأمر كذلك حيث ظهر هلاكو من ناحية خراسان".

فيقال: أما الإخبار ببعض المغيبات فيقع ممن هو دون علي من الصلحاء وغيرهم ممن لا يصلح للإمامة. وأبو هريرة وحذيفة وغيرهما كانوا يحدثون بأضعاف ذلك، وأبو هريرة يسنده وحذيفة يسنده مرة وتارة لا يسنده. فما أخبر به هو أو غيره قد يكون مما سمعه من الرسول ﷺ وقد يكون مما كوشف به علي وعمر. وفي الزهد لأحمد بن حنبل والحلية لأبي نعيم وكرامات الأولياء لابن أبي الدنيا والخلال واللالكائي جملة من ذلك عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

وما أورده عن علي فلا نسلم صحته؛ ومنه ما يعرف كذبه، فإن هلاكو ما دفع ظفره إلى علوي. ومما يبين أن عليا ما كان يعلم المستقبلات أنه كان في خلافته وحروبه يظن أشياء فيتبين له الأمر بخلاف ظنه، فلو عرف أنه يجري ما جرى من قتل الناس ولم يحصل المقصود لما قاتل، فإنه كان لو لم يقاتل أعز وأنصر. ولو علم أنه إذا حكم الحكمين يحكمان بما حكما به لم يحكمهما. فأين علمه بالكوائن بعده؟ وأين كشفه الكرب عن وجه الرسول ﷺ بسيفه حتى ثبت قواعد الدين وهو مع جيشه الذين هم تسعون ألفا لم يظفر بمعاوية؟ بل الرافصة تدعي فيه الشيء ونقيضه فتغلو فيه حتى يقولوا بعصمته وأنه لا يقع منه سهو وأنه يعلم المغيبات وما يقنعون له بما أعطاه الله من الشجاعة حتى يحملوه ما لا يطيقه بشر ولا يقبله عقل عاقل بافتراء الطرقية، ثم يذكرون عجزه عن مقاومة أبي بكر مع عدم مال أبي بكر وقلة رجاله، وكذلك فليكن التناقض! وإنما قال تعالى: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم} فأيده الله بالمؤمنين كلهم، علي وغيره. ومما يبين أنه لم يكن يعلم المستقبلات قوله:

لقد عجزت عجزة لا أعتذر ** سوف أكيس بعدها وأستمر

وأجمع الرأي الشتيت المنتشر

وكان يقول ليالي صفين: "يا حسن ما ظنَّ أبوك أن الأمر يبلغ هذا، لله در مقام قامه سعد بن مالك وعبد الله بن عمر، إن كان برا إن أجره لعظيم وإن كان إثما إن خطره ليسير". وتواتر عنه أنه كان يتململ من اختلاف أصحابه ورعيته عليه. وقد دل الواقع على أن رأي ولده حسن من ترك القتال كان أجود وأنفع للأمة. وقد قعد عن القتال مثل سعد وسعيد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت وعمران بن حصين وجماعة، ودلتهم النصوص على القعود: ثبت أن النبي ﷺ قال: «ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم» ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا. مع أن عليا لم يكفر أحدا ممن قاتله حتى الخوارج الذين كفروه ولا سبى لهم ذرية. وكان يترضى عن طلحة والزبير ويدعو على معاوية وعمرو من غير أن يكفرهما.

فصل قال: "السادس أنه كان مستجاب الدعاء. دعا على بشر بن أرطأة أن يسلبه الله عقله فخولط، ودعا على العيزار بالعمى فعمي، ودعا على أنس لما كتم شهادته بالبرص فبرص، وعلى زيد بن أرقم بالعمى فعمي".

قلنا: هذا موجود في الصحابة والصالحين فلا ينكر لعلي. وكان سعد بن أبي وقاص لا تخطئ له دعوة لأن النبي ﷺ دعا له: اللهم سدد رميته واجب دعوته. والبراء بن مالك كان يقسم على الله فيبر قسمه، كما في الصحيح: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك» وقد بارز مائة مبارزة. والعلاء بن الحضرمي نائب رسول الله ثم نائب أبي بكر على البحرين مشهور بإجابة الدعاء.

قال: "وروى الجمهور أن النبي ﷺ لما خرج إلى بني المصطلق فنزل بقرب واد وعر وهبط جبريل وأخبره أن طائفة من كفار الجن قد استنبطوا الوادي يريدون كيده فدعا بعلي وأمره بنزول الوادي فقتلهم".

فيقال: علي أعظم من هذا. وإهلاك الجن لمن هو دونه. لكن هذا من الأكاذيب المعلومة بالضرورة. [ولم يقاتل أحد من الإنس الجن.] وهو من جنس قتاله للجن ببئر ذات العلم وهذه الموضوعات لا تروج علينا. نعم تروج على إخوانك أهل الجرد وجزين. وعلي أرفع قدرا من أن تثبت له الجن. وقد سأل شيعي المحدث أبا البقاء [خالد بن يوسف] النابلسي عن قتال [علي] الجن فقال: [أنتم معشر الشيعة] أما لكم عقل، أيما أفضل عندكم عمر أو علي؟ قال: بل علي، فقال: إذا كان النبي ﷺ يقول لعمر: «ما رآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك» فإذا كان الشيطان يهرب من عمر، فكيف يقاتل بنوه عليا؟

وقد روى ابن الجوزي في الموضوعات حديثا طويلا في محاربته الجن وأنه كان عام الحديبية وأنه حاربهم ببئر ذات العلم من طريق محمد بن أحمد المفيد: أخبرنا محمد بن جعفر السامر: حدثنا عبد الله بن محمد السكوني: حدثنا عمارة بن يزيد: حدثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عبيد الله بن الحارث عن أبيه عن ابن عباس قال: لما توجه رسول الله ﷺ إلى مكة عام الحديبية أصاب الناس عطش وحر فنزل الجحفة فقال: من يمضي في نفر بالقرب فيردون بئر ذات العلم وأضمن لهم الجنة؟ فذكر حديثا طويلا فيه أنه بعث رجلا ففزع من الجن ورجع ثم آخر فرجع ثم أرسل عليا فنزل البئر وملأ القرب بعد هول شديد وأن النبي ﷺ قال: الذي هتف بك من الجن هو سماعة بن غراب الذي قتل عدو الله مسعرا شيطان أصنام قريش. قال ابن الجوزي: وهذا موضوع، والمفيد ومحمد [بن جعفر و]السكوني مجروحون، قال أبو الفتح الأزدي: وعمارة يضع الحديث.

فصل

قال: "ورجوع الشمس له مرتين إحداهما في زمن النبي ﷺ. روى جابر وأبو سعيد أن رسول الله ﷺ نزل عليه جبريل يناجيه وتوسد فخذ علي فلم يرفع رأسه حتى غابت الشمس فصلى علي العصر إيماء فلما استيقظ نبي الله قال له: سل الله يرد عليك الشمس لتصلي العصر قائما فدعا فردت الشمس وصلى. وأما الثانية فلما أراد أن يعبر الفرات ببابل اشتغل كثير من أصحابه ببعض دوابهم وصلى لنفسه في طائفة من أصحابه العصر وفات كثيرا منهم فتكلموا في ذلك فسأل الله رد الشمس فردت. ونظمه السيد الحميري فقال:ردت عليه الشمس لما فاته ** وقت الصلاة وقد دنت للمغربحتى تبلج نورها في وقتها ** للعصر ثم هوت هوى الكوكبوعليه قد ردت ببابل مرة ** أخرى وما ردت لخلق مغرب"

قلنا: علمنا اليقيني بفضل علي لا يحتاج معه إلى هذا الكذب. فأما رد الشمس له في زمن النبي ﷺ فقد ذكره طائفة بلفظ آخر كالطحاوي والقاضي عياض وغيرهما وعدوا ذلك من معجزات الرسول ﷺ؛ لكن الحذاق يعلمون أن هذا لم يكن. والحديث في ذلك ذكره ابن الجوزي في الموضوعات من طريق عبيد الله بن موسى عن فضيل بن مرزوق عن إبراهيم بن الحسن عن فاطمة بنت الحسين عن أسماء بنت عميس قالت: كان رسول الله ﷺ يوحى إليه ورأسه في حجر علي فلم يصل العصر حتى غربت الشمس فقال النبي ﷺ: اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس، قالت أسماء فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت. قال أبو الفرج بن الجوزي: وهذا موضوع بلا شك، وقد اضطربوا فيه فرواه سعيد بن مسعود المروزي عن عبيد الله بن موسى عن فضيل عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن علي بن الحسين عن فاطمة بنت الحسين عن أسماء نحوه؛ وفضيل [بن مرزوق] ضعفه يحيى وقال أبو حاتم بن حبان: يروي الموضوعات [ويخطئ على الثقات، قال أبو الفرج وهذا الحديث مداره على عبيد الله بن موسى عنه،] وعن ابن عقدة: أخبرنا أحمد بن يحيى الصوفي: حدثنا عبد الرحمن بن شريك: حدثني أبي عن عروة بن عبد الله بن قشير قال: دخلت على فاطمة بنت [علي بن] أبي طالب فحدثتني أن عليا - وذكر حديث رجوع الشمس، قال أبو الفرج: وهذا باطل، أما ابن شريك فقال أبو حاتم: واهي الحديث، وأنا لا أتهم بهذا الا ابن عقدة [فإنه كان رافضيا يحدث بمثالب الصحابة،] قال ابن عدي: سمعت أبا بكر بن أبي غالب يقول: ابن عقدة لا يتدين بالحديث كان يحمل شيوخا بالكوفة على الكذب يسوي لهم نسخا ويأمرهم أن يرووها، وسئل الدارقطني عنه فقال: رجل سوء، وقد روى داود بن فراهيج عن أبي هريرة، وداود ضعفه شعبة.

قلتُ: لم يصح أن داود حدث به، رواه يزيد النوفلي عنه وهو واه، وعن يزيد ابنه يحيى وهو ضعيف.

فإن قيل: في الصحيحين رد الشمس لبعض الأنبياء؛ قلنا: ما ردت له ولكن تأخر غروبها وبورك له في النهار. وطول النهار وقصره قد يختفي. وإنما علمنا وقوفها ليوشع ﷺ بالنص، فإن ثبت نص قلنا به فلا مانع من ذلك. لكن الشأن هل وقع الحادث العظيم أن الشمس غربت ثم طلعت وما نقله أهل التواتر كما نقلوا انشقاق القمر ونطق به [القرآن]. ثم إن يوشع كان محتاجا إلى ذلك لأن القتال كان محرما عليه بعد الغروب لأجل ما حرم الله عليهم من العمل ليلة السبت. وأما أمتنا فلا حاجة بهم إلى ذلك فإن الذي فاتته العصر إن كان مفرطا لم يسقط ذنبه إلا بالتوبة ومعها يستغني عن رد الشمس، وإن لم يكن مفرطا كالنائم والناسي فلا ملام عليه في صلاتها بعد الغروب. ثم نفس غروب الشمس يخرج الوقت المضروب للصلاة فالمصلي بعد ذلك لا يكون مصليا في الوقت، ولو عادت وطلعت بعد غروبها حصل بغروبها إفطار الصائم وصلاة المسلمين المغرب؟ فبعد طلوعها أيبطل صوم الصائم وصلاته؟ وهذا تقدير ما لم يوجد. وهذا رسول الله ﷺ وقد فاتته العصر يوم الخندق وصلاها قضاءً هو وكثير من أصحابه وما سأل الله أن يرد له الشمس، وقد دعا على من شغله عنها وتألم لذلك. فإن كانت الشمس احتجبت قبيل الغروب بغيم ثم انكشفت فيمكن، فلعلهم ظنوا أنها غربت ثم كشفت الغمام عنها.

ولهذا الخبر إسناد آخر رواه جماعة عن [محمد بن إسماعيل بن] أبي فديك: أخبرنا محمد بن موسى القطري عن عون بن محمد عن أمه أم جعفر عن جدتها أسماء بنت عميس أن رسول الله ﷺ وضع رأسه في حجر علي فلم يحركه حتى غابت الشمس فقال النبي ﷺ: اللهم إن عبدك عليا احتسب نفسه على نبيه فرد عليه شرقها، قالت أسماء فطلعت حتى وقفت على الجبال والأرض فقام علي فتوضأ وصلى العصر ثم غابت الشمس وذلك بالصهباء في غزوة خيبر. عون بن محمد هو ابن الحنفية وأمه هي ابنة محمد بن جعفر بن أبي طالب. والخبر منكر. [وعون وأمه ليسا ممن يعرف حفظهم وعدالتهم ولا من المعروفين بنقل العلم ولا يحتج بحديثهم في أهون الأشياء، فكيف في مثل هذا، ولا فيه سماع المرأة من أسماء بنت عميس فلعلها سمعت من يحكيه عن أسماء فذكرته.

وهذا المصنف ذكر عن ابن أبي فديك أنه ثقة وعن القطري أنه ثقة ولم يمكنه أن يذكر عمن بعدهما أنه ثقة وإنما ذكر أنسابهم، ومجرد المعرفة بنسب الرجل لا توجب أن يكون حافظا ثقة.]

قلتُ: ولفظ ابن المطهر من أن عليا صلاها للوقت ما علمت أحدا رواه. وأما رد الشمس لعلي ببابل فهذا من أباطيل الرافضة.

قال: "وزاد الماء بالكوفة وخافوا الغرق فركب علي بغلة رسول الله ﷺ والناس معه فنزل علي على شاطئ الفرات فصلى ودعا وضرب صفحة الماء بقضيب فغاض الماء وسلم عليه كثير من الحيتان ولم ينطق الجَرّي فسئل عن ذلك فقال: أنطق الله لي ما طهر من السمك وأصمت ما أخرسه وأنجسه وأبعده".

قلنا: أين إسناد هذا؟ وإلا فمجرد الحكايات يقدر عليه كل أحد ولا يعني شيئا. ثم هو باطل. ولو وقع لتوفرت الدواعي والهمم على نقله. ثم السمك كله طاهر مباح أجمعوا على حله فكيف يقال: إن الله أنجسه؟ أفنحرم ما أحل الله بمثل هذه الخرافة؟ ونقول: نطق السمك ليس هو مقدورا له عادة بل من الخوارق، فالله أنطق ما أنطق منه بقدرته وما بقي فعلى الأصل أن لو كان ذلك وقع فأي ذنب للسمك؟ وقد قلنا إن عليا أجل قدرا من أن يحتاج إلى هذه الموضوعات.

قال: "وروى جماعة أن عليا كان يخطب [على منبر الكوفة] فظهر ثعبان فرقي المنبر وخاف الناس وأرادوا قتله فمنعهم علي فخاطبه ثم نزل فسأل الناس عنه عليا فقال: هو حاكم الجن التبست عليه مسألة فأوضحتها له. وكان أهل الكوفة يسمون الباب الذي دخل منه باب الثعبان، فأراد بنو أمية إطفاء هذه الفضيلة فنصبوا على ذلك الباب قتلى كثيرة مدة طويلة حتى سمي باب القتلى".

فيقال من هو دون علي تحتاج الجن إليه وتستفتيه، وهذا معلوم قديما وحديثا. فإن كان هذا وقع فقدره أجل من ذلك، وإن لم يكن وقع لم ينقص فضله بذلك. ولكن أئمتك المعتزلة تنكر كرامات الأولياء، ومن جحد وقوعها من صالحي الأمة فقد كابر. ولكن أكرم الناس عند الله أتقاهم، وإن لم تقع له كرامة. قال: "والفضائل إما نفسانية أو بدنية أو خارجية. وأمير المؤمنين جمع الكل فجمع الزهد والعلم والحكمة فهذه النفسانية. وجمع العبادة والشجاعة والصدقة فهذه البدنية. وأما الخارجية كالنسب فلم يلحق فيه، وتزوج بابنة سيد البشر سيدة نساء العالمين. وقد روى أخطب خوارزم بإسناده عن جابر قال: لما تزوج علي فاطمة زوجه الله إياها من فوق سبع سماوات وكان الخاطب جبريل والشهود ميكائيل وإسرافيل في سبعين ألفا فأوحى إلى شجرة طوبى: انثري ما فيك من الدر والجوهر ففعلت والتقطه الحور العين".

قلنا: الأمور الخارجة عن نفس الإيمان والتقوى لا يحصل بها فضل عند الله بمجردها. قال النبي ﷺ: «ألا لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى» وسئل رسول الله ﷺ عن أكرم الناس قال: «أتقاهم» قيل ليس عن هذا نسألك فقال: «يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله خليل الله» فإبراهيم أكرم على الله من يوسف، وأين ما بين أبويهما؟ فليس في بني آدم من حيث النسب مثل يوسف. وإذا فرضنا اثنين أحدهما أبوه نبي والآخر أبوه كافر وتساويا في التقوى والطاعة من كل وجه كانت درجتهما في الجنة سواء؛ ولكن أحكام الدنيا بخلاف ذلك في الإمامة والزوجية والشرف وتحريم الصدقة ونحو ذلك. والخير في الأشراف أكثر منه في الأطراف. قال الله تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} وقد قال أيضا: {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون} وقال: {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} كما أنت راء في العلوية العبد الصالح والمسرف على نفسه. دعنا من ذا، أما هؤلاء اليهود المغضوب عليهم من أولاد الأنبياء؟ قال الله تعالى: {واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق}

ونحن إذا قلنا: العرب أفضل من العجم، فلكثرة ما في الصنف من الخير والتقوى والمحاسن التي هي [فيهم] أكثر منها في غيرهم. وعن النبي ﷺ فيما رواه أبو داود وغيره قال: «لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب» وقال ﷺ: «إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء؛ الناس رجلان مؤمن تقي وفاجر شقي»

ونحن لا ننازع أن عليا في الدرجة العليا من الكمال، وإنما النزاع في أنه أكمل من الثلاثة وأحق بالإمامة منهم، وليس فيما ذكره ما يدل على ذلك. [وهذا الباب للناس في طريقان: منهم من يقول إن تفضيل بعض الأشخاص على بعض عند الله لا يعلم إلا بالتوقيف، فإن حقائق ما في القلوب ومراتبها عند الله مما استأثر الله به فلا يعلم ذلك إلا بخبر الصادق. ومنهم من يقول قد يعلم ذلك بالاستدلال. وأهل السنة يقولون إن كلا من الطريقين إذا أعطي حقه من السلوك دل على أن كلا من الثلاثة أكمل من علي. أما الطريق التوقيفي فالنص والإجماع،] والإجماع على أفضلية أبي بكر وعمر [اتفقت عليه الأمة] سواكم، والتوقيف فقد مر عدة نصوص بذلك. وفي الصحيحين عن ابن عمر الذي هو أصدق من برأ الله في زمانه أنه قال: كنا نقول ورسول الله ﷺ حي: أفضل الأمة بعد النبي ﷺ أبو بكر ثم وعمر، وفي لفظ ثم يبلغ ذلك النبي ﷺ فلا ينكره. وأما عثمان فقال جماعة من العلماء كان عثمان أعلم بالقرآن من علي وعلي أعلم بالسنة؛ وعثمان أعظم جهادا بماله وعلي اعظم جهادا بنفسه؛ وعثمان أزهد في الرياسة وعلي أزهد في المال؛ وسيرة عثمان أرجح وهو أسن من علي ببضع وعشرين سنة وأجمعت الصحابة على تقديمه على علي فثبت أنه أفضل.

قالوا: علي أفضل لقرابته؛ قلنا: حمزة من أكبر السابقين وهو أقرب نسبا، وروي أنه «سيد الشهداء» فيكون أفضل.

قالوا في عثمان: فعل وفعل وولى أقاربه وأسرف في العطاء؛ قلنا: اجتهاد عثمان في ذلك أقرب إلى المصلحة، فإن الأموال أخف خطرا من الدماء، فلهذا كانت خلافته هادئة ساكنة كثيرة الجهاد والفتوحات الكبار كثيرة الفيء ولكنها لا تقارب خلافة من قبله. والذين خرجوا عليه فسّقوه والذين خرجوا على علي كفروه؛ ولا خير في الطائفتين.

هامش

قال الذهبي في ميزان الاعتدال ج3 ص467: "ولقد ساق أخطب خوارزم من طريق هذا الدجال ابن شاذان أحاديث كثيرة باطلة سمجة ركيكة في مناقب السيد علي رضي الله عنه، من ذلك بإسناد مظلم: عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا: من أحب عليا أعطاه الله بكل عرق في بدنه مدينة في الجنة".

قال في الأصل: "والجواب أن كتاب الفردوس فيه من الأحاديث الموضوعات ما شاء الله، ومصنفه شيرويه بن شهردار الديلمي وإن كان من طلبة الحديث ورواته، فإن هذه الأحاديث التي جمعها وحذف أسانيدها نقلها من غير اعتبار لصحيحها وضعيفها وموضوعها؛ فلهذا كان فيه من الموضوعات أحاديث كثيرة جدا."

الحديث لم يروه البيهقي في أي من مصنفاته.

في هامش مختصر الذهبي: "هذا الحديث في صحيح البخاري وليس هو في صحيح مسلم".

أي رؤي أبو لؤلؤة عند الهرمزان

في منهاج السنة: "والذي قال له: غبت عن بدر وبيعة الرضوان وهربت يوم أحد، قليل جدا من المسلمين. ولم يعيّن منهم إلا اثنان أو ثلاثة أو نحو ذلك. وقد أجابهم عثمان وابن عمر..". أما في المنتقى المطبوع: "وقولك: "وقالوا له: غبت عن بدر، وهربت يوم أحد، ولم تشهد بيعة الرضوان" قلنا: هذا ما قاله إلا جهلة الرافضة ممن قاتله، وقد أجابهم عثمان.."

في المطبوع: "والحمارية" والتصحيح من المنهاج.

في المطبوع: "لا يمكنه" والتصحيح من المنهاج.

لم يرو أبو نعيم شطره الأول، وإنما روى منه "من كنت مولاه فعلي مولاه" وروى: "اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله".

لم يروه أبو نعيم في أي من مصنفاته.

لم يروه أبو نعيم.

رواه في الحلية لكنه لم يروه في تفسير {ولتعرفنهم في لحن القول}.

في المطبوع: "أيسر النفاق" والتصحيح من المنهاج.

ينظر كلام الشوكاني في الفوائد المجموعة ح106 وتعليق عبد الرحمن اليماني.

ليس في شيء من مصنفات أبي نعيم ولا ابن عبد البر.

رواه في حلية الأولياء.

لم يروه أبو نعيم، بل روى في معرفة الصحابة عن أسيد بن صفوان موقوفا قال: قال الله تعالى: {جاء بالصدق} يعني محمدا، {وصدق به} يعني أبا بكر" في حديث طويل. وروى في حلية الأولياء عن مجاهد: "{والذي جاء بالصدق وصدق به} قال: هم الذين يجيئون بالقرآن ويقولون: هذا الذي أعطيتمونا قد اتبعنا ما فيه".

رواه ابن الجوزي في العلل المتناهية من طريق أبي نعيم عن أبي الحمراء وقال: "هذا حديث لا يصح. قال ابن حبان: أحمد بن الحسن الكوفي [أحد رواته] يضع الحديث، قال الدراقطني: متروك". وقال الذهبي في تلخيص العلل: "وضعه أحمد بن الحسن الكوفي."

لم يروه أبو نعيم، وإنما روى في الحلية عن عطاء الخراساني في قوله: {حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} قال: "حسبك ومن اتبعك من المؤمنين الله".

لم يروه أبو نعيم وإنما روى أنها "نزلت في أصحاب الخيل". قال ابن كثير في جامع المسانيد والسنن: "رفعه غريب، بل منكر".

لم يروه أبو نعيم.

لم يروه أبو نعيم.

في ميزان الاعتدال للذهبي: "ثم وثبت فجعل يصيح".

في المطبوع: "عبد الله بن عوف"

الحديث في صحيح مسلم بلفظ: "جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال: أشهد على نبي الله ﷺ ما ولى. ولكنه انطلق أخفاء من الناس، وحسر إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد، فانكشفوا. فأقبل القوم إلى رسول الله ﷺ وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبدالمطلب. اللهم نزل نصرك» قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذى به. يعني النبي ﷺ". ورواه البخاري مختصرا.

في كتاب الحلي: "وأخبر عليه السلام جويرية بن مسهر بأن اللعين يقطع يديه.."

في المطبوع: "وأخبر مسمارا التمار".



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جلباب المرأة المسلمة للشيخ الألباني

  جلباب المرأة المسلمة صفحة رقم -35-  مقدمة الطبعة الأولى :   بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه الكريم : ( يا...