Translate

Translate ترجم الصفحة لاي لغة تريد

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 27 فبراير 2024

قصة أبي هريرة والشيطان و قصة المستهزئ الذي هداه الله و قصة المقداد والأعنز وقصة جريج العابد



سلسلة القصص المنجد

1.قصة أبي هريرة والشيطان

الشيطان هو ذلك العدو الملازم للإنسان، مختص بغوايته وإضلاله، ولكنه رغم عدائه وكذبه صدق مع أبي هريرة في نصيحته له بقراءة آية الكرسي، فمن قرأها فلا يزال عليه من الله حافظ.

وقد وضح الشيخ في هذه المادة أسباب فضل آية الكرسي، والوسائل التي تعين على الحذر من الشيطان، وقبل هذا وذاك ذكر فوائد قصة أبي هريرة والشيطان، والتي تربو على عشرين فائدة، بعد أن صدر المادة بذكر نص الحديث وبعض مواقف الصحابة مع الجن.

نص حديث أبي هريرة مع الشيطان وشرح ألفاظه

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فلقاؤنا في هذه الليلة وقصتنا -أيها الإخوة- مع أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، لنلتقي معه في هذه القصة العظيمة التي رواها الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: عن أبي هريرة قال: (وَكَّلَنِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج وعليَّ عيالٌ ولي حاجةٌ شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله! شكا حاجةً شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود.

فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيالٌ ولن أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله! شكا حاجةً شديدةً وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود.

فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه ثلاث مرات تزعم أنك لا تعود ثم تعود، قال: دعني وسوف أعلمك كلماتٍ ينفعك الله بها، قلت: ما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي - ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم)) [البقرة:255]- حتى تختم الآية، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطانٌ حتى تصبح؛ فخليت سبيله.

فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله! زعم أنه يعلمني كلماتٍ ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: وما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: - {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [البقرة:255]- وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطانٌ حتى تصبح -وكانوا أحرص شيءٍ على الخير- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، أتعلم من تخاطب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة؟ قال: لا. قال: ذاك الشيطان).

هذا الحديث أخرجه البخاري رحمه الله تعالى في كتاب: الوكالة، باب: إذا وكل الموكل رجلاً فترك الوكيل شيئاً فأجازه الموكل فهو جائز، ورواه رحمه الله كذلك في كتاب: فضائل القرآن من صحيحه.

هذا الحديث في شرحه: أن النبي صلى الله عليه وسلم وكَّل أبا هريرة بحفظ زكاة رمضان، والمقصود زكاة الفطر ليفرقها النبي صلى الله عليه وسلم على الفقراء، وفي رواية: أن أبا هريرة كان على تمر الصدقة، فوجد أثر كفٍ كأنه قد أخذ منه.

- وقوله: (من الطعام) المراد بالطعام: البر ونحوه مما يزكى به، وهذا دليل على أن صدقة الفطر تخرج من الطعام، فقد جمعها النبي عليه الصلاة والسلام من الطعام ووكَّل بحفظها أبا هريرة.

- وفي الحديث قوله: (لأرفعنك) أي: لأذهبن بك أشكوك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: ليقطع يدك لأنك سارق.

- وقوله: (إني محتاج وعلي عيال) أي: فقير في نفسي، (وعليَّ عيال) أي: أظهر حاجة أخرى وهي وجود عيال له، ثم قال مؤكداً حاجته: (ولي حاجةٌ شديدة) أي: زائدة، وشديدة: صعبة كدينٍ أو جوعٍ مهلك ونحو ذلك، فهذا تأكيد بعد تأكيد، يقول: (إني محتاج وعليَّ عيال ولي حاجةٌ شديدة).

- وقوله: (إني محتاج وعلي عيال) وفي رواية: (إنما أخذته لأهل بيتٍ فقراء من الجن).

- وقوله: (فرصدته) أي: ترقبت مجيئه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنه سيأتي.

- وقوله: (إنه سيعود) هذا تأكيد من الصحابي رضي الله عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بذلك.

- وقوله في آخر الحديث: (لن يزال عليك من الله حافظ) أي: لن يزال من عند الله أو أمر الله حافظٌ عليك من قدرته سبحانه أو من الملائكة، لا يقربك شيطان لا إنسي ولا جنيٌ، لا أمر ديني ولا دنيوي.

- وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقك -أي: في تعليمه لك- وهو كذوب) أي: في سائر أقواله؛ لأن هذه عادة الشيطان.

هذا الحديث يبين حلقة من حلقات الصراع بين المسلم والشيطان.

مواقف متفرقة للصحابة مع الجن

لقد حصل لعددٍ من الصحابة مواقف مثل موقف أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فمن هذه المواقف: 1 - أن أبا أيوب الأنصاري حدَّث أنه كانت له عكة فيها تمر، وكانت تجيء الغيلان من الجن -ومنه قول الصحابي: [إذا تغولت الغيلان فعليكم بالأذان] إذا تراءت الغيلان أمامكم وظهرت فعليكم بالأذان؛ لأن الأذان يطردها- وتأخذ منه، وفي الرواية: أنها علمته آية الكرسي، وأنه لا يقربه شيطان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صدقك وهو كذوب).

2 - كذلك قصة أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه: أن أباه كعباً أخبره أنه كان له جرين فيه تمر -والجرين: هو البيدر الذي يجمع فيه الطعام- وكان يتعاهده، وكلما جاء يتعاهد هذا البيدر وجده قد نقص، فحرسه ذات ليلة فإذا هو بدابةٍ كهيئة الغلام المحتلم، قال: فسلم فرد السلام، فقال: ما أنت جنٌ أم إنس؟ قال: جنٌ، فقلت: ناولني يدك، فإذا هي يد كلب وعليها شعر كلب، فقلت أهذا خلق الجن؟ قال: لقد علمت الجن أن فيهم من هو أشد مني، فقلت: ما يحملك على ما صنعت؟ قال: بلغني أنك تحب الصدقة فأحببت أن أصيب من طعامك.

فقلت: ما الذي يحرزنا منكم؟ قال: هذه الآية -آية الكرسي- فتركته ثم غديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته قال: صدق الخبيث.

رواه ابن حبان في صحيحه.

3 - وحدثت كذلك حادثة أخرى رواها عبد الله بن مسعود قال: لقي رجلٌ من أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم رجلاً من الجن فصارعه فصرعه الإنسي، فقال له الإنسي: إني لأراك ضئيلاً شخيتاً كأن ذريعتيك ذريعتا كلب -تصغير ذراع- فكذلك أنتم معشر الجن أم أنت من بينهم كذلك؟ قال: لا والله.

إني منهم لضليع.

يقول الإنسي: أنا أراك ضئيلاًً -أي: دقيق الجسم- شخيتاً -أي: مهزولاً- فهل أنتم الجن هكذا أم أنك أنت ضعيف من بينهم؟ قال: لا والله إني من بينهم لضليع- أي: جيد الأضلاع، ولكن عاودني الثانية فإن صرعتني علمتك شيئاً ينفعك، قال: نعم.

فصارعه فصرعه قال: تقرأ: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [البقرة:255] فإنك لا تقرأها في بيتٍ إلا خرج منه الشيطان له خبجٌ -أي: ريحٌ- كخبج الحمار، ثم لا يدخله حتى يصبح.

وهذه الروايات في بعض أسانيدها ضعف، لكن ثبت أن عمر رضي الله عنه صارع جنياً فصرعه، وهذا من قوة عمر رضي الله عنه، وعاوده فصارعه فصرعه.

4 - وجاء في بعض الروايات كذلك: أن أبا هريرة رضي الله عنه عندما كان يحرس تمر الصدقة اشتكى لما رأى ذلك الرجل يأخذ منه، قال: فأخذته فالتفت يدي على وسطه فقلت: يا عدو الله! وثبت إلى تمر الصدقة فأخذته وكانوا أحق به منك، لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفضحك، وفي رواية قال: ما أدخلك بيتي تأكل التمر؟ قال: أنا شيخ كبير فقير ذو عيال، وما أتيتك إلا من حاجة، ولو أصبت شيئاً دونك ما أتيتك، ولقد كنا في مدينتكم هذه حتى بُعث صاحبكم، فلما نزلت عليه آيتان تفرقنا منها، فإن خليت سبيلي علمتكهما، قلت: نعم.

قال: آية الكرسي، وآخر سورة البقرة من قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة:285] إلى آخرها.

هذه بعض الروايات التي جاءت في حديث معاذ رضي الله عنه أيضاً، لكن قصة أبي هريرة رضي الله عنه مع الشيطان أثبت القصص كما هي في صحيح البخاري.

(8/3)

فوائد من قصة أبي هريرة مع الشيطان

هذه القصة يؤخذ منها فوائد كثيرة ومتعددة، فمن هذه الفوائد: أولاً: أن الشيطان قد يعلم ما ينتفع به المؤمن.

ثانياً: أن الحكمة قد يعلمها الفاجر ولكنه لا ينتفع بها؛ لأنه لا يعمل بها، وربما تأخذ علماً من رجل فاجر، والعلم هذا نافع؛ ولكن الفاجر لا ينتفع به لفجوره.

ثالثاً: أن الشخص قد يعلم الشيء ولا يعمل به، وهذا كثير حاصل، وكثيرٌ من الناس عندهم معلومات كثيرة لكن لا يعملون بها، لو كانوا يعملون بالمعلومات التي عندهم لتغيرت أحوالهم؛ لكنها معلومات بدون عمل، ومعلومات بدون عمل لا تنفع، ولو كنا نعمل بعشر ما نعلم لتغيرت أحوالنا كثيراً.

رابعاً: أن الشيطان قد يَصْدُق أو يُصَدِّق ببعض ما يصدق به المؤمن، ومع ذلك لا يكون مؤمناً، هذا الشيطان يقول: إن هذه الآيات تحفظك من الشياطين، هو صدق بهذا لكن هذا التصديق لا يعني أنه مؤمن.

خامساً: أن الكذاب قد يصدق، فبعض الكذابين يمكن أن يَصدقوا في بعض الأحيان مع أنهم كذابون، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم قال في الشيطان: (صدقك وهو كذوب).

سادساً: أن العادة والغالب على الشيطان الكذب، وأنه نادراً ما يصدق.

وكذوب صيغة مبالغة من قوله: (صدقك وهو كذوب).

سابعاً: أن الشيطان قد يتصور بصورةٍ يمكن للإنسي أن يراه من خلالها؛ لأن الله يقول في كتابه: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، الشيطان يراكم وأنتم لا ترونه {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} [الأعراف:27] هو ومن على شاكلته من الشياطين يرونكم وأنتم لا ترونهم، فإذا كان الله يقول: {مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] فكيف رآه أبو هريرة؟ وكيف رآه الصحابة الآخرون؟ فنقول: عندما تصور بصورة أخرى غير الصورة الأصلية، أي: أنه لو كان هو على شكله الأصلي الحقيقي فلا يمكن أن نراه {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] لكن إذا تشكل بصورة كلب أو حية أو على صورة هذا الكائن المهزول كأن ذراعيه ذراعي كلب، فحينها يمكن أن نراه؛ لأنه تشكل بصورة أخرى، فنراه بهذه الصورة التي تشكل عليها، لكن الصورة الأصلية التي خلقه الله عليها لا يمكن أن نراه وهو عليها {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27].

ثامناً: أن الشخص الذي يقام على حفظ الأشياء يسمى وكيلاً، فمن يوكل بحفظ الصدقة فهو وكيل.

تاسعاً: أن الجن يأكلون من طعام الإنس، قال الله عز وجل: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الإسراء:64] والطعام يدخل في الأموال، فإذا أردت أن تمنع الشيطان من مشاركتك في الطعام فقل: باسم الله، وإذا دخلت منزلك فقل: باسم الله فإنه لا يدخل معك، وإذا قدم الطعام فقلت: باسم الله فإن الشيطان يقول: لا مبيت لكم ولا عشاء، فإذاً تستطيع أن تحرم الشيطان من مشاركتك في الطعام عندما تسمي الله عليه.

وكذلك إذا كان إناء فيه طعام غطه، وقل: باسم الله، فإن من فائدة تغطيته وقول: باسم الله منع الشيطان من الأكل منه، وإن الشيطان يأكل ويشرب من الإناء المفتوح، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولو أن تعرض عليه عوداً وتسمي الله) فلو وضعت عوداً دون الغطاء، وقلت: باسم الله، فلا يستطيع الشيطان أن يأكل أو يشرب منه.

وكذلك يفيد في منع نزول الداء من السماء، فإن في السنة ليلة ينزل فيها داء كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا شيء غيبي، فإذا غطيت الإناء فلا ينزل الداء، فإذاً فائدة تغطية الإناء، وقول: باسم الله ما يلي: أولاً: منع الداء.

ثانياً: منع الشيطان من أن يشاركك في مطعومك ومشروبك.

ثالثاً: أن باسم الله تمنع الشيطان من النظر إليك.

فإذا قال إنسان: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] فإننا نريد أن نخلع ثيابنا، وأن ندخل للاغتسال، وأن يأتي الرجل أهله فما هو الحل؟ وهل نبقى نحن نهباً لأعين الجن يرون عوراتنا؟ فنقول: لا.

فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الرجل إذا أراد أن يخلع ثيابه فسمى الله، فإن الشيطان لا يستطيع أن ينظر إلى عورته، وهذا حفظ للعورة، وإذا خلع الثياب قال: باسم الله، وإذا أتى أهله قال: باسم الله.

وكذلك باسم الله تمنع من المشاركة في الأولاد؛ فإنه ورد في تفسير قوله تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الإسراء:64]: أن الشيطان يشارك الإنسان في وطء زوجته، فيشاركه في الأولاد، فإذا قلت: باسم الله قبل الجماع منعت الشيطان مشاركتك في الأولاد.

فباسم الله تمنعه من دخول بيتك، ومن طعامك، وشرابك، ومن رؤية عورتك، ومشاركتك زوجتك، ومن هذا يتبين لنا أهمية هذه الكلمة.

عاشراً: أن الشياطين قد يتكلمون باللغة العربية، وقد تسمعه أيضاً باللغة التي عليها هذا الرجل، قد يتكلم باللغة الإنجليزية أو الفارسية.

حدثوا أن أبا علقمة النحوي -وكان رجلاً متقعراً في الكلام يأتي بالكلام الوحشي- كان ذات مرةٍ يمشي في الطريق، فأصابه شيء فسقط، فتجمع عليه أهل السوق، هذا يعصر إبهامه، وذاك يقرأ في أذنه، وذلك يؤذن في الأذن الأخرى، فقال: مالكم تكأكأتم علي كتكأكئكم على ذي جنة افرنقعوا عني.

فقالوا: شيطانه يرطن بالفارسية أو بالهندية.

فقوله: (تكأكأتم علي) أي: تجمعتم علي كتجمعكم على ذي جنة، أي: كتجمعكم على من دخل فيه الجني، (افرنقعوا عني) أي: انفضوا واذهبوا عني، فقالوا: هذا شيطانه يتكلم بالهندية أو بالفارسية.

إذاً يمكن للشيطان أن يتكلم باللغات الحية المعروفة، ولا شك أنهم يعلمون أن منهم من يتكلم العربية، ومنهم من يتكلم غيرها، وفيهم أهواء وبدع؛ عندهم قدرية ورافضة ومرجئة ومبتدعة، ومشركون، وضُلاَّل {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} [الجن:11] حتى البدع موجودة عند الجن.

حادي عشر: في هذا الحديث أن الشياطين يسرقون ويخدعون، ما هو وجه السرقة هنا؟ لما جعل يحثو من الطعام ويأخذ منه بكفيه، وفي الرواية الأخرى: أنه كان يأخذ فينقص الطعام، ويخدعون لما قال له: لا أعود ثم عاد وقال له: لا أعود ثم عاد، هذا خداع.

ثاني عشر: فضل آية الكرسي، ومن الروايات الأخرى يؤخذ فضل آخر سورة البقرة.

ثالث عشر: أن الجن يصيبون من الطعام الذي لا يذكر اسم الله عليه.

رابع عشر: أن يد السارق لا تقطع في المجاعة، ويمكن أن يقال: إن المسروق لم يبلغ نصابه.

خامس عشر: قبول العذر والستر على من يظن به الصدق، فإذا جاء أحد ظهر لك منه الصدق، وأمسكت به وهو يسرق شيئاً من عندك، وعندما حققت معه شكا الحاجة والفقر والعيال ولا يظهر منه خلاف ذلك، فالذي يظهر منه -فعلاً- الفقر والشدة والمسكنة، فالأفضل لك أن تعذره بما فعل، ولا تأخذه بما اقترف، من باب قبول العذر والستر على من يظن به الصدق، وأبو هريرة رضي الله عنه في المرة الأولى هكذا كان حاله، فقد ظن به أنه محتاج فعلاً، وأنه أهلٌ للرأفة والرحمة فتركه.

سادس عشر: اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على المغيبات؛ لأن أبا هريرة لما جاء النبي عليه الصلاة والسلام لم يقص عليه القصة، بل النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي قال له: (ما فعل أسيرك البارحة؟) فما الذي أدرى النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان هناك أسير مع أن أبا هريرة لم يخبره؟ جاء أبو هريرة النبي عليه الصلاة والسلام وبادأه بالقول: (ما فعل أسيرك البارحة؟) فإذاً النبي عليه الصلاة والسلام يطلعه الله على شيء من الغيب.

سابع عشر: جواز جمع زكاة الفطر قبل ليلة الفطر لتفريقها بعد ذلك، وأنه يجزئ إخراجها قبل العيد، وكما قال العلماء: يجوز إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيومٍ أو يومين، وكان يقوم العامل في عهد الصحابة الموكل من بيت المال من الخليفة بأخذ الزكاة قبل العيد بيوم أو يومين، وإذا كان الشهر ثلاثين فثلاث ليال، ولو كان تسعة وعشرين فقبلها بيوم أو يومين، يوم وتسعة وعشرين.

ثامن عشر: أن زكاة الفطر تخرج طعاماً كما تقدم ذكره.

تاسع عشر: يقين الصحابة بكلام النبي عليه الصلاة والسلام وتصديقهم به، عندما قال أبو هريرة: (فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود) لمجرد أن الخبر من النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيعود أيقن أبو هريرة أنه سيعود.

عشرون: فضل قراءة آية الكرسي قبل النوم؛ لأن الشيطان قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [البقرة:255] فإذاً متى تقرأ بناءً على تعليمات الشيطان الرجيم؟ إذا أويت إلى فراشك، ليس لأنها وصية الشيطان بل لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك، وإلا فالشيطان لا سمع له ولا طاعة، فلم يصبح تشريعاً بكلام الشيطان بل صار تشريعاً لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (صدقك)، وهذه الفائدة التالية.

حادي وعشرون: لما قال:) صدقك)، هو التشريع وليس كلام الشيطان.

ثاني وعشرون: أن آية الكرسي تمنع شياطين الإنس والجن في ظاهر النص -سواء كان في الأمور الدينية- من أن يقترب من الإنسان؛ لأنه يقول: ولا يقربنك شيطان، وكلمة (شيطان) نكرة (ولا يقربنك) نفي، فلا يقربك شيطانٌ حتى تصبح.

ثالث وعشرون: كرامة الله تعالى لـ أبي هريرة عندما استطاع أن يلقي القبض على الشيطان، وليس آحاد الناس يستطيعون القبض على الشيطان، لكن أبا هريرة استطاع أن يلقي القبض عليه، فما استطاع الشيطان أن يفر منه، فلذلك قال: (فرحمته فخليت سبيله) وإلا لو لم يخل سبيله لما استطاع الشيطان أن يهرب منه, إذاً

(8/4)

أسباب فضل آية الكرسي

إن قال قائل: ما هي الميزة الموجودة في آية الكرسي حتى تمنع الشياطين من إيذائنا؟ ف

الجواب

إن هذه الآية هي أعظم آية في كتاب الله تعالى، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الصحابي، وأن هذه الآية إذا قرأها رجل في دبر كل صلاة -أي: بعد كل صلاة- لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه النسائي رحمه الله وغيره، فآية الكرسي إذاً تقرأ قبل النوم وكذلك في أدبار الصلوات، وهي أفضل آية في كتاب الله عز وجل.

ومن أسباب فضلها: 1 - اشتمالها على الاسم الأعظم: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [البقرة:255] في البقرة، وفي آل عمران {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1 - 2]، وفي طه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111].

2 - وكذلك فإن هذه الآية هي عشر جمل مستقلة: أ- {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [البقرة:255] متفرد بالألوهية.

ب- {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً، والقيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم:25] فكل الموجودات لا قوام لها إلا بالله عز وجل، ولا غنى لها عن الله عز وجل أبداً، فكل الموجودات مفتقرة إلى الله.

جـ- {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] لا تعتريه سبحانه وتعالى غفلة ولا ذهول، ولا نعاس، ولا نوم: أي: استغراق في النوم وغياب عن الوعي أبداً.

د- {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255] الجميع عبيده وتحت قهره وملكه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:93].

هـ- {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] لا يتجاسر أحد أن يشفع لأحد عند الله إلا إذا أذن الله، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام لكي يشفع لا بد أن يستأذن، وإذا أراد يوم القيامة أن يستأذن يأتي تحت العرش ويخر ساجداً، فيدعه الله ما شاء أن يدعه، ويعلمه من المحامد ويفتح عليه من الثناء أشياء لم يُعلمها أحداً فيعلمه إياها، وبعد ما يقولها ينتظر الناس النتيجة، ويسجد من تحت العرش ما شاء الله أن يسجد من الوقت، بعد ذلك يقول: (يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع) فهذا سيد الخلق لا يمكن أن يشفع إلا إذا أذن الله.

و {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة:255] إحاطته سبحانه وتعالى بجميع الكائنات، وإحاطته بالحاضر والماضي والمستقبل، والجن من الغيب، والله سبحانه وتعالى يحيط بهم ويعلمهم {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة:255].

ز- {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] فلا يطلع أحد على شيء من علم الله إلا من أطلعهم الله، ولولا أنه أطلعهم ما اطلعوا ولا عرفوا.

م- {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] الكرسي: موضع قدمي الرب سبحانه وتعالى، والعرش لا يقدر قدره إلا الله، الكرسي عظيم جداً وفي غاية الاتساع {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] هذا الكرسي كيف العرش؟ {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] لو أن السماوات السبع والأرضين السبع بسطت ووصل بعضها ببعض ما كانت في الكرسي إلا مثل الحلقة في صحراء من الأرض، والسماوات السبع والأرضين لو بسطت ووصل بعضها ببعض فإن مساحتها بالنسبة للكرسي مثل الحلقة التي ألقيت في صحراء من الأرض، هذا الكرسي الذي هو موضع قدمي الرب فكيف العرش العظيم؟ (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاةٍ في الأرض).

الآن نسبة كل السماوات السبع والأرضين إلى الكرسي مثل حلقة في صحراء، والكرسي نسبته إلى العرش -أيضاً- مثل حلقة في صحراء، والله أكبر من العرش، وهذا يعطيك معنى عظيماً عندما تقول: الله أكبر من كل شيء، السماوات والأرض تضيع في الكرسي، والكرسي يضيع في العرش، والله أكبر من الكرسي ومن العرش ومن السماوات ومن الأرض، استوى على العرش استواءً يليق بجلاله وعظمته، فعندما نقول: الله سبحانه وتعالى عظيم كبير، فهو شيءٌ لا يوصف أبداً، ولا يمكن أن يتخيله المتخيلون ولا يصفه الواصفون.

نحن -الآن- في الأبعاد الفلكية هذه عقولنا تضيع ولا نستطيع جمع مسافات هذه السنوات الضوئية، وهذه كلها لا شيء بالنسبة لله سبحانه وتعالى، وبالنسبة للعرش والكرسي، ولذلك فإن الله عز وجل من عظمته أنه خلق هذه الأشياء العظيمة وهي لا تقارن به سبحانه.

ط- {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255] لا يثقله، ولا يكرثه، ولا يعجزه، ولا يتعبه، ولا يشق عليه حفظ السماوات والأرض ومن فيهن، فهو سهل يسير عليه سبحانه وتعالى.

أنت كم تستطيع أن ترعى من ولد في نفس الوقت؟ المرأة كم تستطيع أن ترعى من الولد في البيت في نفس الوقت؟ تحافظ عليهم؟ إذا زادوا عن عدد معين هذا يسقط، وهذا يجرح، وهذا يصطدم بجدار، وهذا يضرب، وهذا وهذا، لا تستطيع السيطرة عليهم، فالله سبحانه وتعالى لا يئوده حفظ كل من السماوات والأرض وما فيهما من الإنس والجن والملائكة وجميع العوالم، وهذا شيء يسير على الله سبحانه وتعالى.

ي- {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] آخر جملة في الآية هي قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] كقوله تعالى: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9].

فهذه تبين لنا بجلاء عظم قدرة الله عز وجل، وأنه سبحانه قائم على جميع الأشياء التي منها الجن، وأنه لا يخرج شيءٌ منها عن ملكه، فالتحصن بهذه الآية التي معناه: أنك تلتجئ إلى الله، وتعتصم به وبقدرته وبحفظه وكلاءته ورعايته فيقيك من شر الشيطان، فإنك في الحقيقة إذا قرأتها بهذه النية فأنت تلتجئ إلى من لا ينام ولا يغفو ولا يسهو، وأن له ما في السماوات وما في الأرض، وأن الجن هؤلاء والشياطين لا يخرجون عن ملكه ولا عن قدرته، وأنه يعلم حركات الجن والشياطين، ولا يئوده حفظهما وما فيهما {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] فأنت في الحقيقة تعتصم بالله بقدرته وبعظمته، فلذلك ينجيك هذا الاعتصام ويحفظك بالتأكيد إذا كنت بالله مؤمناً وعليه متوكلاً ولا بد من هذا، والمسألة مسألة يقين وتوكل.

(8/5)

وسائل التوقي من الشيطان

إذا قال قائل: ما هي الوسائل التي نستطيع أن نحذر بها من الشيطان؟ ف

الجواب

الوسائل كثيرة، فمن ذلك: 1 - الحذر، والحيطة -أخذ التأهب- والاعتصام والالتزام بالكتاب والسنة.

2 - الالتجاء إلى الله والاحتماء به سبحانه وتعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:96 - 98].

3 - الاستعاذة عند دخول الخلاء، وعند الغضب، وعند الجماع: (اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا).

عند الغضب: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم).

وعند دخول الخلاء: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) (إذا نهق الحمار تعوذوا بالله من الشيطان الرجيم -لماذا؟ - لأنه رأى شيطاناً).

عند قراءة القرآن تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حتى أولادك وأهلك تعوذهم، وكان الحسن والحسين يعوذهما النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة) والهامة: مفرد الهوام، وهو كل من يهم بسوء.

4 - الاشتغال بذكر الله تعالى مما يحمي العبد من الشيطان، وعلى رأس الذكر القرآن، وعلى رأس القرآن آية الكرسي.

والأذكار كثيرة، وآية الكرسي واحدة من هذه الأذكار، وإذا لازم الإنسان الصالحين فإن في ذلك حفظاً له من الشيطان؛ لأن الذئب يأكل من الغنم القاصية، فالذي يتفرد عن جماعة المسلمين فإن الشيطان يتسلط عليه، (الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد) ولذلك إذا كان الإنسان مع القوم الصالحين فإنه يحمي نفسه من الشيطان الشيطان يأكل بشماله وأنت تأكل بيمينك الشيطان يشرب بشماله وأنت تشرب بيمينك الشيطان يعطي بشماله وأنت تعطي بيمينك الشيطان يأخذ بشماله وأنت تأخذ بيمينك، حتى اللقمة إذا وقعت منك لا تدعها للشيطان، وإذا علمت أن العجلة من الشيطان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العجلة من الشيطان) فلا تستعجل بل تتأنى، التثاؤب مدخل للشيطان فعليك أن تسد الطريق عليه وتضع يدك عند التثاؤب على فمك، الاستغفار -مثلاً- يقطع الطريق على الشيطان فعليك أن تلزمه وهكذا.

فهناك وسائل كثيرة تنجي العبد من الشيطان، فينبغي الالتزام بها، والمحافظة عليها، وهذا ذكر بعض ما تضمنه حديث أبي هريرة من الفوائد، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(8/6)

الأسئلة

.

(8/7)

حكم من كان على الطريقة الصوفية

السؤال

هل جميع من هم على الطريقة الصوفية مبتدعون، لأنني أعرف شخصاً على الطريقة الصوفية يقوم بدروس في الفقه وكتب العلم من كتب أهل السنة والجماعة، ويتكلم في عظمة الله وتقوى الله، ويأتي بالدليل من القرآن والسنة، ويزور تاركي الصلاة، ويذهب إلى الخارج للدعوة؟

الجواب

كلمة الصوفية قيل: هي نسبة إلى الصوف؛ لأنهم كانوا يلبسون الصوف تزهداً، وقيل: نسبة إلى الصفاء، فتىً تصافى فصوفي حتى سمي صوفي، وقيل: غير ذلك.

هذه الطائفة نشأت في البداية كردة فعل لما أصاب الناس في عهد بني أمية من الترف، وجاءت الفتوحات والأموال والغنى، واشتغل الناس بالأطعمة وتشييد القصور والبساتين، وانغمس الناس في الدنيا، وبدأت تخرج بعض ردود الفعل العكسية التي فيها عزوف تام مقابل ذلك الترف، فإذاً مبدأها كان تزهداً، وعزوفاً عن النعيم، فلا يلبسون الناعم بل يلبسون الصوف، ويعيشون على الأشياء البسيطة، ولا يشتغلون، ولا يأكلون الأطعمة الفاخرة؛ بل يعيشون على العدس والأطعمة البسيطة، ثم بعد ذلك تطور الأمر شيئاً فشيئاً، ودخل أعداء الدين في باب الصوفية دخولاً كبيراً، ومبدأ الصوفية مماثل لمبدأ الرهبان {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27].

هكذا كان بعض الصوفية، ونشأت صلة خطيرة جداً بين التصوف والتشيع، وصار هناك بعد ذلك كيان فيه انحرافات عظيمة جداً، وأيضاً اليهود كان لهم آثار على الطرق الصوفية التي نشأت.

فإذاً هناك ارتباط وثيق جداً بين الباطنية والصوفية، فرق الباطنية والصوفية، وهذا ما حكاه علماء المسلمين، وهم الآن يحاولون تمجيد الحلاج، وتؤلف فيه بعض الرسائل في بعض الجامعات في الخارج، وهو من أكفر الكفار الموجودين على ظهر الأرض؛ لأنه واحد ممن يقولون: كل ما ترى بعينك فهو الله، ويعتقد أن الإنسان جزء من الله، وأنه الجدار، ويقولون:

وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسته!!!

تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، فهم يذكرون أشياء شنيعة جداً تطورت لها الأمور بعد ذلك.

والصوفية بين البدعة وبين الكفر الأكبر، إما أن تكون أحياناً مسابح مائة أو تسعمائة أو ألف مسبحة، أو أذكار الصمدية، والصلاة النهارية، ويذكرون -مثلاً- أذكاراً معينة لم ترد في الكتاب والسنة، ويعتقدون في الأولياء والأوتاد والأقطاب والغوث الأعظم، وكل طريقة تمجد صاحبها؛ فـ الرفاعية يمجدون الرفاعي، والقادرية يمجدون عبد القادر الجيلاني، والمرسية يمجدون المرسي ابن عباس، والبدوية يمجدون البدوي ويقولون: ولي، وأنه كان على جدار فبال على الناس وهم ذاهبون إلى المسجد فهموا به، فقال: أنا رجل مالكي والناس يغتابونني وبول كل ما أكل لحمه طاهر -لأن الغيبة أكل لحم أخيك- وبولي كبول ما أكل لحمه فهو طاهر!!! انظر كيف الاعوجاج؟! ويحجون إلى القبور ويطوفون بها ويستغيثون، وعندهم قضية المولد والتوسل الشركي بالنبي صلى الله عليه وسلم، والتوسل بالأموات، وإذا أردت أن تقرأ دواوين الصوفية تجد فيها الأشعار العجيبة في الشرك:

فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم

إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم

يتوسلون بالنبي عليه الصلاة والسلام، ويستغيثون به، إني دعوتك من أين دعوتك يقول: من برع من يمن دعوتك يا رسول الله! وأغثني يا رسول الله! وانصرني يا رسول الله! وإذا لم تكن معي يا رسول الله في الآخرة فمن معي، وأنا إلى من أشكو إلا إليك يا رسول الله! وأين الله عز وجل؟ أجعلتم له بدلاً؟! {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف:194] نسيتم الله وذهبتم إلى الخلق تسألون هذا وتطلبون من هذا، وهم أموات لا يسمعون: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] ويسألون الأموات، ويكتبون الإلحاد في الأوراق ويضعونها في القبر، ويأخذون الإجابات والبركات، والمرأة التي لا تحمل تتمسح بالصخرة الفلانية فهذا شغلهم، ترى في الهند رجل قذر وسخ لا يغتسل مطلقاً رائحته قذرة يتمدد على سرير موضوع خارج كهف وأمامه الناس في صف طويل جداً وهو ماد رجله، كلما جاء أحد يمسح ويمشي، والذي بعده يمسح هذه الرجل ويمشي هكذا، يزعمون أنهم يلتمسون البركات.

جاءوا إلى الخضر قالوا: هذا هو الولي، كل من التشريعات الآن من الخضر، والخضر عنده العلم اللدني، والصوفية لا يوجد عندهم سند حدثنا فلان عن فلان؛ لأن وليهم يقول: حدثني قلبي عن ربي، ويقولون عن أسانيدنا: إنها ميت عن ميت، وأسانيدهم: عن الحي الذي لا يموت، حدثني قلبي عن ربي وكأنها برقية، الخط الساخن مفتوح نتلقى عن الله مباشرة.

وعندهم عقيدة الخرقة، وهي أن الخرقة أعطاها الشيخ للشيخ فلان بعد وفاة الشيخ فلان، وهذا الشيخ هذا بايع الخضر.

وهذا أحمد التيجاني ليلة سبع وعشرين من رمضان عند غار حراء يجتمع بالأقطاب المسئولين عن إدارة العالم، ويوزعون الأرزاق على الخلق في تلك السنة، هذا الغوث الأعظم وهذا القطب الأكبر، وهذا فلان بن فلان، هؤلاء مسئولون عن إدارة العالم، الله سبحانه وتعالى لا ينشغل بهذه الأشياء الصغيرة فأوكلها إلى الأقطاب والأوتاد، فهؤلاء يصرفون العالم، ولذلك نحن ندعوهم ونقول: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] نحن ذنوبنا كثيرة، ولا يجوز لنا أن ندخل إلى الله مباشرة، فلابد من واسطة حتى يقبل الله منا، فواسطتنا الجيلاني والبدوي والمرسي، ثم كل ولي له تخصص.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(8/8)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

سلسلة القصص المنجد

قصة المستهزئ الذي هداه الله

الاستهزاء بالدين قضية خطيرة، ترمي بصاحبها في مكان من النار سحيق، واللسان من أكثر ما يقع في ذلك، ولكن قد يهدي الله مستهزئاً بفضله، ليعود من خير الناس ديناً، وفي هذه المحاضرة شرح لحديث إسلام أبي محذورة، ومعه بيان لخطر الاستهزاء بالدين وبعض صور الاستهزاء.

(9/1)

هداية أبي محذورة بعد استهزائه بالدين

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: ففي هذه الليلة أيها الإخوة موعدنا مع قصة المستهزئ الذي هداه الله تعالى، وهذه قصة عظيمة في مجال الهداية، هداية الله تعالى للإنسان إذا أراد أن يهديه.

وهذه القصة روى أصلها الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، ورواها مطوَّلة الإمام أحمد، وابن ماجة.

وهذه القصة من مسند الإمام أحمد رحمه الله يرويها عبد الله بن محيريز، وكان يتيماً في حجر أبي محذورة.

قال روح بن معير حين جهزه إلى الشام: قلت لـ أبي محذورة: يا عمِّ! إني خارج الشام، وأخشى أن أُسأل عن تأذينك، فأخْبَرَني أن أبا محذورة قال له: (خرجتُ في نفرٍ فكنا ببعض طريق حنين - أبو محذورة رضي الله عنه يروي له ويعلمه الأذان قبل أن يخرج إلى الشام - يقول له أبو محذورة: خرجتُ في نفرٍ -يعني: مع المشركين بعد فتح مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم- خرجتُ في نفرٍ فكنا ببعض طريق حنين، فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين، فلَقِيَناه ببعض الطريق، فأذَّن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متَنَكِّبون، فصرخنا نحكيه ونستهزئ به، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت فأرسل إلينا، إلى أن وقفنا بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي سمعتُ صوتَه قد ارتفع؟ فأشار القوم كلهم إليَّ وصَدَقوا، فأرسل كلهم -أطلقهم- وحبسني، فقال: قم فأذن للصلاة، فقمتُ ولا شيء أكره إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين فقال: قل: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله -منخفضاً- ثم قال لي: ارْجِع فامدد من صوتك، فقل: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة، ثم أَمَرَّها -أي: مر بيده الشريفة- على وجهه مرتين، ثم مرتين على يديه، ثم على كبده، ثم بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرة أبي محذورة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله فيك فقلت: يا رسول الله! مُرْني بالتأذين بـ مكة فقال: قد أمرتك به، وذَهَب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية، وعاد ذلك محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقَدِمت على عتاب بن أسيد، عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ مكة، فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم).

انتهى كلام أبي محذورة رضي الله عنه.

(9/2)

شرح حديث أبي محذورة في قصة هدايته

كانت هذه القصة مرجع النبي عليه الصلاة والسلام من غزوة حنين، لما نَكَبَ عن الطريق وعَدَلَ عنه وتَنَحَّى، وكان هؤلاء يصرخون بالأذان استهزاءً لأنهم كفار، والنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يؤذن، وأن يخفض صوته بـ (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله) ثم يرفع بها صوته.

وأبو محذورة اسمه: أوس بن مِعْيَر، وولاه النبي صلى الله عليه وسلم الأذان يوم الفتح، وكان أحسن الناس أذاناً، وأنداهم صوتاً.

وقد جاء مروياً عند الدارمي بإسناد متصل بـ أبي محذورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بنحو عشرين رجلاً فأذنوا، فأعجبه صوت أبي محذورة فعلمه الأذان.

وجاء لبعض شعراء قريش في مدح أذان أبي محذورة:

أما ورب الكعبة المستورةْ وما تلا محمدٌ من سورةْ

والنغمات من أبي محذورةْ لأفعلن فعلة مذكورةْ

(9/3)

السنة في الأذان من الترجيع وغيره

وهذا الحديث يحتوي على التكبير مرتين، والروايات المشهورة بأن التكبير في أول الأذان مربع، أي: أربع تكبيرات، والشهادتان المشهور في الأذان كل واحدة مرتان، وحسب أذان أبي محذورة كل واحدة أربع، أشهد أن لا إله إلا الله أربع مرات، وأشهد أن محمداً رسول الله أربع مرات؛ ولكن المرتين الأولَيَتَين من كل واحدة سراً أو بصوت منخفض، والمرتين الأخرَيَتَين بصوت مرتفع، وهذا هو الترجيع المذكور عند الفقهاء، وهو أن المؤذن إذا قام إلى الصلاة فإن السنة أن يجهر بالتكبيرات الأربع، ثم يقول بصوت منخفض: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، ثم بعد ذلك يعود فيرفع صوته بهذه الشهادات.

وقد توفي أبو محذورة رضي الله تعالى عنه بـ مكة سنة تسعٍ وخمسين، وقيل: سبعٍ وسبعين، ولم يزل مقيماً بـ مكة، وتوارثت ذريته الأذان رضي الله تعالى عنهم.

والأذان له أكثر من كيفية، وكذلك الإقامة لها أكثر من كيفية.

والمشهور من أذان عبد الله بن زيد الذي رأى الرؤيا: التربيع في التكبير.

وكذلك قال بالتربيع الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وجمهور العلماء، أن المؤذن يقول في بداية الأذان: الله أكبر أربع مرات.

وذهب مالك رحمه الله إلى أن التكبير في أول الأذان مرتين، واحتج بأذان أبي محذورة.

وبالتربيع عَمَلُ أهلِ مكة، وهي مجمع المسلمين في المواسم وغير المواسم.

المهم: أن أذان أبي محذورة يؤخذ منه سنة الترجيع وهي ثابتة ومشروعة، وصفتها كما سبق.

وبعض العلماء قالوا بحديث عبد الله بن زيد الذي ليس فيه ترجيع؛ ولكن جمهور العلماء على هذا الحديث الصحيح ولا تَعارُض! وأيهما متقدم، وأيهما متأخر، حديث أبي محذورة أم حديث عبد الله بن زيد؟ حديث عبد الله بن زيد متقدم، وحديث أبي محذورة متأخر.

ولا تَعارُض بين حديث أبي محذورة مع حديث عبد الله بن زيد، فحديث أبي محذورة يتضمن الترجيع، وحديث عبد الله بن زيد لا يتضمن الترجيع.

فيمكن أن نقول للمؤذن: إذا أردت التزام السنة والحرص عليها فطبق سنة الترجيع.

فإذا رأيت مؤذناً بعدما يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، يسكت فترة وبعد ذلك يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، فاعلم بأنه يطبق سنة، ألا وهي سنة الترجيع.

وسنة الترجيع هي للمؤذن فقط، أما المستمع فيردد ما جهر به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول).

(9/4)

من فوائد حديث إسلام أبي محذورة

(9/5)

تغير حال الإنسان لمؤثر ما

أولاً: أن الإنسان قد ينقلب من كافر إلى مسلم في لحظة: وأبو محذورة رضي الله عنه كان كافراً فلما أسلم ولقَّنَه النبي صلى الله عليه وسلم الأذان، ومَسَح وجهه، ومسح على كبده، ودعا له بالبركة، انقلب الكُرْه إلى محبة، وانقلب الكفر إلى إيمان، وانقلب بُغْض الأذان إلى محبة الأذان، بل وطلب أن يصبح مؤذناً، وانقلب الاستهزاء بالأذان إلى الجِدِّيَّة في إقامة هذه الشعيرة: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} [الأعراف:178] {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125] ويجعل الله تعالى النور في قلبه، والهداية ربانية من الله عز وجل، كم حاول النبي صلى الله عليه وسلم هداية أبي طالب، ولم يُسلِم أبو طالب، وأما أبو محذورة فقد مَسَحَ عليه ودعا له فهداه الله عز وجل، مع أن أبا طالب أقرب إلى النبي عليه الصلاة والسلام من أبي محذورة، ذاك عمُّه؛ ولكن الله عز وجل هو الذي بيده الهداية.

فإذاً يؤخذ من الحديث: أن الهداية بيد الله، وأن الإنسان مهما كان حريصاً على هداية شخص، فلا يمكن أن يهديه إذا كتب الله عليه الضلالة، وكذلك إذا كان الشخص مهتدياً، وقدر الله له أن يستمر على الهداية، فلا يمكن أن يضل مهما اجتمع عليه من شياطين الإنس والجن.

(9/6)

فوائد حول الأذان والمؤذنين وانتقائهم وأجرة الأذان

وكذلك يؤخذ من الحديث: أن الإنسان قد يُوْلَع بالشيء حتى يصبح له عادة يطلبه ويحرص عليه: فهذا أبو محذورة رضي الله عنه صار مؤذناًَ.

وفي هذا الحديث: انتقاء صاحب الصوت الندي لأجل الأذان: لأن صاحب الصوت الندي يُسمع له، وينجذب الناس لأذانه، وبالتالي للصلاة في المسجد أكثر من صاحب الصوت غير الندي، ولأن المؤذن وظيفته خطيرة؛ لأنه يدعو الناس إلى الصلاة، بل ربما بعض الناس لا يأتي إلى المسجد إلا من أذان المؤذن، فإذا كان المؤذن نَدِيَّاً تجد أن النفوس تنشرح وتُقْبِل على المسجد، والمؤذن داعٍ يدعو يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، فيقول لهم: أقبلوا تعالوا إلى الصلاة، يدعوهم إلى الصلاة.

وبما أنه لا يمكن أن يقوم العبد إلى شيء من الطاعات إلا بقَدَر الله وتوفيقه وإعانته، فإنا نقول إذا سمعنا حيَّ على الصلاة؛ لا حول ولا قوة إلا بالله، أي: لولا أن أعطانا الله قوة وأعطانا حولاً نَقْدِرُ به على الإتيان إلى الصلاة؛ لما أمكن أن نأتي ولا أن نستطيع، ولذلك لما يقول: الله أكبر، الله أكبر، نقول: الله أكبر، الله أكبر، ينطق بالشهادتين، فننطق بالشهادتين، عندما يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، تريد أن تقول عبارة معناها: استعنا بالله، وهذه العبارة التي معناها استعنا بالله هي: لا حول ولا قوة إلا بالله، ومعنى (لا حول ولا قوة إلا بالله) لا طاقة لنا ولا قدرة، ولا إمكان لنا أن نأتي إلى المسجد أو نقوم إلى الصلاة إلا إذا وفقنا الله لذلك، وأعاننا عليه ويسره لنا، وأعطانا الحول والقوة؛ لأنه هو صاحب الحول والقوة، ومنه نستمد الحول والقوة سبحانه وتعالى.

وأقول: إن وظيفة المؤذن في المجتمع وظيفة خطيرة، ولذلك لابد أن ينتقى من الناس المخلصون أصحاب الأمانة، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المؤذنين (أمناء الناس، على أذانهم يفطرون، وعلى أذانهم يمسكون) فهم مؤتَمَنُون، فينبغي أن يكونوا من أصحاب الأمانة، ولذلك أوصى ابن عمر رضي الله عنه رجلاً أن يتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً؛ لأن المؤذن المحتسب يكون إخلاصه أشد ولا شك، ولذلك يستجيب له الناس أكثر من المؤذن الذي يأخذ المال أو يؤذن لأجل المال.

ولعل من أسباب عدم التوفيق لدى بعض الناس في الصلاة: أن بعض المؤذنين لا يؤذنون إلا من أجل المال، وتجد بعض الناس إذا أراد أن يبحث عن وظيفة ويتزوج أسرع شيء يخطر في باله الأذان، مع أن المؤذن ينبغي أن يكون ذا صفات متفوقة؛ حتى يحصل له القبول عند الناس، وحتى يكون لصوته القبول عند الناس، ولذلك إذا احتسب المؤذن الأجر في الأذان وما أخذ عليه أجرة؛ فإنه من أطول الناس أعناقاً يوم القيامة وفي الحديث: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة).

كما أن الجزاء من جنس العمل، فبأذانهم صاروا أطول الناس أعناقاً يوم القيامة، وكذلك إذا أذن ردَّد معه وشهد له يوم القيامة ما عن يمينه وشماله من شجر وحجر، وجن وإنسٍ.

وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في مناقب بلال أنه سمع دف نعليه في الجنة، أمامه عليه الصلاة والسلام.

وحكم أخذ الأجرة على الأذان: أن من أذن لأجل المال، وجعل الأذان وسيلة للمال، فهو آثم وأذانه غير مقبول؛ لأنه اشترى الحياة الدنيا بالآخرة، ودفع العمل الأخروي الديني لأجل أن ينال الأجرة الدنيوية.

وبناء على ذلك من جعل الأذان وسيلة للتكسب فليس له عند الله من خلاق.

لكن إذا لم يوجد مؤذن محتسب، ولا يوجد من الناس من يتفرغ للأذان، فعند ذلك يعطى المؤذنون من بيت المال ما يفرغهم للأذان؛ لأن الناس لا بد لهم من مؤذنين، فإذا لم يوجد مؤذنون محتسبون، فلا بد من تفريغ بعض الناس للأذان، ولكن على هذا الشخص الذي يأخذ من بيت المال ألا يكون هدفه المال، وإنما هدفه الأجر وليس الأجرة، فيأخذ الأجرة للتفرغ للأذان، فهو يأخذ ليؤذن، لا أنه يؤذن ليأخذ، يأخذ ليتفرغ للقيام بهذه الشعيرة العظيمة، وليس أنه يقوم بهذه الشعيرة لكي يأخذ المال.

وفرق بين من يؤذن ليأخذ ومن يأخذ ليؤذن، كما أن هناك فرقاً عظيماً بين من يحج ليأخذ والذي يأخذ ليحج.

فإذا قال: أنا أريد رؤية المشاعر، والذهاب إلى بيت الله الحرام، وأن أدعو هناك، وأذكر الله هناك، لكن لا أجد مالاً، وأنا أتمنى وأشتهي، فقال له إنسان: أنا أريدك تحج عن ميتي فخذ هذا المال لتحج به، فهذا هدفه ونيته؛ الحج والذهاب إلى هناك، ورؤية المشاعر، وذكر الله هناك، والدعاء هناك، فهذا يؤجر؛ فهو يأخذ المال ليتمكن من الذهاب، فالمال وسيلة، والحج هي الغاية.

أما الذي يقول: يا أخي، ابحثوا لنا عن أناس عندهم حجج لأموات لنستفيد، أو يفاوض إمام مسجد لينظر له من يعطيه أجرة حجة عن ميت على أن يكون للإمام من ذلك نصيب، فهذا ليس له عند الله خلاق.

كما بين شيخ الإسلام رحمه الله الفرق بين من يحج ليأخذ، وبين من يأخذ ليحج، فالذي يحج ليأخذ مأثوم.

وأما من يأخذ ليحج والحج هو الهدف، والأخذ إنما هو وسيلة، ومن علاماته: أنه إذا بقي مال بعد الحج أعاده إلى أصحابه.

وأما من يحج ليأخذ فتجده يفاوض ويريد أكثر، وإذا زاد شيء لا يرجعه، ولا يمكن أن يعيده.

فإذا أذن المرء محتسباً وجُعِل له من بيت المال مبلغ لتفريغه للأذان فإنه يؤجر، أما الذي يبحث عن أذان، ليستفيد من البيت الذي للمسجد، ويستفيد من الأجرة، فهذا ليس غرضه الأذان، ولا الأجر على الأذان، بل غرضه البيت (بيت المؤذن) لأنه مجاني، وغرضه راتب المؤذن.

ثم من أسوأ الأشياء التي تُفعل: أن يوكل شخصاً آخر، فيأتي بواحد من الخارج؛ من بنغلاديش مثلاً أو من الهند أو من باكستان، يقول له: تعال يا أخ أنت أذِّن، ولك خمسمائة ريال شهرياً، ثم يضع في جيبه سبعمائة فبأي حق يدخر السبعمائة لنفسه؟! وأيضاً يؤجر الشقة التي للمؤذن ويقول: هذا مصدر دخل، سبحان الله! أنت لا تقوم بالعمل، ثم تأخذ البيت، وتأخذ أكثر من نصف الراتب الذي رُتِّب للمؤذن ثم تقول: هذا مصدر دخل؟! هذا سُحْت، وكسب حرام.

وهذا من أسباب عزوف الناس عن الصلاة.

ولو وجد المؤذنون المحتسبون وشاعوا لَوَفَّقهم الله بـ (حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح) بناس كثيرين يأتون، لكن إذا صار هدفه المال هل هو يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح من قلبه، ويرجو بها أن كل واحد يأتي إلى المسجد؟ إن أجر المؤذن عظيم! وكل واحد يأتي إلى المسجد يؤجر المؤذن مثل أجره، لأنه هو الذي دعاه (الدال على الخير كفاعله) (الداعي إلى الخير له مثل أجور من تبعه) فحين يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، يناديهم، ويأتون له أجر عظيم.

فانظر كم يضيع على هؤلاء المساكين الذين ينوون الدنيا من الأجر، وكم يكون لهم من الأجر إذا نووا وجه الله تعالى! ونفس الكلام على الأئمة والخطباء، والقضاة والمفتين؛ هؤلاء يُرَتَّب لهم من بيت المال ما يفرغهم للقيام بالإمامة، والأذان، والإفتاء، والقضاء، لأن هذه وظائف دينية لا يجوز أخذ المقابل عليها؛ لكن يعطى ما يفرغه، ولا يقال: هذه أجرة الفتوى، هذه أجرة الإمامة، هذه أجرة الصلاة بالناس، هذه أجرة الأذان، هذا ليس عملاً دنيوياً حتى يجوز أخذ الأجرة عليه، فإنه لا يجوز أخذ الأجرة على الأعمال الدينية، ولا يجوز أن يبتغي الإنسان بهذه الأعمال الدينية المال أو الدنيا، لكن يبتغي وجه الله، وما يأخذه من بيت المال إنما هو للحاجة، ولأجل تفرغه وتركه السعي والمشاغل الأخرى، وإلا اضطُرَّ أن يشتغل ويترك الإمامة والأذان.

(9/7)

تأليف القلوب بالمال والتكفير بالحسنات مكان السيئات

كذلك في هذا الحديث: استعمال المال لتأليف قلوب الكفار: النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه أبو محذورة أعطاه صرة فيها شيء من فضة، وكان عليه الصلاة والسلام يستخدم المال في تأليف قلوب الكفار، ودخل في الدين أناس كثيرون بسبب التأليف بالمادة، ثم بعد ذلك خَلُصت نياتهم وأصبحوا صالحين، وأصبحوا يدفعون المال في سبيل الله.

فأحياناً الواحد يكون مدخله إلى الدين المادة، ثم يهديه الله فيصير من المنفقين في سبيل هذا الدين ونشره.

فلا مانع أن يكون المدخل مادياً، مثل سهم المؤلفة قلوبهم، ثم بعد ذلك تتحول النيات وتتغير، ويصبح الشخص هو الذي يعطي من جيبه.

مثل الداعية إلى الله ربما ينفق على شخص من جيبه، ويدعوه إلى طعام، ويخدمه، وينفق عليه من المال، فإذا اهتدى هذا الشخص صار هو الذي ينفق على الآخرين، وهو الذي يعطي في سبيل الله، ويفعل مثل ما فُعِل معه.

ولذلك فإن استخدام المال للدعوة ونشر الدين أمر في غاية الحكمة، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم كما وجدنا في هذه القصة.

ثم كذلك: أهمية الدعاء بالبركة: قال: (بارك الله فيك).

ثم إن من فوائد هذه القصة أيضاً: أن الإنسان إذا كان عدواً للدين، مستهزئاً بشعيرة من شعائره، فإن من كفارة ذلك أن يقوم بعمل ديني يخدم به الدين؛ فهذا أبو محذورة لما هداه الله قال: (قلتُ: يا رسول الله! مُرْني بالتأذين بـ مكة) أي: الآن أنا مستعد أن أؤذن، وأنا أطلب منك أن تجعلني مؤذناً بـ مكة (فقال: قد أمرتك به، وذهب أبو محذورة إلى عتاب بن أسيد) وعتاب هو أمير مكة من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، لما فتح مكة ولَّى عليها عتاب بن أسيد، وكان رجلاً شاباً مُبَكراً في السن، لكن عنده قدرات كبيرة، ولاه على قريش في مكة، فصار عتاب الأمير والإمام، وأبو محذورة هو المؤذن، وسبحان الله! كيف ينشأ جيل جديد في الدعوة، فهذه مكة التي كانت تنجب الفجرة الكفرة أعداء الدين، خرج من أصلابهم مَنْ عبد الله، وأذَّن، ونشر التوحيد، بعدما كانوا ينشرون الكفر.

(9/8)

فوائد في التعلم والتعليم والتأثر والتأثير

وكذلك في هذا الحديث: الحرص على أخذ العلم من صاحبه الأصلي: ولذلك ذهب إلى أبي محذورة وقال له: (علمني الآذان قبل أن أُسْأَل عن تأذينك) إني خارج إلى الشام وأخشى أن أُسْأَل عن تأذينك، إذا علموا أني صاحبك، وأني كنت عندك سيسألونني عن أذانك، فأخبرني عن الأذان وعلمني إياه، حتى إذا سألوني أخبرتهم.

ففيه الاستعداد بالجواب قبل السؤال، وكذلك الحرص على القصة من صاحب القصة، والحرص على العلم من صاحب العلم، وأعلم واحد بالأذان هو من ألقي عليه الأذان.

وكذلك فيه: أن رفقه السوء تساعد على الوقوع في الباطل: ولذلك يقول: (فسمعنا صوت المؤذن ونحن مُتَنَكِّبون، فصرخنا نحكيه ونستهزئ به) هم الذين شجعوه على الاستهزاء بالمؤذن، رفقة السوء هؤلاء الذين كانوا مع أبي محذورة كانوا كفرة، وهم الذين شجعوه على الاستهزاء بالمؤذن، وهذا يبين خطورة رفقة السوء، وأن الإنسان ربما لو ترك لوحده لما استهزأ بالدين، لكن إذا كان معه من الفاسدين من يحوطه، فإنهم يجرئ بعضهم بعضاً على المنكر، وهذه من خطورة رفقة السوء، فبسببهم حصل ما حصل.

ثم أيضاً من فوائد القصة: أن الشيء السيئ قد ينقلب بأمر الله في مصلحة صاحبه: فـ أبو محذورة رفع صوته مستهزئاً، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم الصوت واستدعاهم، فشاء الله أن يكون رفع الصوت بالاستهزاء سبباً في هداية الرجل، فسبحان من جعل هذا السوء ينقلب على صاحبه خيراً.

وفي هذا الحديث طريقة من طرق النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم: أن يقول: قل كذا قل كذا، وذاك يقول، يلقيه عليه إلقاءً، ولذلك فالإنسان لا ينسى أن يلقن تلقيناً مباشرة، فإنه من طرق التعليم التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها، ويُملي عليه الكلام إملاءً.

وفيه كذلك: أن مشاعر الإنسان يمكن أن تتغير في لحظة: الكره ينقلب إلى محبة، والمحبة تنقلب إلى كره، العداوة تنقلب إلى صداقة، والصداقة تنقلب إلى عداوة، الحزن ينقلب إلى سرور، والسرور ربما ينقلب إلى حزن، وذلك في لحظة.

وفاطمة: (أسَرَّ إليها النبي كلمات، فَبَكَت، ثم أسر إليها كلمات، فضحكت وربَعت) أولاً: أخبرها بدنو أجله، فبَكَت، فقال لها: إنها سيدة نساء العالمين، فضَحِكَت.

فالإنسان بحسب ما يناله ويحيط به من الظروف تتقلب مشاعره، والقلب يتقلب، وما سُمِّي القلب قلباً إلا أنه يتقلب.

فهذه البغضاء يقول أبو محذورة: (وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية، وعاد ذلك محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم).

وفيه: أن حسن معاملة المدعو الكافر مِن قِبَل الداعية المسلم هو الذي يغير صورة الداعية وسمعته، والشبهات التي كانت حول الداعية، أو الشكوك، أو العداوات في نفس الشخص الآخر، تتغير بفعل المعاملة الحسنة من الداعية، أعطاه المال، ولان له في الكلام.

ثم إننا نلاحظ أن من وسائل الدعوة: أن تجعل الشخص يتلبس بالطاعة:- فلو أتيتَ بمُغنٍ كان معك فحضر وقت الصلاة، فقلت له: يا أخي! لماذا لا تؤذن لنا؟! هل من الممكن أن تؤذن لنا؟ فيمكن أن يكون طلبك من المغني أن يؤذن سبباًَ لهدايته إلى طريق الحق؛ لأن استخدام الطاقة في الشر إذا عُكِس، وطُلِب منه أن يؤديها في الخير يحس بلذة الخير، فتتغير قناعاته، ويتغير مسلكه وطريقه.

ولذلك ربما شعر أبو محذورة -لما أذن- بطعم الأذان، وذاق شيئاً من طعم الإيمان، وأحس بجمال الأذان.

فالشخص حين يقوم بالعمل، ويقوم بالطاعة، وعندما توعز إليه أن يقوم بها يكون إيعازك له طريقةً لقلب حاله وهدايته، وهذه حكمة بالغة من النبي عليه الصلاة والسلام، جاءه شخص مستهزئ بالدين فقال له: (قم فأذن للصلاة).

ثم لاحظ: أن النبي عليه الصلاة والسلام جرد الشخص من أعوانه الفجرة الكفرة؛ قال: (فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشار القوم كلهم إليَّ، وصَدَقُوا، فأرسل كلهم وحبسني) فجرد الشخص عن المحيط السيئ الذي هو فيه، وهنا يمكن التأثير عليه، بخلاف ما لو كان مع هذه الرفقة السيئة، فاستفراد الداعية بالمدعو يجعل التأثير ممكناً أكثر.

(9/9)

هيبة النبي ومسارعة الصحابة في تنفيذ أوامره

ثم نلاحظ: هيبة النبي صلى الله عليه وسلم: فإنه لما أتى بهؤلاء الكفرة وقال لهم: (أيكم الذي سمعت صوته؟) -ما استطاعوا أن يكذبوا عليه، بل كلهم أشار إلى أبي محذورة.

ثم نلاحظ: سرعة الصحابة في القبض على هؤلاء:- قال: (فصرخنا نحكيه ونستهزئ به، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت، فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه) جيء بهم بسرعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وفيه: أن بعض الكفار قد يخرج وراء الدنيا مع المسلمين، فـ أبو محذورة ومن كان معه خرجوا من مكة طلباً لغنائم حنين، فلما لم يستفيدوا عادوا وحصل ما حصل مما كان سبباً في إسلام أبي محذورة.

(9/10)

الاستهزاء بالدين بيانه وأحكامه

نريد أن نتحدث الآن في ختام هذه القصة عن مسألة مهمة جداً ألا وهي: قضية الاستهزاء بالدين؛ لأن أبا محذورة رضي الله عنه أول ما حصل له هو ومن معه الاستهزاء بالدين.

والاستهزاء بالدين من الأعمال الشنيعة، والداء الفتاك الذي انتشر بين كثير المسلمين مع الأسف، حتى صارت السخرية ببعض آيات الله، وبعض ما يتعلق بالإيمان، والعقيدة، والعبادات الشرعية موجودةً عند عدد من الناس، يتندرون بها في المجالس، وينشرونها ويتكلمون بها.

والاستهزاء والسخرية قريبان، الهزء هو السخرية، استهزأ به يعني: سخر منه وضحك، والله سبحانه وتعالى توعد المنافقين قائلاً لهم: {قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة:64].

(9/11)

الاستهزاء بالدين من صفات المنافقين

فالاستهزاء بالدين من صفات المنافقين.

وفي غزوة تبوك استهزأ بعض الناس بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والرواية قد رواها ابن جرير رحمه الله وغيره، وهو حديث حسن.

عن عبد الله بن عمر قال: (قال رجل في غزوة تبوك في المجلس قال: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبت؛ ولكنك منافق، ولأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن، قال عبد الله بن عمر: وأنا رأيته متعلقاً بِحِقْب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تَنْكُبُه الحجارة وهو يقول: يا رسول الله: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]) وفي رواية: (فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله! {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] ونتحدث حديث الركب نقطع به عناء الطريق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]).

وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الكفر الذي كفروا به كفر حقيقي، وليس مجرد كفر باللسان، بل هو كفر قلبي، ولذلك ما أظهروه إلا لبعض خواصهم، قال: (ما رأينا مثل قرائنا) ونُقل الحديث إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا دال على الكفر ولا شك.

فبيَّنت هذه الرواية أن الاستهزاء بآيات الله كفر، وأن المستهزئ كافر، فلو أن شخصاً استهزأ بشيء من الدين، أو بآية من القرآن مثلاً، ثم قال لك: يا أخي! والله أنا قصدي المزاح فقط، نقول: لا، الاستهزاء بالقرآن كفر، قلتَ مازحاً أو ما قلتَ مازحاً أنت كافر، هذه هي المسألة واضحة.

(9/12)

أقوال العلماء في الاستهزاء بالدين وذكر بعض صوره

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله: وفيه بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها، أو عمل يعمل به، وأشدها خطراً إرادات القلوب.

وكذلك قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: فيه مسائل: الأولى وهي العظيمة: أن من هزل بهذا فهو كافر.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله في هذه الآية التي هي: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] قال: وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وآياته وبرسوله كفر.

وقال أيضاً: وقد دلت هذه الآية على أن كل من تَنَقَّصَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جاداً أو هازلاً فقد كفر.

وقال رحمه الله: فهؤلاء لما تَنَقَّصُوا النبي صلى الله عليه وسلم، حيث عابوه والعلماء من أصحابه قالوا: ما رأينا مثل قرائنا، والقراء هم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستهانوا بخبره، أخبر الله أنهم كفروا بذلك وإن قالوه استهزاءً، فكيف بما هو أغلظ من ذلك، وإنما لم يُقِمِ الحد عليهم لكون جهاد المنافقين لم يكن قد أُمِر به إذ ذاك، بل كان مأموراً بأن يدع أذاهم؛ ولأنه كان له أن يعفو عمن تَنَقَّصَه وآذاه.

وعلى ما سبق فإن أي استخفاف أو ازدراء بالدين، أو استهزاء بأي شعيرة من الدين؛ بالله، أو آياته، أو رسوله، أو أركان الإيمان؛ أو الجنة، أو النار، أو الملائكة، أو الأنبياء، مَن استهزأ بشيء من ذلك فقد كفر، والكفر الذي يكفر به كفر أكبر مخرج عن الملة.

قال العلامة السعدي رحمه الله: إن الاستهزاء بالله ورسوله كفر يخرج عن الدين؛ لأن أصل الدين مبني على تعظيم الله، وتعظيم دينه ورسوله، والاستهزاء بشيء من ذلك منافٍ لهذا الأصل ومناقض له أشد المناقضة.

وقال النووي رحمه الله: ولو قال وهو يتعاطى قدح الخمر، أو يقدم على الزنا: باسم الله، استخفافاً باسم الله تعالى كفر.

أي: لو أن واحداً أخذ كأس خمر وقال: باسم الله تعالى، ويقصد بذلك الاستهزاء فإنه يكفر بذلك.

وقال ابن قدامة رحمه الله: من سب الله تعالى كفر؛ سواء كان مازحاً أو جاداً، وكذلك من استهزأ بالله تعالى، أو بآياته، أو برسله، أو كتبه، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ الآية} [التوبة:65].

وينبغي أن لا يُكْتَفى من الهازئ بذلك بمجرد الإسلام، يعني: نقول له: كفرتَ يقول: بسيط! أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، نقول: لا.

حتى يؤدب أدباً يزجره عن ذلك، فلا نكتفي بعودته بالدخول في الدين من جديد، ولا بد أن يؤدب؛ يسجن أو يضرب، لا بد أن يؤدب تأديباً يردعه عن العودة إلى ذلك.

فالاستهزاء بالدين لا يدخله المزح واللعب، ولا يصح العذر بأنه غير قاصد، وأنه ما أراد حقيقة الكلام، نقول: بمجرد النطق بها والإنسان في وعيه وعقله فإنه يكفر مباشرة، سواء قال: أنا قصدي الهزل، أو المزح، أو قال: أنا مؤمن، أنا قلبي فيه إيمان، نقول: حتى لو، فإن الله يقول: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا} [التوبة:65 - 66] لا تقولوا: هي كلمات باللسان، هو حديث بيننا، هي مزحة، لم نقصد الحقيقة، نقول: لا.

الله يقول: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66].

وكذلك فإن هذا الوعيد الشديد الذي جاء ينال كل من قام بشيء من ذلك، والاستهزاء قد يكون بالقول، وقد يكون بالفعل، وبعض الناس يقصد أن يُضْحِك القوم في مجلس من المجالس فيهزأ بالملائكة، أو بالجنة، ويسمون ذلك نُكَتاً، وهي طبعاً ليست نكتاً ولا شيء، إنما هي سخرية واستهزاء بالدين.

قال بعض العلماء: ومن البدع القولية مزح الإنسان بشيء من كتاب الله تعالى، فهو مما يَكْفُر فاعلُه أو يُذَم، أما الذي يَكْفُر فاعله كمن يصعد في مكان مرتفع والناس تحته، فيتشبه بالواعظ والخطيب، يتلو كلام الحبيب صلى الله عليه وسلم، ثم يأخذ في مد صوته وهز رأسه ويقول: (أيها الناس) وهم تحته يتضاحكون؛ كفروا كلهم أجمعون.

وقال رجل لبعض الفقهاء: (إن الملائكة لتضع أجنحتها رِضاً لطالب العلم) فقال واحد في المجلس مازحاً: لأجل ذلك سَمَّرْتُ (قُبْقَابي) لكسر أجنحتهم، فما كان إلا قليلاً حتى وقع في تهمة، فقُطِعَت فيها رجله، أي: قدر الله عليه بشيء تسبب في قطع رجله، لأنه قال: أنا جئت إلى حلقة العلم، ومعي مسامير في القبقاب لكسر أجنحتهم، لاحظ الكلمة! وكذلك لو أن إنساناً استهزأ بأي شيء يتعلق بجهنم أو أهل النار، أو طعام أهل النار، وضربوا أمثلة فيما يُكْفَر به من كلام، وهذه الأمثلة منها ما هي سب صريح، أو فيه استهزاء صريح، ومنها ما يحتمل المزاح؛ ولكن مع ذلك عده العلماء من المكفرات.

وأيضاً فإن اللاعب والجاد في إظهار كلمة الكفر سواء، كما دلت عليه هذه الآية.

ونلاحظ أن بعض الناس يستخدمون أجزاء من آيات في مجال استهزاء أو سخرية، يأتي بشيء من القرآن في مكان لا يناسب أبداً، فهذا يُخشى عليه من أن يدخل في هذه الآية.

كما قال أحد المدعوين: ما لي لا أرى الخبز أم كان من الغائبين، فقال صاحب الدعوة: سآتيك به قبل أن تقوم من مقامك، ونحو ذلك من الكلام نعوذ بالله.

وكقول بعضهم: ولكم في العدس أسوة حسنة، فيضحكون ويقهقهون، هؤلاء يُخشى عليهم من الكفر الوارد في هذه الآية صراحةً.

وكقول بعضهم لما جيء له بالطعام فقال: أفطر عندكم الصائمون، أكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة إلا جبريل، قالوا: ولِمَ؟ قال: لأنه لا يأتي إلا مع الشاي.

هذا فيه استهزاء بجبريل، أنه لا يأتي إلا مع الشاي، فهذه الكلمة يمكن أن تودي به في مهاوي الكفر والعياذ بالله.

ويقع من بعض الناس على سبيل المزاح، أن يأتي بمقطع من آية، أو مقطع من حديث مثلاً، يأتي لك به على سبيل الاستهزاء والسخرية، ويتضاحك الناس في المجلس، يأخذونها على أنها طرفة، مع أن القضية في غاية الخطورة.

وينبغي على الإنسان إذا سمع كلام الله عز وجل أن يعظِّمه، وأن يخشع له، وأن يطرق مفكراً فيه متدبراً، لا أن يستعمله في مجالات الاستهزاء والسخرية والمزاح، فما أُنْزِل القرآن لكي نقطعه مقاطع، ونأتي بها في مناسبات على سبيل السخرية والتنكيت والمزاح وإضحاك الناس، ما أُنْزِل القرآن لهذا مطلقاً! وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، بعض الناس ربما يقول عن سنته أشياء، فهذه الأشياء التي تقال في سنته استهزاءً به، ربما تؤدي أيضاً بصاحبها إلى النار.

وكيف يجعل المسلم أعظم المقدسات عنده في الدين مجالاً للاستهزاء والسخرية! وكذلك ما يقع فيه البعض من الاستهزاء بالمتدينين في قضايا دينية، ليست قضايا شخصية، مثلاً يستهزئ بشكله بأنفه، لو استهزأ بذلك يكون مرتكباً لذنب عظيم، مخالفاً لقول الله: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} [الحجرات:11] لكن أحياناً لا يستهزئ بشخصه، وإنما يستهزئ بشعيرة دينية يقوم بها هذا المتدين، كأن يرى أحداً مثلاً يلبس ثوباً وقد جعله حسب السنة فيقول: هذا لابسٌ (شانِيْل) مشبهاً له بفستان المرأة، فإطلاق (الشانِيْل) على الثوب الذي جاء بحسب السنة لا شك أنه يوقع في مهاوي الكفر والعياذ بالله؛ لأن معنى ذلك أنك تستهزئ بالسنة مباشرة؛ بحديث: (إزرة المسلم إلى نصف ساقيه) معناه أنك جعلت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مجالاً للاستهزاء والسخرية، فهذا إنسان يدخل في الآية، ويُخشى عليه من الكفر الصريح والعياذ بالله تعالى.

ونحو هذا أمثلة كثيرة توجد عند بعض الناس؛ يعملون نكتاً وأشياء على الجنة والنار، يدخلون جحا في الجنة والنار، يعملون بها طرائف، ويتناقلونها في المجالس، ولا شك أن تقليد المؤذن بصوت يحاكي صوت المؤذن استهزاءً به، أو يقول بعض الناس إذا سمع المؤذن: نهق الحمار، ولاحظ هذه الكلمة! فإنها استهزاءٌ صريح بشعيرة من شعائر الدين وهي الأذان، ولذلك كم يكفر من الناس يومياً! وبعض الممثلين قد يضع لحية مستعارة وعمامة، يقلد بها شيخاً صاحبَ دين، أو يعمل كأنه يقلد عالماً أو إماماً ونحو ذلك، يكون أيضاً داخلاً فيمن استهزأ بأهل الدين لدينهم، لأن أهل الدين لهم سمات ولهم علامات، فلو استهزأ بثيابهم وأشكالهم وهيآتهم، ومَثَّل دوراً فيه شخص متدين أو عالم، وجلس يقلد صوت هذا العالم على سبيل الاستهزاء والسخرية، فهذا أيضاً يُخشى عليه من الكفر والعياذ بالله تعالى.

وكما حدَّث بعضهم قال: ما هو مصير أهل فلسطين؟ قال: تركنا لهم مخيمات بين الجنة والنار، لاحظ! هذه داخلة في عملية الاستهزاء؛ لأنك الآن دخلت في اليوم الآخر وفي الجنة والنار، وفي القضايا العقدية، وجعلتها مجالاً أو محلاً للاستهزاء والسخرية، وكأنْ يسمع الإنسان شيئاً من نعيم الجنة فيقول: أنا لا أحب هذا، أو الرمان أنا لا أشتهيه ولا كذا، فربما يُخشى عليه أن يُحرم منه.

وعملية الاستهزاء والتشويه لشخصيات التاريخ الإسلامي، وشخصيات العلماء التي تكون في بعض المسلسلات؛ مثل إخراج دور صحابي يقع في حب فتاة، أو يخاطب امرأة متبرجة، أو يقول كلاماً فيه شيء من الغزل ونحو ذلك، لا شك أنه استهزاء بالصحابة، كذلك يظهرون مثلاً صورة عمر بن عبد العزيز أو شيخ الإسلام ابن تيمية، أو صلاح الدين الأيوبي، أو فلان أو فلان من شخصيات المسلمين، يجعلونها مثاراً للحب والغرام وكذا، فيعرضون علماء المسلمين بقالب فيه هذا الشيء، فهؤلاء يكونون قاصدين لتشويه أهل العلم، مثل ما قال المنافق في غزوة تبوك، قال: (ما رأينا مثل قرائنا أرغب بطوناً الخ) هذا كذلك يريد أن يجعل علماء المسلمين مثاراً للسخرية، وأنهم أصحاب غزل، وأصحاب حب وغرام ونحو ذلك.

فكم من كلمة أودت بصاحبها في

(9/13)

الأسئلة

(9/14)

قراءة السجدة والإنسان في فجر يوم الجمعة

السؤال

ما حكم قراءة سورتي السجدة والإنسان في فجر الجمعة بعض الأيام؟

الجواب

لا بأس، وهذه هي السنة، أما إذا كان يشق على المصلين بحيث أنهم ينفرون أو يتركون الصلاة، فيمكن أن يتألف قلوب هؤلاء بأن يقرأ سوراً أقصر منها؛ مع تعليمه للسنة، ويفعلها أحياناً لتعويدهم، ولا يكثر منها حتى لا يهربوا أو ينفروا، ثم إن الإنسان يجب أن يكون حكيماً في نشر السنة بين الجهلة بها.

(9/15)

أخذ الأجر على تعليم القرآن

السؤال

ما حكم أخذ الأجرة على تدريس القرآن؟

الجواب

إذا نواها لله فلا يجوز أن يأخذ أجرة عليها، كما دل عليه حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (لما علم رجلاً من أهل الصفة شيئاً من القرآن، فأحس ذلك الرجل بأن لـ عبادة عليه فضلاً، فأهداه قوساً حسن الصنعة، فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بأنه قوس من نار) وهذا يُحمل على ما إذا قَصَدَ وجه الله وثوابه، فلا يجوز بعد ذلك أن يأخذ شيئاً لئلا يعتاض عن ثواب الله بشيء من الدنيا.

أما لو أن الإنسان احتاج إلى أخذ شيء على تعليم القرآن، وإذا لم يعلم فقد لا يوجد من يعلِّم غيرَه من المتبرعين، فاحتاج أن يأخذ أجرة لكي يتفرغ للتعليم فلا بأس بذلك، مثل ما يأخذ القارئ الذي يرقِي أجرة مقابل القراءة، كما جاء في قصة أبي سعيد مع اللديغ، حيث اشترطوا عليهم جُعلاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، فأخذوه مقابل تلك الرقية، وهو لا يأخذ مقابل العبادة، وإنما يأخذ مقابل العمل.

(9/16)

تقديم الأذان قبل وقت الإفطار بدقائق

السؤال

إذا تقدم المؤذن بالأذان قبل دخول الوقت بدقائق، فما الحكم؟

الجواب

لا نفطر حتى يأتي الوقت الصحيح، ثم إن الاعتماد على التقويم، المؤذن يعتمد على التقويم، وأنت عندك التقويم، فإذا قدم المؤذن فلا يكون هذا عذراً في الإفطار، وإذا علم أن المؤذن ثقة فيجوز للإنسان أن يفطر على أذانه.

(9/17)

الترجيع في الأذان

السؤال

هل الترجيع في الأذان عند كل أذان؟

الجواب

نعم، عند كل أذان السنة أن يرجع في الأذان.

(9/18)

من أذن ثنتي عشرة سنة فله الجنة

السؤال

( من أذن ثنتَي عشرة سنة محتسباً الأجر عند الله وجبت له الجنة) هل يصح هذا؟

الجواب

نعم.

هذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(9/19)

استغلال العمال

السؤال

هل يجوز لشخص أن يأتي بعمال ويقول لهم: اذهبوا فاعملوا، ثم يأخذ منهم ثلاثمائة ريال شهرياً؟

الجواب

هذا أكل مال بالباطل، ولا يجوز، ولا يقال إن ذلك مقابل الكفالة، فإن الكفالة من عقود الإرفاق والإحسان، ولا يجوز أخذ المال عليها.

(9/20)

من أفطر بأكل قبل الجماع ليسقط الكفارة

السؤال

رجل أراد أن يجامع زوجته في نهار رمضان، فشرب ماءً حتى يفلت من الكفارة، ثم جامع، هل تسقط الكفارة؟

الجواب

لا.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: كيف نقول للشخص يستعين على الجماع بالطعام والشراب قبل الجماع ثم نقول: ليس عليك إلا قضاء هذا اليوم، وإذا جامع قبل أن يأكل ويشرب نقول: عليك شهران، وعليك الكفارة المغلظة؟! قال: هذا عبث، لا يمكن أن تأتي بمثله الشريعة، ولذلك إذا أكل أو شرب بقصد الهرب من الكفارة المغلظة، فإنه يعاقَب بنقيض قصده، وتُجعل عليه الكفارة المغلظة.

(9/21)

حكم صلاة التراويح جماعة في مسجد العمل

السؤال

أنا إمام في مسجد العمل ولا يوجد من يصلي التراويح إلا شخصين أو ثلاثة علماً أن عددهم عشرة فما الحكم في عدم صلاتي بهم لرغبة الحضور مع الجماعة؟

الجواب

لا بأس، أن تذهب إلى المسجد وتصلي، إذا كان ذلك لا يخالف وقت العمل، وهم كل واحد مسئول عن نفسه بعد ذلك؛ ولكن إذا صليتَ في المسجد -وهو الواجب عليك- صلاة الفريضة، ثم عدت وصليت بهم التراويح رجاء أن يجتمعوا، فتعتبر هذه دعوة للآخرين، وهذا شيء طيب إن شاء الله.

(9/22)

تزاحم المؤذن المحتسب والمستأجر

السؤال

إذا كان هناك مؤذن يؤذن بمقابل، وجاء أحدهم وقال: إنه يريد أن يؤذن مكانه محتسباً، فهل له ذلك؟

الجواب

يُقَدَّم الذي يؤذن محتسباً، لكن يُقَدَّم بشرط أن يمسك الأذان، لا أن يأتي في كل أذان شخص ليقول: أنا محتسب ويؤذن، ويأتي بعد أسبوع يقول: أنا محتسب، وهكذا.

(9/23)

كيفية تقصير شعر المرأة في النسك

السؤال

كيف تقصر المرأة من شعرها بعد العمرة؟

الجواب

تجمع شعرها ثم تأخذ منه قيد أنملة، وإذا كان شعرها في الأمام والخلف، تجمع الذي من الأمام والذي من الخلف، وتأخذ.

(9/24)

الإحرام في الطائرة

السؤال

إذا لبست ملابس الإحرام في المنزل، فهل أستطيع عقد نية العمرة في الطائرة فوق الميقات أو قبله؟

الجواب

نعم.

(9/25)

لباس الناس إذا أوهم الشهرة

السؤال

إذا تشبهنا بالنبي صلى الله عليه وسلم فصارت الأنظار تلتفت إلينا فهل يعتبر هذا من لباس الشهرة؟

الجواب

لا.

هذا دعوة إلى السنة، ثياب الشهرة تفصيل غريب، موديل عجيب، تلبسه امرأة أو رجل ليُلفت أنظار الناس، وليس من لباس البلد، بل فيه غرابة عما حوله من الناس، بعض الموديلات فيها غرابة، تصميم الزي نفسه فيه غرابة، فيلفت أنظار الناس، يلتفتون إليه بمجرد مروره بينهم، يرفعون إليه أبصارهم، يشيرون إليه بأصابعهم، فهذا الذي فعله يريد أن يتميز عن الآخرين بهذا الشيء الدنيوي وليس سنة، فهذا الشيء الدنيوي ثوب شهرة.

(9/26)

الوسوسة المؤثرة في الخشوع

السؤال

أثناء الصلاة تراودني أفكار سيئة ورديئة تؤثر في الخشوع؟

الجواب

اذكر الموت في صلاتك، وفكر في معاني الآيات والأذكار، واستعذ بالله من الشيطان، وانفث عن يسارك ثلاثاً، فإنه يذهب إن شاء الله.

(9/27)

ترك بعض الراتب للبقاء مع الأم

السؤال

هل أترك العمل وأذهب إلى عمل بجانب أمي، وأحصل على وظيفة نصف الراتب؟

الجواب

إذا طلبت أمك ذلك فمن البر أن تفعل إذا كان لا يضرك، بمعنى أنه لا يؤثر على نفقاتك الواجبة، كنفقة الزوجة والأولاد، فإنك تحتسب الأجر في برها، وإذا لم تطلب منك ذلك ولم يكن لديها مانع أن تبقى بعيداً عنها، فإنك تبقى في عملك وتبرها بما ترسل إليها من المال أو الهدايا.

(9/28)

قراءة الإخلاص في نهاية التراويح

السؤال

هل لا بد من قراءة سورة الإخلاص في نهاية التراويح؟

الجواب

لا.

لكن السنة أن يقرأ الإمام: (سَبِّحِ) و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] في الشفع، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] في الوتر.

(9/29)

قول المردد عند الأذان (الصلاة خير من النوم)

السؤال

ماذا يقال عند قول المؤذن: الصلاة خير من النوم؟

الجواب

يقال: الصلاة خير النوم؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول) وما ورد الاستثناء إلا في حيَّ على الصلاة، وحيَّ على الفلاح فقط، ولذلك إذا قال: الصلاة خير من النوم يقول: الصلاة خير من النوم.

(9/30)

إذا دخل الوقت ولا مؤذن

السؤال

عند دخول وقت الأذان ولم يؤذن أحد هل يجوز لشخص أن يؤذن بعد دخول الوقت؟

الجواب

نعم.

لأنه دعوة للصلاة وطرد للشيطان، فالأذان فيه فوائد، فليس مجرد إعلان بدخول الوقت، بل فيه فوائد أخرى: دعوة الناس للصلاة، إظهار الشعيرة في البلد، طرد الشيطان.

(9/31)

اعتزال الزوجة عن زوجها

السؤال

ما حكم اعتزال الزوجة زوجها عدة أيام في غرفة لوحدها، وعدم الكلام معه، ولا السلام عليه لسبب ما؟

الجواب

هذا إذا حدث منها فهو نشوز، خاصةً إذا كان ليس لسبب ديني، فإذا هَجَرَت فراش زوجها لعنتها الملائكة، فالواجب عليها أن تتوب إلى الله، وأن تعود إلى زوجها، أما إذا هجرته لسبب ديني؛ كأن تهجره في وقت سكره ونحو ذلك، أو أنه تارك للصلاة فاعتزلته ولا تستطيع أن تذهب لأهلها، فاعتزلته في البيت، فهذا واجب عليها.

(9/32)

ترك العمل المحرم والبحث عن مباح

السؤال

هذا سؤال عن ترك عمل محرم للبحث عن عمل مباح؟

الجواب

فنقول: اتركه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] فالمسألة تعتمد على أمرين: - تقوى الله عز وجل.

- والأخذ بالأسباب.

تقوى الله: أن يترك العمل.

مع الأخذ بالأسباب: البحث الجاد.

(9/33)

تطييب ملابس الإحرام قبل لبسها

السؤال

تطييب ملابس الإحرام قبل لبسها، والدخول في نية الإحرام؟

الجواب

هذا من المحاذير التي يترتب عليها أنه لو خلع الرداء المطيب لسبب ما كمن أراد أن يغتسل، أو أن يتوضأ، فإنه لا يجوز له أن يلبسه؛ لأنه لا يجوز للمحرم أن يلبس شيئاً مطيباً، فبمجرد خلعه لا يجوز له أن يلبسه، ولذلك لا يطيبه حتى لا يقع فيه هذا الإشكال.

(9/34)

لا يشترط تتابع الطواف والسعي في العمرة

السؤال

ذهبت لأداء العمرة، وعند وصولنا طفت الأشواط السبعة، ولكن من شدة التعب لم أستطع السعي مباشرة، فذهبت إلى الفندق ونمت واحتلمت ثم اغتسلت، وغسلتُ ملابس الإحرام، ثم ذهبت للسعي، فما حكم عمرتي هذه؟

الجواب

عمرتك صحيحة، ولا يُشترط أن يكون السعي واقعاً بعد الطواف مباشرة، لو فَصَل بينهما براحة فلا بأس بذلك.

(9/35)

زينة المسجد

السؤال

ما حكم الزينة في المساجد؟

الجواب

الزينة في المساجد لا شك أنها منهي عنها، لا تحمَّر، ولا تصفَّر، ولا تنقش، ولا يجوز أن يكون هذا في مساجد المسلمين؛ لأن المساجد لم تُبْنَ للزخرفة: (إذا زخرفتم مساجدكم، وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم) كما جاء في الحديث الحسن، وعلى الإنسان أن يصرف بصره، وينشغل بذكر الله تعالى.

(9/36)

من توفي أبوه وهو عليه ساخط

السؤال

إذا توفي أحد الوالدين وهو على ولده غضبان، ماذا يفعل الولد لينال رِضا الله تعالى، علماً بأن رِضا الله للولد في رِضا الوالدَين؟

الجواب

عليه أولاً: أن يتوب إلى الله، لأن هنا حق لله تعالى أيضاً، وهو أنه عصى الله؛ لأن الله قال له: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة:83] وهو لم يبر بهما.

ثانياً: أن يستغفر لأبيه، ويدعو له، ويتصدق عنه، يبر أباه في قبره، يصل أهل وُدِّ أبيه بعد أن يولي كما جاء في الحديث: (إن من أبر البر أن يَصِل الرجل أهل ودِّ أبيه بعد أن يولي الأب) يزور أصدقاء أبيه مثلاً، يرسل هدايا إلى صديقات أمه مثلاً، يُشْركه في الأضحية، يحج عنه، يعتمر عنه، يتعهد دَيْنَه والكفارات التي عليه، وهكذا.

(9/37)

من لحق الإمام في غير قيام الفاتحة لا يقرأ الاستفتاح

السؤال

إذا جاء الإنسان ليصلي وكان الإمام يرفع من الركوع فهل يقول دعاء الاستفتاح؟

الجواب

لا.

طبعاً، هو ينضم مع الإمام مباشرة.

(9/38)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

سلسلة القصص المنجد

قصة المقداد والأعنز

لقد كان الصحابة رضي الله عنهم في ضيق من العيش، وفي جهد ومشقة، ومع ذلك صبروا وتحملوا في سبيل الله، وفي سبيل الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، وفي سبيل طلب العلم والاستزادة منه يجسد هذا المفهوم هذه القصة التي تكلم عنها الشيخ حفظه الله، فقد ذكر الحديث نصاً، ثم ذكر ما يستفاد منه على شكل نقاط

(10/1)

حديث قصة المقداد والأعنز

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فالقصة التي سنتحدث عنها هذه الليلة -أيها الإخوة- قصة تشبه إلى حدٍ ما قصة أبي هريرة التي مرت معنا مع إناء اللبن وأهل الصفة، ولكنها مع صحابي آخر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم العظام، الذين عرفنا سيرتهم بالخير، وذكرهم بالطيب، وثناء العلماء الحسن عليهم، وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أبرُّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها فهماً وعلماً، وهم الذين عاينوا الوحي والتنزيل، وكانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهم أعلم الأمة بالقرآن والسنة رضي الله عنهم.

هذه القصة يرويها الإمام مسلم والترمذي باختصارٍ، وأحمد رحمهم الله تعالى.

يقول المقداد رضي الله عنه وأرضاه: (أقبلت أنا وصاحبان لي وفي رواية: قدمت أنا وصاحبان لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابنا جوعٌ شديدٌ، فتعرضنا للناس، فلم يضفنا أحد وفي رواية لـ مسلم: أقبلت أنا وصاحبان لي، وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد، ومن الجوع والمشقة -ولا شك أن الجوع يؤثر على سمع الإنسان وبصره- فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس أحدٌ منهم يقبلنا) كل الذين عرضوا أنفسهم عليهم كانوا من الفقراء، وهذا يبين الشدة التي كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والفقر الذي عاينوه ولاقوه، ومع ذلك صبروا على الدعوة، وعلى العلم مع النبي صلى الله عليه وسلم، ما وُجِدَ أحد يستطيع أن يطعمهم؛ لأن كل الذين عرضوا عليهم كانوا مقلين ليس عندهم شيءٌ يواسون به، ما هناك أحد عنده طعام زائد يعطي هؤلاء، جاء هؤلاء الثلاثة: المقداد وصاحباه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لم يجدوا أحداً يقبلهم، قال: (فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق بنا إلى أهله) وهكذا كان عليه الصلاة والسلام يفعل، يأتيه الرجل الجائع ولا يوجد من يطعمه، فيذهب به إلى أهله، قال: (فإذا ثلاثة أعنز -والعنز هي: الشاة أنثى الماعز التي بلغت سنة يطلق عليها عنزٌ- وفي رواية: أربعة أعنز- فلعل واحدةً أضيفت بعد ذلك- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احتلبوا هذا اللبن بيننا، قال: فكنا نحتلب، فيشرب كل إنسان منا نصيبه وفي رواية: فقال لي: يا مقداد! جزأ ألبانها بيننا أرباعاً، فكنت أجزؤه بيننا أرباعاً) ثلاثة أعنز تحلب والحليب الذي ينتج منها يقسم إلى أربعة أقسام: للنبي صلى الله عليه وسلم قسم، وللمقداد قسم، ولصاحبيه قسمان يقول المقداد رضي الله عنه وأرضاه: (فاحتبس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة -أي: تأخر عن موعد عودته المعتاد- فحدثت نفسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتى بعض الأنصار، فأكل حتى شبع، وشرب حتى روي، فلو شربت نصيبه).

شرب المقداد شرب نصيبه الخاص به، وأبقى نصيب النبي عليه الصلاة والسلام، ولما تأخر النبي عليه الصلاة والسلام ذات ليلة، قال: جاءني وارد في نفسي أنه عليه الصلاة والسلام قد دعي إلى عشاء هذه الليلة، وأنه قد أكل حتى شبع، وشرب حتى روي، فلو أنني شربت نصيبه، وفي رواية مسلم: (فكنا نحتلب، فيشرب كل إنسان منا نصيبه، ونرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه، فيجيء من الليل -هذه العادة النبوية- فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ويسمع اليقظان -لا يكون بصوت مرتفع، ولا بهمس، وإنما يسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ويسمع اليقظان- ثم يأتي المسجد فيصلي، ثم يأتي شرابه فيشرب، فأتاني الشيطان ذات ليلة، وقد شربت نصيبي، فقال: محمدٌ يأتي الأنصار فيتحفونه -والشيطان لا يقول: صلى الله عليه وسلم، أي: محمد صلى الله عليه وسلم ليس عليه خوف، الناس كلهم يضيفونه- ويصيب عندهم -أي: يطعم عندهم- ما به حاجة إلى هذه الجُرعة) أو الجَرعة، والفعل منه: جرعت، وهي: الحثوة من المشروب.

وسوس الشيطان للمقداد وقال: ما بمحمد حاجة إلى هذه الجرعة، أكيد أنه الآن قد شبع، قال: (فأتيتها فشربتها وفي رواية: فلم أزل كذلك حتى قمت إلى نصيبه فشربته، ثم غطيت القدح) يقول: في النهاية استسلمت لهذا الرأي، ولهذا الوارد، وأتيت إلى نصيب النبي صلى الله عليه وسلم فشربته وغطيت القدح، قال: (فلما أن وغلت في بطني -أي: دخلت بطني وتمكنت من بطني- وعلمت أنه ليس إليها سبيل، ندمني الشيطان وفي رواية: فلم أزل كذلك حتى قمت إلى نصيبه فشربته ثم غطيت القدح، فلما فرغت، أخذني ما حدث، فقلت: يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم جائعاً ولا يجد شيئاً! وفي رواية أخرى لـ أحمد يقول: فلما وغلت في بطني -أي: الشربة- وعرف -أي: الشيطان- أنه ليس إليها سبيلٌ، ندمني، فقال: ويحك! ما صنعت؟ شربت شراب محمد، فيجيء ولا يراه، فيدعو عليك فتهلك، فتذهب دنياك وآخرتك وفي رواية مسلم قال: ندمني الشيطان، فقال: ويحك! ما صنعت؟ أشربت شراب محمد فيجيء، فلا يجده، فيدعو عليك فتهلك، فتذهب دنياك وآخرتك، قال: وعليَّ شملة -أي: كساء يتغطى ويلتف به- إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي، وإذا وضعتها على رأسي خرجت قدماي -أي: أن الذي عنده كساءٌ قصيرٌ لا يكفي، وهذا من فقره رضي الله عنه- وفي رواية أحمد: وعليَّ شملةٌ من صوف، كلما رفعتها على رأسي خرجت قدماي، وإذا أرسلتها على قدميَّ خرج رأسي، وجعل لا يجيء لي نومٌ وفي رواية مسلم: وجعل لا يجيء لي النوم، وأما صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت -أنا الذي أجرمت وأذنبت، وأخذت شربة النبي صلى الله عليه وسلم- فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فسلَّم كما كان يسلِّم، ثم أتى المسجد فصلى، ثم أتى شرابه، فكشف عنه فلم يجد فيه شيئاً، فرفع رأسه إلى السماء، فقلت: الآن يدعو عليَّ فأهلك، حضرت ساعة الموت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني، فلما سمع هذه الدعوة، قال: اغتنمت الدعوة -وذلك لأن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مستجابة- فعمدت إلى الشملة، فشددتها عليَّ -تأهب- وأخذت الشفرة -أي: السكين- فانطلقت إلى الأعنز أيها أسمن فأذبحها للرسول صلى الله عليه وسلم -مع أنها ليست ملكه- فجعلت أجتسها أيها أسمن) وهو يجتسها فوجئ بمفاجئة غريبة جداً، كان قد حلب الأعنز قبل قليل، وقسم اللبن وشرب نصيبه ونصيب الرسول صلى الله عليه وسلم، والعنز إذا حلبت تحتاج حتى يمتلئ ضرعها مرة أخرى إلى يوم، أو بعض يوم، فيقول: (فلا تمر يدي على ضرع واحدةٍ إلا وجدتها حافلاً -أي: ممتلئة باللبن، والحيوان كثير اللبن يقال له: حافل، والجمع: حفل- وإذا هنُّ حفلٌ كلهن -أي: كل الأعنز ممتلئة الضرع باللبن- فعمدت إلى إناء لآل محمد صلى الله عليه وسلم، ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه -إناء كبير- فحلبت فيه حتى علته رغوة -وهو زبد اللبن الذي يعلو اللبن بعد حلبه، يقال: رغوة، أو رِغوة، أو رُغوة، أو رُغاية، أو رِغاوة، كلها صحيحة- فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء اللبن، فقال: أشربتم شرابكم الليلة؟ قال: قلت: يا رسول الله! اشرب -ما أجاب، هرب من الجواب- فشرب ثم ناولني، فقلت: يا رسول الله! اشرب، فشرب ثم ناولني، فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي وفي رواية: فقلت: اشرب يا رسول الله! فشرب عليه الصلاة والسلام حتى تضلع صلى الله عليه وسلم، فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي وأصبت دعوته: اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني، ضحكت حتى استلقيت على الأرض من الضحك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إحدى سوءاتك يا مقداد! -أكيد أنك فعلت سوءةً من الفعلات، هذه الضحكة ما وراءها إلا فعلة فعلتها وسوءة أقدمت عليها، فما هي؟ - قال: فقلت: يا رسول الله! كان من أمري كذا وكذا وفي رواية: فقال: ما الخبر؟ فأخبرته، فقال صلى الله عليه وسلم: هذه بركة وفي رواية: ما هذه إلا رحمةٌ من الله، أفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها؟ فقلت: والذي بعثك بالحق ما أبالي إذا أصبتَها وأصبتُها معك من أصابها من الناس) بعدما أصابتني البركة الآن وأصابتني دعوتك لا أبالي بعد ذلك شرب من شرب.

(10/2)

الفوائد المنتقاة من حديث المقداد

1 - هذا الحديث -ولا شك- فيه بركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.

2 - وفيه: معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي: أن هذه الأعنز كانت فارغة قد حلبت، والآن بعد فترة يسيرة جداً رجع اللبن إليها أكثر مما كان، فإحداث اللبن في غير وقته على خلاف العادة؛ هذه معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي قصدها بقوله: (ما هذه إلا رحمةٌ من الله) وفي رواية قال: (هذه بركة) وهذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام، لأنه رد الأمر إلى الله، لم يقل: هذا بسببي، وهذا بدعائي، وإنما قال: (ما هذه إلا رحمةٌ من الله) ولذلك إذا حصل للإنسان كرامة، أو حصل له شيء وفضل، فلا يقل: هذا بعرقي بذكائي بجهدي، وإنما يقول: هذا من الله وهذه فائدة عظيمة؛ أن أي فضل يحدث لك ونعمة تحدث لك، انسبها إلى المنعم، وقل: هذه من الله، وهذا من شكر النعمة؛ لأن شكر النعمة له صور كثيرة: أ- فمن شكر النعمة ألا تجحدها.

ب- ومن شكر النعمة أن تنسبها إلى الله.

جـ- ومن شكر النعمة أن تستخدم في طاعة الله.

د- ومن شكر النعمة أن تحدث بها ولا تكتمها {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11].

فشكر النعمة لها عدة طرق، وهذا منها: نسبة النعمة إلى الله سبحانه وتعالى.

3 - فيه: ما كان عليه الصحابة -رضوان الله عليهم- من الجهد والمشقة والجوع، ومع ذلك تحملوا ما تحملوا في سبيل الله، لم يذهبوا يشتغلوا بالتجارة ويتركوا الدين والدعوة والعلم، وإنما كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم.

4 - وفيه: حِلم النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن خلقه، وكرم نفسه، وصبره.

5_ وفيه: إغضاؤه عن حقوقه، لم يقل: أين نصيبي من اللبن؟ بل قال: أشربتم شرابكم الليلة؟ ولو كان واحداً منا لقال: أين نصيبي؟ من الذي أخذ نصيبي؟ وربما سب ودعا على الذي أخذ نصيبه، كما يفعل بعض الناس إذا ذهب نصيبه؛ يدعو ألا يبارك لمن أخذه ولمن شربه، فمما نستفيد: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان عنده كرم نفس وصبر، وكان يتغاضى عن حقوقه.

6 - وفيه: الدعاء للمحسن والخادم، ولمن سيفعل خيراً فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى الإناء فارغاً، قال: (اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني) وهذه الدعوة لمن سيطعمه ولمن سيسقيه، ولأنه ما رأى اللبن، فقال: (اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني) لعله يأتي أحد يطعمه ويسقيه، فدعا له، وهذا دعاء لمن سيفعل له معروفاً.

إذاً: الدعاء يكون لمن صنع لك المعروف في الماضي، أو لمن يصنع لك الآن، لكن هذا دعاء عجيب، هذا دعاء لمن سيصنع له معروفاً في المستقبل (اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني) في المستقبل.

لذلك لو قال أحد الناس: ما هو المبرر؟ لماذا أراد المقداد أن يذبح الأعنز؟ لأنه لما سمع الدعوة: (اللهم أطعم من أطعمني) ذهب يذبح ليطعم النبي عليه الصلاة والسلام، وفسر لي شيخنا عبد العزيز هذه اللفظة: بأن المقداد لعله فعلها ليطعم النبي عليه الصلاة والسلام؛ متأولاً راجياً بركة الدعاء لما قال: (اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني).

7 - وفيه: أن الإنسان إذا جاء إلى مجموعة ظاهرهم النوم، ولكن يحتمل أن بعضهم ما ناموا بعد، فإن طريقة السلام حينئذٍ أن يسلم بصوت متوسط لا يوقظ النائم ويسمع اليقظان حتى يرد السلام، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

8 - وفيه: إشفاق الصحابي على نفسه، وخوف الصحابي على نفسه من أن يدعو عليه النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه تسبب له في شيء من الأذى في حرمانه من نصيبه وإبقائه على الجوع، ولذلك لما علم المقداد أن النبي عليه الصلاة والسلام قد روي وأجيبت دعوته من شدة الفرح بزوال الغم الذي كان في صدره؛ ضحك حتى سقط إلى الأرض من كثرة ضحكه، لما ذهب من حزنه، وانقلاب هذا الحزن فرحاً وسروراً بشرب النبي عليه الصلاة والسلام، وشبع النبي عليه الصلاة والسلام، ودعاء النبي عليه الصلاة والسلام، وإجابة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام، وأن ذلك جرى على يد المقداد؛ لأنه هو الذي جاء إلى الأعنز فوجدها حفلاً، وهو الذي كان سبباً عندما شرب اللبن.

9 - وفيه: أن الشيطان يسول للإنسان فعل المعصية ثم يندمه عليها الشيطان لا يكتفي بأن يوقع الإنسان في المعصية، بل بعدما يحدث كل شيء يأتي الشيطان ويزيد الطين بلةً، قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22] فالشيطان لا يترك الإنسان حتى يقع في المعصية، وإذا وقع في المعصية كرَّ عليه مرة أخرى بالتعرض له بسيئات وسلبيات المعصية؛ حتى يركب الإنسان الهم والغم والحزن نتيجة ما حصل، فلا يكون عليه فقط سوء المعصية، وإنما عليه الهم والغم الذي حصل بعد ذلك.

10 - وفيه: أن المقداد عزا ما حصل إلى الشيطان وإلى تسويل نفسه، وأن الشيطان يضع الخطة، فإنه قال له: النبي صلى الله عليه وسلم عنده أصحاب، وعنده أكل، فما تأخر إلا وقد شرب وشبع وأكل، ولا زال بـ المقداد حتى جعله يشرب نصيب النبي عليه الصلاة والسلام.

11 - وفيه: تلطف النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وفطنته وفراسته؛ فإنه عندما نظر إلى المقداد وهو يضحك عرف أن في أمره شيئاً، وقال: (إحدى سوءاتك يا مقداد).

12 - وفيه: أن الإنسان إذا حضره خير لا ينسى أصحابه، ولا ينسى جيرانه؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال للمقداد: (أفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها)، وقال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وهكذا النبي صلى الله عليه وسلم تمنى أن يستيقظ الآخران ليشربا أيضاً.

13 - وفيه: تقاسم ما حضر مع الفقراء، فالنبي عليه الصلاة والسلام لما وجد الأعنز تقاسم حلبها مع هؤلاء الثلاثة الفقراء، والاقتسام هذا يجعل فيها بركةً وأجراً، وأن الشيء إذا كان محدوداً فلا بأس أن يعطى كل واحد قسطاً، يجعل له نصيب حتى لا يتعدى على نصيب الآخر (جزأ ألبانها بيننا أرباعاً) يجعل لكل واحد ربع خاص به، فيعرف ما هو له فيشربه ولا يتعدى على نصيب غيره.

14 - وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى المسجد صلى وهكذا لما دخل صلى ثم جاء إلى الشراب.

15 - وفيه: إكرام الصحابة والأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم بما كانوا يتحفونه به ويطعمونه ويسقونه رضي الله عنهم، وهذا من إكرامهم للنبي عليه الصلاة والسلام، وهذا من الأسباب التي حصل لهم بها رضوان الله تعالى عليهم.

16 - وفيه: أن الإنسان إذا جاع وبلغ الجوع به غايته، فلا بأس أن يعرض نفسه على من يطعمه، وأن ذلك لا يجعله يأثم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم المسألة إلا لصاحب الحاجة، وأخبر أن الذي يسأل الناس من غير حاجة إنما يسأله خدوشاً في وجهه يوم القيامة، تأتي المسألة يوم القيامة في وجه صاحبها خدوشاً، وهذا إذا سأل وله ما يغنيه، أما هؤلاء الصحابة فإن الجوع بلغ بهم أن ذهبت أسماعهم وأبصارهم، اختلت الرؤية والسمع من شدة الجوع.

17 - وفيه: حمد الله سبحانه وتعالى على النعمة، وأن الإنسان إذا كان به جوع فلا بأس أن يزداد من الطعام، كما يحمل عليه الشبع الذي حصل في حديث أبي هريرة الذي سبق ذكره.

18 - وفيه: أن دعوة النبي عليه الصلاة والسلام مستجابة.

هذه بعض ما تضمنته هذه القصة اللطيفة من الفوائد.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهل الآخرة، وأن يجعلنا ممن يستعين بالدنيا على مرضاة الله عز وجل.

(10/3)

الأسئلة

(10/4)

حكم الاستمناء في نهار رمضان

السؤال

أنا شابٌ أعزبٌ ولم أتزوج لأني فقير، وفي يوم من أيام رمضان الحالي غلبت عليَّ نفسي، فأفسدت صومي بالاستمناء في نهار رمضان، فما هو الحكم في هذه الحالة؟

الجواب

لا شك أن إفساد الصيام جريمةٌ من الجرائم، وكبيرةٌ من الكبائر؛ لأن هذا الصوم لما فرضه الله عز وجل لا بد من الوقوف عند حدوده فيما فرض، وعدم انتهاك حدود الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث القدسي: (ويدع شهوته من أجلي) وبهذا استدل العلماء على تحريم الاستمناء متعمداً في نهار رمضان؛ لأنه قال: (ويدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) والشهوة تشمل الزوجة، وتشمل الأمة، وتشمل الاستمناء؛ كل هذا داخلٌ في الحديث: (ويدع شهوته من أجلي) ولذلك فهو حرامٌ مفسد للصيام، والشيطان بعدما يوقع الإنسان في المعصية يندمه ويقول له: انظر إلى المصيبة التي فعلت! حتى ربما يصاب باليأس من رحمة الله والقنوط، فمن فعل هذا فعليه: أولاً: أن يمسك بقية يومه؛ لأن حرمة الشهر وحرمة اليوم باقية في رمضان، وبعض الناس يقول: قد فسد الصيام، فيستمر في المعاصي، وهذا خطأ، فعليه أن يمسك بقية اليوم.

ثانياً: أن يقضي يوماً آخر بدلاً منه، وبما أنه ليس فيه وطءٌ، فليس فيه كفارة مغلطة: العتق، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكيناً، وإنما عليه قضاء يوم بدلاً منه.

ثالثاً: التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وعمل ما يلزم من المكفرات، من الحسنات الأخرى، كصيام النوافل؛ لأن الإنسان إذا خرق صيام الفرض، فإن الذي يرقعه الإكثار من النوافل، وإذا خرق صلاة الفرض لا يرقعها إلا الإكثار من صلاة النوافل، وكذلك إذا خرق حجه بالرفث والفسوق والجدال، فيحج حجة نافلة ترقع ما انخرق من حج الفريضة، هذا بالنسبة لمن فعل ذلك.

(10/5)

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام

السؤال

رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم وأنا نائمة، فهل هي رؤيا صحيحة؟

الجواب

لا نحكم لأحد أبداً أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً إلا إذا رآه بصفته، فإذا قال أحد: رأيته، فنقول له: صفه لنا، فلو قال: رأيته وعيناه عسليتان، نقول: لا، عيناه صلى الله عليه وسلم في شدة سواد مع شدة بياض، ولو قال: رأيتها صغيرة، نقول: ليست كذلك، ولو قال: رأيته أسود، أو حنطي اللون، نقول: لا، هو أبيض مشرب بالحمرة، ولو قال: رأيت شعره أجعد، نقول: لا، شعره لا سبط ولا أجعد، وإنما وسط، ولو قال: رأيته قصيراً، نقول: لا، هو بين الطويل والقصير صلى الله عليه وسلم، لا طويل مفرط في الطول ولا قصير، معتدل القامة، عريض ما بين المنكبين، عظيم المشاش التي هي فقرات الأصابع، ولو قال مثلاً: رأيته سميناً، نقول: لا، هو صلى الله عليه وسلم معتدل، لا بالسمين ولا بالنحيف، ولو قال مثلاً: رأيت لحيته قصيرة جداً، أو ليس له لحية، نقول: ليس هو؛ لأن لحيته صلى الله عليه وسلم كانت تملأ ما بين منكبيه، ولو قال: رأيت اللحية كلها بيضاء، نقول: لا، شعرات الشيب معدودة في مفرق النبي صلى الله عليه وسلم وفي لحيته، الصحابة ما تركوا شيئاً، حتى عدد الشعرات البيضاء في شعر النبي عليه الصلاة والسلام ولحيته كلها نقلوها.

إذاً: إذا رآه بصفته فهو هو بالتأكيد، لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي) لا يستطيع الشيطان أن يتمثل في صورة النبي عليه الصلاة والسلام الحقيقية، لكن يمكن أن يتمثل بصورة أخرى ويقول في المنام لصاحب الرؤيا: افعل كذا، أو لا تفعل كذا، ونحو ذلك، لكن لا يستطيع الشيطان أن يتمثل بشكل النبي عليه الصلاة والسلام الحقيقي، ولو أمره بشرٍ -أيضاً- فليس هو صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يأمر بالشر.

(10/6)

الجمع بين الصلاتين في السفر

السؤال

سوف أسافر في الطائرة في وقت الظهر، فماذا أفعل في صلاة الظهر؟

الجواب

إذا كنت ستصل إلى هناك في وقت العصر فاجمع جمع تأخير، وإذا أردت أن تصلي في الطائرة، كأن تطلع -مثلاً- بعد العصر، أو قبل العصر من هنا، كأن يكون الإقلاع الساعة الثالثة، فما استطعت أن تصلي العصر هنا، والطائرة ستصل هناك ربما بعد أذان المغرب، فعليك أن تصلي في الطائرة، لأن العصر لا تجمع إلى المغرب حتى نقول: تصليها إذا نزلت في مطار جدة مثلاً، فلا بد من المحافظة على الصلاة في وقتها، فالوقت أهم شروط الصلاة.

(10/7)

معنى قوله تعالى: (وأما بنعمة ربك فحدث)

السؤال

هل معنى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] أن أخبر الناس كم أملك من النقود؟

الجواب

قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] كأن يقول الإنسان: كنت ضالاً فهداني الله، وكنت فقيراً فأغناني الله، وكنت طالباً ليس عندي شيء فأعطاني الله سبحانه وتعالى وأكرمني، وكنت مريضاً فشفاني الله سبحانه وتعالى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] ولا يلزمه أن يقول: أنا عندي في البنك كذا وكذا، ويقول: هذا من الإخبار بالنعمة، وإلا فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (استعينوا على نجاح حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمةٍ محسود) معناه: أن الإنسان إذا خشي من حاسد فلا يتكلم في المجلس بما عنده من الأشياء والممتلكات حتى لا يصاب بعين هذا الحاسد، ويكون ذلك سبباً في تلف ماله، أو تلف ما عنده من النعم، هذا هو الوزن بين قضية {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] وبين: (فإن كل ذي نعمةٍ محسود) يحدث الإنسان بنعم الله عليه، ولا يحدث بطريقة تستجلب حسد الحساد، كأن يقول: عندي كذا وكذا، ثم إذا عرض ممتلكاته، ربما يكون فيها شيء من الخيلاء والفخر والغرور، فإن بعض الناس قد يقول: هذا فلان عنده ما يكفي حفيده السابع، فربما تذهب كل أمواله في طرفة عين، فإن قارون ذهبت أمواله بطرفة عين {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص:81] لا يزال يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، وقد قيل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر عن (رجلٍ مسبلٍ يجر إزاره كبراً وخيلاءً وغطرسة، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل بها إلى يوم القيامة) قالوا: هذا قارون، خرج على قومه في زينته {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص:81].

(10/8)

وسوسة النفس ووسوسة الشيطان

السؤال

ما هو الفرق بين وسوسة النفس ووسوسة الشيطان؟

الجواب

النفس أمارة بالسوء، والشيطان يأمركم بالفحشاء، فكلها تجتمع في الأمر بالسوء، وربما يكون الاثنين جميعاً، وربما تكون وسوسة النفس فقط، ولو قال أحد الناس: حسناً! إذا كانت الشياطين مصفدة في رمضان، فمن أين هذه المعاصي؟ نقول: أولاً: المصفدة هي المردة وليس كل الشياطين.

ثانياً: لو كانت كل الشياطين مصفدة، فمعك النفس الأمارة بالسوء {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53] ولو كان كل الشياطين مصفدة المردة وغير المردة، فعندك شياطين الإنس يشتغلون ليلاً ونهاراً، هذه القنوات الفضائية هي من شياطين الإنس، والظاهر الآن أن الشيطان استراح، بعض الناس لا يحتاج إلى أن يشتغل معهم؛ لأن العمل مستمر تلقائياً، لا يحتاج إلى تدخل، وعندما جاء أحد الناس وقال لأحد علماء المسلمين: إن أحد الأحبار والرهبان يقول: إننا نحن اليهود لا نشعر بأي وسوسة في الصلاة، عندما ندخل الكنائس أو البيع!! فقال: وماذا يفعل الشيطان في البيت الخرب؟ هو كافر ومشرك، وكل الطقوس الذي يقوم بها في الكنيسة أو في المعبد شرك في شرك، فلا يحتاج الشيطان إلى أن يتعب نفسه، ماذا يفعل الشيطان في البيت الخرب؟ الشيطان يذهب إلى هؤلاء الموحدين ويؤذيهم في صلواتهم.

(10/9)

حكم استعمال الحقنة في الدبر في نهار رمضان

السؤال

هل الحقنة المائية في الدبر تفطر أم لا؟

الجواب

رجح شيخ الإسلام -رحمه الله- أن الحقنة في الدبر لا تفطر، ومن العلماء من ذهب إلى أنها تفطر، ولكنهم قالوا: ليس هذا منفذ طبيعي لدخول الغذاء إلى الجسم، ولذلك فإنها لا تفطر.

(10/10)

الصلاة بوضوء مس المصحف

السؤال

إذا توضأت لقراءة القرآن فهل تصح الصلاة بهذا الوضوء؟

الجواب

إذا قصدت رفع الحدث والطهارة -وهذا الذي يقصده من أراد أن يقرأ القرآن ويمس المصحف- فإنه يجوز لك أن تصلي بهذا الوضوء.

والحمد لله رب العالمين.

(10/11)

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

سلسلة القصص المنجد

قصة جريج العابد

هو رجل صالح من بني إسرائيل، قيل: إنه ان يشتغل بالتجارة، وأنه كان ينقص مرة ويزيد أخرى، أي: يربح ويخسر، فقال: ليس في هذه التجارة خير؛ لألتمسن تجارة هي خير من هذه، فبنى صومعة وترهب فيها، فجاء ذكر قصته على لسان رسولنا صلى الله عليه وسلم، لما فيها من العظة والعبرة، وقد ذكر الشيخ الحديث بنصه ثم شرحه شرحاً موسعاً.

(11/1)

حديث جريج

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فهذه القصة التي بين أيدينا هي قصة مِن أنباء مَن قد سبق، قصها علينا النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى، وهي قصة جريج الراهب، {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} النجم:4]، التي حدثنا بها النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء عنه في الحديث الصحيح.

وهذه القصة رواها البخاري رحمه الله، ورواها الإمام مسلم رحمه الله تعالى، وكذلك رواها الإمام أحمد رحمه الله.

ورواية الإمام مسلم رحمه الله تعالى، يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجلاً عابداً، فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي، فقالت: يا جريج! فقال: يا رب! أمي وصلاتي -أيهما أقدم؟ - فأقبل على صلاته، فانصرفت -أي: أمه- فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج! فقال: أي ربِّ، أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج! فقال: أي ربِّ! أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات.

فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته، وكانت امرأة بغي يُتَمَثَّل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفْتِنَنَّه، فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها، فوقع عليها -الراعي- فحملت.

فلما ولدت قالت: هو من جريج -الولد ولد الزنا من جريج - فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيتَ بهذه البغي، فولدت منك، قال: أين الصبي؟ فجاءوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى فلما انصرف أتى الصبيَّ فطعن في بطنه وقال: يا غلام! من أبوك؟ قال: فلان الراعي، فأقبلوا على جريج يقبِّلونه ويتمسحون به وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا.

أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا).

وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لنا قصة المرأة التي كان معها الرضيع في هؤلاء الثلاثة؛ ولكن سنقتصر على قصة جريج؛ لأنها هي موضوعنا في هذه الليلة.

(11/2)

شرح حديث جريج

قوله عليه الصلاة والسلام: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة): لقد نُقِل أن عدداً من الناس قد تكلموا في المهد، مثل: صاحب الأخدود، وغيره؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بحسب ما يعلم، وبحسب ما أوحي إليه في ذلك الوقت، هذا إذا صحت الروايات برابع أو خامس أو ما زاد عن هؤلاء الثلاثة المذكورين في الحديث: عيسى، والولد في قصة جريج، وكذلك ولد المرأة الذي كان يرتضع، ثم تكلم عندما تمنت أن يكون مثل فلان، ودعت ألا يكون مثل فلان.

فـ جريج رحمه الله كان في بني إسرائيل، وقيل: إنه كان رجلاً تاجراً في بني إسرائيل، وكان ينقُص مرة ويزيد أخرى، يعني: تجارته ترتفع وتنخفض، تربح وتخسر، فقال: ليس في هذه التجارة خير، لألتمسن تجارة هي خير من هذه، فبنى صومعةً وترهَّب فيها، وهذا يدل على أن جريجاً كان بعد عيسى عليه السلام، وأنه كان من أتباعه؛ لأن أتباعه هم الذين ترهبنوا وحبسوا أنفسهم في الصوامع.

والصومعة: بناء مرتفع محدد الأعلى، رأسه دقيق، كان رهبان بني إسرائيل يعتكفون فيها -في الصوامع- يعبدون الله.

وبينما كان جريج يتعبد في صومعته جاءته أمه، وفي العادة كانت أمه تأتيه فتناديه فيشرف عليها فيكلمها فأتته يوماً وهو في صلاته، فنادته، ثم المرة التي بعدها صادف أن كان في الصلاة، فنادته، والمرة الثالثة نادته وكان في صلاة فقالت: أيْ جريج! أشرف علي أكلمك، أنا أمك، فكان يختار الإقبال على صلاته، احتار في البداية، أبى أن يجيبها، وقال في نفسه: (رب أمي وصلاتي) أي: اجتمع عليَّ واجبان، اجتمع علي إجابة أمي وإتمام صلاتي، فوفقني لأفضلهما، وفي رواية: (فصادفته يصلي فوضعت يدها على حاجبها فقالت: يا جريج! فقال: يا رب أمي وصلاتي، فاختار صلاته -اجتهد واجتهاده أن يقبل على صلاته- فرجعت ثم أتته فصادفته يصلي فقالت: يا جريج! أنا أمك فكلمني، فقال مثل ذلك) ثلاث مرات تناديه في كل مرة وهو يؤثر صلاته على أمه.

هو قال ذلك في نفسه؛ لأنه لا يتكلم في الصلاة، قال في نفسه: أمي أو صلاتي؟! ويحتمل أنه يكون نطق بذلك لأن الكلام عندهم كان مباحاً في العبادة، وكذلك كان في صدر الإسلام، ثم لما نزل قول الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] امتنع الكلام في الصلاة، في ديننا كان الكلام في الصلاة مباحاً، فكان الرجل إذا جاء إلى الجماعة وجدهم يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ النبي عليه الصلاة والسلام آية، فيقول لمن بجانبه: متى نزلت هذه؟ أو هذه من أي سورة؟ ونحو ذلك، فيجيبه، فلما نزل قول الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] امتنعوا عن الكلام في الصلاة، وحرم الكلام في الصلاة.

ويقول: وجاء في بعض الروايات: (لو كان جريجٌ عالماً لعلم أن إجابة أمه أولى من صلاته) لما صادف ثلاث مرات أن جريجاً لا يطيع أمه لما نادته ولا يكلمها لاشتغاله بالصلاة وترجيحه الصلاة على إجابة أمه، تضايقت الأم ودعت الله، فقالت: (اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات) وفي رواية: (حتى ينظر في وجوه المياميس).

وفي رواية: (حتى تريه المومسة).

وفي رواية: (فغضبت فقالت: اللهم لا يموتن جريج حتى ينظر في وجوه المومسات) المومسات: جمع مومسة، والمومسة هي: الزانية، وتُجمع على مواميس أيضاً.

ووقع في رواية: (قالت: أبيتَ أن تطَّلِع، لا أماتك الله حتى تنظر في وجهك زواني المدينة).

بعد ذلك حدث أن بني إسرائيل الذين كانوا في بلده ومعه تناقشوا في عبادة جريج، وذكروا كيف كان يعبد ويطيل العبادة ويتفرغ للعبادة، وينقطع للعبادة، فقالت بغي منهم: (إن شئتم لأفتننه، قالوا: قد شئنا -وكانوا قومَ بُهْت، كانوا قوماً فَسَقَة فَجَرَة، ما عندهم مانع أن تتعرض الزانية للعابد- قالوا: قد شئنا، فأتته فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأمكنت نفسها من راعٍ -راعي غنم- كان يؤوي غنمه إلى أصل صومعة جريج) الراعي كان يؤوي الغنم إلى أصل صومعة جريج في الأسفل، فهذه المرأة لما لم يلتفت إليها جريج ولا تعرض لها، أمكنت نفسها من هذا الراعي، فزنى بها، ووقع عليها، وكانت تعمل الفساد، وظنت أنها تستطيع أن تفتن جريجاً، ولكن لم يتعرض لها ولم يلتفت إليها.

لما وقع عليها الراعي حملت فولدت غلاماً: (فأتت بني إسرائيل فقيل لها: ممن هذا؟ -ممن هذا الغلام؟ - قالت: من صاحب الصومعة -نزل إلي من صومعته-.

وفي رواية: فقيل لها: مَن صاحبك؟ -أي: الزاني؟ - قالت: جريج الراهب، نزل إلي فأصابني.

وفي رواية: فذهبوا إلى الملك فأخبروه، قال: أدركوه فأتوني به، فأتوه، فكسروا صومعته، وأنزلوه.

وفي رواية: فأقبلوا بفئوسهم ومساحيهم إلى الدير فنادوه فلم يكلمهم فأقبلوا يهدمون ديره فما شعر حتى سمع بالفئوس في أصل صومعته فجعل يسألهم: ويلكم! ما لكم؟ فلم يجيبوه، فلما رأى ذلك أخذ الحبل فتدلى، أخذوه وضربوه وسبوه، قال: ما شأنكم؟ قالوا: إنك زنيت بهذه.

وفي رواية: فقالوا: أي جريج انزل، فأبى، يقبل على صلاته -مشتغلٌ بالصلاة- فأخذوا في هدم صومعته، فلما رأى ذلك نزل فجعلوا في عنقه وعنقها حبلاً وجعلوا يطوفون بهما في الناس، فقال له الملك: ويحك يا جريج! كنا نراك خير الناس فأحبلت هذه، اذهبوا به فاصلبوه.

وفي رواية: فجعلوا يضربونه ويقولون: مُراءٍ، تخادع الناس بعملك، قال: دعوني حتى أصلي، فتوضأ -وهذا دليل على أن الوضوء كان في الأمم مِن قبلِنا، وصلى ودعا الله تعالى -صلى ركعتين، ودعا الله تعالى- ثم أتى الغلام فطعنه بأصبعه في بطنه - جريج طعن الغلام بأصبعه في بطنه لكي ينتبه الغلام مع أن الغلام رضيع لا يفقه شيئاً- فقال: بالله يا غلام من أبوك؟ قال الغلام: أنا ابن الراعي.

وفي رواية: ثم مسح رأس الصبي، فقال: من أبوك؟ فقال: راعي الضأن.

وفي رواية: فأُتي بالمرأة والصبي وفمه في ثديها، فقال له جريج: يا غلام! من أبوك؟ فنزع الغلام فاه من الثدي وقال: أبي راعي الضأن -فيُحمل هذا على أنه مسح برأس الصبي أولاً، ووضع إصبعه، طعن بإصبعه في بطنه، وسأله بعد ذلك- فنطق الغلام فأبرأ الله جريجاً، وأعظم الناس أمر جريج، فسبح الناس وعجبوا، قالوا: نبني صومعتك من ذهب؟ قال: لا.

إلا من طين، ابنوها طيناً كما كانت.

وفي رواية: قالوا: نبني ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة، قال: لا.

ولكن أعيدوه كما كان.

وفي رواية: فقال له الملك: نبنيها من ذهب؟ قال: لا.

قالوا: من فضة؟ قال: لا.

إلا من طين.

وفي رواية: فردوها كما هي فرجع في صومعته، فقالوا له: بالله مِمَّ ضحكت؟ فقال: ما ضحكت إلا من دعوة دعتها أمي).

(11/3)

فوائد حديث جريج

في هذا الحديث:

(11/4)

إيثار إجابة الأم على صلاة التطوع

إيثار إجابة الأم على صلاة التطوع إذا نادته أمه: الواحد منا إذا نادته أمه أو ناداه أبوه، وهو يصلي صلاة نافلة، فإن كان يعلم أن أمه ستغضب إذا لم يجبها فإنه يقطع الصلاة ويجيبها، وإذا علم أنها تتحمل لو أتمها خفيفة، أتم النافلة خفيفة وأجاب أمه وأباه وإذا كانت صلاةَ فريضة خَفِّفْ الفريضة، قَصِّر القراءة والركوع والسجود ثم سلم وأجب أمك أو أباك.

إذاً: يؤخذ من هذا الحديث: - تقديم إجابة الأم على صلاة النافلة، وإذا أمكن التخفيف فليخفف ثم يُجب.

- الفرض يخففه ويجيب أمه.

(11/5)

تقدير شعور الأم

ثانياً: أن الأم تشتاق إلى ولدها فتزوره وتقتنع برؤيته وتكليمه وأن مناها في رؤية ولدها هو الكلام والحديث إليه: ولذلك فينبغي على الابن أن يقدر شعور الأم، ولا يقول: وماذا يفيدها النظر إلى وجهي؟! وماذا يفيدها الكلام معي؟! فنقول: هذا قلب أم والأم تشتاق إلى ولدها، وتحن إليه، وهي متعلقة به، ورؤياه عندها تساوي الدنيا وما فيها، وحديثها إلى ولدها جد مهم بالنسبة لها، ولذلك ينبغي على الإنسان أن يقدر شعور أمه.

وبعض الناس إذا كبروا وانشغلوا بالحياة والوظائف والسفر من بلد إلى بلد، أصبحوا لا يقدرون شعور الأم، وربما لا يقدر إلا إذا صار أباً أو صارت البنت أماً في المستقبل، فتتذكر وتقول: رحمة الله على أمي، أو رحم الله أمي، كانت تقنع بنظرة وتريد الرؤيا واللقيا والكلمة، فعند ذلك يحس الإنسان بشعور الأب أو الأم إذا صار هو أباًَ أو صارت هي أماً.

ولذلك ينبغي أن ينتبه قبل فوات الأوان، وأن الإنسان لو طلبَت منه أمه أن يأتي إليها، كأن تتصل به من بلدها وهو -مثلاً- من الجنوب ويسكن في الشرقية، أو كانت أمه في مصر وهو يعمل هنا، فطلبت منه أن يأتي لرؤيتها، فلا يقل: أنا أين وهي أين! أنا في شغل وأشغال مهمة وهي تريد رؤيتي! وماذا تستفيد من رؤيتي؟! فنقول: الأم هكذا قلبها، معلق بولدها، تريد رؤيته والحديث إليه، وتقر عينها عندما يكون ولدها عندها، ولذلك لا يقول الإنسان: أسافر الآن من أجل أمي؟! فنقول: إذا كان السفر ممكناً ولا يضرك فسافر من أجلها والقَها وانزل إليها ومُرَّ بها فإن في ذلك البركة.

ولذلك فإن الإنسان إذا كان عند والديه في البلد لا أقل من أن يمر بهما يومياً من الباب ويسلم عليهما، وأن يحييهما في المساء، أو في الصباح تحية، والرؤيا فيها فائدة عظيمة للأم، فلا يصح أن تُفَوَّت عليها بحال.

(11/6)

كراهية دعاء الأم على ولدها بشر

الفائدة الثالثة من فوائد الحديث: أن الأم لا ينبغي أن تدعو على ولدها بشر: لأن دعاء الأم مستجاب، ولو دعت عليه بشر ربما وقع ذلك فتتأسف وتقول: يا ليتني لم أدعُ عليه: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس:11] من رحمة الله أنه لا يستجيب لنا كل دعاء دعونا به على أنفسنا أو على أولادنا، ولو أن الله يستجيب لنا كل دعاء ندعو به على أنفسنا أو أولادنا لهلكنا وهلك أولادنا منذ زمن بعيد، ولكن قد توافِق الدعوة وقت استجابةٍ وسماءٍ مفتوحةٍ فيقع المكروه بسبب الغضب والاستعجال.

ولذلك فإنه لا ينبغي للأب أو الأم الدعاء على الولد، إنما يدعو للولد بالهداية والصلاح.

ثم إن أم جريج كان دعاؤها أن يجري على ولدها ما يؤدبه، دعت دعاء خاصاً، ما دعت عليه بأن يقع في الفاحشة، وما دعت عليه بأن يقتل ويموت، دعت عليه بأن يريه الله وجوه المومسات، حتى ينتبه ويعي ويرجع ويعرف قدر الأم ودعوة الأم إلى أين تصل.

(11/7)

دعوة الوالدة على ولدها مستجابة

والفائدة الرابعة: أن دعوة الوالدة مستجابة: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوة الوالد لولده ودعوة الوالد على ولده كلاهما مستجاب).

(11/8)

صاحب الصدق مع الله لا تضره الفتن

والفائدة الخامسة: أن صاحب الصدق مع الله لا تضره الفتن: فنلاحظ أن جريجاً لما كان متفرغاً للعبادة مقبلاً على الله كان صاحب قلب قوي، وإيمان سوي، ولذلك ما ضرته المرأة لما تعرضت له، والإنسان لو كان إيمانه ضعيفاً، فدعته امرأة وهي ذات جمال ربما يقع، لكن عندما يكون الإنسان صاحب دين وصاحب عبادة، ليس فقط لا يقع، وإنما لا يلتفت أصلاً، ولذلك جاء في القصة أن جريجاً رحمه الله تعالى لم يلتفت إليها، قال في الحديث: (وكانت امرأة بغي يُتَمَثَّل بحسنها فقالت: إن شئتم لأفتننه، فتعرضت له فلم يلتفت إليها) فلم يلتفت، فالإنسان إذا كان صاحب دين قوي عصمه الله من الفتن.

(11/9)

سد الذرائع

سادساً: سد الذرائع: لا يكفي أن الإنسان ينظر بعينه ويقول: لا.

أنا أخاف الله رب العالمين، وإنما لا يلتفت أصلاً.

فيستفاد من القصة: غض البصر، وأن الدفع أسهل من الرفع، يعني: إذا دفعتَ عنك المنكر من أوله، فقد قطعت الطريق من أوله، وذلك أسهل من أن تتمادى فيه ثم تريد أن تخرج، نضرب مثالاً: لو أن إنساناً معه فرس، فأراد الفرس أن يدخل في دهليز ضيق، لو أنه منع الفرس من دخول هذا الدهليز الضيق لسهل عليه توجيه الفرس إلى أي جهة يريد؛ لأنه لم يدخل بعد، لكن إذا دخل الفرس في الدهليز الذي لا يكاد يتسع لدخول فرس واحد فما رأيكم بسهولة إخراجه؟! يصعب على الفرس أن يلتفت يميناً، وشمالاًَ؛ لأن رأسه صار إلى الداخل، وكذلك إذا توجه الشخص فالخروج صعب، وكلما أوغل في هذا الدهليز، يصعب إخراجه أكثر وأكثر.

ولذلك إذا منعه من الدخول كان توجيهه أسهل ما يكون، أما إذا دخل فإن توجيهه من أصعب ما يكون.

ولذلك ينبغي قطع الطريق عن الوقوع في المعصية من أولها بمسألة غض البصر.

فإن قال لك قائل: هذه الشهوات طرائق وسبل، على كل سبيل شيطان، يدعونا للدخول في هذه الشهوات.

ما هي الطريقة لكي ننقذ أنفسنا من الشهوات، فلا نستجيب للشهوات، ولا نتأثر بها، ولا نجري وراءها، ولا تستقر في نفوسنا وقلوبنا، ولا تتشرب قلوبنا هذه الشهوات؟ نقول: أسهل طريقة أن تغض بصرك، ولذلك الأعمى من منة الله عليه في كثير من الأحيان أنه لا يرى، يعني: لا يُفْتَن بالنظر؛ لأنه لا يرى، والمبصر مبتلى بالنظر، ولذلك كلما قوي الإيمان كان حجز النفس عن المعصية أقوى، ولذلك جريج لم يلتفت إليها أصلاً.

(11/10)

الفزع إلى الصلاة عند حدوث المكروه

الفائدة السابعة: الفزع إلى الصلاة عند حدوث المكروه: فإن جريجاً لما ضربوه وسبوه وشتموه واتهموه بأنه هو الذي زنى بالمرأة قال: (دعوني أصلي) فصلى حتى تقوى الصلة بالله، ويكون الدعاء أحرى بالإجابة، ثم دعا الله.

وهذا فيه تأكيد وإعادة لما سبق استخراجه من أحاديث متقدمة وقصص: أن الفزع إلى الصلاة عند الملمات من الأمور المهمة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153]، (كان إذا حزبه أمر صلى)

(11/11)

قوة اليقين والرجاء بالله تعالى

الفائدة الثامنة: قوة اليقين والرجاء بالله تعالى، وأن الإنسان إذا كان يقينه بالله قوياً خرق الله له العادة: وقد انخرقت العادة من قوة يقين جريج قال: (يا غلام! من أبوك؟) ما أنزل عليه وحي بأن الغلام سينطق: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} [البقرة:60]! {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:63]! لا.

هو أقبل عليه وقال: (يا غلام! من أبوك؟) بكامل اليقين بالله والتوكل على الله، فأنطق الله الولد، وانخرقت العادة بقوة إيمان جريج ويقينه بالله تعالى، ولولا صحة رجاء جريج بالله وتعلقه به ورجائه من الله أن ينقذه ما نطق الغلام، ولكن لصحة رجاء جريج نطق الغلام.

(11/12)

إثبات كرامات الأولياء

تاسعاً: إثبات كرامات الأولياء: وقد مر معنا هذا سابقاً، إثبات كرامات الأولياء، وجريج من أولياء الله، ومن كرامات جريج نُطْق الغلام ببراءته.

(11/13)

بعد كل شدة مخرج

عاشراً: أن الله يجعل لأوليائه عند الابتلاء مخارج:-

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فُرِجت وكنت أظنها لا تُفْرَجُ

ولرُبَّ نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرجُ

فإذا استحكمت حلقاتها وضاقت يأتي الفرج، متى يأتي الفرج؟ حين يظن الشخص أنه لا حيلة، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110] فيأتي الفرج عندما تضيق الأمور وتصل إلى القمة في الشدة، وعند ذلك يأتي الفرج، ضربوه وشتموه وسبوه وكسروا صومعته واتهموه وبعدها جاء الفرج.

(11/14)

إذا تعارض أمران بدئ بأهمهما

والحادي عشر: إذا تعارض أمران بُدِئ بأهمهما: إذا تعارض عندك أمران ولا تستطيع أن توفق بينهما، تبدأ بالأهم.

تؤخذ هذه القاعدة من قول جريج في الحديث: (أمي أو الصلاة).

قلنا: إن الإنسان إذا كان في فريضة خففها.

وإذا كان في نافلة: فإن كان تخفيفها لا يغضب أمه خففها وأتمها وأجاب.

وإن كانت تغضب أمه قطعها.

فإذا علم تأذي الوالد وجب عليه الترك وإجابة الوالد، وإلا فالأصل إتمام الصلاة، يقول الله: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] فالإنسان لا يقطع الصلاة لأي سبب ويمشي، وإنما إذا وُجِد سبب قوي قطع الصلاة، وإذا لم يجد سبباً أقوى من الصلاة فيستمر في الصلاة، ولا يبطل عمله؛ لأن الصلاة تلزم بالشروع، يعني: إذا كبرت تكبيرة الإحرام وجب عليك إتمامها، مثل الحج والعمرة إذا أحرم الإنسان وجب عليه الإتمام لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] حتى لو كان نفلاً يجب عليه أن يتمه، فالصلاة إذا دخل الإنسان فيها ولو كانت نافلة فإنه يجب إتمامها؛ لأن قطعها فيه دلالة على اللامبالاة بالدين وبأمره، ولو كانت نافلة، ما دام أحرم بها يجب عليه أن يتمها، ولذلك قال العلماء: تلزم بالشروع.

هل هذا الحكم -كما قلنا- يختص بالأم؟ ذهب إلى ذلك بعضهم، ولكن الصحيح أن الأب والأم في هذا الحكم سواء.

فإذاً: نرجع إلى القاعدة وهي: إذا تعارض عندك أمران فإنك تبدأ بالأهم.

مثال آخر: إذا شرعت في نافلة اللحظة وأقيمت صلاة الفرض: هذا تعارض ولا يمكن أن تتم الفرض وتتم النافلة وقد أقيمت الفريضة، فعند ذلك ماذا تفعل؟ تقطع النافلة بالنية، بدون تسليم، وتدخل مع الإمام في الفريضة؟ مثال آخر: حلول الدين والحج: فإذا صار الإنسان مطالباً بالدين يقدم الدين على الحج؛ لأن الحج يجب عند الاستطاعة، وحيث أنه مطالبٌ فلا استطاعة.

وإذا تعارض الزواج والحج فأيهما يقدم؟ فيها تفصيل: إذا كان يخشى العنت، ويخشى الوقوع في الإثم، أو في الحرام، ففي هذه الحالة يقدم الزواج.

أما إذا علم من نفسه أنه يستطيع أن يصبر فيقدم الحج.

مثال آخر على التقديم إذا تعارض أمران: الجهاد وبر الوالدين: يقدم بر الوالدين، ولا يذهب للجهاد إلا بإذنهما، لكن إذا دهم العدو بَلَدَه وجب عليه الخروج للجهاد ولو ما أذن الوالدان؛ لأن هذا أهم، في الحالة الأولى كان بر الوالدين أهم، وفي الحالة الثانية أصبح الجهاد أهم.

إذاً: هناك حالات تتغير الأمور فيها، في نفس القضية الحكم يتغير بحسب الحال.

مثال آخر على تعارض أمرين، وتقديم الأوجب! لكن كيف نتصور التعارض؟ مثال: امرأة عليها من رمضان عشرة أيام، وولدت في العشرين من رمضان، وطهرت في العشرين من شوال، ولو أنها أرادت أن تقضي الصيام لا يتوفر لها ستة أيام من شوال؛ لأن القضاء سيأتي على بقية الشهر، ولو قدمت صيام ستة أيام من شوال لقدمت النفل على الفريضة.

في هذه الحالة ماذا تقدم؟ تقدم الفريضة؛ لأن الوقت لو كان مُتَّسِعاً لقلنا لها: صومي عشرة أيام قضاء أولاً، ثم صومي ستاً من شوال.

لكن الشهر لم يبق منه إلا عشرة أيام فتقدم إذاً صوم رمضان.

ثم إن الأجر في الحديث مقيد: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال) فلا بد أن يستوفي أول شيءٍ عدة رمضان كاملة، ثم يصوم ستاً من شوال، وليس: (مَن صام عشرين يوماً من رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال)! فيشترط استيفاء رمضان كله.

مثالٌ آخر! الصلاة ومدافعة الأخبثين، وكذلك إذا حضر العِشاء والعَشاء: إذا حضر العِشاء والعَشاء فيقدم العَشاء وليس هذا دليلاً على أن الأكل أهم من الصلاة، لا.

لكن الخشوع أولى من عدم الخشوع.

فإذاً: صلاة بخشوع مقدمة على صلاة بغير خشوع.

وكذلك يقدم قضاء الحاجة على الصلاة.

مثال آخر: رجل اكْتُتِب في غزوة وامرأته قد ذهبت للحج بغير محرم فكيف يصنع؟ عليه أن يلحق بامرأته؛ لأن هذا أهم وأوجب وأولى من ذاك، وقد يغزو غيرُه؛ ولكن زوجته هو المحرم الوحيد لها.

وكذلك لو تعارض -مثلاً- إنقاذ نفس معصومة مع الصيام: فيقدم إنقاذ النفس المعصومة، ويقضي بعد ذلك هذا اليوم.

المهم أن هناك أمثلة عديدة يتعارض فيها واجبان مع بعضهما البعض، فيقدم الإنسان الأهم، لكن هذا يعتمد على ماذا؟ على الفقه؛ كيف يعرف الأهم؟ هنا السؤال، إدراك التعارض ممكن، يعني: قد يدرك بعض الناس التعارض، لكن ما هو الأهم؟ وكيف تعينه؟ هذا يحتاج إلى علم، ويحتاج إلى فقه.

(11/15)

جواز الأخذ بالأشد في العبادة لمن علم من نفسه القدرة على ذلك

الفائدة الثانية عشرة: جواز الأخذ بالأشد في العبادة لمن علم من نفسه القدرة على ذلك: فمثلاً الانقطاع للعبادة إذا كان الإنسان سيصبر ولا يسأل الناس، ويكتفي بالقليل ويقنع بما عنده، وما عنده يكفيه لو أن إنساناً تصدق بماله كله في سبيل الله، ما هو الحكم؟ جائز، وكيف لا يجوز وقد فعله أبو بكر الصديق؟!.

نقول: إذا كان يطيق ويصبر، يتصدق بماله كله، أما أن يتصدق بماله كله اليوم، وغداً نلقاه عند باب الجامع، فهذا لا يمكن، ولم يفعل الشيء المستحب ولا الأفضل.

فإذا كان سيصبر ويقينه بالله قوي، وأن الله يرزقه غداً أو بعد غدٍ، وأنه لو جاع اليوم ستنفرج غداً، فيتصدق بماله كله لا مانع، قال أبو بكر: [أبقيت لهم الله ورسوله] هو نفسه قال: [أبقيت لهم الله ورسوله] فالنبي صلى الله عليه وسلم سكت، وأقر على ذلك؛ ولكن قال لـ كعب بن مالك: (أمسك عليك بعض مالك) لما نذر أن يتصدق بماله كله اكتفى منه بالثلث.

(11/16)

مرتكب الفاحشة لا تبقى له حرمة

الثالثة عشرة: أن مرتكب الفاحشة لا تبقى له حرمة: ولذلك ضربوه وسبوه وشتموه وكسروا صومعته، ولكن كان بريئاً، لكن لو عُثِر عليه وهو يرتكب الفاحشة فيشتم ويُسَب ويُضْرَب ويُهان ويُذَل؛ لأنه ارتكب فاحشة.

(11/17)

ابن الزنا ينسب لأمه

الرابعة عشرة: أن ابن الزنا في شريعتنا ينسب لأمه، وفي شريعتهم الله أعلم ماذا كان الأمر: هو قال أنه ابن الراعي، قال: (يا غلام! من أبوك؟ قال: الراعي).

ويُحتمل أن يكون تجري بينهم أحكام الأبوة والبنوة، ولكن في شريعتنا لا يُنسب الولد للزاني وإنما يُنسب للزانية.

(11/18)

اتخاذ مكان للعبادة

الفائدة الخامسة عشرة: اتخاذ المكان للعبادة: لو أن إنساناً جعل في بيته مكاناً نظيفاً هادئاً طاهراً يصلي فيه، فهذا أمر طيب، ولا بأس بذلك.

(11/19)

جواز التفكير أثناء الصلاة في أمرٍ مشروع

الفائدة السادسة عشرة: أن الإنسان قد تتنازعه مسألة علمية وهو في الصلاة، قال: (يا ربِّ! أمي وصلاتي)، (أيْ ربِّ! أمي وصلاتي) فلا بأس أن يفكر بجوابها إذا كان لا بد أن يخرج بقرار الآن وهو في الصلاة، مثل أن يتردد هل يسجد للسهو أو لا، وجلس يفكر في الصلاة، هل يسجد قبل السلام أو بعده؟ وظل يتذكر أقوال العلماء ونحو ذلك، فهذا لا يضر بالصلاة؛ لأنه من مصلحة الصلاة.

(11/20)

دعاء الله بالتوفيق والصواب

الفائدة السابعة عشرة: أن الإنسان المسلم يحتاج أن يدعو ربه بالتوفيق للصواب؛ لأن جريجاً قال: (أيْ ربِّ! أمي وصلاتي) فالإنسان إذا تعارضت عنده مسألتان أو قولان أو رأيان ولم يدر أيهما أصوب، ماذا عليه أن يفعل بالإضافة إلى البحث والسؤال؟ أن يسأل الله أن يوفقه للقول الصواب، (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) هذا الدعاء قاله النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل، يدعو الله عز وجل، وهو النبي الذي يوحى إليه وهو أرجح الأمة عقلاً، وأعلمها بما علمه الله ومع ذلك يقول: (اهدني لما اختلف فيه) لاحظ! سبحان الله! النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك) نحن أولى؛ لأن الأمور تختلف علينا أكثر بكثير، فأولى أن نسأل الله إصابة الصواب.

وكان شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي رحمه الله تعالى إذا استشكل عليه الأمر، وصَعُب عليه يقول: يا معلم إبراهيم! علمني، ويا مفهم! سليمان فهمني، ولا زال يلح على الله ويدعو الله عز وجل حتى تنجلي له المسألة.

فأحياناً لا تكفي قضية البحث والتمعُّن وإمعان النظر، فإذا لم يأت من الله عون لا يمكن للإنسان أن يدرك الراجح.

(11/21)

وجود الحسدة في كل زمان ومكان

الفائدة الثامنة عشرة: أن هناك حَسَدَة.

بنو إسرائيل لما تذاكروا جريجاً وعبادته حسدوه، والبَغِيُّ لما قالت: (إن شئتم لأفْتِنَنَّه! قالوا: شئنا) {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] فحسد الصالحين على صلاحهم شيء موجود، وبعض الناس يُحْسَدون على أموالهم، ويُحْسَدون على ثيابهم، وعلى سياراتهم وبيوتهم، يعني: حسد على الدنيا، وبعض الناس يُحْسَدون على دينهم، فإن كان حسداً بمعنى الغبطة، يعني: أن يتمنى الإنسان أن يكون عنده إيمان قوي وعبادة مثل ما عند فلان من العباد، أما إن كان حسداً كأن يتمنى أن هذا الصالح يُفْتَن ويَضِل، كما قال بنو إسرائيل للبغي: (شئنا) يعني: تعرضي له، فهذه من المصائب، وهي موجودة، وقد يُبْتَلى بها بعض عباد الله الصابرين، يبتلون بمن يريد أن تزول عنهم الهداية، أن تزول عن هذا العابد الهداية وعن طالب العلم العلم، والعياذ بالله، فليس إلا الصبر والاعتصام بالله عز وجل.

(11/22)

وجود من يستغل إمكانياته في إضرار الناس

الفائدة التاسعة عشرة: أن بعض الفجرة يستعملون إمكاناتهم في إضرار الناس: انظر إلى المرأة هذه، فهي تستطيع أن تفجر مع أي إنسان، يعني: الباب مفتوح، تذهب إلى الراعي مباشرة من غير شيء؛ لكن قد يستجريها الشيطان ويجعلها تتفنن وتريد إضلال الإنسان التقي، يعني: هناك بعض الفاجرات يمكن أن تتخصص وتوجه جهودها لفتنة الصالحين، فالمسألة عندها ليست فقط مسألة قضاء وطر وشهوة مع فاجر مثلها وتنتهي القضية وإنما قضية كيد أيضاً.

(11/23)

كيد النسوة عظيم

الفائدة العشرون: أن كيد النسوة عظيم: والدليل على هذا أن هذه البغي خططت وذهبت إلى راعٍ يأوي إلى صومعة جريج، ما ذهبت إلى شخص بعيد، لا.

بل إلى راعٍ عند صومعة جريج، وأمكنته من نفسها، وأتت بالغلام بعد ولادته، ومرت به عند بني إسرائيل وقالوا: من أبوه؟ قالت: ذاك الرجل الذي في الصومعة، يعني: كأنها لا تعرف اسمه، فهذا من كيدهن، (إن كيدهن عظيم) وإذا استخدمت المرأة كيدها في الشر، فإنها تأتي بما لا يستطيعه الرجال طبعاً، مع أنها ضعيفة؛ لكن إذا كادت ابتعد عنها.

فهذه المرأة كادت له لتغويه، وتعرضت له، أول شيء قامت به أنها تزينت وتعطرت وتجملت وكشَفت وتعرضت له، يعني: وقفت في مكان يراها.

ولما لم يلتفت إليها انتقلت إلى الخطة رقم [2] أمكنت نفسها من الراعي، ولما حملت وولدت جاءتهم، ما قالت: أنا أحمل جنيناً، لا.

وإنما انتظرت حتى تلد، وهذا كله من أجل الكيد لهذا الرجل الصالح وتشويه سمعته.

وهذه القضية من القضايا المعاصرة، أن بعض الفاجرات تريد تشويه سمعة داعية أو رجل صالح، أو كذا، فتسارع إلى اتهامه، وتخطط لإيقاعه في حبائل الشر، فعلى الصالحين أن يحذروا، ولا يكون الإنسان مغفلاً.

حكى لي شخص قال: اتصلت بي فتاة، فأغلقت السماعة، ثم اتصلت مرة أخرى فأغلقت السماعة، وفي المرة الثالثة قالت: أيقظنا الفجر، فانظر إلى المداخل، المدخل هو الشيطان: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] والخطط يعني: مكر الليل والنهار، شيء متواصل، يدخلون من باب العبادة، أيقظني الفجر! وكذلك لو قالت مثلاً: لماذا لا تأتي إلى وتصلح بيني وبين زوجي؟! مَن التي دعته؟ هي التي دعته، إذاً هذا فخ، فالإنسان لا يذهب، ويكون مغفلاً! ويدخل، ويقول: أريد الإصلاح بين المتخاصمَين، ويقول في نفسه: هذه عبادة! انظر! المرأة الصالحة بنت الرجل الصالح، لما جاءت إلى موسى ماذا قالت له؟ هل قالت: تفضل معي، أريدك في موضوع؟ لا.

وإنما قالت: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] من هو صاحب الدعوة؟ أبوها، ما هو السبب؟ ليجزيك أجر ما سقيت لنا، إذاً جاءت بكل وضوح، لو كان الرجل الصالح قادراً على الإتيان لأتى، لكنه كبير في السن وعاجز، فجاءت البنت، ما قالت له بوقاحة وقلة حياء: تعال معي، أريدك في موضوع، تفضل عندنا في البيت بل قالت: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} [القصص:25] ولِمَ الدعوة؟! ما هو الهدف؟! حتى يكون كل شيء واضحاً! {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] ولذلك قيل: إنه لما مشى وراءها وهبت الريح قال: سيري خلفي وانعتي لي الطريق، أو قال: ارمي بحصاة، يعني: إن كنت تريدين مني أن ألف يميناً ارمي الحصاة يميناً، وإن تريدين أن ألف شمالاً ارمي الحصاة شمالاً، حتى لا يراها ولا يسمع شيئاً.

وينبغي أن أقول: هذا درس مهم جداً؛ لأن هذه سبب مصائب كبيرة، أن الإنسان لا يُسْتَدْرج إلى الفخ الذي تنصبه الفاجرة، ثم تلبسه التهمة فتقول: هو الذي تعرض لي، هو الذي جاءني، مع أنها هي التي جاءته، لكن تقول: هو الذي جاءني.

وكذلك هناك من الشياطين من الرجال من يوقعون النساء بطرق ملتوية، وربما يزينون لهن الفجور، وكما أن المرأة تكيد للرجل فكذلك الرجل أيضاً كما هو مُشْتَهَر الآن، ويُسجل لها مكالمات ويهددها بإرسال الأشرطة إلى أبيها حتى تعطيه مفتاح البيت، وغيرها من القصص التي تسمعونها.

لكن المقصود: أن الإنسان يحذر أن يُسْتَدْرَج، ثم لو أنه وقع في أول الفخ لا يكمل الطريق؛ لأن العودة أسهل من الفضيحة التي ستكون بعد ذلك، سواء كان في الدنيا عندما يستفحل الأمر ويصل إلى الفاحشة والعياذ بالله، أو في الآخرة.

(11/24)

حرمة بناء المساجد من ذهب أو فضة

الفائدة الواحدة والعشرون: أن أماكن العبادة لا يجوز أن تكون من ذهب أو فضة أو أشياء تلهي الناس: يجب أن تكون بسيطة ما فيها تكلف ولا زينة ولا زخرفة ولا نقوشات ولا ألوان ولا كتابات.

فتتعجب من محاريب بعض المساجد مكتوب فيها: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران:37] من هو الذي في المحراب؟ مريم أم إمام، هذا الرجل الذي في المحراب؟! ما هي علاقة الآية بالمحراب الذي في المسجد؟! أولاً: الكتابة في المساجد وزخرفتها حرام وتضييع الأموال فيها حرام فبعض المساجد لا يحنث الإنسان إذا حلف أن قيمة الزخرفة التي فيها يمكن أن تبني بها عشرة مساجد في بعض دول المسلمين الفقراء.

(11/25)

ابتلاء الله للأولياء

الفائدة الثانية والعشرون: أن أولياء الله يبتلَون: كما ابتلي جريج بالضرب والسب وكسر بيته أو مكان عبادته.

وقد ابتلي بعض العلماء بحرق مكتبته.

وابتلي بعض الصالحين بأشياء كثيرة، أنواع من الابتلاءات يُبتلى بها الصالحون.

وقد كان ابتلاء جريج ابتلاء مادياً ومعنوياً، وذلك بأنهم كسروا صومعته وضربوه وشتموه وسبوه.

(11/26)

الحُسن قد لا يأتي بخير

الفائدة الثالثة والعشرون: أن الحُسْن قد لا يأتي بخير، الجمال يمكن أن يكون نقمة على صاحبه، قال في الحديث: (وكانت امرأة بَغِيٌّ يُتمَثَّل بحسنها) يعني: يُضْرَب المثل بجمالها، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاظفر بذات الدين) والمرأة قد تكون جميلة؛ يمكن أن يوقعها الحسن والجمال في المعصية والفاحشة، وتكون هدفاً تُسْتَهْدَف، وبالتالي تقع، ولذلك الإنسان يكون حكيماً ولا يجري وراء الجمال، لا بد أن يكون الأساس هو الدين، وإن حصل الجمال فالحمد لله نعمة إلى نعمة، لكن إن تعارض الجمال والدين أيهما الأولى؟ تعارض الأولويات، فيقدم الدين بطبيعة الحال.

فالجمال قد يكون نقمة على صاحبه، وربما يكون إنسانٌ معرضاً للوقوع في الفواحش، وربما يستهدف من قبل الآخرين إذا كان عنده جمال، بينما إذا كانت خلقته عادية أو قبيح المنظر لا يتعرض له أي أحد، ولذلك الجمال ربما يكون نقمة وأحياناً قد يكون عدم الجمال نعمة في بعض المواضع.

(11/27)

تمسح الجهلة بالأولياء

وكذلك من فوائد الحديث: أن الجهلة إذا رأوا أمامهم كرامة يتمسحون بصاحبها: فإنه قال في الحديث: (فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به).

فيجب على الإنسان لو حصل منه شيء من ذلك ألا يفتح المجال لقضية التمسح وأن يبعد هؤلاء، ولكن قد يغلبونه بسبب كثرتهم، ولكن ينبغي أن يبين لهم الحكم وأن البركة من الله.

بعض الناس يتمسح بشخص ويقول: بركاتك يا سيدنا الشيخ، والبركة من الله، وليست موجودة في فلان ولا فلان، فمن هو مصدر البركة؟ الله عز وجل.

ثم قد يجعله الله في ماء زمزم؛ فيكون ماءً مباركاً.

وقد يجعله في ماء السماء؛ فيكون ماءً مباركاً.

وقد جعله في البيت الحرام؛ فكان بيتاً مباركاً.

وقد يجعله في بقعة؛ فتكون بقعة مباركة، مثل المسجد الأقصى وما حوله في بلاد الشام.

وقد يجعله في نوع من الطعام؛ {شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور:35].

وكذلك قد يجعل الله البركة في أشياء قليلة فيكون القليل منها يكفي الكثير.

لكن مصدر البركة من الله، الناس ليسوا هم مصدر البركة، وإنما البركة من الله؛ لأن الكثرة والنماء والزيادة من الله، لأنها أشياء غير محسوسة، يعني: أنها لا تحس وإنما ترى نتائجها وآثارها، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (البركة وسط الطعام فكلوا من أطرافه) يأتي رجل ويقول: أنا أريد البركة، فيأكل من وسط الطعام، كل من حوافه؛ فإن البركة تنزل من الوسط على الجوانب؛ فإذا أذهبتَ الوسط ما الذي سينزل؟

(11/28)

تواضع العابد

ومن الفوائد كذلك تواضع العابد: فإنه قال: (أعيدوها من طينٍ كما كانت) ما قال: أريد تعويضاتٍ، وذهباً وفضةً، وأريد أمولاً، وما قال: ردوا اعتباري، قبِّلوا يديَّ، تمسحوا بي، ابنوها ذهباً، ما فعل ذلك، وإنما قال: فقط أنا عندي مطلب: (أعيدوها من طين كما كانت) وهذا يدل على تواضعه رحمه الله تعالى.

(11/29)

التذكر بعد حدوث مصيبة أو كارثة

وكذلك من الفوائد: أن الإنسان قد لا يتعلم إلا إذا نزلت به مصيبة أو كارثة: عند ذلك يتغير، فهو ضحك (قالوا: مِمَّ ضحكت؟ قال: من دعوة دعتها أمي) الآن عرف ما يمكن أن تصل إليه الأمور.

فالإنسان أحياناً لا يتعلم إلا بدرس يتلقنه، وما يعرف الصواب إلا بعد أن يُمْتَحن، وعندها يعلم ما كان ينبغي عليه أن يفعله.

فهذا بعض ما اشتملت عليه هذه القصة من الفوائد.

وننتقل بعد ذلك إلى الأسئلة.

(11/30)

الأسئلة

(11/31)

جواز الوقف قبل إتمام الآية إذا كان هناك عذر

السؤال

ما هو سر وقوفك في منتصف سورة الحمد، هل هناك دليل على ذلك؟

الجواب

ليس عندنا أسرار وإنما قد يحدث ضيق في النفس أو كتمة في الصدر أو في الصوت فأضطر إلى الوقوف، وإلا فلا فيها دليل ولا سنة معينة في الوقوف في موضع معين في الفاتحة، السنة الوقوف عند رءوس الآي فقط.

(11/32)

إعلام فاعل الخير فيما ينفق ماله

السؤال

أتى رجل بمائة ريال وقال للمؤذن: اشترِ بهذه سجادة للإمام، والجامع الحمد لله مفروش ولا يحتاج؟!

الجواب

يعيدها إليه ويقول: يا فلان! لا يُشرع أني أشتري سجادة للإمام؛ لأنها متوفرة ولكن وكلني أتصرف بها في شيء للمسجد أو طعام لمساكين ونحو ذلك.

(11/33)

التحذير من الفتوى بغير علم

السؤال

صلى نساء في مسجد فقرأ الإمام: {وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص:24] فسجد الإمام وسجد المأمومون، وركعت امرأة والمأمومون ساجدون، فلما قضيت الصلاة أخذت المرأة تقول: يا أخوات! لماذا سجدتن ولم تركعن؟ ألم تسَمْعَن عن ركوع التلاوة؟!

الجواب

ماذا تعني كلمة خَرَّ؟ تعني: من أعلى إلى أسفل، {وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص:24] فالسجود قد يطلق عليه ركوع، والخرور من أعلى إلى أسفل، وليس هناك شيء اسمه ركوع التلاوة، وإنما سجود التلاوة، فهذه المرأة عليها ألا تفتي بغير علم.

(11/34)

جواز قطع الصلاة للحاجة

السؤال

إذا سقط شخص مغشياً عليه أثناء تكبير الإمام تكبيرة الإحرام، هل يخفف الصلاة أحد المأمومين أو يقطعها؟

الجواب

إذا رأى الوضعَ خطيراً يقطع الصلاة لإسعاف الشخص.

(11/35)

(حال حديث: (لا يدخل الجنة ولد الزنا

السؤال

ما صحة حديث: (لا يدخل الجنة ولد زنا)؟

الجواب

حديث: (ولد الزنا شر الثلاثة) محمول على أنه إذا عمل بعمل والدَيه، وإذا صح الحديث؛ فإنه لا يدخل إذا عمل أو وقع في هذه الفاحشة، أما أن ولد الزنا في ذاته لا يدخل الجنة أو محروم من الجنة فهذا كلام باطل؛ لأن الله يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] ما له ذنب، فهو إنسان آدمي مثله مثل غيره، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10] فإن كان صالحاً تقياً فإنه يدخل الجنة، وإن كان فاجراً شقياً يدخل النار.

(11/36)

كراهية وضع المباخر أمام المصلين

السؤال

هل المباخر في المساجد تشبهٌ بالمجوس؟

الجواب

إذا وضعت أمام المصلين، فإن ذلك يُكره؛ لئلا يكون فيها تشبهٌ بالمجوس أثناء الصلاة.

(11/37)

الواجب على من ترك قضاء أيام رمضان التي أفطر فيها

السؤال

والدتي تقول: إنها كان يمضي عليها شهر رمضان -قبل الزواج- وتأتيها الدورة الشهرية فتفطر، ولكنها لم تكن تعلم بأنها ملزمة بالقضاء، ولذلك لم تقضِ ما فاتها، وسألتها عن عدد الأيام التي أفطرتها فلم تستطع إحصاءها لمرور السنين العديدة!

الجواب

عليها التوبة إلى الله؛ لأنها لم تسأل مع إمكان السؤال، والمرأة المسلمة يجب عليها أن تتفقه في الأحكام الشرعية؛ الطهارة، الصلاة، الصيام، وإذا أرادت أن تحج تسأل عن الحج، وإذا أرادت أن تعتمر سألت عن العمرة، وهكذا، أما أن تبقى هكذا في جهل تنتظر الصدفة التي تتيح لها معرفة شيء، هذا خطأ.

فهذه المرأة عليها أن تقدر ما فاتها وتقضيه، وتطعم مسكيناً عن كل يوم كفارة التأخير.

(11/38)

نهي الوالدين عن المنكر بالتي هي أحسن والصبر على أذاهما

السؤال

إذا غضب علي والداي لإخراج منكر من البيت؟

الجواب

لا يستجاب لهما فيك ما دام أنك اتقيت الله، ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، وبالحسنى وبالمعاملة الطيبة وبالكلمة الحسنة لعلك إن شاء الله تستجلب رضاهما.

(11/39)

ثبوت الوضوء في الشرائع السابقة

السؤال

هل الوضوء في الأمم السابقة نفس الوضوء الآن؟

الجواب

لا يشترط؛ لكن كان عندهم وضوء.

(11/40)

دعاء الأم ليس دائماً مستجاباً

السؤال

هل دعاء الأم دائماً مستجاب؟

الجواب

لا.

قد لا يستجاب، لكن في كثير من الأحيان يستجاب، ومظنة استجابة دعاء الأم والأب أكثر من غيرهما في الولد، ولذلك قال: (دعاء الوالد لولده، ودعاء الوالد على ولده) فدعاء الوالد والوالدة للولد وعلى الولد مظنة الاستجابة.

(11/41)

عدم وجوب الغسل عند الميقات

السؤال

هل الغسل عند الميقات واجب؟

الجواب

لا.

(11/42)

جواز الإحرام بدون غسل إذا كان هناك عذر

السؤال

في شدة البرد نحرم بدون غسل؟

الجواب

نعم.

(11/43)

دفع زكاة الفطر قبل وقتها

السؤال

دفعت زكاة الفطر يوم خمسة عشر من رمضان؟

الجواب

إذا دفعتها لشخص وكلته في إخراجها في الوقت الصحيح وهو ثقة فيجزئك ذلك.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جلباب المرأة المسلمة للشيخ الألباني

  جلباب المرأة المسلمة صفحة رقم -35-  مقدمة الطبعة الأولى :   بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه الكريم : ( يا...