Translate

Translate ترجم الصفحة لاي لغة تريد

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 27 فبراير 2024

قصة يوم الوشاح / وقصة بني إسرائيل مع البقرة .



سلسلة القصص المنجد


قصة يوم الوشاح

خصص البخاري رحمه الله في صحيحه عدة أبواب من كتاب الصلاة للمساجد وأحكامها وآدابها.

وقد جاءت هذه المادة لتسلط الأضواء على تلك الآداب والأحكام من خلال الشرح والتعليق على أحاديث من تلك الأبواب.

وقد ظهر من خلال ذلك: أحكام الإقامة في المسجد تنظيف المسجد بناء المساجد آداب الكلام فيها وكذلك بيان لمن يستعان به في بناء المساجد، وغير ذلك من الأحكام المتناثرة في ثنايا هذه المادة.

حديث صاحبة الوشاح في صحيح


 البخاري

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فهذه القصة التي بين أيدينا في هذه الليلة قصةٌ رواها الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه سنتحدث عنها، ثم نتحدث عن بعض الأحكام المتعلقة بالمساجد لمناسبة هذه القصة، ولعل هذه الأحكام تفيدنا في مسألة الاعتكاف.

روى البخاري رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله عنها، قالت: [أسلمت امرأة سوداء لبعض العرب، وكان لها حفشٌ في المسجد، -أي: بيت صغير ضيق- قالت: فكانت تأتينا فتحدث عندنا، فإذا فرغت من حديثها، قالت:

ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني  فلما أكثرت، قالت لها عائشة:

 وما يوم الوشاح؟ قالت: خرجت جويرية 

لبعض   أهلي وعليها وشاح من أدم، فسقط منها، فانحطت عليه الحدية وهي تحسبه لحماً، فأخذته، فاتهموني به -أي: بسرقة الوشاح- فعذبوني حتى بلغ من أمري أنهم طلبوه في قبلي، فبينما هم حولي وأنا في كربي، إذ أقبلت الحدية حتى وازت برءوسنا، ثم ألقته، فأخذوه، فقلت لهم: هذا الذي اتهمتموني به وأنا منه بريئة].

وروى الحديث البخاري أيضاً رحمه الله في صحيحه، في كتاب: الصلاة، عن عائشة: [أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب، فأعتقوها، فكانت معهم، قالت: فخرجت صبيةٌ لهم عليها وشاحٌ أحمر من سيور، قالت: فوقع منها، فمرت به حديات وهو ملقىً، فحسبته لحماً، فخطفته، قالت: فالتمسوه، فلم يجدوه، قالت: فاتهموني به، قالت: فطفقوا يفتشون حتى فتشوا قبلها، قالت: والله إني لقائمة معهم إذ مرت الحديات، فألقته، فوقع بينهم، فقلت: هذا الذي اتهمتموني به زعمتم وأنا منه بريئة وهو ذا هو، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، قالت عائشة: فكان لها خباء في المسجد أو حفش، قالت: فكانت تأتيني، فتحدث عندي، قالت: فلا تجلس عندي مجلساً إلا قالت:

ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني

قالت عائشة: فقلت لها: ما شأنك لا تقعدين لي مقعداً إلا قلتي هذا؟! قالت: فحدثتني بهذا الحديث].

هذه القصة من القصص التي حدثت في أيام الجاهلية لامرأة كانت (وليدة) والوليدة هي: المولودة، ثم أطلقت على الأمة وإن كانت كبيرة -هذه الوليدة عندما كانت مع هؤلاء العرب وأعتقوها، خرجت يوماً مع صبيةٍ لهؤلاء، والصبية كان عليها وشاح أحمر؛ والوشاح: ينسج من جلد عريض، ويرصع باللؤلؤ، تشجه المرأة بين عاتقها وكشحها، نوعٌ من الزينة، فلما خرجت هذه الصبية وعليها الوشاح الأحمر، وضعته ودخلت إلى مغتسلها وكانت عروساً، فجاءت الحدية؛ والحدية هي: الحدأة الطائر المعروف الذي أبيح قتله في الحل والحرم، ويقال لها: الحدا، أو الحدو أو الحدأة، وجاء في هذا الحديث تصغيرها حديات، فحسبته لحماً فخطفته، فجاء قوم هذه الصبية، فظنوا هذه الوليدة هي التي أخذته، فاتهموها به، ففتشوا منها كل شيء، وصارت هذه المرأة في كرب عظيم وهي مظلومة، فأرسل الله الحدية مرة أخرى وهي في هذا الموقف العصيب، وكانت قد دعت الله تعالى في هذا الموقف العصيب كما جاء في رواية، قالت: "فدعوت الله أن يبرئني"، فجاءت الحدية وهم ينظرون، حتى إذا وازت برءوسهم ألقت الوشاح أمامهم، فقالت لقومها: هذا الذي اتهمتموني به هاهو أمامكم الآن، ثم إن هذه المرأة جاءت إلى المدينة وأسلمت، وسكنت في هذا البيت الصغير في المسجد، وكانت تتحدث عند عائشة وكثيراً ما تقول هذا البيت:

ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني

(17/2)

الفوائد المنتقاه من قصة صاحبة الوشاح

يؤخذ من هذا الحديث: 1 - استجابة دعوة المظلوم ولو كان كافراً؛ لأن المرأة لم تسلم إلا بعد قدومها إلى المدينة.

2 - مشروعية الخروج من البلد الذي يحصل للمرء فيه محنة، ولعله يتحول إلى ما هو خير منه، كما وقع لهذه المرأة {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100] إرغاماً لأنف الذين اضطهدوه، وسعةً له في الرزق، {مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100].

3 - الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.

4 - إباحة المبيت والقيلولة في المسجد لمن لا مسكن له من المسلمين رجلاً كان أو امرأة بشرط أمن الفتنة، وإباحة الاستظلال في المسجد بخيمة ونحوها.

من هذه الفائدة ننطلق في ذكر بعض ما يتعلق بالمساجد من الآداب والأحكام الشرعية التي تعين على احترام بيوت الله تعالى، وتوقيرها، ومعرفة حقها الذي أهمله كثيرٌ من المسلمين.

(17/3)

بعض الأحكام الشرعية الدالة على احترام بيوت الله تعالى

يؤخذ من هذا الحديث: 1 - استجابة دعوة المظلوم ولو كان كافراً؛ لأن المرأة لم تسلم إلا بعد قدومها إلى المدينة.

2 - مشروعية الخروج من البلد الذي يحصل للمرء فيه محنة، ولعله يتحول إلى ما هو خير منه، كما وقع لهذه المرأة {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100] إرغاماً لأنف الذين اضطهدوه، وسعةً له في الرزق، {مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100].

3 - الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.

4 - إباحة المبيت والقيلولة في المسجد لمن لا مسكن له من المسلمين رجلاً كان أو امرأة بشرط أمن الفتنة، وإباحة الاستظلال في المسجد بخيمة ونحوها.

من هذه الفائدة ننطلق في ذكر بعض ما يتعلق بالمساجد من الآداب والأحكام الشرعية التي تعين على احترام بيوت الله تعالى، وتوقيرها، ومعرفة حقها الذي أهمله كثيرٌ من المسلمين.

(17/4)

حك البصاق باليد من المسجد

لقد خصص البخاري رحمه الله عدة أبواب من كتاب الصلاة في صحيحه للمساجد لبيان آدابها وأحكامها، فمن العناوين التي عنونها رحمه الله، وفقه البخاري في عناوينه، قال: باب حك البصاق باليد من المسجد، وذكر فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم (لما رأى نخامةً في القبلة، فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه، فقام فحكه بيده) هذه النخامة بقية البلغم، أو البصاق الموجود، لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم حكه بيده الشريفة وأزاله تطييباً للمسجد، وطيب مكانه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلم ألَّا يبصق قبل وجهه في الصلاة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قبل وجهه إذا صلى، وأخبر أن هذا من أسباب إعراض الرب.

(17/5)

حك المخاط بالحصى من المسجد

ثم قال رحمه الله: باب: حك المخاط بالحصى من المسجد، وذكر حديثاً أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في جدار المسجد، فتناول حصاة فحكها، وكلُّ هذا يدل على عدم جواز البصق في المساجد وتقذير المساجد.

وكذلك فإنه لا يجوز البصق تجاه القبلة في الصلاة، ثم إنه ينبغي إزالة القذر من المسجد وتنظيف المسجد، وكفارة البصق في المسجد عندما كانت المساجد من الرمل والحصى، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (البصاقة في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها).

إذاً: لا يجوز الصق في المسجد أصلاً، لكن إذا حصل ذلك فما هو العلاج؟ دفنها إذا كانت المساجد من الرمل والحصى، والآن يبصق الإنسان في منديلٍ أو ما أشبه ذلك.

(17/6)

هل يقال: مسجد بني فلان؟

كذلك عنون البخاري رحمه الله تعالى في هذه المواضع باب: هل يقال مسجد بني فلان؟ وساق حديث عبد الله بن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل إلى مسجد بني زريق) ففيه جواز إضافة المساجد إلى بانيها، أو المصلي فيها، أو المصلون فيها، إذا كانوا من قوم معينين أو قبيلة معينة، يقال: مسجد بني فلان، ولا حرج في ذلك.

وكذلك ربما تضاف إلى من بناها إذا أمن من ذلك الرياء؛ لأن بعض الناس ربما يسمون المساجد بأسمائهم، ويكون في ذلك رياء، لأن المسألة تعتمد على النية، والمساجد لله تعالى، فلا يجوز أن يشرك مع الله سبحانه وتعالى أحدٌ في بناء المساجد، ولعل الأولى ألَّا يقال: مسجد فلان الذي بناه ابتعاداً عن الرياء، لكن إذا أمن الرياء كما إذا مات الشخص لم يعد يخشى عليه بعد موته، فيقال: مسجد فلان ولا بأس بذلك.

(17/7)

حكم القسمة وتعليق القنوان في المسجد

ثم قال رحمه الله: باب: القسمة وتعليق القنوان في المسجد، وذكر حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بمال من البحرين، فقال: انثروه في المسجد) وأن الصحابة كانوا يعلقون القنوان -أي: العذوق التي فيها التمر في المسجد- لأجل إطعام أهل الصفة، أو غيرهم من الفقراء، فيجوز جمع الأموال، أو الصدقات في المساجد، ومنها: صدقة الفطر، وحراستها كما جاء في حديث أبي هريرة مع الشيطان، فجعلوا توزيع الأطعمة على المساكين في المساجد، وجمع الأطعمة في المساجد لا حرج فيه، بشرط ألَّا يضايق المصلين، ولا يخل بصفوف الصلاة.

(17/8)

حكم الدعوة لطعام في المسجد حكم الإجابة

ثم قال رحمه الله: باب: من دعا لطعام في المسجد ومن أجاب معه، وساق حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه، قال: (وجدت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد معه أناسٌ، فقمت، فقال لي: آرسلك أبو طلحة؟ قلت: نعم.

فقال: لطعامٍ؟ قلت: نعم.

فقال لمن معه: قوموا الحديث).

فيؤخذ منه: جواز توجيه الدعوة للوليمة في المسجد، فلو أن إنساناً قال لجماعة في المسجد: اطعموا عندنا، أو هلموا إلى بيتنا، أو دعاهم إلى الطعام وهم في المسجد، فذلك جائزٌ ولا حرج فيه، فهذه الأمور المباحة التي يقصد منها إكرام المسلمين، والدعوة إلى الطعام لا بأس بها لو كانت في المسجد، سواءً وجهت الدعوة إلى الناس لحضور وليمة في المسجد، أو وجهت الدعوة وهم في المسجد.

(17/9)

حكم القضاء واللعان في المسجد بين الرجال والنساء

ثم قال رحمه الله: باب: القضاء واللعان في المسجد بين الرجال والنساء، وساق حديث سهل بن سعد رضي الله عنه وأرضاه أن رجلاً قال: (يا رسول الله! أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، أيقتله؟ -في قصة طويلة- قال: فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد).

فيؤخذ منه: 1 - جواز الحكم بين الرجل والمرأة في المسجد.

2 - جواز البت بين المرأة وزوجها في الطلاق أو اللعان في المسجد.

والملاعنة: أن يأتي الرجل الذي قذف زوجته بالزنا والعياذ بالله، فيشهد على نفسه أربع مرات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، والمرأة إذا أقرت رجمت، فإذا لم تقر تدفع عنها الحد بأن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، وهذا يجوز أن يكون في المسجد، بل لتغليظ الأمر للوصول إلى الحقيقة يكون في المسجد، حتى يكون في الحرم، حتى قالوا: إذا كانا في مكة، يتلاعنا عند الحجر الأسود، وإذا كانا في المدينة يتلاعنا عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كانوا في البلد بمحضر القاضي يتلاعنا بمسجد البلد؛ لأجل أن يكون الجو مهيأ لبلوغ الصدق في هذه القضية الخطيرة.

ويشبه هذا مسألة المباهلة؛ كأن يتباهل إنسان مع آخر على مسألة كل يدعي الحق فيها، فيدعو كل أحد على نفسه إن كان كاذباً.

ومنها: مباهلة أهل البدع كـ الخوارج والمعتزلة والرافضة وغيرهم، وقد حدثت من علماء المسلمين عدة مواقف من المباهلات مع المبتدعة، وذكر ابن حجر رحمه الله أنه وجد بالتجربة أن صاحب الباطل إذا باهل ودعا على نفسه إن كان على باطل أن يميته الله فلا يمر عليه سنة إلا ويموت، لا يعيش أكثر من سنة، إذ إن الذي يباهل صاحب حق، صاحب دين، والآخر صاحب باطل، ما يمر عليه سنة إلا ويموت.

(17/10)

حكم التيمن في دخول المسجد

وكذلك عنون البخاري رحمه الله باباً بعنوان: التيمن في دخول المسجد، وعلق حديث ابن عمر [كان يبدأ برجله اليمنى، فإذا خرج بدأ برجله اليسرى] ولعله ليس هناك حديثٌ مرفوعٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بفعل ذلك، وليكن يؤخذ من عموم التيامن تقديم الرجل اليمنى واليد اليمنى في الأمور الحسنة، والرجل اليسرى أو اليد اليسرى في الأمور المستقذرة، فكما أنه يدخل الخلاء بشماله كذلك فإنه يدخل المسجد بيمينه.

(17/11)

حكم نبش قبور المشركين واتخاذ مكانها مساجد

ثم ساق -رحمه الله تعالى- باباً: هل تنبش قبور المشركين والجاهلية ويتخذ مكانها مساجد؟ وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبني مسجداً، كان في ذلك المكان قبور للمشركين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين، فنبشت؛ لأن قبور المشركين لا حرمة لها، ولذلك إذا كان مكان المسجد، في ناحية منها -مثلاً- قبور للكفار، أو من أيام الجاهلية، فإنها تنبش وتخرج العظام، وبعد ذلك يبنى المسجد ولا حرج، وليس في هذه الحالة في بناء المسجد محذور شرعي كالبناء على القبور؛ لأن المقصود هنا ليس هو تعظيمها؛ لأنها نبشت، أما بناء المساجد على قبور الأولياء والصالحين والأنبياء، فإنه ملعونٌ من فعل ذلك: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) فأي مسجد يبنى على قبر نبي، أو ولي، أو رجل، فإنه باطل، ويهدم، ولا تجوز الصلاة فيه.

إذا كان المسجد أولاً ثم دفن فيه ميت، نبشنا القبر وأخرجناه إلى المقبرة.

وإذا كان القبر أولاً ثم بني المسجد، هدمنا المسجد؛ لأنه بني على باطل، وكل ما بني على باطل فهو باطل، وإذا كان القبر في القبلة فلا يجوز الصلاة إليه مطلقاً، ويجب أن يخرج القبر خارج المسجد، ويجعل بينه وبين المسجد جدار أو شارع، ليعزل عن المسجد تماماً؛ لأن بناء المساجد على القبور حرام، بل من مظاهر الشرك والوثنية، وهذا عمل اليهود والنصارى، مع أنه منتشر في كثير من بلدان العالم الإسلامي، كما هو معروف في قبر زينب، وقبر الحسين، وقبر العيدروس وغيرها من الأماكن التي فيها مساجد مبنية فوق القبور، فنقول: النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم خارج مسجده، ولما جاء الوليد بن عبد الملك أدخله في المسجد، فهو من فعل الوليد، وليس من فعل الصحابة، ولم يرضه السلف، بل أنكروا ذلك، ولكنهم لم يستطيعوا تغييره، ولما جاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله جعل على القبر مثلثاً مبنياً بحيث لا يمكن استقبال القبر والقبلة معاً، ولا يمكن الوصول إلى القبر وهو مفتوح من الأعلى كما سبق أن ذكرنا ذلك.

(17/12)

حكم النوم في المسجد

ثم ذكر البخاري -رحمه الله تعالى- باباً آخر بعنوان: نوم المرأة في المسجد، وقلنا: إذا أمنت الفتنة، كأن يُجعل مكان، أو خيمة خاصة للنساء، واحتج فيه بحديث المرأة التي سبق أن ذكرنا قصتها في أول هذا الدرس.

ثم قال رحمه الله: باب: نوم الرجال في المسجد، وأتى بحديث ابن عمر: أنه كان ينام وهو شابٌ أعزب لا أهل له في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان بين علي وفاطمة شيء، خرج علي إلى المسجد واضطجع فيه ورقد، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يمسح صدره يداعبه ويقول: (قم أبا تراب قم أبا تراب) وكان علي رضي الله عنه يحب هذه الكنية جداً؛ وذلك لأنه عندما اضطجع أصابه تراب، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قم أبا تراب قم أبا تراب).

فيؤخذ من هذا الحديث: جواز النوم في المسجد إذا أمن انكشاف العورة، ولم يكن هناك فتنة، ولا مفسدة، فإن النوم في المسجد ليس حراماً، ولا خطيئةً، والمعتكف يحتاج إلى النوم في المسجد بطبيعة الحال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في المسجد العشر الأواخر، وهذا يحتاج إلى نوم ولا شك، وأهل الصفة كانوا ينامون في المسجد، لكن لا يتحول المسجد إلى فندق يقذر بحجة النوم فيه.

(17/13)

حكم الصلاة في المسجد إذا قدم من سفر

قال رحمه الله تعالى بعد ذلك: باب: الصلاة إذا قدم من سفر، وباب: إذا دخل المسجد فليركع ركعتين، وقد كانت عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا رجع من سفر، أولاً أن يبدأ بالمسجد، فيصلى فيه ركعتين، قال النووي رحمه الله: "هذه الصلاة مقصودة للقدوم من السفر، وليست تحية المسجد".

من السنة إذا جاء الإنسان من السفر أن يبدأ بالمسجد فيصلي فيه ركعتين، أما تحية المسجد، فإنه إذا دخل أي مسجد يصلي ركعتين، سواءً قدم من سفر أو لم يقدم من سفر، وذهب بعض أهل العلم إلى وجوبها، وجمهور العلماء على استحبابها، وهذا خاص بالمساجد؛ بمعنى أن مصليات الشركات والدوائر الحكومية ليست مساجد؛ لأنها لم تبن بنية أن تكون مسجداً موقوفاً لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة، فإن تحية المسجد خاصة بالمسجد وليست للمصليات.

(17/14)

حكم الحدث في المسجد

ثم قال رحمه الله: باب: الحدث في المسجد، وساق حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه).

ما معنى: ما لم يحدث؟ فسرها بعض العلماء بالمعصية أو البدعة.

وبعضهم قال: الحدث هو: الريح.

والصواب: أن خروج الريح من الإنسان في المسجد ليس محرماً -بمعنى أنه يأثم وأنها معصية وبدعة- ولكن ينبغي له أن يخرج من المسجد لئلا يؤذي المسلمين والملائكة؛ لأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، والإنسان يؤجر على جلوسه في المسجد طيلة جلوسه إلا إذا أحدث، فعند ذلك ينقطع أجره، ولا تدعو له الملائكة إذا أحدث، ولذلك إذا خرج منه شيء، يذهب ويتوضأ ويرجع ويكمل اعتكافه، وكذلك إذا نام -مثلاً- يقوم ويتوضأ ويرجع، أما المعصية في المسجد والبدعة فيه فهي من المصائب العظيمة.

(17/15)

بنيان المساجد

ثم قال رحمه الله: باب بنيان المسجد، وأمر عمر ببناء المسجد، وقال: [أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس]، وقال ابن عباس: [لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى] فأما بنيان المساجد فهو من علامات الإيمان، وهو أمرٌ مأمورٌ به شرعاً أن تبنى بيوت الله تعالى للعبادة فيها، ولكن المحذور هو التباهي بها والمفاخرة، كما قال أنس رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي على أمتي زمانٌ يتباهون في المساجد، ثم لا يعمرونها إلا قليلاً)، وفي رواية أبي داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد) يشيدون مساجد كبيرة وعظيمة ضخمة سقوفها مرتفعة، فيها زينات ونقوش، ولكن من الذي يصلي فيها؟ قلة من الناس: (يأتي على أمتي زمانٌ يتباهون في المساجد، ثم لا يعمرونها إلا قليلاً) تجد المسجد الضخم لكن فيه نصف صف، وعمارة المساجد طاعة وقربة لله: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) لكن زخرفة المسجد سواءً ما وضع فيه من الأشياء المذهبة، أو المفضضة، أو الألوان، أو النقوش، والزخارف المحفورات الكتابات كل ذلك من الأمور المنهي عنها، وهذا من التشبه باليهود والنصارى، لأن اليهود والنصارى في كنائسهم ومعابدهم هكذا يفعلون، ولذلك ينبغي أن تكون المساجد نظيفة مبنية مسقوفة تحمي الناس من المطر! نعم، مثل: التكييف الآن مهم، والإنارة مهمة للقراءة، لكن أن نجعلها مزخرفة ملونة مكتوباً فيها كتابات في الجدران خطوط، فهذا كله لا يجوز؛ لأنه إضاعة للمال في غير طاعة وقربة، بل في شيء من البدع، ثم إشغال المصلين بالزخارف والنقوش.

(17/16)

التعاون في بناء المساجد

وكذلك عنون رحمه الله باباً بعنوان: التعاون في بناء المسجد، وساق حديثاً لـ ابن عباس أنه قال لـ عكرمة ولابنه علي: انطلقا إلى أبي سعيد فاسمعا من حديثه، فانطلقنا، فإذا هو في حائطٌ يصلحه، فأخذ رداءه فاحتبى، ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى على ذكر بناء المسجد، فقال: كنا نحمل لبنةٍ لبنة، وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فنفض التراب عنه، وقال: (ويح عمار! تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار).

التعاون في بناء المساجد سواءً كان مادياً؛ كأن يجتمع مجموعة من الناس وكل إنسان يتبرع بشيء، أو يتعاونون في نفس البناء بمعنى أن كل واحد يتولى شيئاً من الأشياء في البناء، فهذا من التعاون على البر والتقوى، وهذا الذي حدث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حيث تعاون الصحابة في بناء المسجد ونقلوا الحجارة.

(17/17)

الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد

وقال البخاري رحمه الله: باب الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى امرأة أن (مري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أجلس عليهن) أي: المنبر، فاستعان بنجار المرأة لأجل أن تعمل أعواد المنبر ليجلس عليها النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك جاء في حديث طلق بن علي، قال: (بنيت المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: قربوا اليمامي من الطين، فإنه أحسنكم له مساً، وأشدكم له سبكاً) رواه أحمد، وفي لفظٍ له: (فأخذت المسحاة، فخلطت الطين فكأنه أعجبه، فقال: دعوا الحنفي والطين، فإنه أضبطكم للطين) أي: أنه في الصنعة متقن في الطين وفي البناء، ولذلك قال: أنت عليك الخلط، أنت ماهرٌ فيه، وفي رواية: قلت: (يا رسول الله! أأنقل كما ينقلون؟ فقال: لا، ولكن اخلط لهم الطين، فأنت أعلم به) و (ومن بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) ومهما كان صغيراً، ولو شارك في بناء مسجد بشيء يسير في الموضع الذي بني بماله من المسجد يؤجر عليه في الجنة أيضاً.

(17/18)

هل يأخذ بنصول النبل إذا مرّ بالمسجد؟

ثم ساق رحمه الله: باب: يأخذ بنصول النبل إذا مرَّ بالمسجد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معه نبل، فقال: (أمسك بنصالها) وفي رواية: (فليأخذ على نصالها لا يعقر بكفه مسلماً) أي: لا يجرح، هذا إذا كان نصال السهام التي معه مكشوفة -الحد- فأمره أن يأخذ عليها حتى لا يجرح مسلماً وهو مار في المسجد.

(17/19)

حكم إنشاد الشعر في المسجد

وتحت عنوان: باب: الشعر في المسجد، فإن البخاري رحمه الله قد أتى بحديث حسان: (يا حسان! أجب عن رسول صلى الله عليه وسلم، اللهم أيده بروح القدس) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم له.

إذاً: الأشعار التي يجوز أن تُقال في المسجد هي الأشعار المشتملة على الحق الأشعار التي في نصرة الدين، أما أشعار الجاهلية أشعار السوء أشعار الفحش، فلا يجوز أن تقال في المساجد.

(17/20)

أصحاب الحراب في المسجد

ثم ساق البخاري رحمه الله حديث الحراب لـ عائشة، ولعب الحبشة بالحراب، ونظر عائشة إليهم تحت عنوان: باب: أصحاب الحراب في المسجد، والحبشة لما لعبوا بالحراب لم يكن لعب لهو، ولكنه كان لأجل التدرب على القتال، والتمرن، وهو من تدريب الشجعان على مواقع الحروب، والاستعداد للعدو.

(17/21)

حرمة البيع والشراء ونشدان الضالة في المسجد

ومن أحكام المسجد: أنه لا يجوز البيع والشراء فيه: (من رأيتموه يبيع فيه أو يشتري، فقولوا: لا أربح الله تجارتك).

وكذلك لا يجوز أن تنشد في المسجد الضالة، أو يسأل عن الشخص أو يسأل عن أشياء من وجد ساعةً؟ من وجد محفظتي؟ من وجد بطاقتي؟ فقدت كذا، ويجهر بهذا، أو تعلق إعلانات داخل المسجد، فلا يجوز إنشاد الضالة في المسجد.

(17/22)

من السنة كنس المسجد وتنظيفه

ومن السنة: كنس المسجد، والتقاط الخرق والقذى والعيدان؛ كما جاء عن أبي هريرة: (أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، فماتت، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها؟ فقالوا: ماتت، قال: أفلا كنتم آذنتموني بها، دلوني على قبرها، فأتى قبرها فصلى عليها).

إذاً النبي عليه الصلاة والسلام اهتم بهذه الأمة السوداء، ولام الصحابة لماذا لم يخبروه، وأتى إلى القبر وصلى تكريماً لها، هذا المحتسب في تنظيف المسجد.

كذلك من رأى شيئاً في المسجد التقطه؛ عيدان، خرق، قذى، أذى، كنس المسجد، كل هذا يؤجر عليه الإنسان المسلم، واتخاذ الخادم للمسجد -أيضاً- يؤخذ من نفس الحديث، وإذا كان متبرعاً فهذا له أجرٌ عظيمٌ.

(17/23)

ربط الأسير الكافر في المسجد

يجوز ربط الأسير الكافر في المسجد، كما ربط النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة يسمع القرآن يرى الصلوات لعله يتأثر، ويجوز دخول الكفار إلى المسجد لأجل المصلحة، غير المسجد الحرام، لينظروا إلى المصلين إذا كانوا لا يؤذون لا ينجسون لا يوسخون لا يدخلون بمناظر سيئة، ملابس قصيرة، أو نساء متبرجات، أو كاميرات للتصوير، إذا كان يريد أن ينظر، قال: أنا أريد أن أرى مساجدكم، أرى كيف تصلون، لا بأس أن نقول له: تعال، يأتي نظيفاً ويدخل ويجلس -مثلاً- يشاهد الناس كيف يصلون؟!

(17/24)

حكم استعمال غير المسلمين في بناء المساجد

كذلك استعمال الكفار في بناء المساجد، إذا لم يكن هناك مسلمين فإنه يجوز، وإذا وجد مسلمون يقدم المسلمون للبناء؛ لأننا لا نأمن من الكفار.

وكذلك بنى النبي صلى الله عليه وسلم، أو جعل خيمة للمرضى في المسجد، كما أنه جعل سعد بن معاذ فيها، فتمريض المريض في المسجد وجعله في خيمة أيضاً جائزٌ.

(17/25)

النهي عن رفع الأصوات في المسجد

رفع الأصوات في المساجد مما يُنهى عنه، وعمر -رضي الله عنه وأرضاه- لما سمع صوت رجلين ارتفعا، قال: [اذهب فأتني بهذين، فجئت بهما، قال: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم] فالمسجد لا يرفع فيه الصوت؛ لأجل الحفاظ على العبادة فيه وتهيئته، ويكون مكاناً هادئاً ليس مكان ضوضاء صخب.

بعض الناس يرفعون الأصوات فيه ويتشاجرون، ويحدثون نقاشات مرتفعة وصياح، هذا بيت الله، وإذا كان المسجد النبوي من باب أولى عدم جواز رفع الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه من سوء الأدب {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4].

(17/26)

حكم الاستلقاء في المسجد والنهي عن تشبيك الأصابع

يجوز الاستلقاء في المسجد ومد الرجل إذا أمن انكشاف العورة.

وينهى عن تشبيك الأصابع عند الذهاب إلى المسجد، وعند انتظار الصلاة، ثم إذا أراد أن يمثل مثلاً فشبك بين أصابعه لمصلحة أو لحاجة فلا بأس بذلك.

وهذه المساجد بيوت الله تعالى إذا عرف الإنسان أحكامها وآدابها، أجر أجراً عظيماً؛ لأنه يعطي المسجد حقه، فأما إذا عاش في جهل وعمل في جهل، فإنه ربما اعتدى على حرمات المساجد من حيث يدري ولا يدري.

نكتفي بهذا القدر من الأحكام والله تعالى أعلم.

(17/27)

الأسئلة

(17/28)

حكم أداء التراويح في مسجد والقيام في مسجد آخر

السؤال

لو صلى رجل تراويح في مسجد، ثم صلى القيام في مسجد آخر فما الحكم؟

الجواب

لا بأس بذلك، لكن الصلاة مع إمام المسجد نفسه حتى ينصرف يكتب له قيام ليلة، يصلي جميع الصلاة، ولو كان المسجد له أكثر من إمام يصلي الصلاة مع جميعهم.

(17/29)

حكم تقدم المأموم على الإمام خارج المسجد

السؤال

بعض الناس يتقدمون على الإمام من الخارج فهل يجوز ذلك؟

الجواب

لا يجوز إلا إذا ازدحموا جداً وصار للضرروة.

(17/30)

حكم إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين

السؤال

ما حكم إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين؟

الجواب

إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين جائز، أما قبل ذلك فلا.

(17/31)

مخالفة أصوات الهاتف النقال لآداب المسجد

السؤال

لوحظ في الفترة الأخيرة كثرة أصوات أجهزة النداء الآلي والهاتف الجوال في المساجد فما رأيكم في ذلك؟

الجواب

هذا بطبيعة الحال من عدم الأدب مع المساجد، فعلى الإنسان إذا أراد أن يدخل مسجداً أن يغلق الجرس، لأنه هل سيتكلم بالهاتف في المسجد؟! إذاً ماهي الفائدة يغلق الجرس.

(17/32)

حكم من خرجت منه ريح في المسجد

السؤال

الريح في المسجد إذا خرجت فما الحكم؟

الجواب

يخرج ويتوضأ، وكثيراً ما تخرج ريح من غير تحكم من الشخص.

(17/33)

حكم طواف الوداع في العمرة

السؤال

هل يجب طواف الوداع في العمرة؟

الجواب

قول الجمهور وهو الراجح أنه مستحب وليس بواجب.

(17/34)

حكم خروج المعتكف للاتصال بأهله

السؤال

هل للمعتكف أن يخرج للاتصال بأهله والاطمئنان عليهم؟

الجواب

نعم إذا دعت الحاجة إلى ذلك.

(17/35)

حكم خروج المعتكف للاغتسال وتغيير الملابس

السؤال

ما حكم خروج المعتكف للاغتسال وتغيير الملابس؟

الجواب

يجوز ذلك، لأنه إذا احتلم مثلاً، أو أصابه عرق أو شيء يخرج ليغتسل ويرجع، أما الأكل إذا لم يتيسر أن يحضر معه طعاماً يخرج يأكل ويرجع ويكون خروجه بقدر الحاجة.

(17/36)

حكم إتيان المعتكف زوجته في المنزل

السؤال

ما حكم إتيان الزوجة في المنزل؟

الجواب

يبطل الاعتكاف {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187].

(17/37)

حكم اتصالات المعتكف المتعلقة بعمله

السؤال

ما حكم اتصالات المعتكف المتعلقة بالعمل؟

الجواب

لا.

لأنه ليس لها علاقة بالمسجد بالعبادة، ولذلك على الإنسان أن يحاول قطع كل الأشغال في فترة الاعتكاف، أما الأشياء الطارئة والضرورية التي لا بد منها إذا دعت الحاجة الشرعية إليها فإنه يخرج من أجلها.

(17/38)

حكم رفع الأيدي أثناء دعاء الإمام في القنوت

السؤال

ما حكم رفع المأمومين أيديهم عند دعاء الإمام في القنوت؟

الجواب

في خطبة الجمعة لا ترفع الأيدي، إلا في الاستسقاء.

(17/39)

حكم مسح الوجه بعد الدعاء

السؤال

ما حكم مسح الوجه بعد الدعاء؟

الجواب

لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.

(17/40)

حكم تحية المسجد الحرام

السؤال

إذا دخلت المسجد الحرام، هل أصلي ركعتي المسجد؟

الجواب

نعم، والطواف تحية يغني عن تحية المسجد.

(17/41)

زكاة الفطر لمن ولدت

السؤال

من صامت شيئاً من رمضان ثم وضعت هل عليها زكاة الفطر؟

الجواب

نعم.

(17/42)

حكم لبس البنطلون بالنسبة للمرأة

السؤال

ما حكم لبس المرأة البنطلون؟

الجواب

أفتى بعض العلماء المعاصرين بحرمة ذلك، خصوصاً وأن أكثر البنطلونات الضيقة ما بين السرة والركبة، وليست فضفاضة، ولا واسعة، وأن في بعضها تشبه واضح بالرجال، ولذلك يسد هذا الباب تماماً، أما أن المرأة تلبس لزوجها فتلبس ما شاءت ما دامت ليست متشبهة تلبس ضيقاً تلبس قصيراً تلبس شورتاً، ما دام لزوجها، فإنها لا بأس أن تفعل أي شيء من ذلك.

(17/43)

ضابط دم الحيض

السؤال

امرأة خرج منها دم بسيط لمدة ثلاثة أيام فهل هو دم حيض؟

الجواب

إذا كان الدم في وقت الحيض فهو حيض، أما إذا كان في غير وقت الحيض، لا الكمية مثله، ولا الرائحة، ولا الأوجاع المصاحبة، ولا الوقت، ولا اللون، فإنه ليس بحيض.

(17/44)

حكم تحية المسجد في مصلى العيد

السؤال

مصلى العيد هل له تحية مسجد؟

الجواب

لا، إلا إذا كان مسجداً، إذا صلوا العيد في المساجد، أما إذا صلوا في المصليات الخارجية في الصحراء، فهذا ليس له تحية مسجد على الراجح.

(17/45)

فضل إتيان مسجد قباء وصلاة ركعتين

السؤال

ما فضيلة إتيان مسجد قباء يوم السبت وصلاة ركعتين؟

الجواب

يعادل أجر عمرة.

(17/46)

مصير أولاد الكفار

السؤال

ما مصير أولاد الكفار؟

الجواب

اختلف العلماء فيهم، قال بعضهم: هم في النار، وقال بعضهم: هم في الجنة، وقال بعضهم: هم خدم أهل الجنة، وقال بعضهم: يمتحنون يوم القيامة مثل المجانين وغيرهم، فإذا ثبت حديث: (أطفال المشركين خدم أهل الجنة) وجب المصير إليه، وإلا نقول: إن أمرهم إلى الله سبحانه وتعالى.

(17/47)

حرمة الانتفاع بالخمر

السؤال

هل للخمر منافع؟

الجواب

نعم.

فيها منافع، وربما أكسبت حرارة في البلدان الباردة، وفي تجارتها منافع مادية، لكن إثمها أكبر من نفعها، فهي حرام، حرام، حرام.

(17/48)

زكاة أسهم الشركات

السؤال

كيف تخرج زكاة أسهم الشركات؟

الجواب

إذا اتخذتها للتجارة ويبيع ويشتري فيها إذا ارتفع سعرها، فالزكاة على الأصل وعلى الأرباح، وإذا كان قد اتخذها ليتعيش من ربحها فقط، وليس ليتاجر بأصلها، فالزكاة على الربح إذا حال عليها الحول.

(17/49)

//////////////////////////////////////////////////

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

سلسلة القصص المنجد

قصة بني إسرائيل مع البقرة

ما ذكر الله قصص أنبيائه في القرآن إلا عبرة لأولى الألباب، ومن هذه القصص قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل وأمرهم بذبح البقرة، فقد عرضت في القرآن بأسلوب يظهر فيه مدى تلكؤهم وسوء أدبهم مع أنبياء الله، وتعديهم لحدود الله عز وجل، وقد ذكر الشيخ في آخر الدرس مجموعة من الفوائد المتعلقة بهذه القصة، ومن أبرزها أن اليهود قوم بهت مماطلون مخادعون حتى لأنبياء الله عليهم السلام.

(18/1)

فوائد من قصص الأنبياء

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120].

لقد جاءت هذه الآية التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في فترةٍ هي من أحرج الفترات التي مرت بها الدعوة في مكة، فاحتاج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إلى مواساةٍ وأنس وتثبيت، فجاءت هذه القصص لتثبتهم في غمرة هجوم أهل الباطل الشرس ضد جنود الحق، وكذلك فإن هذه القصص عبرة لأولي الألباب كما قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111].

(18/2)

القصص توجد عند أهل الكتاب من حيث العموم

وهذه القصص التي في القرآن يوجد بعضها عند اليهود والنصارى، بل الكثير منها موجود من جهة العموم، يعرفون قصة يوسف من جهة العموم، يعرفون قصة أصحاب الكهف من جهة العموم، لكن التفصيلات التي جاءت في القرآن لا توجد عندهم، بل إنهم قد اختلفوا في أشياء، وجاء القرآن يفصل بينهم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76].

فأكثره قد فصل بينهم فيه في هذا الكتاب العزيز، ولذلك فإننا لسنا بحاجة إليهم: {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف:22] لا تستفتِ في أهل الكهف أحداً من أهل الكتاب، فعندك المرجع، وعندك الكفاية.

(18/3)

موقفنا مما عند أهل الكتاب من العلم

ولذلك فإن اللجوء إلى الإسرائيليات في معرفة التفاصيل ليس من الحكمة في شيء، فهذه الإسرائيليات كثيرٌ منها كذبٌ وافتراءٌ على الأنبياء، وفيه ما لا يليق بهم، والقصص عن الماضين غيب فإننا لم نكن معهم، كما قال الله تعالى بعد سياق قصة نوح: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود:49] وقال في ختام قصة يوسف: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف:102]، وقال في قصة مريم: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُون} [آل عمران:44] فإذاً هذه القصص بالنسبة لنا غيب؛ لأننا لم نشهدها، ولم نسمعها، ولم نعاصرها من قبل، ولذلك لا يجوز أن نأتي على الغيب بشواهد من الإسرائيليات الموجودة عند الكفار في كتبهم من أهل الكتاب، فإن الله سبحانه وتعالى قد أغنانا عنها، وهذه الإسرائيليات الموجودة ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما يوافق ما عندنا فهذا نأخذه بطبيعة الحال.

والقسم الثاني: يخالف ما عندنا ويصادمه ويضاده، فهذا نرفضه ونكذب به.

وقسم ثالث: لا يوافق ولا يخالف، فقد يكون فيه تفصيل معين ليس مذكوراً في القصة التي وردت في الكتاب والسنة، كذكر بعض البقرة الذي ضرب به القتيل من بني إسرائيل فحيي، مثل هذا نحن لا نصدق به ولا نكذب؛ لأنه قد يكون حقاً فنكذبه، وقد يكون باطلاً فنصدقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم رخص لنا في رواية أخبارهم -غير المصادمة للشريعة- لكنه قال: (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإنه قد يكون حقاً فتكذبونهم به، وقد يكون باطلاً فتصدقونهم به) ولذلك فهذا موقفنا من الإسرائيليات.

(18/4)

الفائدة من سرد هذه القصص في القرآن

وبالنسبة لهذه القصص فإنها بديعة الطريقة، عجيبة الأسلوب، صادقة الخبر، بتدبرها تظهر السنن الربانية، فإنه في نهاية كل قصة يكون فيه خبر التمكين والنصر للمؤمنين والهلاك والعذاب للمكذبين، كما قال الله تعالى: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120] وهذه القصص ليست مخترعةً، بل إنها واقعة حقاً وحقيقة كما أخبرنا ربنا عز وجل، وينبغي أن يكون موقفنا منها الاعتبار والتفكر كما تقدم.

وما نعجبه أشد العجب: ما الذي أصاب هذه الأمة حتى غضت النظر عن القصص التي قصها ربها عليها في كتابه، وأهملت أمرها، وظن أهلها أنها أمور تاريخية لا تفيد إلا المؤرخين، وحتى إن بعض المرتدين في هذا العصر زعم أن في القرآن خرافات مثل عصا موسى وقصة الكهف، ولا شك أن هذا الكلام كفرٌ وردة وخروج عن ملة الإسلام.

وكذلك فإن هذه القصص فيها نوعٌ من التربية عظيم، فإن التربية بالقصة من ألوان التربية المهمة، فإن الحادث المرتبط بالأسباب والنتائج تهفو لها الأسماع، فإذا تخللتها مواطن العبرة في أخبار الماضي كان حب الاستطلاع لمعرفتها من أقوى العوامل على رسوخ عبرتها في النفس، وكذلك نستفيد منها الإيمان بالرسل، فإننا وإن كنا نؤمن بجميعهم على وجه العموم والإجمال، لكن لما تأتي تفاصيل قصة بعض الأنبياء بالدقائق والأحداث فإن ذلك يزيدنا إيماناً بهم على إيمان، وكذلك فإن في هذه القصص تقريراً للإيمان بالله وتوحيده وإخلاص العمل له عز وجل، وكذلك فإن فيها عبرة للمؤمنين يقتدون بها في سائر المقامات، كالعبودية والدعوة والصبر والثبات والطمأنينة والسكون والصدق والإخلاص لله رب العالمين.

ويوجد في كثيرٍ من القصص أحكامٌ فقهية وشرعية يعرفها أهل العلم، كما استدل أهل العلم من قوله: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72] على جواز عقد الجعالة والكفالة؛ بابان من أبواب الفقه دليلهما في هذه الكلمات من الآية في قصة يوسف.

وكذلك فإن في هذه القصص التسلية عن المؤمنين فيما يلاقونه من أنواع التكذيب والاتهام الباطل من الكفار، وفيها إبراز أن الأنبياء كلهم جاءوا بشيءٍ واحد وهو التوحيد والإسلام وإن اختلفت شرائعهم.

وكذلك فيها أن الابتلاء لابد أن يحدث للمؤمنين وأن هذه سنة الله فيهم، وأن وظيفة رسل الله البلاغ، وأنهم لا يملكون للناس نفعاً ولا ضراً، وقد يوجد لنبيٍ ولدٌ كافر لا يغني عنه شيئاً، وقد يوجد لنبي أبٌ كافر لا يغني عنه شيئاً، وقد يوجد لنبي زوجة كافرة لا يغني عنها شيئاً.

وكذلك فإننا نستفيد من القصص التي ذكرها ربنا عز وجل مواعظ، الآفة التي وقع فيها كل قوم فنستفيد معرفة عيب قوم نوح في غوايتهم وغرورهم، وقوم فرعون في ثروتهم وعتوهم، وقوم لوط في فاحشتهم، وقوم عاد في قوتهم وبطشهم، وقوم ثمود في أشرهم وبطرهم، وقوم مدين في تطفيفهم للمكيال وإخسارهم للموازين، وبني إسرائيل في تمردهم وتحايلهم ونكوصهم.

وكذلك فإننا نستفيد من هذه القصص بمقارعة أهل الكتاب الحجة بالحجة والبيان، وكذلك فإننا سنكون شهداء لكل نبي على أمته يوم القيامة.

ومن شروط الشاهد: أن يعلم ما يشهد به، والدليل على هذه الشهادة قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم.

فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك، فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيداً) كذلك قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143].

ثم إن في هذه القصص بياناً لبلاغة القرآن الكريم، وهذه الخصيصة العظيمة كيف جاء هذا النسق وهذا الأسلوب البديع في القرآن الكريم وهو ولا شك معجزةٌ من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.

فهذه طائفة من فوائد القصة وشيء من التربية في القصة، ولنشرع الآن في ذكر قصة من القصص في هذا القرآن وهي قصة البقرة.

(18/5)

طبيعة اليهود من خلال نظرتهم إلى أوامر الله عز وجل

كنا قد مررنا بهذه القصة في تلاوتنا في سورة البقرة في التراويح، قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] الآيات.

(18/6)

خلاصة القصة

وهذه القصة خلاصتها: أنها وقعت جريمة قتل في بني إسرائيل في زمن موسى، ولم يعرف القاتل، وتدافعوا في ذلك وصارت الاتهامات متبادلة، وأراد الله تعالى أن يكشف لهم القاتل بواسطة معجزة مادية محسوسة، فأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن يأمرهم بذبح بقرةٍ، أي بقرة كانت بدون تحديدٍ لمواصفاتها، ولكن طبيعة اليهود في التلكؤ والمماطلة والجدال جعلتهم يسألونه عن عمر البقرة أولاً، ثم عن لونها ثانياً، ثم عن عملها ثالثاً، وأخيراً ذبحوها وما كادوا يفعلون، وأمروا بضرب القتيل ببعضها فضرب، فأحياه الله فأخبر عن قاتله وقال: قتلني فلان، ثم قيل: إنه قد مات في وسط دهشة بني إسرائيل.

وهذه القصة ولا شك من القصص العظيمة التي قصها علينا ربنا في القرآن الكريم عن بني إسرائيل لنأخذ منها العبرة والعظة.

وهذه القصة لا شك قد اكتنفتها إسرائيليات، وجاءت في بعض تفاصيلها أخبار، لكننا على الموقف السابق لا نحتاج إلى هذه التفصيلات؛ لأنه لو كان لنا فيها خير وفائدة لذكرها ربنا عز وجل، فنحن لا نستفيد شيئاً إذا عرفنا أن البعض الذي ضرب منه القتيل من البقرة هو الذَّنب أو غضروف الكتف، أو الرجل، أو الرأس، هذا التفصيل لا يفيدنا، فإن كان ورد في بعض الإسرائيليات فإننا في غنية عنه.

هذه القصة توضح بجلاء تنطع بني إسرائيل وتشددهم في الأحكام، وكيف أن الله شدد عليهم، وقد كره لنا كثرة السؤال.

(18/7)

أسلوب القرآن في عرض القصة

وجاءت هذه القصة بأسلوب يأخذ بمجامع القلوب، ويحرك الفكر في النظر إليها تحريكاً، ويهز النفس للاعتبار بها هزاً، وقال الله تعالى فيها: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة:72] هذا ذكرت فيه المخالفة أو الاختلاف (فادارأتم فيها) ثم المنة في الخلاصة بقوله فقلنا: (فاضربوه ببعضها) ولكن وسيلة الخلاص من هذه الاتهامات وهذا اللغط، الوسيلة ذكرت قبل السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، فإننا أول ما نطالع الآيات: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] نحن لا نعرف لماذا في البداية، لكن عندما نقرأ التكملة: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة:72] ثم قال: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة:73] عرفنا السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة.

فإذاً: تقديم ذبح البقرة كان فيه تشويق للسامع إلى معرفة ما وراء القصة، وما هو السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، ثم يفاجأ الشخص وهو يقرأ بحكاية السبب، وقد حصل عنده تشويقٌ سابق لمعرفة السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، فتتوجه الفكرة بأجمعها لتلقي ذلك، وتظهر الحكمة في أمر الله تعالى لأمةٍ من الأمم بذبح بقرة خفية.

(18/8)

تنطعهم في تنفيذ الأوامر

وظاهر الأمر أن نبيهم موسى عليه السلام أمرهم بذبح بقرةٍ غير معينة، ولكنهم تنطعوا وتشددوا فشدد الله عليهم، فقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] أي بقرة كانت، وكونهم بحثوا في صفاتها تكلفاً منهم، كان ينبغي لهم أن يتنزهوا عنه، وأن يمتثلوا الأمر بذبح البقرة، ولو كان هناك صفة معينة في هذا لذكرها لهم ربهم على لسان نبيهم، ولذلك عنفهم الله تعالى بقوله: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68]، وفي قوله: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] وعلمنا تقصيرهم في الإتيان بما أمروا به أولاً، وجاء عن ابن عباس بإسنادٍ صحيح أنه قال: [لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأت منهم، لكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم] وقد كانوا محتاجين إلى ذبح البقرة لمعرفة القاتل، والله تعالى لم يذكر لهم صفة معينة في أول الأمر، فدل ذلك على أنه يجزئ أي بقرة، ولو كان البيان متعيناً لجاء، إذ لا يجوز من الله أن يؤخر البيان عن وقت الحاجة، فكلفوا في البداية بذبح أية بقرة كانت، وثانياً كلفوا ألا تكون لا فارضٌ ولا بكر، بل عوان بين ذلك، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون بقرة صفراء، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون لا ذلول، تثير الأرض ولا تسقي الحرث، كلما تشددوا في السؤال، شدد الله عليهم بصفات إضافية في هذه البقرة.

ولما أمرهم بذبح البقرة قالوا له: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة:67] يعني: أتجعلنا مكاناً للهزأ والسخرية؟ أتهزأ بنا؟ أتتخذنا سخريةً؟

(18/9)

سوء أدبهم مع نبي الله عليه السلام

بهذا يواجهون نبيهم، نبي يأمرهم بأمر يقولون: أتهزأ بنا؟ أتسخر منا؟ هل هذا خطاب يليق بنبي؟ هل هذا أدب ينبغي للنبي؟ هذا من شأن بني إسرائيل الذين تمردوا على نبيهم، وظنوا أنه يلاعبهم، ظنوا أنه يهزأ بهم، وأشعر جوابهم هذا ما ثبت من فضاضتهم وسوء أدبهم، ولذلك رد موسى عليهم بقوله: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] لأن الاستهزاء في أثناء التبليغ لا يليق بنبي، كيف يهزأ نبي وهو يبلغ قومه؟! كيف يجعل في التبليغ مجالاً للسخرية والاستهزاء والمزاح والضحك والعبث؟! لا يمكن، ولذلك تجلى سوء أدبهم، لما قالوا له: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة:67].

وفي قول موسى: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] فائدة بديعة في دفاع الداعية عن نفسه إذا اتهم بشيءٍ باطل، وهذا الهزأ في أثناء تبليغ أمر الله تعالى جهلٌ وسفه نفاه موسى عن نفسه، وأكد أنه جاد غاية التأكيد، وقال: أعوذ بالله، ألتجئ وأعتصم به أن أكون من الجاهلين الذين يتقدمون في الأمور بغير علم، فرموا موسى بالسفه والجهالة، ودافع موسى عليه السلام عن نفسه، وقال: ألتجئ إلى الله وأعتصم بتأديبه إياي من الجهالة والهزأ بالناس.

وكان موسى عليه السلام حكيماً لما قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} [البقرة:67] لم يقل: أنا آمركم، أو اذبحوا بقرة؛ لأن موسى يعلم طبيعة هؤلاء القوم، ويعلم تلكؤهم وتباطؤهم وتمردهم، ولذلك قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} [البقرة:67] بيَّن لهم أن الأمر من الله حتى يقطع عليهم الطريق على التأخر في التنفيذ أو التحايل، ويقطع عليهم الطريق في المناقشة.

ربما قالوا له: إنما أتيت به من عند نفسك، هذا رأيك الشخصي أن نذبح بقرة، لكنه قال لهم بكلمات واضحة ومحددة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] وقوله: (بقرة) هذه نكرة في سياق الأمر تفيد العموم، اذبحوا أي بقرة، التنكير هنا يفيد العموم، لا يهم لونها ولا حجمها ولا عمرها، ولا عملها، ولا ثمنها، المهم أن تذبحوا بقرة، لكن اليهود قومٌ بهت، لم ينقادوا للأمر ولم ينفذوه فوراً، ولم يطيعوا الله ورسوله، وأنى لهم أن يفعلوا ذلك؟ فلذلك بدلاً من أن يوقروا نبيهم وينفذوا أمره، تواقحوا عليه وأساءوا الأدب واعترضوا قائلين: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة:67] وكأنهم يقولون: عجيب! ما هي الصلة بين ذبح البقرة وبين كشف هوية القاتل؟ نحن جئناك في حل قضيتنا نريد أن نعرف القاتل، وبما أنك نبي تعلم الغيب بإذن الله فأخبرنا من هو القاتل، ثم أنت تطلب منا أن نذبح بقرة بدلاً من أن تكشف لنا عن القاتل؟! وهذا طلبٌ مريبٌ يدل على أنك تريد أن تتخذنا هزواً.

(18/10)

خطورة الاستهزاء والمزاح في الأمور الدينية

أولاً: هذه طبيعة نفسية بني إسرائيل، يعتبرون أمر الله تعالى نوعاً من الهزأ والسخرية، وثانياً: يظنون أنه بهذا الطلب يريد أن يشغلهم عن قضيتهم الأساسية لمعرفة القتيل، وثالثاً: يظنون أن موسى الجاد عليه السلام الذي هو من أولي العزم من الرسل يظنون أنه يسخر ويهزأ ويلعب من خلال الأوامر التي يوجهها لهم، وهذا يشبه ما فعله قوم إبراهيم لما قالوا له: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء:55] ونفى موسى التهمة عن نفسه، وقال: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] وهذا دليل على أن السخرية والاستهزاء جهل.

وفيه فائدة تربوية مهمة: وهي أن الإفراط في المزاح وعدم الجدية من الجهل.

وأن الشخص المزاح اللعوب الذي يكثر السخرية والاستهزاء إنسانٌ جاهل، وبذلك نعلم أيضاً من هذه الآية خطورة الاستهزاء والطرف التي يرويها بعض الناس التي يسمونها نكتاً في قضايا عقدية أو شرعية، وأن هذا أمرٌ خطير يؤدي إلى الكفر والخروج عن الملة، كما ينسب بعضهم الجنة والنار ويعملون (نكت) وطرائف على بعض أحكام الشريعة.

وكذلك نعلم أن الذين حولوا حياتهم وحياة الآخرين إلى ضحكٍ دائم فيما يسمونه (بالكوميديا) اليوم، ويعملون لها مسرحيات وأفلاماً ويكون هم الشخص هو الضحك واللعب، يتبين لنا أن هؤلاء الناس من الجاهلين.

وكذلك يتبين أن المسلم الصادق جاد وملتزم، قد يمزح ولكنه لا يقول إلا حقاً، وقد يضحك ولكن بأدبٍ ووقار، وليس المعنى تحريم الضحك أو المزاح، بل إن المقصود هو منع تحويل الحياة إلى ضحكٍ كلها ومزاحٍ وعدم الجدية، فإن المسلم الجاد لا يرضى أن يكون من الجاهلين.

(18/11)

تجرؤهم بقولهم: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ)

قالوا له بعد ذلك لما قال: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة:67 - 68] قولهم (ادع لنا ربك) كأنهم يقولون: ربك أنت وليس بربنا نحن، وهذا ربما دل على سوء أدبهم مع الله تعالى، وقد قالوا أشياء كبيرة مثل هذا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24].

وهذا يكشف عن طبيعتهم ويبين الفرق بينهم وبين الصحابة في الأدب مع الله، فإن صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] لما نزل قول الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] شق ذلك على الصحابة، لكن لم يتمردوا ولم يرفضوا، قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] فلما زلت بهم ألسنتهم أنزل الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] إلى آخر الآية التي فيها تجاوز عن الناسي والجاهل والمخطئ، الجاهل الذي لا يعلم الحكم وهو معلومٌ بجهله.

لكن بنو إسرائيل يختلفون عن الصحابة تماماً، لم يقولوا: سمعنا وأطعنا، قالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة:68] قالوا: أنت حيرتنا، أنت أبهمت علينا الأمر، كلامك غير واضح، يحتاج إلى زيادة تفصيل، حدد لنا عمر هذه البقرة وكأنهم يقولون: لو حددت لنا عمر البقرة نكتفي وننفذ، فأجابهم بقوله: (إنه يقول) مرة أخرى يعزو الأمر إلى الله، والتفصيل من الله، والحكم من الله لا من عنده: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68] لا فارض يعني: غير مسنة انقطعت ولادتها، ولا بكرٌ لم تلد بالمرة، وإنما المراد من ولدت قليلاً ولم تلد كثيراً، عوانٌ بين ذلك: يعني: سنها لا هو صغيرٌ ولا هو كبير فهي متوسطة، حتى قيل: إن العوان معناها: النصف في السن من النساء والبهائم تسمى عوان، ولما ضيقوا ضيق الله عليهم، وجاءهم بهذا القيد الإضافي على البقرة، وقال لهم نبيهم وهو يحس بطبيعتهم ويعلمها: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68] أكد عليهم الفعل؛ لأنه يعلم حالهم، كأنه يقول: اذبحوها الآن على هذه الصفات ولا تكرروا السؤال، وإنما اندفعوا للتنفيذ فوراً.

ويستفاد من هذا أن الوسط هو الطيب، ولذلك الآن في الأضحية والعقيقة لا يجزئ أقل من ستة أشهر في الضأن وسنة في المعز، وأن ما كان وسطاً في عمره هو أجود اللحوم، فلحم الحيوان الصغير الذي لا يزال في بداية نموه قد تنقصه بعض الفوائد والكمية، ولحم الحيوان الكبير يكون قد قسا ويبس وفقد بعض فائدته الغذائية فيكون الوسط هو الأفضل.

قال لهم نبيهم: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68] اتركوا المزاجية والاعتراض والتلكؤ، والسؤال الذي نهيتم عنه، واشرعوا في التنفيذ، لكن هل فعلوا ذلك؟ وهل امتثلوا الأمر؟

الجواب

لا.

(18/12)

فائدة أصولية في باب الأمر

وفي قوله: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68] دليلٌ لما ذهب إليه أهل العلم من أن الأمر يقتضي الوجوب، أي أمر في القرآن والسنة يقتضي الوجوب إلا أن يصرفه صارف عن الوجوب إلى الاستحباب، وهذا هو الصحيح في أصول الفقه.

وكذلك من هذه الآية يستدل أيضاً على قاعدة أصولية أخرى تتعلق بالأمر، وهي: الأمر على الفور لا على التراخي، فإذا أمرنا بشيء يجب أن ننفذ فوراً، وهذه حجة من ذهب من العلماء إلى أن الواجب الحج فوراً: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا) أول ما تتمكن تحج، لا يجوز لك التأخير بدون عذر، فإذاً الأمر يفيد الوجوب، والأمر على الفور لا على التراخي، وهذا مذهب أكثر الفقهاء، لكن هل هم نفذوا على الفور؟

الجواب

لا.

(18/13)

مواصلة العناد وزيادة التشديد عليهم

قالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة:69] انتقلوا إلى السؤال عن اللون، كان السؤال الأول عن عمر البقرة، الآن صار السؤال عن اللون، دائماً اللجاجة تقود إلى سؤالٍ جديد، فالذي لا يريد الحق دائماً يخرج لك أسئلة جديدة، والذي من طبيعته التلكؤ والنكوص يخرج أسئلة جديدة.

كانوا يزعمون أن الإبهام في الأمر الذي أمروا به في العمر، فإذا بهم الآن يرونه إبهاماً من وجهٍ آخر، ويقولون: إننا لا نعرف ما لونها، ما اللون المطلوب؟ وكأنهم يقولون: لو عرفنا اللون ذبحناها، ما لونها؟ {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة:69].

فلما شددوا شدد الله عليهم، ووضعهم في ضيقٍ أشد، فأمرهم بذبح بقرةٍ صفراء فاقع لونها مع أن اللون الأصفر الفاقع في البقر نادر، لكن لما شددوا شدد الله عليهم، ولعل أهلها لا يبيعونها إلا بثمن مرتفع -هذه البقرة الصفراء الفاقع لونها التي تسر الناظرين- ولا شك أن هذا من التضييق عليهم.

قال لهم: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] والفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه، ويقال في التوكيد: أصفر فاقع، وأسود حالك، وأبيض يقق، وأحمر قانٍ، وأخضر ناظر، فالمقصود في قوله: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] يعني: شديدة الصفرة، نقية ما فيها إلا اللون الأصفر، ولا شعرة إلا صفراء، {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] يعجب الناظرون إليها، حتى إن جمهور المفسرين أشاروا إلى أن الصفرة من الألوان السارة، ولذلك قالوا في أحكام المعتدة: إنها تترك الزينة في الذهب والحلي والملابس الجميلة، فقالوا: تترك الملابس الصفراء والحمراء إلخ، فيعتبرونه من الألوان السارة (تسر الناظرين) حتى إن بعضهم ربما كان يلبس الأصفر من النعال، ويقول: اتركوا لبس النعال السود لأنها تغم، فاللون الأسود قد يدل على الغم، ولكن الأصفر يدل على السرور، فهو لونٌ جميل محببٌ إلى النفوس.

ومحبة الألوان الجميلة ليس مما ينافي الشريعة سواء كان حيواناً، أو فاكهةً، أو طعاماً، أو لباساً، أو أثاثاً، فالشريعة لا تحرم الاهتمام بالألوان الجميلة، لكن الفنون الجميلة هذه مما ينبغي أن تضع تحتها خطوطاً حمراء؛ لأنهم قد شغلوا بها عباد الله عن ذكر الله وسموها (فنون جميلة) وصار الواحد ينفق في الساعات والأيام والشهور في لوحة يرسمها ويتعب فيها، ويقولون: هذه أشياء تشجع عليها الشريعة والفن الإسلامي، قاتلهم الله! أشغلوا الناس عن ذكر الله بالفنون الجميلة.

الشريعة لا تحرم أن تستمع وأن تمتع ناظريك ونفسك بالأزهار وألوانها، وتتأمل فيما خلق الله، وأن تسبح ربك على هذه الخلقة التي تسر الناظرين، لكن إنفاق الأوقات والنحت والتصوير والرسم بدعوى أن هذه فنون جميلة والإسلام لا يحرم الفنون الجميلة، وليس للإسلام موقف من الفنون الجميلة، فأشغلوا الناس عن ذكر الله بهذه الهوايات السخيفة الفارغة المضيعة للأوقات.

نعود إلى قصتنا: لما بين لهم أنها بقرة صفراء فاقعٌ لونها، هل نفذوا ذلك؟ وهل سارعوا إلى ذبحها؟

الجواب

لا.

بل إنهم عمدوا إلى سؤال ثالث في مشوارهم من المماطلة والتلكؤ والتباطؤ عن تنفيذ أوامر الله.

(18/14)

ما يستفاد من العِبر في التلكؤ وسؤالهم عن عمل البقرة

قالوا: كان الإبهام في العمر، ثم صار الإبهام في اللون، الآن يقولون: ما عمل هذه البقرة؟ ماذا تعمل؟ تحرث تزرع تسقي تعمل؟ ثم إنهم لما أرادوا أن يسألوا سؤالاً ثالثاً وكأنهم استثقلوا الثالث أبدوا عذراً فقالوا: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:70] كرروا السؤال عن الحال والصفة، ولا شك أنه تنطع بعد تنطع، ولذلك قيل: إن بعض الخلفاء كتب إلى عامله يقول: اذهب إلى القوم الفلانين فاقطع أشجارهم وهدم بيوتهم، فكتب إليه العامل يقول: بأيهما أبدأ بتخريب البيوت أم بقطع الأشجار؟ فرد عليه الخليفة يقول: إن قلت لك بقطع الشجر ابدأ ستقول لي بسؤالٍ آخر: بأي نوعٍ من الشجر أبدأ؟ وكذلك كتب أحد الأمراء إلى وكيله يقول: إذا أمرتك أن تعطي فلاناً شاةً سألتني أضأنٌ أم ماعز؟ فإن بينت لك قلت: أذكرٌ أم أنثى؟ فإن أخبرتك قلت: أسوداء أم بيضاء؟ فإذا أمرتك بشيءٍ فلا تراجعني.

فهؤلاء قالوا: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة:70] ما عمل هذه البقرة؟ وضح لنا وظيفة هذه البقرة؟ لقد تشابه الأمر واختلط ولا ندري أي بقرة هي المطلوبة من بين البقر.

وهذا فيه فائدة كبيرة وهي: أن الاشتباه والالتباس نتيجة طبيعية للحيرة، ضريبة يدفعها كل من يترك التشريع الرباني الميسر ويذهب للتشديد والتعقيد، مثال: الموسوسين، الشخص الموسوس الذي تقول له: توضأ بهذه الكيفية ترى أنه يأتي لك بأشياء شديدة، اغسل النجاسة، المطلوب إزالة النجاسة، يقول: وهل يلزم نتر الذكر، أو عصره، أو القفز، أو النحنحة، أو الربط، والقيام والقعود، أو النزول من درجات السلم، كل هذا من تشديدات الموسوسين.

إذاً هذه القضية وهي قضية الحيرة والاشتباه والالتباس تحدث نتيجة طبيعية للتشديد والتعقيد والبحث عما لا يلزم شرعاً، ولذلك ترى الموسوس يعيش في عذاب وحيرة وهم وغم؛ بسبب تشديده على نفسه.

فلما أخبروا بهذه الصفات المطلوبة منهم في البقرة، يا ترى أين سيجدونها؟ ومتى سيجدونها؟ وكم سيكون ثمنها؟ وهل هم مستعدون لدفع الثمن؟ ولذلك: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] وقالوا لنبيهم بعبارة يشتم منها رائحة سوء الأدب، قالوا: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة:71] يعني: بعد البيان الثالث (الآن جئت بالحق) كأنهم يقولون: الذي قبل هذا لم يكن حقاً، الآن هذا حق، وكأنه موسى عليه السلام كان يتكلم بالباطل.

وحاشاه.

قال لهم في الصفة الثالثة: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:71] أما قوله: (إنها بقرة لا ذلول) الذلول: من الدواب بينة الذل التي ذللها الذين يستخدمونها، (تثير الأرض) يعني: تقلبها للزراعة، يعني: أن هذه البقرة التي أمرتم بها ليست ذلولاً تثير الأرض، ولا تسقي الحرث، ولا يستقى عليها الماء لسقي الزرع ويحمل عليها الماء ويستقى بها الماء، وإنما هي (مسلَّمة) يعني: خالية ومسلَّمة من العيوب، مسلَّمة من العمل، يعني: كأنها عند أهلها للنظر والاستمتاع لا للعمل والكد، (لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث) وإنما هي (مسلَّمة لا شية فيها) يعني: لا عيب، ولا خلط في الألوان، فلما سمعوا هذه الأوصاف ولم يبق متسع لمزيدٍ من التساؤلات، العمر واللون والعمل، فماذا بقي؟

(18/15)

التباطؤ في التنفيذ طبيعة اليهود والمنافقين

كان الأمر يسيراً فعسروه، وكان واسعاً فضيقوه، وفي النهاية فذبحوها، لكن بعد ماذا؟ (فذبحوها وما كادوا يفعلون) ما كادوا يفعلون ما أمروا به، ولذلك فإن الله تعالى ذمهم وعابهم على هذا الفعل، وشدد عليهم وجعل الأمر شاقاً عليهم، وكذلك شق عليهم في اللحوم وما يؤكل منها والشحوم، وحرَّم عليهم أشياء، {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160] وهذا التباطؤ والتلكؤ يدل على نفسية لا تريد العمل، ولا تريد التنفيذ.

إن نفس المؤمن فيها شوقٌ ولهفة وهمة وحيوية للتنفيذ؛ لأن هذا هو أمر الله، فالمؤمن يتحمس لتنفيذ أمر الله، ولكن المنافق يتكاسل ويتباطأ ويتحايل ويتهرب، فإذا فشلت المحاولات نفذ مضطراً مكرهاً مرغماً {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] لكن المؤمن إذا نفذ الصلاة والحج ينفذ بطواعية وسرور نفس ومسارعة، واستسلام، لا اعتراض ولا تلكؤ، أما المنافق وطبائع اليهود هذا هو، {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142].

ولكن إذا رأى الإنسان أنه يجرجر نفسه إلى الطاعة جرجرةً، ومرة يفعل ومرة لا يفعل، ويسأل أهل العلم فإذا أجابوه اعترض بسؤالٍ آخر، وتراه يجادل لا للتعلم، ولكن لإضاعة الوقت، ولعله ينفذ من الحكم، ويجد له مخرجاً من هذه الفتوى، فهذه طبيعة يهودية إسرائيلية بغيضة من بني إسرائيل.

(18/16)

المبادرة للتنفيذ هي المقصود من أمرهم بالذبح

ومعلوم أنه ليس المقصود الآن مجرد الذبح، المقصود الأساسي المبادرة للتنفيذ، فالله عز وجل أمرنا بذبح الضحايا والهدايا، وقال: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36] يعني: طاحت بعد نحرها: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:36 - 37].

ولولا أنهم استثنوا ما ذبحوها، ولذلك لما قالوا: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:70] لو لم يستعملوا المشيئة كانوا ما ذبحوها أبداً كما قال المفسرون، وهذا من بركة المشيئة، فإنها معينة على تنفيذ الأمر، ولذلك قال الله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24].

(18/17)

ذبح البقرة وما كان بعدها

بعدما انتهت قضية شروط البقرة وذبح البقرة أعلمنا الله لماذا أمروا بذبحها، وهذا تشويق في القصة، وجذب الانتباه، أنه أتى بالسبب ثم أتى بالقضية الأصلية: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:72] هذا أول القصة، حصل أولاً القتل للشخص ثم تنازع فيه الناس، فأراد الله أن يكشف الحقيقة، فأمرهم بذبح البقرة؛ ليضربوه ببعضها فيحيا القتيل فيخبر عن قاتله، ومعنى قوله تعالى: (فادارأتم فيها) يعني: تدافعتم خصام واتهام، كل واحد يدرأ عن نفسه التهمة ويلقيها على الآخر، يدعي براءة نفسه ويتهم غيره، والله تعالى يريد فضح سر القاتل والعارفين به، ولذلك قال: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:72] لأنكم تريدون التغطية على القاتل والإيقاع بقومٍ أبرياء تتهمونهم بالقتل لإخفاء القاتل الحقيقي والله لا يخفى عليه مكركم، {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:72].

الجواب

=6000079> فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:73] (اضربوه ببعضها) قلنا: إنه ورد في الإسرائيليات ذكرٌ لهذا البعض الذي أمروا أن يضربوه به، لكن ماذا يفيدنا لو عرفنا؟ وماذا يضرنا لو لم نعرف؟ لا يضرنا شيء، ولذلك ما ذكره الله لنا، ولو كان فيه منفعة لنا لذكره لنا ربنا، فلما ضربوه ببعضها أحياه الله، فكان في ضربه حكمة بالغة في تقديم دليل واضح على بعث الله للناس بعد الموت، وأن الله قد بعث لكم أحد الأموات، فهو قادر على أن يبعث الأموات كلهم إذا ماتوا، {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73].

فإذاً الكلام فيه حذفٌ وتقدير، (فقلنا اضربوه ببعضها) فأحياه الله (كذلك يحيى الله الموتى) مثلما أحيا هذا الشخص، (ويريكم آياته) علاماته الدالة على كمال قدرته.

فإن قال قائل: لِمَ لم تقص القصة على ترتيبها، وكان حقها أن يقدم ذكر القتيل أولاً، والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها، وأن يقال: وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها، فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها؟ لكن لا شك أن في تقديم هذا وتأخير ذلك بلاغة واضحة في شد الانتباه والتشويق كما ذكرنا، وأنه أراد أن يظهر تباطؤ اليهود وتلكؤهم وتقاعسهم ويقرعهم على هذا الاستهزاء وترك المسارعة للامتثال، وأن هذه القضية أخطر من قضية التدارؤ في قتل هذا الشخص؛ لأن المبدأ يعني عدم تنفيذ الأوامر، هذه خطيرة، فكأنه قدم القصة المتعلقة بها على القصة المتعلقة بإحياء القتيل؛ لأن هذه المشكلة أكبر وينبغي بيانها وإيضاحها، وربما يكون تقديمها من هذه الجهة أحسن وأبلغ، وكأنه ذكر لنا قصتان: قصة التلكؤ وقصة القتيل، بينما لو ذكرت بالعكس لكانت قصة واحدة، فهو سبحانه وتعالى وصل لنا القصة الأولى بالثانية في قوله: {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة:73] لما وحد الضمير، لكن لما ذكر ذلك أولاً ثم هذه ثانياً، {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً} [البقرة:72] وذكرها بعد: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] صارت كأنها قصتان، كل قصة لها مغزى، أبلغ من أن تكون قصة واحدة.

وعلى أية حال في القرآن أسرارٌ كثيرة قد تخفى، ويعلم كثيراً منها أهل العلم.

(18/18)

مجموعة من الفوائد في الآيات

وفي قوله تعالى: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] دليل على منع الاستهزاء بالدين كما تقدم.

(18/19)

جواز بيع السلم

وفي قوله تعالى: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:71] تكلم العلماء في هذه الآية على قضية بيع السلم، وأنه يجوز بيع الحيوان سلماً إذا ضبطت صفاته كما ضبطت في هذه الآية؛ لأن العلماء قد اختلفوا في حكم بيع السلم في الحيوان، فادعى بعضهم أنه لا يجوز؛ لأنه لا يمكن ضبطه، وهم الحنفية، وذهب الشافعي رحمه الله ومالك والأوزاعي والليث وغيرهم إلى جواز بيع السلم في الحيوان واستدلوا بالآية، فما هو بيع السلم؟ معلوم أنه في القاعدة الأصولية: لا يجوز بيع ما لا تملك، شيء لا تملكه لا يجوز لك أن تبيعه، لكن الحاجة تدعو أحياناً إلى أن يبيع الإنسان ما لا يملك، فأباحت الشريعة بيع السلم، يجوز أن تبيع شيئاً ليس عندك إذا كان يمكن ضبطه، وذكرت الصفات الضابطة له وقدم الثمن في مجلس العقد إلى آخر شروط بيع السلم.

فمثلاً: يجوز أن تقول لشخص أشتري منك ثمراً هذه صفته، ولم يكن قد ظهر الثمر، أولم يُزْرَع أشتري منك قمحاً على رأس الحول هذه صفته، وهذا وزنه وهذا ضبطه ونحو ذلك، وتقدم الثمن كاملاً يجوز بيع السلم في هذه الحالة، تقول لشخص مثلاً يسافر إلى أمريكا يأتي بسيارة، تقول: أشتري منك سيارة هذه صفتها كذا وكذا، وتقدم له الثمن كله في مجلس العقد، ثم يأتي لك بالسيارة على الصفات، ومن شروط بيع السلم تحديد مدة التسليم، على أية حال الآن موضوعنا ليس بيع السلم، لكن استدلوا بهذه الآية على جواز السلم في الحيوان.

(18/20)

حرمة الاستهزاء بالأنبياء

وهذه القصة فيها فوائد كثيرة ذكرنا بعضها سابقاً ومنها: إظهار العجرفة وسوء الأخلاق في بني إسرائيل يتجنبها المسلمون، وحرمة الاعتراض على الشارع، ووجوب المبادرة إلى تنفيذ أمره ونهيه، والندب إلى الأخذ بالمتيسر، وكراهية التشديد بالأمور، وفائدة الاستثناء، وإنهم لو لم يقولوا: إن شاء الله ما نفذوا أصلاً، وتحاشي الكلمات التي قد يفهم منها الاستهزاء بالأنبياء، وهناك جدل قائم الآن على فيلم قد صور ومثل فيه لمزٌ ليوسف عليه السلام، هذا الذي يثار فيه الجدل في هذه الأيام، الأفلام التي فيها تمثيل أدوار الأنبياء، ليس هناك شك أنها سخرية بالأنبياء، يظهر لك ممثل فاسق فاجر يمثل دوراً فيه الحب والغرام والعشق المحرم في تمثيلية وفيلم ثم يمثل دور نبي، ثم لو أتيت بأتقى الناس الآن هل يرقى أن يكون في مستوى نبي حتى يمثل دوره.

فلا شك أن تمثيل أدوار الأنبياء مما يقلل من شأنهم ويظهرهم بمظهر غير المظهر الذي أظهره الله تعالى في كتابه، فلذلك حرام تمثيل أدوار الأنبياء، وهم يحاولون المناورة والمداورة وأنه لم نقصد، ولم ولكن التفاصيل التي قدموها أنهم قصدوا ذلك، وهذا من محاربة الأعداء لنا في تاريخنا، هم حاربونا في أشياء كثيرة ومنها محاربتهم لنا في تاريخنا.

(18/21)

بيان كيف يحيي الله الموتى

وكذلك فإن من فوائد هذه القصة: بيان كيف يحيى الله الموتى بدليلٍ عجيب وآيةٍ باهرة ومعجزة ربانية: إنسان ميت لا روح فيه ولا حراك، وبقرة عجماء بكماء، ذبحتم أنتم البقرة وتحولت إلى جسدٍ أيضاً لا روح فيه ولا حراك، وأخذتم أنتم جزءاً ميتاً من أجزاء البقرة الميتة وضربتم به جسد الإنسان الميت، وفوجئتم بالمفاجأة المدهشة كيف دبت الحياة في هذا الإنسان الميت من تلك الضربة، وتحرك حركة الأحياء وتكلم كلام الأحياء.

فذبح البقرة إذاً كان فيه فوائد منها: الكشف عن القاتل الحقيقي، وتعريف اليهود عليه، وإقامة الدليل العملي على قدرة الله على إحياء الموتى، وتقديم آية من آيات الله ومعجزة من معجزاته، وتعريفنا على طبيعة اليهود من خلال نظرتهم لأوامر الله وتحذير المؤمنين من أخلاقهم.

لكن قصة البقرة وإحياء الميت بهذه الطريقة العجيبة هل كان ذلك مرققاً لقلوب بني إسرائيل؟

الجواب

كلا.

فإن الله أعقب ذلك مباشرة بقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] مع أنهم من المتوقع أنهم لما رأوا هذه الآية الباهرة، وهذه المعجزة الربانية أن تلين قلوبهم، لكنها قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد؛ لأن من الحجارة ما يتشقق ويتحدر ويتفطر من خشية الله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21].

وفيه كذلك: جرم القاتل وخطورة إخفاء الحقائق، وكيف أنهم تدافعوا وحاولوا اتهام الأبرياء.

وكذلك: أن اللجاجة وكثرة الأسئلة فيما لا داعي له أمرٌ ممقوت، وأهمية الانشغال فيما ينفع والبحث عما يجدي وترك ما لا ينفع.

(18/22)

وجوب تقديم الأصول على الفروع

ثم نأتي إلى درسٍ آخر وهو: قضية عدم الانشغال بالهامشيات والثانويات والشكليات والفرعيات على حساب الأصول والأساسيات، يعني لا تقدم هذه على هذه.

ولا ينبغي أن يفهم من كلامنا ألبتة ترك الجزئيات التي جاءت بها الشريعة كتحريك الإصبع في التشهد مثلاً، بزعم أن هذه جزئية وسنة وأمر شكلي وجانبي، تقول: لا.

حاشا وكلا معاذ الله، وإنما سنة نبينا صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي فليس مني) ولكن أن يشتغل الإنسان بالفرعيات ويترك الأصول هذا هو المذموم، كذلك بعضهم قد يشتغل بدقائق الفقه وهو لم يؤسس أسس العقيدة في نفسه، يأخذ المسائل المفرعة الجزئية وهو لم يضبط أصولها.

(18/23)

اليهود قوم بهت مماطلون

وأخيراً: فإننا نختم فوائد هذه القصة بفائدة تتعلق بعصرنا الذي نعيش فيه، فإن المداورة والمماطلة التي كشفتها لنا قصة البقرة في طبيعة اليهود، تدل على أن طبيعة هؤلاء القوم لا يملون ولا يضجرون ولا يسأمون من المفاوضات؛ لأنهم يتقنون فن التهرب والتملص والتحايل، بل ويتمتعون أثناء ذلك بنفس طويل وأعصاب باردة، وهم على استعداد لتضييع الجهود والأوقات في هذه الشكليات والفرعيات، وأن يوجدوا لأنفسهم مداخل، ويمكن أن يعمدوا إلى قضية شكلية هامشية يمضون فيها أوقاتاً طويلة تستغرق شهوراً وسنوات على حساب الطرف المظلوم، وعندهم فنٌ في عدم حل المشاكل وإبقائها معلقة، وتأخير الحل، وعندهم حرصٌ على عدم إظهار الحق وعدم الخروج بنتيجة وإبقاء القضية في غموض وضباب، وأن يبقوا خصومهم في ضياع وفراغ، وهم قضوا أكثر من عشرين سنة في جدال، هل ينسحبون من الأراضي المحتلة، عاشوا أكثر من عشرين سنة وهم ما حلوا القضية.

وكذلك فإنهم على استعداد بأن يجعلوا المفاوضات وهيئات التحكيم الدولية والخبراء والمحامين ينشغلون في قضية طويلة، وما شغلهم بقضية طابا التي لا تتجاوز مساحتها ملعب كرة قدم، جعلوا ذلك خصاماً إلى أكثر من عشر سنوات، وبقية المسائل في تعقيدات ومماطالات، وقصة البقرة تكشف لنا طبيعة هؤلاء جيداً.

ولذلك فلا يجوز لمسلم أن يغتر بهم، ولا يظن لحظة واحدة أنهم يحرصون على خيرٍ لنا، أو أنهم يريدون أن يحلوا مشكلة، فإن الله سبحانه وتعالى قد فضحهم في كتابه، وبين لنا طبيعتهم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا شرورهم ومكرهم وأن ينصرنا عليهم، ويخلص المسلمين من شرهم.

والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

تأجير العين المستأجرة وشروط ذلك

السؤال

هل يجوز تأجير المستأجَر؟

الجواب

يجوز إذا كان العقد لا زال ساري المفعول، إذا استأجرت شيئاً يجوز أن تؤجره إذا كان العقد ساري المفعول، وإذا لم يكن عليك شرط؛ لأنه قد يشترط في العقد ألا تؤجر الشيء الذي استأجرته، ثم من الشروط أنه لا يجوز لك أن تؤجره على من يستخدمه أكثر من استخدامك، فمثلاً: لو أجرت شقة على سكن عائلي، لا يجوز لك أن تؤجرها على عشرين عاملاً؛ لأنه معروف أنهم سيستعملونها أكثر من استعمالك، ولو استأجرته سكناً لا يجوز أن تؤجره ورشة.

فإذاً: من شروط تأجير الشيء المستأجر أن تؤجره على من يستخدمه مثل استخدامك أو أقل.

الشعور بالغثيان أثناء الصلاة

السؤال

يأتيني دوار في الرأس أثناء التراويح هل عليَّ خروج أم لا، مع العلم بأني أصلي التراويح كاملة؟

الجواب

إذا أصيب الإنسان بغشيان وغشي عليه -الغشي أقل من الإغماء- لا يجب عليه الوضوء، والإغماء يجب منه الوضوء، لذلك جاء في حديث أسماء في صلاة الكسوف: فغشي عليها وقامت ولم تتوضأ.

لكن لو أغمي عليه وجب عليه الوضوء، على أية حال إذا شعر بدوار لا بأس أن يخرج من الصلاة ويستريح أو يصلي قاعداً.

الرد على من يفسرون القرآن بأهوائهم

السؤال

ما موقفنا نحن المتبعين نهج السلف ممن يحللون القرآن تحليلاً إحصائياً من حيث عدد آياته وحروفه وكلماته وغير ذلك من التحليلات الإحصائية، ومن أقوالهم أن حذف البسملة من سورة براءة أتى لإتمام النسق الإحصائي العددي للقرآن؟

الجواب

في بحث مهم للرد على الدكتور محمد رشاد خليفة نشر في مجلة البحوث الذي تصدرها رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في العدد التاسع على ما أظن، فيه رد من العلماء على هذا الرجل.

فقد ادعى هذا الرجل أن هناك إعجازاً عددياً في القرآن وأن الإعجاز يدور على رقم (19) وأن (بسم الله الرحمن الرحيم)

  تسعة عشر حرفاً وشرع يحلل ويستنبط ويستخدم الكمبيوتر، فتاه عن التفسير، وذهب في متاهات لا أول لها ولا آخر.

وهذا كلام غير صحيح، فلا يوجد تسعة عشر ولا تسعة وعشرون ولا تسعون، والمسألة كلها خيالات وأوهام، والصحابة كتبوا القرآن ومات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبين لهم هل سورة البراءة وسورة الأنفال سورة واحدة أم سورتان؟ فلذلك لم يكتبوا بينهما (بسم الله الرحمن الرحيم) ولا القضية هي إتمام النسق الإحصائي العددي، فالعرب أبلغ الأمم، نزل عليهم القرآن، فما حكوا من بلاغة الأعداد هذه شيئاً، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبين في مزايا رقم (19) شيئاً، ولو كانت القضية بكل هذا الحجم لبينه صلى الله عليه وسلم، فإذاً هذه كلها أوهام وبناء في الهواء.

أيضاً من الذين أشاروا إلى قضايا الأخطار ما يسمى بالإعجاز العلمي كتاب: اتجاهات التفسير في القرن الثالث عشر، والمدرسة العقلية في التفسير للأستاذ فهد الرومي فهما كتابان جديران بالقراءة في هذا الموضوع، فنحن الآن نعيش في عصر طغت فيه الموجة العقلانية، فيريدون أن يحكموا عقولهم بعيداً عن العلم والعلماء في قضايا القرآن وإخضاع الآيات والتحليلات الكمبيوترية والمخبرية ونحو ذلك ليصلوا إلى ليِّ الأعناق من أجل أن توافق النظريات الموجودة عند الغربيين، وهذا طبعاً من آثار الهزيمة النفسية، فإذا وجد إعجاز ظاهر فالحمد لله، {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] لو تأمل جلده وشعره، لو تأمل ما في نفسه، إن الأطباء إذا درسوا التشريح رأوا آيات باهرة، والمعارك التي تدور بين الكريات البيضاء وما يدخل في الجسم من الأشياء الغريبة والجراثيم أو الميكروبات، أشياء عجيبة فعلاً، تسبح الله عندما تراها، لكن أن تقول: الآية تفسيرها كذا، مخالفٌ لتفسير السلف، فهذا ضلالٌ مبين، إن الله قال: تدبروا في الكون وسبحوا الله على ما ترون، ترون عظمته في خلقه، ما قال: فسروا الآيات على المخترعات الحديثة.

حكم صيام من أكل بعد أذان الفجر

السؤال

استيقظت أنا وزملائي أمس في رمضان والمؤذن يقيم صلاة الفجر فأكلنا قليلاً من التمر، فما حكم صومنا بالأمس؟

الجواب

إذا كنتم أكلتم وهو يقيم الصلاة، معنى ذلك أنكم أكلتم بعد الفجر، فمعنى ذلك أن صومكم باطل وأنكم أذنبتم ذنباً عظيماً، فإن ظاهر السؤال يفيد أنكم تسمعون الإقامة، ولذلك فهذا الصيام لا بد من إعادته مع التوبة إلى الله توبة عظيمة؛ لأنه أكل عامداً متعمداً في نهار رمضان.

هجر القرآن

السؤال

هل هاجر القرآن الذي لا يقرؤه كل شهر؟

الجواب

لا يكون هاجراً هجراً مذموماً، وهذه مسألة يتفاوت فيها الناس بحسب ظروفهم وانشغالاتهم، وجاء في الحديث: (اقرأ القرآن في كل شهر) وجاء في أربعين يوماً، لا شك أن الأربعين أكثر من شهر، فإذاً لو قرأه في شهر لا بأس، في أربعين لا بأس، والأفضل هو طريقة الصحابة وأن تكون قراءته في أسبوع.

وقت إفطار الصائم

السؤال

المساجد التي حول البيت بينها فرق دقيقتين بين أولهم وآخرهم، فعلى أيهما أفطر؟

الجواب

على المتوسط، ما دام أن هناك واحد ساعته تقدم وواحد ساعته تؤخر، إذاً خذ الوسط، على أية حال العبرة بغروب الشمس واختفاء القرص، إذا لم تعرف فعند ذلك تأخذ بمتوسط المؤذنين، وإذا علمت أن هذا المؤذن ضابطٌ للوقت حافظٌ له فإنك تفطر على أذانه.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جلباب المرأة المسلمة للشيخ الألباني

  جلباب المرأة المسلمة صفحة رقم -35-  مقدمة الطبعة الأولى :   بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه الكريم : ( يا...