Translate

Translate ترجم الصفحة لاي لغة تريد

بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 17 فبراير 2024

اهتزاز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ

من الالوكة بتصرف
اهتزاز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ
 
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام، وشرُّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أعاذنا الله وإياكم من البدع، ومن الضلالات، ومن النار.
أيها الأحبة في الله:
نقف اليوم مع صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم، فللكلام عن الصحابة، وتدارس سيرهم أهمية كبيرة، وفائدة جليلة؛ لأن الصحابة هم قدواتنا، وقاداتنا، وهؤلاء الهامات والقامات العظيمة يجدر بكل مسلم أن يقتدي بهم، ومن يكون أفضل وأخير من صحابة رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))، فهم أفضل الخلق على الإطلاق بعد الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، ورضي الله عنهم أجمعين.
كيف لا وقد اختارهم الله عز وجل؛ ليكونوا صحابة خير البشر صلى الله عليه وسلم، ثم امتدحهم عز وجل من فوق سبع سماوات، فقال عز من قائل: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ﴾ [الفتح: 29]، ومن الذين مع رسول الله إلا صحابته الكرام، من مع رسول الله إلا الصحابة الذين كانوا حوله، ﴿ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ﴾ [الفتح: 29]، هذا هدفهم: يبتغون فضلًا، ﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29].
وتأمَّلوا هذا الحديث العجيب الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((النجوم أمنة للسماء - يعني أمان للسماء - فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد))، إذا ذهبت النجوم، واندثرت فمعنى ذلك أن القيامة قد قامت حيث تتغيَّر السماوات، وتندثر وتتشقَّق، وأتى الناس ما يوعدون من الحساب، قال: ((وأنا)) يعني النبي صلى الله عليه وسلم ((وأنا أمنة لأصحابي)) أمان لأصحابه من بعض الفتن، ومن ردة الأعراب التي حصلت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ((وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون))، الصحابة أمان لنا من الفتن، من الصراعات، والنزاعات، والقلاقل، والشبهات، كانوا أمانًا لنا، وفعلًا نقول: صدقت يا رسول الله، بعد أن ذهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت الفتن والاقتتال، والأباطيل والشبهات والشهوات بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "إن الله نظر إلى قلوب العباد فوجد خير قلوب العباد قلب محمد صلى الله عليه وسلم؛ فاصطفاه لنبوته، واصطفاه لرسالته، ثم نظر إلى قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد خير القلوب قلوب أصحابه؛ فاصطفاهم وزراء لنبيه، ونصراء لدينه.
أيها المؤمنون عباد الله، وهنا نقف لنتدارس سيرة صحابي جليل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان جليل القدر، رفيع المكانة، سيدًا في قومه، مطاعًا في عشيرته، مهابًا في أرضه، أبلى في الإسلام بلاء حسنًا حتى مات شهيدًا، رضي الله عنه وأرضاه، أسلم وهو ابن ثلاثين سنة، ومات وهو شابٌّ في السابعة والثلاثين من عمره، وكانت مدة إسلامه لا تزيد عن سبع سنوات؛ لكنه لما مات، حدثَ حدَثٌ جلَلٌ عظيم؛ فحين مات اهتزَّ لموته عرش الرحمن جل جلاله؛ إجلالًا وتعظيمًا لقدر هذا الصحابي العظيم.
لعلكم عرفتموه، ومن منا لا يعرف الصحابي الذي اهتزَّ لموته عرش الرحمن؟! إنه سيد بني عبد الأشهل سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه.
ولنتأمل أولًا أيها المكرمون قصة إسلام هذا الصحابي الجليل: فقد أسلم سعد بن معاذ على يد الصحابي الجليل، وأول سفير في الإسلام مصعب بن عمير رضي الله عنه، كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسله وابتعثه إلى المدينة بعد بيعة العقبة الأولى؛ ليعلم الناس أحكام دينهم، ويفقههم في الدين، ويقرئهم القرآن؛ فنزل مصعب بن عمير رضي الله عنه في المدينة عند أسعد بن زرارة رضي الله عنه، وأسعد هذا هو ابن خالة سعد بن معاذ رضي الله عن الجميع.
وظل مصعب يدعو الناس في المدينة إلى الإسلام، ويصلي بهم، ويقرئهم القرآن، وكان يُسمَّى "المقرئ"، وذات يوم أخذ أسعدُ بن زرارة مصعبَ بن عمير رضي الله عنهم إلى دار بني عبد الأشهل ديار سعد بن معاذ ليدعو الناس إلى الإسلام، وسعد هو سيد بني عبد الأشهل، فدخلا حائطًا من حوائط بني غفر على بئر يقال لها: بئر مرق، فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلموا، ومن غيرهم ممن لا زالوا على دينهم، وأخذ مصعب بن عمير يعرض على الناس الإسلام، ويقرئهم القرآن، ويفقههم في الدين، فعلم بهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وكانا في ذلك الوقت على الكفر، فقال سعد لأسيد: "لا أبا لك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما، وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي، ولا أجد عليه مقدمًا"، ورغم كفرهم وفسادهم إلا أنهم مع ذلك كانوا يحترمون الرحم، والقرابة التي بينهم، مع أنه يخالفهم في الدين، واليوم وللأسف الشديد يضعف الاحترام بين الناس سواء وُجِدَت قرابة أم لم توجد، إلا عند من رحم الله؛ قال أسيد بن حضير: نعم، فأخذ أسيد حربته، ثم أقبل إليهما وهو غاضب، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لـمصعب: هذا سيد قومه، وقد جاءك، فاصدق الله فيه، فلما وقف أسيد عليهما قال: "ما بالكما، لِمَ جئتما إلينا تسفهان ضعفاءنا، وتطعنان في ديننا، اعتزلانا إن كان لكما بأنفسكما حاجة"- تهديد ووعيد - إن كنتم تريدون البقاء على قيد الحياة فاذهبوا عنا، وإلا قتلناكم، فقال له مصعب رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وحكيم الدعاة: "أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره؟ قال: أنصفت، ثم ركز حربته، وجلس إليهما يستمع، فأخذ مصعب بن عمير يعلمه ويعرض عليه الإسلام، ويقرأ عليه القرآن، فقال أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير: والله لقد رأينا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم، وهكذا القلوب السليمة، والفطرة النظيفة؛ فبمجرد سماعه ومعرفته للحق اتَّبعه، فلما أنهى مصعب حديثه قال أسيد: ما أحسن هذا، وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالوا: تغتسل، فتطهر، وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي، فقام أسيد فاغتسل، وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ولم ينته أسيد هنا عند نفسه فقط؛ بل كان له موقف عجيب يعبر عن وفاء الصديق لصديقه؛ قال لهما: إن من ورائي رجلًا - يقصد سعد بن معاذ - إن اتبعكما لم يتخلَّف أحد من قومه، وسأرسله إليكما.
من العجيب أيها الإخوة أن ترى هذا الصحابي الذي كان من المشركين قبل قليل؛ يشهد شهادة الحق، ويصلي ركعتين، ثم يساهم مباشرة في الدعوة إلى الله بمجرد دخوله في الإسلام؛ ويفهم أنه لا بد له هو الآخر أن يدعو للإسلام، وأن يشارك في الدعوة إلى الله، وأن يأتي برجل آخر يفتح الله قلبه؛ حتى يهدي الله الناس للدين الحق، حقًّا لقد كانوا يفهمون الإسلام فهمًا يختلف كثيرًا عن فهم المسلمين اليوم.
أخذ أسيد بن حضير حربته وذهب إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد مقبلًا، قال: "أحلف بالله، لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به منكم"، نعم لقد غيَّره الإسلام عندما تغلغل في قلبه، فاختلف حتى في شكله، واليوم لا يؤثر الإسلام في كثير من المسلمين لا ظاهرًا ولا باطنًا، لا سلوكًا ولا أخلاقًا، فتراهم يتشبَّهون باليهود، والنصارى، ويتبعون ثقافاتهم حتى يشابهونهم في لباسهم، وتسريحات شعرهم وما شابه ذلك، فلا تكاد تعرف حين تنظر إلى شكله، ومظهره، أمسلم هذا أم لا؟
فلما أقبل أسيد بن حضير ووقف على سعد، قال له سعد بن معاذ: ما فعلت؟ وكان أسيد قد أكنَّ أن يحتال على سعد حتى يذهب به إليهما، فيسمع منهما كما سمع هو، فقال: ذهبت إليهما، فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيتهما، وزجرتهما، وأخبرتهما أن يعتزلانا، فقالا: نفعل ما أحببت، وقال: يا سعد، ولكني قد أُخبِرتُ أن بني حارثة أناس من أهل المدينة، وكان بينهم ثأر خرجوا إلى أسعد بن زرارة يريدون قتله وأسيد بن حضير يريد بذلك أن يستجيش مشاعر سعد بن معاذ؛ ليشعر بشيء من الحمية تجاه هذا الرجل من بني قومه، فيذهب ليحميه، قال: فقام سعد بن معاذ مغضبًا، وأخذ الحربة في يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئًا، ثم خرج إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب بن عمير: أي مصعب، جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان، فلما وصل إليهما، ورآهما مطمئنين؛ عرف حيلة أسيد، وأن أسيدًا إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف عليهما غاضبًا متشتمًا، وقال لـأسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني – يعني: اللين - بل كنت ستلقى مني شدة وغلظة، اذهب عنا، أتغشانا في دارنا بما نكره، وقال مشيرًا لـمصعب بن عمير: علامَ تأتينا في دورنا لهذا الوحيد الطريد، الطريح الغريب؟ يسفه ضعفاءنا بالباطل، ويدعوهم إليه، ولا أراكم بعدها بشيء من جوارنا؟ فقال مصعب له: أوتجلس فتسمع أو تقعد يا سعد فتسمع؟ فإن رضيت أمرًا قبلت، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال سعد: قد أنصفت أنصفت، ثم ركز الحربة، وجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قال مصعب وأسعد: فوالله لقد رأينا الإسلام في وجهه قبل أن يتكلم فيه من إشراقته، وتهلُّله، فلما أكمل مصعب بن عمير حديثه، قال سعد بن معاذ رضي الله عنه: كيف تصنعون إذا أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل، وتطهر، وتطهِّر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، قال: فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين.
لم تنته القصة هنا، ولم يتوقف سعد عند هذا؛ فإنه لما أسلم خرج من حينه داعية إلى الله عز وجل، وأخذ حربته عائدًا إلى قومه، ومعه أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلًا، قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على قومه قال سعد بن معاذ: يا بني عبد الأشهل، ما تقولون فيَّ؟ ما أنا فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيًا، وأعيننا نقيبةً، وجعلوا يمدحونه، فلما استيقن منهم عن صورته، وقررهم على سيادته عليهم، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، والله لا أكلم أحدًا فيكم حتى تؤمنوا بالله ورسوله. بهذه القوة يعرض سعد بن معاذ دعوته على قومه، وبهذه الجرأة يصارحهم مصارحةً شديدة تناسب قوة هذا الدين، وعظمته، قال: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلَّا مسلمًا أو مسلمة.
انظر أخي المسلم إلى سعد وأسيد كيف أسلما وانطلقا دُعاةً إلى الله، مصلحين، وأسلم بعدهما بنو عبد الأشهل، فلم يبق دار من دورهم إلا ودخله الإسلام ذلك اليوم بسبب إسلام سعد رضي الله عنه، لقد انطلق رضي الله عنه داعية إلى الله سبحانه من أول لحظات إسلامه، واليوم كثير من المسلمين يولدون على الإسلام، ويعيشون على الإسلام؛ ولا يكاد الواحد منهم يعرف معنى الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، أو يبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو آية، أو حديثًا؛ بل لا يدعو أقرب الناس إليه، ولا يوجه من هم تحت ولايته من أهله، وأولاده إن كانوا مُقصِّرين في دين الله، وقد تجد منا من يكون صادًّا عن دين الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وأصحابه، ومن والاه، أما بعد:
لا زال الكلام عن سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقد شهد غزوة بدر مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان له موقف عظيم سطَّرَه التاريخ، يدلُّ على شجاعته، وحبِّه لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
فلقد قام النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر يستشير أصحابه، ويقول: أيها الناس، أشيروا عليَّ، فقام أبو بكر رضي الله عنه فتكلم فأحسن، ثم قام عمر رضي الله عنه فتكلم وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فتكلم كذلك، وكل هؤلاء كانوا من المهاجرين، فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسَلَّم، وأثنى عليهم خيرًا، فقام سعد بن معاذ، فقال: يا رسول الله، والله لكأنَّك تريدنا؟ قال رسول الله: ((أجل))، فقال سعد: "قد آمنَّا بك، وصدَّقناك، وشهدنا أنَّ ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السَّمع والطاعة لك، فامضِ يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلَّف منَّا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غدًا، إنا لصَبرٌ في الحرب، صِدقٌ عند اللقاء، ولعلَّ الله يُريك منَّا ما تَقَرُّ به عينُك، فسِرْ بنا على بركة الله، ولا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24]؛ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون"، فسُرَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسَلَّم لذلك وقال: ((أيها الناس سيروا، وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم))"؛ (سيرة ابن هشام).
ولقد أشار سعدٌ على النبي صلى الله عليه وسلم ببناء عريش له في غزوة بدر، وفعلًا بُني العريش له عليه الصلاة والسلام، وجُعِلَت عليه حراسة من فتية الأنصار، كان قائدهم سعد بن معاذ رضي الله عنه كي يطمئن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه.
أولئك آبائي، فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع
أيها المؤمنون:
وفي غزوة الأحزاب تكالب الشرك كله على الإسلام كله، وأُصيب سعد بن معاذ رضي الله عنه يوم الخندق حين رماه أحد رجالات الكفر، فأصابه في أكحله، والأكحل: عرق في وسط الذراع إذا انقطع لم يرقأ الدم، فجعل النبي الكريم له خيمة ليعوده من قريب، وحينما انتهت غزوة الخندق بفرار معسكر المشركين وضع النبي سلاحه، فجاءه جبريل يبلغه أمر الله بالخروج إلى بني قريظة لمقاتلتهم، فحاصرهم النبي الكريم حتى نزلوا على حكمه، ثم جعل الحكم فيهم لسعد بن معاذ، فأتاه قومه، فحملوه على حمار قد وطئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلًا جسيمًا جميلًا رضي الله عنه، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولَّاك ذلك لتحسن فيهم؛ فلما أكثروا عليه، قال قولة مؤمن صادق الإيمان: لقد آن لسعد ألَّا تأخذه في الله لومة لائم، فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل، فنعى لهم رجال بني قريظة، قبل أن يصل إليهم سعد، عن كلمته التي سمع منه، فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولَّاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد بن معاذ: "عليكم بذلك عهد الله، وميثاقه، أن الحكم فيهم لما حكمت"؟ قالوا: نعم، قال: "وعلى من ها هنا"؟ في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالًا له؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم))، قال سعد: "فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري، والنساء"، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سماوات))، ثم دعا سعد بن معاذ ربه، فقال: "اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا، فأبقني له، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجر هذا الجرح، واجعل موتي فيه".
وبعد نهاية يهود بني قريظة المخزية لهم، استجاب الله عز وجل لدعوة عبده الصالح سعد بن معاذ رضي الله عنه، فانفجر جرحه رضي الله عنه وأرضاه ليلقى ربَّه سعيدًا راضيًا، وليلتحق بركب الشهداء الصالحين من قبله، ويكفيه فضلًا ما رواه البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اهتزَّ عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ))، وعندما أخذ الصحابة سعد بن معاذ وجدوا جنازته خفيفة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الملائكة كانت تحمله)).
كلمات لا يزال صداها يتردد عبر التاريخ، لقد عاش فريدًا، ومات مجيدًا، ومع أن كل عمره الذي أمضاه في الإسلام كانت ست أو سبع سنين، إلا أنه أنجز ما يعجز عن مثله من عاش في الإسلام الأربعين أو الخمسين عامًا، فرضي الله عنه وأرضاه.
الدعاء...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جلباب المرأة المسلمة للشيخ الألباني

  جلباب المرأة المسلمة صفحة رقم -35-  مقدمة الطبعة الأولى :   بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه الكريم : ( يا...